Sunday, August 1, 2010

الخلاصة المفيدة في إثبات معاني صفات الله الحميدة وإبطال طريقة التفويض

بسم الله الرحمن الرحيم


الخلاصة المفيدة
في إثبات معاني صفات الله الحميدة
وإبطال طريقة التفويض

تأليف غالب بن أحمد





حقوق الطبع محفوظة للمؤلف













قال تعالى :الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) [ يوسف:1-2 ]

 وقال تعالى :أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفاً كَثِيراً (82)  » [النساء:82]













مقدمة

   

إنّ الحمد لله ،  نحمده ، ونستعينه ، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ، وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مُضلّ له ، ومن يُضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله .

     أمّا بعد ، فهذه رسالة جمعتُها من أقوال أئمة السنّة ، فيها بيان قبح التفويض في صفات الله عزّ وجلّ ، ودحض شبهات المُفوِّضة ، وردّ مزاعمهم الباطلة .

    وإنّي لأرجو الله تعالى أن ينتفع بهذه الرسالة كثير من الباحثين عن الحقّ ، المتحرين الصواب ، وهم كثير - بحمدالله -  في هذه الأمّة ، التي هي أفضل الأمم وأكرمها على الله .

  

   سائلاً الله سبحانه أن يدخر لي أجرها وثوابها يوم لا ينفع مال ولا بنون إلاّ من أتى الله بقلب سليم !.

غالب بن أحمد أبو معاوية

صفر  / 1423 هـ



معنى التفويض في اللغة



   التفويض لغة :  »   التسليم وترك المنازعة « ([1])

» يُقال : فوّض إليه الأمر تفويضا إذا ردّه إليه ، وجعله الحاكم فيه «  ([2]) .


  معنى التفويض في اصطلاح المُفوّضة



    من خلال كتاب » شرح جوهرة التوحيد « تحت قول اللقاني:


وكلُّ نص أوهمَ التشبيها     أوّله أو فوّض ورُمْ تنزيها



    نجد أنّ المفوّضة يقصدون بتفويض نصوص الصفات شيئين :

   الأول : القطع بأنَّ ظاهرها غير مراد .

   والثاني : عدم الخوض في تفسيرها .



وهم يزعمون أنّ هذا هو مذهب السلف في صفات الله  U.

   ولكي تتضح لك صورة الأمر جليّة أُعطيك هذا المثال، إذا قلتَ للمفوّض :

 تؤمن بقوله تعالى:  ]الرحمن علىالعرش استوى[  [ طه :5 ] .

]ءأمنتم مَن في السماء أن يخسِف بكم الأرض[  [ الملك:16] .

] تعرج الملائكة والروح إليه [ [ المعارج:4] .

] بل رفعه الله إليه [ [ النساء:158 ]

قال لك : نعم .

 ولكنه في حقيقة الأمر يُؤمن بألفاظ مجرّدة عن المعاني ؛ لأنه يقطع بأنّ ظاهرها غير مراد ، ولا يجوز الخوض في تفسيرها .

 ومضمون كلامهم  »  أنه ليس فوق السّماوات ربّ ، ولا على العرش إله ، وأنّ الملائكة لا تعرج إلى الله ، ولا تصعد إليه ، ولا تنزل من عنده ، وأنّ عيسى لم يُرفع إليه ، ومحمد  r لم يُعرج به إليه ، وأنّ العباد لا يتوجهون بقلوبهم إلى إله هناك يدعونه ، ويقصدونه ، ولا يرفعون أيديهم من دعائهم إليه « ([3])

فلا يكون الله على قولهم شيئاً قائماَ بنفسه موجوداً . ([4]).

      » وفي كتاب السنّة لعبد الرحمن بن أبي حاتم عن سعيد بن عامر الضبعي  -  إمام أهل البصرة علما ودينا ، ومن شيوخ الإمام أحمد - أنه ذكر عنده الجهمية ، فقال:  هم شرّ قولا من اليهود والنصارى ، قد أجمع اليهود والنصارى مع المسلمين أنّ الله على العرش . وقالوا هم: ليس على العرش شيء .

 وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم أيضاً في كتاب الردّ على الجهمية : قال عبد الرحمن بن مهدي : أصحاب جهم يعتقدون أنّ الله لم يُكلم موسى ، ويريدون أن يقولوا : ليس في السماء شيء، وأنّ الله ليس على العرش .

أرى أن يُستَتابوا فإنْ تابوا ، وإلا قتلوا .

     وحكى عن عاصم بن علي -  شيخ الإمام أحمد والبخاري -  قال : ناظرت جهمياً فتبيّن من كلامه : أنه لا يؤمن أنّ في السماء ربّا  «  ([5]).



    » وقال الإمام الشافعي رحمه الله : ولا تشتغل بالكلام فإنّي قد اطلعت من أهل الكلام على التعطيل « ([6]).

     و» عن ابن المبارك : أنّ رجلا قال له : يا أبا عبد الرحمن قد خفتُ الله تعالى من كثرة ما أدعو على

الجهمية . قال : لا تخف ، فإنّهم يزعمون أنّ إلهك الذي في السماء ليس بشيء  «  ([7]) .









الظاهر مراد عند السلف

    أخي المسلم الكريم ،
 المفوّض يقطع بأنّ ظاهر نصوص الصفات غير مراد لماذا ؟

  لأنه يعتقد أنّ ظاهرها كفر وضلال ، وهو التشبيه والتمثيل.



    وهذا الظنّ ليس من الحقّ في شيء ؛ لأنّ   الظاهر من النصوص هو : » ما يتبادر منها إلى الذهن من المعاني ، وهو يختلف بحسب السياق ، وما يُضاف إليه الكلام «  ([8]).

    والظاهر من نصوص الصفات أنها مما يليق بجلال الله

وعظمته ، ولا تختص بصفة المخلوقين ([9]) .

» ومن المعلوم أنّ من أبطل الباطل أن يجعل ظاهر كلام الله تعالى  وكلام رسوله r تشبيهاً وكفراً أو موهماً لذلك «  ([10]).



 



     يقول الحافظ ابن رجب الحنبلي في كتابه  » فتح البـاري « :



»… وأمّا طريقة أئمة أهــل الحديث وسلف الأمّة فهي إقرار النصوص وإمرارها كما جاءت ، ونفــي الكيفيّة عنها والتمثيل ...ومن قال الظاهر منها غيــر مـراد، قيل له : الظاهر ظاهران ، ظاهر يليق بالمخلوقين ويختص بهم فهو غير مراد، وظاهر يليق بذي الجلال والإكـرام فهو مراد  ونفيه تعطيل ... وأنه ليس في كتاب الله ولا سنّة رسوله r الصحيحة ما ظاهره كفر أو تشبيه أو مستحيل ، بل كلّ ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله  r فإنّه حقّ وصدق يجب اعتقاد ثبوته مع نفي التمثيل عنه «  ([11]).



   ويقول الإمام الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله تعالى ـ :

    » وأمّا قوله تعالى ]  ثمّ استوى على العرش[  فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً، ليس هذا موضع بسطها وإنّما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح ، مالك والأوزاعي والثوري والليث بن سعد والشافعي وأحمد وإسحاق بن راهويه وغيرهم من أئمة المسلمين قديما وحديثا ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل . والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ؛ فإنّ الله لا يُشبهه شيء من خلقه و] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ بل الأمر كما قال الأئمة ، منهم نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال: من شبّه الله  بخلقه كفر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر. وليس فيما وصف الله به نفسه ، ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ، ونفى عن الله تعالى النقائص فقد سلك سبيل الهدى «  ([12]) .



     وقال شيخ الإسلام في » الفتوى الحموية«  (ص 63 ) :



« واعلم أن من المتأخرين من يقول : مذهب السلف إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أنّ ظاهرها غير مراد ، وهذا اللفظ مجمل فإنّ قوله ( ظاهرها غير مراد) يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله قِبل وجه المُصلي أنه مستقر في الحائط الذي يُصلي إليه ، وأنّ الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ونحو ذلك ، فلا شكّ أنّ هذا غير مراد .  ومن قال إنّ مذهب السلف أنّ هذا غير مراد فقد أصاب في المعنى ، لكن الخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث . فإنّ هذا المحال ليس هو الظاهر على ما قد بيّنّاه في غير هذا الموضع ، اللهم إلا أن يكون هذا المعنى الممتنع صار يظهر لبعض الناس ، فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار ، معذوراً في هذا الإطلاق ، فإنّ الظهور والبطون قد يختلف باختلاف أحوال الناس ، وهو من الأمور النسبية. وكان أحسن من هذا أن يبيّن – لمن اعتقد أنّ هذا هو الظاهر – أنّ هذا ليس هو الظاهر ، حتى يكون قد أعطى كلام الله وكلام رسوله حقّه لفظا ومعنى . وإن كان الناقل عن السلف أراد بقوله ( الظاهر غير مراد عندهم ) أنّ المعاني التي تظهر من هذه الآيات والأحاديث مما يليق بجلال الله وعظمته ولا تختص بصفة المخلوقين، بل هي واجبة لله أو جائزة عليه جوازاً ذهنياً أو جوازا خارجياً غير مراد . فهذا قد أخطأ فيما نقله عن السلف ، أو تعمّد الكذب «.



% ويقول الإمام محمد الأمين الشنقيطي ـ رحمه الله ـ  ([13]) :

  » اعلم …  أنه غلط في هذا خلق لا يحصى كثرة من المتأخرين ، فزعموا أن الظاهر المتبادر السابق إلى الفهم من معنى الاستواء واليد مثلاً : في الآيات القرآنية هو مشابهة صفات الحوادث . وقالوا يجب علينا أن نصرفه عن ظاهره إجماعاً ؛ لأن اعتقاد ظاهره كفر ؛ لأن من شبّه الخالق بالمخلوق فهو كافر ، ولا يخفى على أدنى عاقل أنّ حقيقة معنى هذا القول؛ أنّ الله وصف نفسه في كتابه بما ظاهره المتبادر منه السابق إلى الفهم الكفر بالله والقول فيه  بما لا  يليق به جل وعلا.

    والنبي r الذي قيل له ] وأنزلنا إليك الذِكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم[  لم يبين حرفاً واحداً من ذلك مع إجماع من يُعتدّ به من العلماء ، على أنه r لا يجوز في حقّه تأخير البيان عن وقت الحاجة إليه ، وأحرى في العقائد ولا سيّما ما ظاهره المتبادر منه الكفر والضلال المبين حتى جاء هؤلاء الجهلة من المتأخرين ، فزعموا أنّ الله أطلق على نفسه الوصف بما ظاهره المتبادر منه لا يليق، والنبي r كتم أن ذلك الظاهر المتبادر كفر وضلال يجب صرف اللفظ عنه ، وكل هذا من تلقاء أنفسهم من غير اعتماد على  كتاب أو سنّة ، سبحانك هذا بهتان عظيم ! ولا يخفى أنّ هذا القول من أكبر الضلال ومن أعظم الافتراء على الله جل وعلا، ورسوله r ، والحق الذي لا يشكّ فيه أدنى عاقل أن كل وصف وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله r  ، فظاهره المتبادر منه السابق إلى فهم من في قلبه شيء من الإيمان ، هو التنزيه التام عن مشابهة شيء من صفات الحوادث. فبمجرد إضافة الصفة إليه جل وعلا يتبادر إلى الفهم أنّه لا مناسبة بين تلك الصفة الموصوف بها الخالق، وبين شيء من صفات المخلوقين، وهل ينكر عاقل ، أنّ السابق إلى الفهم المتبادر لكل عاقل : هو منافاة الخالق للمخلوق في ذاته ، وجميع صفاته ، لا والله لا ينكر ذلك إلا مكابر . والجاهل المفتري الذي يزعم أن ظاهر آيات الصفات ، لا يليق بالله ؛ لأنه كفر وتشبيه ، إنما جرّ إليه ذلك تنجيس قلبه ، بقذر التشبيه بين الخالق والمخلوق ، فأداه شؤم التشبيه إلى نفي صفات الله جل وعلا ، وعدم الإيمان بها ، مع أنه جل وعلا، هو الذي وصف بها نفسه ، فكان هذا الجاهل مشبها أولا ، ومعطلا ثانيا . فارتكب ما لا يليق بالله ابتداءً وانتهاءً ، ولو كان قلبه عارفا بالله كما ينبغي، معظما لله كما ينبغي ، طاهرا من أقذار التشبيه ، لكان المتبادر عنده السابق إلى فهمه : أن وصف الله جل وعلا، بالغ من الكمال ، والجلال ما يقطع أوهام علائق المشابهه بينه وبين صفات المخلوقين ، فيكون قلبه مستعداً للإيمان بصفات الكمال ، والجلال الثابتة لله في القرآن والسنّة الصحيحة ، مع التنزيه التام عن مشابهة صفات الخلق على نحو قوله: ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ «  اهـ .



% ويقول العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ   :

  » والواجب في النصوص إجراؤها على ظاهرها بدون تحريف ؛ لقوله تعالى : ] وإنه لتنزيل ربّ العالمين ، نزل به الروح الأمين ، على قلبك لتكون من المنذرين ، بلسان عربي مبين[

[ الشعراء:192-195].

وقوله: ] إنّا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون [

[ الزخرف:3 ].

وقوله : ]اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء [ [ الأعراف :3] .

 فإذا كان الله تعالى أنزله باللسان العربي من أجل عقله وفهمه، وأمرنا باتباعه ، وجب علينا إجراؤه على ظاهره بمقتضى ذلك اللسان العربي ، إلا أن تمنع منه حقيقة شرعية .

  … ولا يمكن أن يخاطب الله عباده بما يريد منهم خلاف ظاهره بدون بيان كيف وقد قال : ] يريد الله  ليبيّن لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم[ [ النساء :26]

وقال: ] يبين الله لكم أن تضلوا [ [  النساء: 176] . ويقول عن رسوله r: ] وأنزلنا إليك الذكر لتبيّن للناس ما نزل إليهم [

 [ النحل: 44] . ويقـول: ] وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم[

[ الشورى :52 ] . ومن خاطب غيره بما يريد منه خلاف ظاهره بدون بيان فإنه لم يبين له ولم يهده «  ([14]) .




السلف يفوضون الكيف ليس المعنى





  يقول تعالى : ] كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب [ [ ص :29] . ويقول : ] أفلا يتدبرون القرآن ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً [ [ النساء :82 ] . ويقول سبحانه : ] أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها [ [  محمد: 24 ] ، ويقول  r : » خيركم من تعلم القرآن وعلمه  » ([15]) .

فحثّ الله على تدبّر القرآن كله ولم يستثن شيئاً منه ، ووبّخ من لم يتدبره ، وبين أن الحكمة من إنزاله أن يتدبره الذي أنزل إليهم ويتعظ به أصحاب العقول ، ولولا أن له معنى يعلم بالتدبر  لكان الحثّ على تدبره من لغو القول ، ولكان الاشتغال بتدبره من إضاعة الوقت ، ولفاتت الحكمة من إنزاله ، ولما حسن التوبيخ على تركه .

    والحث على تدبّر القرآن شامل لتدبّر جميع آياته الخبرية العلمية والحكمية العملية ، فكما أننا مأمورون بتدبر آيات  الأحكام لفهم معناها والعمل بمقتضاها، إذ لا يمكن العمل بها بدون فهم معناها ، فكذلك نحن مأمورون بتدبر آيات الأخبار لفهم معناها ، واعتقاد مقتضاها ، والثناء على الله تعالى بها ، إذ لا يمكن اعتقاد ما لم نفهمه ، أو الثناء على الله تعالى به « ([16]) .

   ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية  :

» لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاماً لا معنى له ، ولا يجوز أن يكون الرسول  r  وجميع الأمّة لا يعلمون معناه ، كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين ، وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ «  ([17])  »  فإنهم [ أي السلف ] فسّروا جميع القرآن ، وقال مجاهد:

عرضت المصحف على ابن عباس من فاتحته إلى خاتمته أقفه عند كل آية وأسأله عنها ، وتلقوا ذلك عن النبي ×  كما قال أبو عبد الرحمن السلمي : حدّثنا الذين كانوا يُقرئوننا القرآن عثمان بن عفان ، وعبدالله بن مسعود وغيرهما ، أنهم كانوا إذا تعلموا من النبي  r عشر آيات ، لم يجاوزوها حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، قالوا فتعلمنا القرآن والعلم والعمل جميعاً . وكلام أهل التفسير من الصحابة والتابعين شامل لجميع القرآن إلا ما قد يشكل على بعضهم فيقف فيه ، لا لأنّ أحداً من الناس لا يعلمه ، لكن لأنه هو لم يعلمه «  ([18]) .

     »   وأيضاً فالكلام إنما المقصود به الإفهام ، فإذا لم يقصد به ذلك كان عبثاً وباطلاً، والله تعالى قد نزّه نفسه عن فعل الباطل والعبث ، فكيف يقول الباطل والعبث ويتكلم بكلام ينزله على خلقه لا يريد به إفهامهم « ([19]).

     ويقول رحمه الله تعالى »  وأما التفويض فمن المعلوم أن الله أمرنا بتدبّر القرآن ، وحضنا على عقله وفهمه فكيف يجوز مع ذلك أن يراد منّا الإعراض عن فهمه ومعرفته وعقله » . إلى أن قال : »  فعلى قول هؤلاء يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ، ولا الملائكة ، ولا السابقون الأولون ، وحينئذ فيكون ما وصف الله به نفسه في القرآن ، أو كثير مما وصف الله به نفسه لا يعلم الأنبياء معناه، بل يقولون كلاماً لا يعقلون معناه ».

 قال : « ومعلوم أن هذا قدح في القرآن، والأنبياء إذ كان الله أنزل القرآن وأخبر أنه جعله هدى وبيانا للناس ، وأمر الرسول أن يبلغ البلاغ المبين ، وأن يبين للناس ما نزل إليهم ، وأمر بتدبر القرآن وعقله ، ومع هذا فأشرف ما فيه وهو ما أخبر به الرب عن صفاته ، أو عن كونه خالقا لكل شيء وهو بكل شيء عليم ، أو عن كونه أمر ونهى ، ووعد وتوعّد ، أو عمّا أخبر به عن اليوم الآخر لا يعلم أحد معناه فلا يعقل ، ولا يتدبّر ، ولا يكون الرسول بيّن للناس ما نزل إليهم ، ولا بلغ البلاغ المبين ، وعلى هذا التقدير فيقول كل ملحد ومبتدع : الحق في نفس الأمر ما علمته برأيي وعقلي ، وليس في النصوص ما يناقض ذلك ؛ لأن تلك النصوص مشكلة متشابهة ، ولا يعلم أحد معناها وما لا يعلم أحد معناه لا يجوز أن يستدلّ به ، فيبقى هذا الكلام سدا لباب الهدى والبيان من جهة الأنبياء ، وفتحا لباب من يعارضهم ويقول إن الهدى والبيان في طريقنا لا في طريق الأنبياء ؛ لأنّا نحن نعلم ما نقول ونبينه بالأدلة العقلية ، والأنبياء لم يعلموا ما يقولون ، فضلا عن أن يبينوا مرادهم ، فتبين أن قول أهل التفويض الذين يزعمون أنهم متبعون للسنّة والسلف من شر أقوال أهل البدع والإلحاد »  ([20]).

      ويقول ابن جرير الطبري ـ رحمه الله ـ :

» فإذ كان تفاضل مراتب البيان ، وتباين درجات الكلام، بما وصفنا قبل – وكان الله تعالى ذِكره وتقدّست أسماؤه ، أحكم الحكماء ، وأحلم الحلماء ، كان معلوماً أن أبين البيان بيانه ، وأفضل الكلام كلامه ، وأن قدرَ فضْل بيانه، جلّ ذكره ، على بيان جميع خلقه ، كفضله على جميع عباده .

     فإذ كان كذلك – وكان غير مبين منّا عن نفسه مَنْ خاطب غيره بما لا يفهمه عنه المخاطب – كان معلوماً أنه غير جائز أن يخاطب جل ذكره أحدا من خلقه إلا بما يفهمه المخاطب ، ولا يرسل إلى أحد منهم رسولا برسالة إلا بلسان وبيان يفهمه المرسل إليه ؛ لأن المخاطب والمرسل إليه ، إن لم يفهم ما خوطب به وأرسل به إليه ، فحاله – قبل الخطاب وقبل مجيء الرسالة إليه وبعده – سواء ، إذ لم يفده الخطابُ والرسالة شيئاً كان به قبل ذلك جاهلا .

 والله جلّ ذكره يتعالى عن أن يخاطب خطاباً أو يرسل رسالة  لا توجب فائدة لمن خوطب أو أرسلت إليه ؛ لأن ذلك فينا من فعل أهل النقص والعبث ، والله تعالى عن ذلك متعال .

 ولذلك قال  جل ثناؤه في محكم تنزيله :

 ] وما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبيّن لهم [

 [ إبراهيم: 4] ، وقال لنبيّه محمد r: ] وما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبيّن لهم الذي اختلفوا فيه وهدىً ورحمة لقوم يؤمنون [

[ النحل: 64] . فغير جائز أن يكون به مهتدياً، من كان بما يُهدى إليه جاهلاً «  ([21]) .



ما  هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله
وهل نصوص الصفات من المتشابهات ؟



       قال العلامة ابن عثيمين ـ رحمه الله ـ :

 » والشبهة التي احتج بها أهل التجهيل هي وقف أكثر السلف على ( إلا الله) من قوله تعالى : ]فأمّا الذين في قلوبهم زيغ فيتّبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كلّ من عند ربّنا [

[ آل عمران : 7 ] .

    وقد بنوا شبهتهم عل مقدمتين :

      الأولى : أن آيات الصفات من المتشابه .

      الثانية : أن التأويل المذكور في الآية : هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يخالف الظاهر فتكون النتيجة أن لآيات الصفات معنى يخالف ظاهرها لا يعلمه إلا الله .

    

  والرد عليهم من وجوه :

الأول : أن نسألهم ماذا يريدون بالتشابه الذي أطلقوه على آيات الصفات  أيريدون اشتباه المعنى وخفاءه أم يريدون اشتباه الحقيقة وخفاءها ؟

فإن أرادوا المعنى الأول – وهو مرادهم – فليست آيات الصفات منه ؛ لأنها ظاهرة المعنى ، وإن أرادوا المعنى الثاني فآيات الصفات منه ؛ لأنه لا يعلم حقيقتها وكيفيتها إلاّ الله تعالى . وبهذا عرف أنه لا يصحّ إطلاق التشابه على آيات الصفات بل لا بدّ من التفصيل السابق.



الثاني : إن قولهم :إن التأويل المذكور في الآية هو صرف اللفظ عن ظاهره إلى المعنى الذي يُخالف الظاهر غير صحيح ، فإن هذا المعنى للتأويل اصطلاح حادث لم يعرفه العرب والصحابة الذين نزل القرآن بلغتهم وإنما المعروف عندهم أن التأويل يراد به معنيان :

     إمّا التفسير ويكون التأويل على هذا معلوماً لأولي العلم كما قال ابن عباس رضي الله عنهما : أنا من الراسخين في العلم الذين يعلمون تأويله وعليه يحمل وقف كثير من السلف على قوله تعالى : ] والراسخون في العلم [ من الآية السابقة.

     وإمّا حقيقة الشيء ومآله وعلى هذا يكون تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر غير معلوم لنا ؛ لأن ذلك هو الحقيقة والكيفية التي هو عليها وهو مجهول لنا كما قاله مالك وغيره في الاستواء وغيره وعليه يحمل وقف جمهور السلف على قوله تعالى: ] وما يعلم تأويله إلاّ الله [ من الآية السابقة « ([22]) .


الاشتراك في المعنى الكلي



»  ما من شيئين إلا وبينهما قدر مشترك  يشتركان فيه ، وقدر مختص يتميز به كل واحد عن الآخر فيشبهان من وجه ويفترقان من وجه .

     فالحياة ( مثلا ) وصف مشترك بين الخالق والمخلوق قال الله تعالى: ] وتوكّل على الحيّ الذي لا يموت [ [ الفرقان:58] ، وقال : ] يُخرج الحيّ من الميّت ويُخرج الميّت من الحيّ [ [الروم:19] ، لكن حياة الخالق تختصّ به فهي حياة كاملة من جميع الوجوه لم تسبق بعدم ولا يلحقها فناء ، بخلاف حياة المخلوق فإنها حياة ناقصة مسبوقة بعدم متلوّة بفناء ، قال الله تعالى ] كل من عليها فان ، ويبقى وجه ربّك ذو الجلال

 والإكرام [ [ الرحمن:  26-27] .

      فالقدر المشترك ( وهو مطلق الحياة ) كلي لا يختص بأحدهما دون الآخر ، لكن ما يختص به كل واحد ويتميز به لم يقع فيه اشتراك وحينئذٍ لا محذور من الاشتراك في هذا المعنى الكلي ، وإنمّا المحذور أن يجعل أحدهما مشاركاً للآخر فيما يختص به .

      ثم إنّ إرادة ذلك – أعني نفي مطلق التشابه – تستلزم التعطيل المحض ، لأنه إذا نفى عن الله تعالى صفة الوجود ( مثلا ) بحجة أن للمخلوق صفة وجود فإثباتها للخالق يستلزم التشبيه على هذا التقدير ، لزم على نفيه أن يكون الخالق معدوماً، ثم يلزمه على هذا اللازم الفاسد أن يقع في تشبيه آخر وهو تشبيه الخالق بالمعدوم لاشتراكهما في صفة العدم فيلزمه على قاعدته – تشبيهه بالمعدوم – فإن نفى عنه الوجود والعدم ، وقع في تشبيه ثالث أشد وهو تشبيهه بالممتنعات ؛ لأن الوجود والعدم نقيضان يمتنع انتفاؤهما كما يمتنع اجتماعهما « ([23]).



ومن خلال هذا البيان يتبين لنا معنى كاف التشبيه في مثل قوله r :

» لا يتوضأ أحدكم فيُحسن وضوءه فيسبغه، ثم يأتي المسجد لا يُريد إلا الصلاة فيه ، إلا تبَشبش الله إليه ، كما يتبشبشُ أهلُ الغائب بطلعته  «  ([24]) .



وصيغة التفضيل في مثل قوله r  :»» »اللَّهُ أَفْرَحُ بِتَوْبَةِ عَبْدِهِ مِنْ أَحَدِكُمْ سَقَطَ عَلَى بَعِيرِهِ وَقَدْ أَضَلَّهُ فِي أَرْضِ فَلاةٍ  «   

متفق عليه ، واللفظ للبخاري      .

فيكون الاشتراك في المعنى الكلي دون المعنى المختص.



     ومن ذلك تتجلى لنا فائدة بسط النبي r أصابعه وقبضها، حين قال :

 » يأخذ الله عزّ وجلّ سمواته وأرضيه بيديه فيقول : أنا الله أنا الملك «  رواه مسلم .

    ومما يزيد هذا المعنى وضوحاً أن نصوص الوحي وصفت اليد بالقبض والطيّ والبسط والمسك والهزّ ، وذكرت الأصابع ، واليمين والكفّ .



يقول تعالى ] وما قدروا الله حقّ قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامه والسموات مطويات بيمينه [[ الزمر:67]



وقال سبحانه ] وقالت اليهود يَدُ الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء  [ [المائدة : 64 ] .



    وقال r » يقبض الله الأرض يوم القيامة ويطوي السماء بيمينه

 ثم يقول : أنا الملك ، أين ملوك الأرض ؟   «         

 رواه البخاري ومسلم.

    وعن ابن مسعود ـ رضي الله عنه ـ  قال :



»  جاء حَبرٌ إلى النبي r فقال : يا محمد، أو يا أبا القاسم ،

إنّ الله تعالى يمسك السموات يوم القيامة على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والجبال والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع، وسائر الخلق على إصبع ،

 ثم يهزُّهنّ فيقول : أنا الملك أنا الملك

فضحك رسول الله r ؛ تعجباً مما قال الحبر تصديقاً له

ثم قرأ  ] وما قدروا الله حقّ قدره

والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه

سبحانه وتعالى عمّا يشركون  [ «

رواه البخاري ومسلم.



   وقال r : » إن المقسطين عند الله على منابر من نور على يمين الرحمن عزّ وجلّ وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا «    رواه مسلم .



   وقال r : » ما تصدّق أحد بصدقة من طيّب – ولا يقبل الله إلاّ الطيب – إلا أخذها الرحمن بيمينه وإن كانت تمرة، فتربو في كفّ الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يُربّي أحدكم فَلوَّهُ أو فَصيله «   رواه مسلم .

     ومن أقرّ بأن لله تعالى يدا ، وأنه يقبضها ويبسطها ويهزّها متى شاء ، وكيف شاء وأنّ له أصابع ، فقد تخلص من التعطيل الذي مشى عليه الجهمية من المفوضة والمؤولة .



     وقد وصف الله تبارك وتعالى وجهه بالجلال والإكرام فقال:]ويبقى وجه ربّك ذو الجلال والإكرم[ [ الرحمن:27 ]

وأخبر الرسول r أن الله سبحانه لو كشف عن نفسه الحجاب لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه ([25]) وكان صلى الله عليه وسلم يسأل الله لذة النظر إلى وجهه ([26]) .



     فهل يُقال بعد كلّ هذا البيان ، والإيضاح نحن لا نفهم المعنى المراد من الوجه ، واليد .



     وقد أخبر r أنّ الله سبحانه يضع قدمه وفي رواية أخرى رجله في النار فقد ورد في» الصحيحين » عن أبي هريرة مرفوعاً :

»  فأمّا النار فلا تمتليء حتى يضع الله تبارك وتعالى رجله تقول : قط قط ، فهنالك تمتليء ويُزوى بعضها إلى بعض «  .



     وفيهما أيضاً – عن أنس بن مالك مرفوعاً :

» لا تزال جهنّم تقول : هل من مزيد ؟ حتى يضع فيها ربّ العزّة  تبارك وتعالى قدَمَه ، فتقول : قط قط  وعزّتك ، ويُزوى بعضها إلى بعض «   .



     فلاحظ أخي المسلم ، الوضع للقدم ، والبسط لليد ، والجلال والإكرام للوجه ؛ فأين مذهب التفويض من ذلك؟! .


ما دلّ عليه القرآن والسنّة فهو حقّ



      يقول الإمام ابن قدامة المقدسي رحمه الله :



» واعلم أنّ دلالة الألفاظ على المعنى تنحصر في المطابقة والتضمّن واللزوم ، كدلالة لفظ البيت على معنى البيت ، والتضمن كدلالته على السقف ، ودلالة لفظ الإنسان على الجسم ، واللزوم كدلالة لفظ السقف على الحائط إذ ليس جزءاً من السقف لكنه لا ينفكُّ عنه فهو كالرفيق الملازم «  ([27]) .



   ويقول العلامة ابن عثيمين  ـ رحمه الله ـ :

» دلالة أسماء الله تعالى على ذاته وصفاته تكون بالمطابقة وبالتضمن وبالالتزام .

     مثال ذلك : ( الخالق ) يدل على ذات الله ، وعلى صفة الخلق بالمطابقة ، ويدل على الذات وحدها ، وعلى صفة الخلق وحدها بالتضمن ، ويدل على صفتي العلم والقدرة بالالتزام .

     ولهذا لمّا ذكر الله خلق السموات والأرض قال : ]لتعلموا أنّ الله على كل شيء قدير وأنّ الله قد أحاط بكل شيء علما [

 [ الطلاق : 12] ...

     واعلم أنّ اللازم من قول الله تعالى وقول رسولهr

 إذا صحّ أن يكون لازما فهو حقّ وذلك ؛ لأن كلام الله ورسوله حقّ ، ولازم الحقّ حقّ ؛ ولأن الله تعالى عالم بما يكون لازما من كلامه ، وكلام رسوله فيكون مراداً « ([28]) .



    ويقول الإمام عبد الرحمن السعدي :

       »  الدلالة نوعان : لفظيّة ومعنوية عقلية ، فإن أعطيت اللفظ جميع ما دخل فيه من المعاني فهي دلالة مطابقة ؛ لأن اللفظ طابق المعنى من غير زيادة ولا نقص، وإن أعطيته بعض المعنى فتسمّى دلالة تضمن ؛ لأن المعنى المذكور بعض اللفظ وداخل في ضمنه .

 وأمّا الدلالة المعنوية العقلية فهي خاصة العقل والفكر الصحيح ؛ لأن اللفظ بمجرده لا يدل عليها ، وإنّما ينظر العبد ويتأمّل في المعاني اللازمة لذلك اللفظ الذي لا يتم  معناها بدونه وما يشترط له من الشروط ، وهذا يجري في جميع الأسماء الحسنى ، كلّ واحد منها يدل على الذات وتلك الصفة دلالة مطابقة ، ويدل على الذات وحدها أو على الصفة وحدها دلالة تضمن ، ويدل على الصفة الأخرى اللازمة لتلك المعاني دلالة التزام .

 مثال ذلك ( الرحمن) يدل على الذات وحدها وعلى الرحمة وحدها  دلالة تضمن ، وعلى الأمرين دلالة مطابقة، ويدل على الحياة الكاملة والعلم المحيط والقدرة التامة ونحوها دلالة التزام ؛ لأنه لا توجد الرحمة من دون حياة الراحم وقدرته الموصلة لرحمته للمرحوم وعلمه به وبحاجته  «  ([29]).



    ومن خلال هذا الإيضاح ، يتضح لنا أنّ القول بأن الله سبحانه وتعالى فوق السماء بذاته بائن من خلقه ، وأنه يأتي ويجيء بذاته ، وأن له يدين وعينين ذاتيتين حقيقيتين ، ونحو ذلك ، قد دلّ عليه القرآن والسنّة الصحيحة ، وما يدل عليه القرآن والسنّة فهو حقّ .



 ومما يزيد الأمر وضوحاً ما قاله العلامة المحدث محمد ناصر الدين الألباني – رحمه الله رحمة واسعة – في مقدمته لمختصر العلو (17) :



» ومن هذا العرض يتبين أن هاتين اللفظتين : ( بذاته ) و( بائن ) لم تكونا معروفين في عهد الصحابة y ، ولكن لمّا ابتدع الجهم وأتباعه القول بأن الله في كل مكان، اقتضى ضرورة البيان أن يتلفظ هؤلاء الأئمة الأعلام ، بلفظ ( بائن ) دون أن ينكره أحد منهم .

     ومثل هذا تماما قولهم في القرآن الكريم إنه غير مخلوق، فإن هذه الكلمة لا تعرفها الصحابة أيضا ، وإنما كانوا يقولون فيه : كلام الله تبارك وتعالى ، لا يزيدون على ذلك ، وكان ينبغي الوقوف فيه عند هذا الحد ، لولا قول جهم وأشياعه من المعتزلة : إنه مخلوق ، ولكن إذا نطق هؤلاء بالباطل ، وجب على أهل الحق أن ينطقوا بالحق ولو بتعابير وألفاظ لم تكن معروفة من قبل ، وإلى هذه الحقيقة أشار الإمام أحمد رحمه الله تعالى حين سئل عن الواقفة الذين لا يقولون في القرآن إنه مخلوق أو غير مخلوق  هل لهم رخصة أن يقول الرجل: ( كلام الله ) ثم يسكت؟ قال: ولم يسكت ؟! لولا ما وقع فيه الناس كان يسعه السكوت ، ولكن حيث تكلموا فيما تكلموا ، لأي شيء لا يتكلمون ؟! سمعه أبو داود منه كما في (مسائله) ( ص 263-264 ) «  .

      وقال الشيخ عبدالله الغنيمان في » شرحه لكتاب التوحيد من صحيح البخاري « ( 1/245 ) :

    » وبعض الناس يظن أن إطلاق الذات على الله تعالى كإطلاق الصفات ؛ أي أنه وصف له ، فينكر ذلك بناء على هذا الظن ، ويقول هذا ما ورد ، وليس الأمر كذلك، وإنما المراد التفرقة بين الصفة والموصوف ، وقد تبين مراد الذين يطلقون هذا اللفظ ؛ أنهم يريدون نفس الموصوف وحقيقته ؛ فلا إنكار عليهم في ذلك ؛ كما وضحه كلام شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم «  ([30]) .


إبطال نسبة التفويض إلى السلف الصالح



   السلف أجروا نصوص الصفات على ظواهرها ، من غير تشبيه ، ولا تكييف . وعلموا » أن الله تعالى خاطب العباد بما يفهمون من حيث أصل المعنى ، أما الحقيقة والكنه الذي عليه ذلك المعنى فهو مما استأثر الله تعالى بعلمه فيما يتعلق بذاته وصفاته «  ([31]) .

        وأما من زعم أن مذهب السلف التفويض فإن ما تواتر عن السلف من إثبات معاني نصوص الصفات يبطل قوله دع الفطرة والعقل السليم



وإليك من كلام السلف ، والأئمة ما يدل على أن مذهبهم، الإيمان بألفاظها ، وفهم معانيها ، على الوجه الذي يليق بجلال الله وجماله وكماله :



%  قال الإمام الحافظ الخطيب البغدادي :

» أمّا الكلام في الصفات فإن ما روى منها في السنن الصحاح مذهب السلف إثباتها وإجراؤها على ظواهرها ونفي الكيفية والتشبيه عنها  «  ([32]) .

% وقال شيخ الإسلام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني ( 373-449 هـ ) في كتابه »   عقيدة السلف أصحاب الحديث «  (ص 37 ) :

» وعلماء الأمة وأعيان الأئمة من السلف رحمهم الله لم يختلفوا في أن الله تعالى على عرشه، وعرشه فوق سماواته يثبتون له من ذلك ما أثبته الله تعالى، ويؤمنون به ويصدقون الـربّ جلّ جلاله في خبره ، ويطلقون ما أطلقه سبحانه وتعالى من استوائه على العرش ، ويُمرّونه على ظاهره ويكلون علمه  إلى الله «  .



%  وقال عبد الرحمن بن  أبي حاتم : » سألت أبي وأبا زرعة عن مذاهب أهل السنة في أصول الدين وما أدركا عليه العلماء في جميع الأمصار وما يعتقدان من ذلك ؟

فقالا : أدركنا العلماء في جميع الأمصار – حجازا وعراقا وشاما ويمنا – فكان من مذهبهم : … وأنّ الله عز وجل على عرشه بائن من خلقه كما وصف نفسه في كتابه وعلى لسان رسوله r بلا كيف ؟ أحاط بكل شيء علماً ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ « ([33]) .



%  وقال الإمام الحافظ ابن قدامة المقدسي ( 541-620 هـ) في كتابه » صفة العلو لله الواحد القهّار «  ص 12 :

 » إنّ الله تعالى وصف نفسه بالعلو في السماء ، ووصفه بذلك رسوله محمد خاتم الأنبياء r ، وأجمع على ذلك جميع العلماء من الصحابة الأتقياء ، والأئمة من الفقهاء « .



%  وقال الإمام الحافظ أبو عمر يوسف بن عبدالله بن محمد بن عبدالبر النمري القرطبي ( 368 –463 هـ) في الجزء السابع من كتابه » التمهيد«  ( ص 129) :

  » وفيه دليل [ يعني حديث النزول ] على أن الله  U في السماء على العرش من فوق سبع سموات ، كما قالت الجماعة « .

    وفي (ص 145) قال رحمه الله :

  « أهل السنة مجمعون على الإقرار بالصفات الواردة كلها في القرآن والسنّة ، والإيمان بها ، وحملها على الحقيقة لا المجاز إلا أنهم لا يكيفون شيئاً من ذلك ، ولا يحدون فيه صفة محصورة . وأمّا أهل البدع والجهمية والمعتزلة كلها والخوارج ، فكلهم ينكرها ، ولا يحمل شيئاً منها على الحقيقة ، ويزعمون أن من أقرّ بها مشبه ، وهم عند من أثبتها نافون للمعبود ، والحق فيما قاله القائلون بما نطق به كتاب الله وسنّة رسوله ، وهم أئمة الجماعة والحمدلله ».



% ويقول الحافظ الكبير إمام الأئمة محمد بن إسحق ابن خزيمة المتوفى سنة 311 في كتابه : » التوحيد وإثبات صفات الربّ «  ص (10) :

   » ( باب ذكر إثبات وجه الله): … فأثبت الله لنفسه وجها وصفه بالجلال والإكرام وحكم لوجهه بالبقاء ونفى الهلاك عنه ، فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته الله لنفسه نقر بذلك بألسنتنا ونصدّق بذلك بقلوبنا من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين وعزّ ربنا عن أن نشبهه بالمخلوقين وجلّ ربّنا عن مقالة المعطلين وعزّ عن أن يكون عدماً كما قاله المبطلون «  .

% وقال الشيخ الإمام أبو عبد الله عبد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي المتوفى سنة 386 في كتابه

    « الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة » :

     » وأجمع المسلمون من الصحابة والتابعين ، وجميع أهل العلم من المؤمنين أن الله تبارك وتعالى على عرشه فوق سماواته بائن من خلقه « ([34])  .

% وقال أنس t :

 » فكانت زينب تفخر على أزواج النبي r تقول زوجكن أهليكن وزوّجني الله تعالى من فوق سبع سموات «  ([35]) .

%  وقال ابن مسعود t » العرش فوق الماء والله فوق العرش لا يخفى عليه شيء من أعمالكم « ([36]) .

%   ويقول الإمام البخاري في » صحيحه«  » كتاب التوحيد، باب وكان عرشه على الماء ، وهو ربُّ العرش العظيم «  : قال أبو عالية : استوى إلى السماء : ارتفع . وقال مجاهد ، استوى : علا على العرش .

% ويقول إمام أهل السنة أحمد بن حنبل رحمه الله :

» ولا نرضى أن يقول : كلام الله ويسكت حتى نقول : إنه غير مخلوق «  ([37]) .

%    و» حبس هشام بن عبد الملك رجلا في التجهم فتاب فجيء به إلى هشام ليمتحنه فقال : الحمد لله على التوبة أتشهد أن الله على عرشه بائن من خلقه قال : أشهد أن الله على عرشه ولا أدري ما بائن من خلقه فقال : ردوه إلى الحبس فإنه لم يتب «  ([38]) .

%   وقال شيخ الإسلام ابن تيمية

في »  الفتوى الحموية «  (ص 23) : روى أبو بكر البيهقي في

 » الأسماء والصفات «  بإسناد صحيح عن الأوزاعي قال :

      كنّا – والتابعون متوافرون – نقول : إنّ الله - تعالى ذكره – فوق عرشه ، ونؤمن بما وردت به السنّة من الصفات «  .

% وقال رحمه الله أيضا (ص 64 ) :

    » فما يمكن أحداً قط أن ينقل عن واحد من السلف

ما يدل – لا نصاّ ولا ظاهراً – أنهم كانوا يعتقدون أنّ الله ليس فوق العرش ، ولا أن الله ليس له سمع وبصر ويدّ حقيقية ، وقد رأيت هذا المعنى ينتحله بعض من يحكيه عن السلف ويقولون: إن طريقة أهل التأويل هي في الحقيقة طريقة السلف ، بمعنى أن الفريقين اتفقوا على أن هذه الآيات والأحاديث لم تدل على صفات الله سبحانه وتعالى ، ولكن السلف سكتوا عن تأويلها ، والمتأخرون رأوا المصلحة في تأويلها لمسيس الحاجة إلى ذلك ، ويقولون: الفرق أن هؤلاء يعينون المراد بالتأويل ، وأولئك لا يعينون لجواز أن يراد غيره ، وهذا القول على الإطلاق كذب صريح على السلف ، أمّا في كثير من الصفات فقطعاً ، مثل أن الله تعالى فوق العرش ، فإن من تأمل كلام السلف المنقول عنهم الذي لم يحك هنا عشره علم بالاضطرار أن القوم كانوا مصرحين بأن الله فوق العرش حقيقة ، وأنهم ما اعتقدوا خلاف هذا قط ، وكثير منهم صرّح في كثير من الصفات بمثل ذلك .

      والله يعلم أني بعد البحث التام ومطالعة ما أمكن من كلام السلف ما رأيت كلام أحد منهم يدل – لا نصاً ولا ظاهراً ولا بالقرائن – على نفي الصفات الخبرية في نفس الأمر، بل الذي رأيته أن كثيراً من كلامهم يدل – إمّا نصّاً وإمّا ظاهراً – على تقرير جنس هذه الصفات ، ولا أنقل عن كل واحد منهم إثبات كل صفة ، بل الذي رأيته أنهم يثبتون جنسها في الجملة ، وما رأيت أحداً منهم نفاها ، وإنما ينفون التشبيه وينكرون على المشبهة الذين يشبهون الله بخلقه ، مع إنكارهم على من ينفي الصفات أيضاً ، كقول نعيم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري : من شبه الله بخلقه فقد كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس ما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيهاً  «  .

ما هو التشبيه في مفهوم السلف

اعلم  – رعاك الله – أن التشبيه عند السلف هو أن يُقال: يد كيد ، وسمع كسمع .

وأما من رمى من يثبت الصفات الواردة في الكتاب والسنة الصحيحة بالتشبيه ، فهو جهمي معطل .



    قال الإمام الحافظ الترمذي رحمه الله تعالى في » سننه«  تحت » باب ما جاء في فضل الصدقة « من أبواب الزكاة :

   » وقد قال غيرُ واحد من أهل العلم في هذا الحديث وما يشبه هذا من الروايات من الصفات ونزول الرّب تبـارك  وتعالى كلَّ ليلةِ إلى السماء الدنيا ، قالوا : قد تثبتُ الروايات في هذا ويُؤمًنُ بها ولا يُتَوَهمُ ولا يُقال كيف .   

    هكذا روي عن مالك بن أنس وسفيان بن عيينه وعبدالله بن المبارك أنهم قالوا في هذه الأحاديث: أمرّوها بلا(كيف) ، وهكذا قول أهل العلم من أهل السنّة والجماعة.

    وأمّا الجهمية فأنكرت هذه الروايات وقالوا هذا تشبيه.

    وقد ذكر الله تعالى في غير موضع من كتابه اليدَ والسمعً والبصرَ فتأوّلت الجهمية هذه الآيات وفسّروها على غير ما فسّر أهل العلم وقالوا إنّ الله لم يخلق آدم بيده ، وقالوا إنّما معنى اليد القوّة .

    وقال إسحق بن إبراهيم : إنّما يكون التشبيه إذا قال يدٌ كيدٍ أو مثل يدٍ أو سمع كسمع أو مثل سمع ، فإذا قال سمع كسمع أو مثل سمع فهذا تشبيه .

    وأمّا إذا قال كما قال الله يدٌ وسمعٌ وبصرٌ ولا يقول كيف ولا  يقول مثل سمع ولا كسمع فهذا لا يكون تشبيهاً وهو كما قال الله تبارك وتعالى في كتابه  ] ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [ ([39]) .



%   وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم سمعت أبي يقول: » علامة الجهمية تسميتهم أهل السنة مشبهة « ([40]) .





%  وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في » الفتوى الحموية«  (ص 64 ) :

  » فإنّ الجهمية والمعتزلة إلى اليوم يسمون من أثبت شيئاً من الصفات مشبهاً ، كذباً منهم وافتراء ، حتى إن منهم من غلا ورمى الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم بذلك، حتى قال ثمامة بن الأشرس من رؤساء الجهمية : ثلاثة من الأنبياء مشبهة : موسى حيث قال ]إن هي إلا فتنتك [ [الأعراف:155 ]، وعيسى حيث قــال ]تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك [[المائدة:116]، ومحمد حيث قال [ ينزل ربّنا ] وحتى إن جلّ المعتزلة تُدخل عامة الأئمة – مثل مالك وأصحابه والثوري وأصحابه والأوزاعي وأصحابه والشافعي وأصحابه وأحمد وأصحابه وإسحاق بن راهويه وأبي عبيد وغيرهم – في قسم المشبهة «  .


معنى قول بعض السلف ومن اتبعهم من الأئمة أمرّوها كما جاءت بلا تفسير



يخطئ بعض الناس ، فيظن  أنّ معنى هذا القول تفويض نصوص الصفات بالمعنى ، الذي يزعمه بعض الخلف – وهو القطع بأنّ ظاهرها غير مراد، وعدم الخوض في تفسيرها – وليس الأمر كذلك ؛ لما تواتر عنهم من إثبات معاني تلك النصوص .



     والحق – أخي المسلم – أنهم أرادوا بقولهم :

أمرّوها كما جاءت ، أي: على ظاهرها من غير تحريف ؛ فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني .

 أمّا قولهم بلا تفسير ، فتارة يقصدون به بلا تفسير الكيف ، وتارة يقصدون به بلا تفسير الجهمية الذي هو التأويل .

     ومن أطلق منهم لفظ التفويض أراد تفويض الكيف، وإليك ما يرشدك إلى ذلك ويكشف لك عن وجه الحقيقة :



% في كتاب »  السنة«  لعبد الله بن أحمد بن حنبل ـ رحمهما الله ـ (ص 70 رقم 349 ) :

» سألت أبي عن قوم يقولون : لما كلم الله موسى لـم يتكلم بصوت فقال أبي: بلى تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت »  .

%   وفي كتاب »  التوحيد ومعرفة أسماء الله U وصفاته« للإمام الحافظ أبي عبدالله محمد بن إسحاق بن منده رحمه الله (310-395 هـ) ([41])  » عن الوليد بن مسلم قال:

سألت سفيان الثوري ومالك بن أنس والأوزاعي والليث بن سعد عن هذه الأحاديث التي في الرؤية وأمثالها فقالوا:

    نؤمن بها وتمضي على ما جاءت  ولا نفسرها.اهـ



      هكذا قالوا – رحمهم الله تعالى – مع كونهم يثبتون رؤية الله في الدار الآخرة كما هو معلوم .

%   وقال إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي البربهاري المتوفى سنة 329 هـ في كتابه » شرح السنة «  الذي ذكر فيه عقيدة السلف ( ص 83 ) : » فعليك بالتسليم والتصديق والتفويض . لا تفسر شيئاً من هذه بهواك فإن الإيمان بهذا واجب ، فمن فسّر شيئاً من هذا بهواه أو ردّه فهو جهمي «.

 مع قوله هذا قال في الكتاب نفسه (ص92 ) :

»  والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الذي كلّم موسى بن عمران يوم الطور ، وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره ، فمن قال غير هذا ، فقد كفر بالله العظيم «.

     فأين هذا الاعتقاد من عقيدة التفويض بالمعنى ، الذي ذكره بعض الخلف ، وزعم أنه مذهب السلف ، وما هو بمذهب السلف ، وما ينبغي أن يكون من مذهب السلف .



%   وفي »  سير أعلام النبلاء « للإمام الذهبي (10/505 )

عن العباس الّدوري : سمعت أبا عبيد القاسم بن سلام – وذكر الباب الذي يُروى فيه الرؤية ، والكرسي موضع القدمين ، وضحك ربّنا ، وأين كان ربّنا – فقال : هذه أحاديث صحاح ، حملها أصحاب الحديث والفقهاء بعضهم عن بعض وهي عندنا حقّ لا نشكُّ فيها ، ولكن إذا قيل : كيف يضحك ؟ وكيف وضع قدمه ؟ قلنا: لا نفسّر هذا، ولا سمعنا أحداً يفسِّره .



     ثم قال الإمام الذهبي  رحمه الله :

  »   قلت: قد فسّر علماء السلف المهمّ من الألفاظ وغير المهم، وما أبقوا ممكناً ، وآيات الصفات وأحاديثها لم يتعرّضوا لتأويلها أصلاً ، وهي أهمّ الدينِ ، فلو كان تأويلها سائغاً أو حتماً ، لبادروا إليه ، فعُلمَ قطعاً أن قراءتها وإمرارها على ما جاءت هو الحقُّ ، لا تفسير لها غير ذلك ، فنؤمن بذلك ، ونسكت اقتداءً بالسلف ، معتقدين أنها صفات لله تعالى ، استأثر الله بعلم حقائقها ، وأنها لا تشبه صفات المخلوقين ، كما أنّ ذاته المقدّسة لا تماثل ذوات المخلوقين ، فالكتاب والسنّة نطق بها ، والرسول r بلغ ، وما تعرّض لتأويل، مع كون الباري قال : ] لتبين للناس ما نُزّل إليهم [

 [النحل :44 ] ، فعلينا الإيمان والتسليم للنصوص ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم « .

   وقال الإمام الذهبي – أيضاً – في »  السير«  (19/449) :

»  قلت:

قد صار الظاهر اليوم ظاهرين :

أحدهما حق ، والثاني باطل

فالحق أن يقول : إنه سميع بصير ، مريد متكلم، حيٌّ عليم ، كل شيء هالك إلاّ وجهه ، خلق آدم بيده ، وكلّم موسى تكليما ، واتخذ إبراهيم خليلا ، وأمثال ذلك ، فنمرّهُ على ما جاء ، ونفهم منه دلالة الخطاب كما يليق به تعالى ، ولا نقول : له تأويل يخالف ذلك .

     والظاهر الآخر وهو الباطل ، والضلال :

أن تعتقد قياس الغائب على الشاهد ، وتمثل البارئ بخلقه ، تعالى الله عن ذلك ، بل صفاته كذاته ، فلا عِدْلَ له ، ولا ضدَّ له ، ولا نظير له ، ولا مثل له ، ولا شبيه له ، وليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ، وهذا أمر يستوي فيه الفقيه والعاميّ ، والله أعلم «  .



%  وقال شيخ الإسلام في» الفتوى الحموية « (24-25) :



» وروى الخلال بإسناد كلهم أئمة ثقات عن سفيان بن عيينه قال : سئل ربيعة بن أبي عبد الرحمن عن قوله  ]الرحمن على العرش استوى [ كيف استوى؟ قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، ومن الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ المبين ، وعلينا التصديق. وهذا الكلام مروي عن مالك بن أنس تلميذ ربيعة بن أبي عبدالرحمن من غير وجه  ومنها ما رواه أبو الشيخ الأصبهاني وأبو بكر البيهقي عن يحيى قال : كنّا عند مالك بن أنس ، فجاء رجل فقال : يا أبا عبدالله  ]الرحمن على العرش استوى [ كيف استوى ؟ فأطرق مالك برأسه حتى علاه الرُحَضَاء ([42]) ثم قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول  والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أراك إلاّ مبتدعاً . فأمر به أن يخرج .

     فقول ربيعة ومالك ( الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ) موافق لقول الباقين (أمروها  كما جاءت بلا كيف ) فإنما نفوا علم الكيفية ولم ينفوا حقيقة الصفة ، ولو كان القوم قد آمنوا باللفظ المجرّد من غير فهم لمعناه على ما يليق بالله لما قالوا

(الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ) ولما قالوا ( أمروها  كما جاءت بلا كيف ) فإن الاستواء حينئذ لا يكون معلوماً بل مجهول بمنزلة حروف المعجم ، وأيضاً فإنه لا يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا لم يفهم عن اللفظ معنى، إنما يحتاج إلى نفي علم الكيفية إذا أثبتت الصفات، وأيضاً فإن من ينفي الصفات الجزئية – أو الصفات مطلقاً – لا يحتاج إلى أن يقول ( بلا كيف ) فمن قال : إن الله ليس على العرش ، لا يحتاج أن يقول : بلا كيف .

     فلو كان مذهب السلف نفي الصفات في  نفس الأمر لما قالوا بلا كيف ، وأيضاً فقولهم (أمروها كما جاءت ) يقتضي إبقاء دلالتها على ما هي عليه ، فإنها جاءت ألفاظاً دالة على معاني ، فلو كانت دلالتها منتفية لكان الواجب أن يقال أمروا لفظها مع اعتقاد أن المفهوم منها غير مراد . أو أمروا لفظها مع اعتقاد أن الله لا يوصف بما دلت عليه حقيقة ، وحينئذ تكون قد أمرت كما جاءت ، ولا يقال حينئذ (  بلا كيف ) ، إذ نفي الكيف عمّا ليس بثابت لغو من القول «  .


طريقة السلف هي الأعلم والأحكم

      

    يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في » الفتوى الحموية «  (ص6 )

    : » ولا يجوز أيضاً أن يكون الخالفون أعلم من السالفين  كما قد يقوله بعض الأغبياء ممن لا يعرف قدر السلف، بل ولا عرف الله ورسوله والمؤمنين به حقيقة المعرفة المأمور بها ، من أن طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ، وإن كانت هذه العبارة إذا صدرت من بعض العلماء قد يعني بها معنى صحيحاً ، فإنّ هؤلاء المبتدعين الذين يفضلون طريقة الخلف من المتفلسفة ومن حذا حذوهم على طريقة السلف ، إنما أتوا من حيث ظنّوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه لذلك ، بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم  ] ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلاّ أماني [[ البقرة : 78] وإن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ، فهذا الظن الفاسد أوجب تلك المقالات التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر .    

   وقد كذبوا على طريقة السلف وضلوا في تصويب طريقة الخلف فجمعوا بين الجهل بطريقة السلف في الكذب عليهم، وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف .

     وسبب ذلك اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة التي شاركوا فيها إخوانهم من الكافرين  فلمّا اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر – وكان مع ذلك لا بدّ للنصوص من معنى – بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى  وهي التي يسمّونها  طريقة السلف ، وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف، وهي التي يسمونها طريقة الخلف، فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل والكفر بالسمع ، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات ، والسمع حرّفوا فيه الكلام عن مواضعه  فلمّا انبنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكفريّتين الكاذبين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم ، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين بمنزلة الصالحين من العامة لم يتبحّروا في حقائق العلم بالله ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي ، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله «  .

                       







تمّت الرسالة بعون الله





فهرس المراجع



      1.         » ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف« لعبد الله بن سليمان الغفيلي ، دار المسير .

      2.        »  أضواء البيان « لمحمد الأمين الشنقيطي .
      3.        »   الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية «لأبي عبد الله عبد الله بن محمد بن بطة العكبري الحنبلي .

      4.        » التسعينية «لأحمد بن عبد الحليم بن تيمية 661- 728 ، دراسة وتحقيق محمد العجلان .  مكتبة المعارف .

      5.        »  عون المعبود شرح سنن أبي داود مع شرح الحافظ شمس الدين ابن قيم الجوزية « دار الكتب العلمية .

      6.         » تفسير القرآن العظيم « لإسماعيل بن كثير المتوفى سنة 774 ،إدارة بناء المساجد والمشاريع الإسلامية .

      7.        » تقريب التدمرية«  لمحمد بن صالح العثيمين ، دار الوطن .

      8.        » تفسير الطبري«  لأبي جعفر محمد بن جرير الطبري ، المتوفى سنة 310، دار الكتب العلمية .

      9.        » تذكرة الحفاظ«  لأبي عبد الله الذهبي المتوفى سنة 748

 دار إحياء التراث العربي .

   10.      » تحفة الأحوذي بشرح جامع الترمذي «  ، دار الكتب العلمية

    11.      » التمهيد« لابن عبد البر المالكي .

   12.      » التوحيد وإثبات صفات الرب «  لمحمد بن إسحاق بن خزيمة ، دار الكتب العلمية .

   13.      » التوحيد ومعرفة أسماء الله عز وجل وصفاته على الاتفاق والتفرد « لأبي عبد الله ابن منده ، تحقيق علي بن محمد بن ناصر الفقيهي ، الجامعة الإسلامية .

   14.      » الحق الواضح المبين في شرح توحيد الأنبياء والمرسلين من الكافية الشافية «  لعبد الرحمن بن ناصر آل سعدي ، دار الوطن

   15.      » ذم الكلام وأهله« لأبي إسماعيل الأنصاري .

   16.      » روضة الناظر وجنة المناظر «   لابن قدامة المقدسي ، دار الكتاب العربي .

   17.      » سير أعلام النبلاء « للذهبي .

   18.      » شرح أصول الإيمان«  للعثيمين ، دار الوطن .

   19.      » شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة «  لأبي القاسم اللالكائي ( المتوفى سنة 418 ) تحقيق أحمد الغامدي ، دار طيبة

   20.      » شرح جوهرة التوحيد«  لإبراهيم الباجوري .

   21.      » شرح السنة«  لأبي محمد البربهاري ( المتوفى سنة 329) تحقيق خالد الردادي ، مكتبة الغرباء الأثرية .

   22.      » صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة « لعلوي بن عبد القادر السقاف ، دار الهجرة .

   23.      » صفة العلو لله الواحد القهار «  لابن قدامة المقدسي ، دار الصحابة .

   24.      » عقيدة السلف أصحاب الحديث «لأبي عثمان الصابوني (المتوفى سنة 449) ، تحقيق بدر البدر ، مكتبة الغرباء.

   25.      » الفتوى الحموية الكبرى «  لابن تيمية . دار الكتب العلمية .

   26.      » فتح الباري بشرح صحيح البخاري « لابن حجر ، دار الريان.

   27.      » فتح رب البرية بتلخيص الحموية«  لمحمد العثيمين ، دار طيبة

   28.      » القواعد المثلى « لمحمد العثيمين .

   29.      » مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية « جمع وترتيب عبد الرحمن بن محمد بن قاسم النجدي .

   30.      » مختصر العلو للعلي الغفار«  للذهبي ، تحقيق محمد ناصر الدين الألباني ، المكتب الإسلامي .

   31.      » النهاية في غريب الحديث والأثر « لابن الأثير .









فهرس الموضوعات





المقدمة..……………………………………………………………………………7

معنى التفويض في اللغة ………………………………………………… … ….     8

معنى التفويض في اصطلاح المفوّضة.…………………………………………… 8

الظاهر مراد عند السلف…………………………………………………………12

السلف يفوضون الكيف ليس المعنى……………………………………………20

ما هو التأويل الذي لا يعلمه إلا الله

وهل نصوص الصفات من المتشابهات  ………………………………………. 26

الاشتراك في المعنى الكلي………………………………………………………..28

ما دل عليه القرآن والسنة فهو حق …………………………………………….35

إبطال نسبة التفويض إلى السلف الصالح ..…………………………………… 39

ما هو التشبيه في مفهوم السلف ..……………………………………………… 48

معنى قول بعض السلف ومن اتبعهم من

الأئمة أمروها كما جاءت بلا تفسير…………………………………………... 51

طريقة السلف هي الأعلم والأحكم ………………………………………….. 58















([1]) »  المغرب في ترتيب المعرب « (2/152)

([2])» النهاية « لابن الأثير (3 /479)

([3]) » التسعينية« لشيخ الإسلام ابن تيمية (1/217)

([4] ) » التسعينية« (3/940)

([5]) » تهذيب السنن « لابن قيم الجوزية  (13/37)

([6]) » التسعينية « (3 /788)

([7]) » سير أعلام النبلاء « للإمام الذهبي (8/402) .

([8])   » القواعد المثلى « (36) لابن عثيمين .

([9])   » الفتوى الحموية الكبرى « لشيخ الإسلام ابن تيمية (63)

( [10] ) » القواعد المثلى « (43)

( [11] )  » ابن رجب الحنبلي وأثره في توضيح عقيدة السلف «

(1/198 )

( [12] )  » تفسير ابن كثير« (2/246) . (تحت آية 54 من  سورة الأعراف )

( [13] ) » أضواء البيان « (2/319-320 )

( [14] ) « تقريب التدمرية » (60 – 61 ) .

( [15] ) رواه البخاري .        

( [16] )  » تقريب التدمرية «لابن عثيمين (ص 76-77)

( [17] ) » مجموع فتاوى شيخ الإسلام « (17/390)

( [18] ) » مجموع فتاوى شيخ الإسلام« (17/396)

( [19] ) » مجموع فتاوى شيخ الإسلام« (17/397)

( [20] )  » تقريب التدمرية « (ص 82) نقلاً عن » العقل والنقل «(1/16)المطبوع على هامش »منهاج السنة« (1/201 ) تحقيق رشاد سالم .



( [21] )  » تفسير الطبري« (1 /29)

( [22] )  » فتح رب البرية بتلخيص الحموية  « (103)

( [23] ) » تقريب التدمرية« (98-99)

( [24] )  رواه ابن خزيمة وصححه المحدث الألباني في» صحيح الترغيب والترهيب« (رقم 298)

( [25] )  » صحيح مسلم« ( كتاب الإيمان )

( [26] )  رواه النسائي (1304) وصححه الألباني.

( [27] )  » روضة الناظر« (19)

( [28] )  » القواعد المثلى« (11)

( [29] )  » الحق الواضح المبين « (278)

( [30] )  »  صفات الله عزّ وجلّ « لعلوي السقاف (118)

( [31] )  » شرح أصول الإيمان « لابن عثيمين (84) .

( [32] )  » تذكرة الحفاظ للذهبي «(ص 1142)

( [33] ) » شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة« للحافظ أبي القاسم اللالكائي المتوفى سنة 418  (1 /198) .

( [34] )    » الكتاب الثالث « (3/ 136)                                           

( [35] )    » صحيح البخاري « ( 7420)                                           

( [36] ) صححه الذهبي وابن القيم  والألباني  كما في » مختصر العلو« ( ص 103)



( [37] ) » الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية « ( الكتاب الثالث ) ( 1/ 314)                                 

( [38] ) » ذم الكلام وأهله « لشيخ الإسلام أبي إسماعيل الأنصاري (4/ 338)                                

( [39] )  » سنن الترمذي « ( أبواب الزكاة /باب ما جاء في فضل الصدقة )

( [40] )  » شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة « (2 /  588)

( [41] )  (3 / 307)

( [42] )  العَرَق الكثير .
 





 

No comments:

Post a Comment