بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الخامس
في بيان اطراد قاعدة السلف في الصفات في وجوب إمرار الجميع على الظاهر بلا تأويل، لا يفرقون بين صفة وأخرى
سلك أهل السنة والجماعة في جميع صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة مسلكاً واحداً وهو إثباتها وإمرارها على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تكييف ولا تشبيه، لا يفرقون في ذلك بين صفة وأخرى. فلا فرق عندهم بين الصفات الذاتية والفعلية، ولا بين العقلية والخبرية، ولا بين صفات المعاني وغيرها. ونصوصهم في هذا كثيرة جداً يصعب حصرها.
قال تعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11، وهذه آية جامعة عامة في أن الله تعالى لا يماثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقال تعالى {هل تعلم له سمياً} مريم65.
وقد كان النبي r يخاطب أصحابه جميعهم: المتعلم منهم والجاهل، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، ويذكر صفات ربه، لا يفرق بين صفة وصفة، ولم يقل في بعضها: الظاهر غير مراد، أو لا تفهموا منها الحقيقة، ونحو ذلك. ولم يكن يقرن عند ذكر بعض صفاته ما يدل على كونها مجازاً، فكان يذكر صفة النزول مثلاً، ويكررها في مواضع كثيرة، ولا يقرن بالكلام ما يدل على أن المراد خلاف ظاهرها.
وأنا أذكر هنا شيئاً يسيراً من كلام السلف حيث يسوقون فيه الصفات سوقاً واحداً بلا تفريق بين صفة وصفة، فلا يفرقون بين السمع واليد، ولا بين البصر والوجه، ولا بين القدرة والنزول، ولا بين الإرادة والضحك، ولا بين العلم والمحبة، ولا بين الحياة والمقت، ولا بين الكلام والعلو.
~ الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (150 هـ)
قال: (لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه. ونصفه كما وصف نفسه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، حي قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم، ليست كأيدي خلقه، ووجهه ليس كوجوه خلقه)[1] اهـ.
~ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون (164 هـ)
قال في بيان معتقد السلف في أسماء الله وصفاته، فذكر بعض ما ورد منها في الكتاب والسنة ثم قال: (وقال رسول الله r: "لا تمتلىء النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض"، وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة"، وقال فيما بلغنا: "أن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم، فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم. قال: لا نعدم من رب يضحك خيراً"، إلى أشباه هذا مما لا نحصيه، وقال تعالى: {وهو السميع البصير} الشورى11، و{اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} الطور48، وقال تعالى: {ولتصنع على عيني} طه39، وقال تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ص75، وقال تعالى: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} الزمر67، فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقي في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف)[2] اهـ.
~ الإمام سلام بن أبي مطيع أبو سعيد الخزاعي (164 هـ)
قال هدبة: قال سلام بن أبي مطيع: (متى ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً، فإنهم لا ينكرون شيئاً إلا في القرآن أبين منه، إنه {سميع بصير} الأعراف200، وإنه {السميع العليم} الأنعام13 ، {فلما تجلى ربه للجبل} الأعراف143، {وكلم الله موسى تكليما} النساء164،، وقال {لما خلقت بيدي} ص75،، فما زال يقول حتى غربت الشمس)[3] اهـ.
~ الإمام إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر الهذلى (236 هـ)
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبا معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي يقول: (من زعم إن الله لا يتكلم، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى، وذكر الأشياء من هذه الصفات، فهو كافر بالله بهذا ندين الله عز وجل)[4] اهـ.
~ مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري المدني (236 هـ)
قال: (إن الله يتكلم بغير مخلوق، وإنه يسمع بغير ما يبصر، ويبصر بغير ما يسمع، ويتكلم بغير ما يسمع، وإن كل اسم من هذه يقع في موضع لا يقع غيره، ولست أقول إن كلام الله وحده غير مخلوق. أنا أقول أفعال الله كلها غير مخلوقة، وإن وجه الله غير يديه، وإن يديه غير وجهه. فإن قالوا: كيف؟ قلنا: لا ندري كيف هو؟ غير أن الله عز وجل أخبرنا أن له وجهاً ويدين ونفساً، وأنه سميع بصير. وكل اسم من هذه يقع في موضع لا يقع عليه الاسم الآخر.)[5] اهـ.
~ الإمام العلامة أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني (280 هـ)
قال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن احمد وإسحاق وغيرهما في الجامع: (باب القول في المذهب:
هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم...) وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك إلى أن قال: (وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك، ويسمع، ويبصر، وينظر، ويقبض، ويبسط، ويفرح، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى، ويسخط، ويغضب، ويرحم، ويعفو، ويغفر، ويعطي، ويمنع، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ..) إلى أن قال: (ولم يزل الله متكلماً عالماً فتبارك الله أحسن الخالقين)[6] اهـ.
~ الإمام العلامة الحافظ الناقد عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ)
قال: (أخبرنا الله في كتابه أنه ذو سمع، وبصر، ويدين، ووجه، ونفس، وعلم، وكلام، وأنه فوق عرشه فوق سماواته، فآمنا بجميع ما وصف به نفسه كما وصفه بلا كيف)[7] اهـ.
~ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310 هـ)
قال: (ولله تعالى ذكره أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه r أمته..) إلى أن قال: (وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميع بصير، وأن له يدين لقوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} المائدة64، وأن له يميناً لقوله: {والسماوات مطويات بيمينه} الزمر67، وأن له وجهاً لقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27. وأن له قدماً لقول رسول الله r: "حتى يضع الرب قدمه فيها" يعني جهنم. وأنه يضحك إلى عبده المؤمن لقول النبي r للذي قُتل في سبيل الله: "إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه". وانه يهبط كل ليلة وينزل إلى السماء الدنيا، لخبر رسول الله r. وأنه ليس بأعور لقول النبي r، إذ ذكر الدجال فقال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور".
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها غياية، وكما يرون القمر ليلة البدر، لقول النبي r.
وأن له أصابع، لقول النبي r : "ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن".
فإن هذه المعاني التي وصفت، ونظائرها مما وصف الله عز وجل بها نفسه، أو وصفه بها رسوله r مما لا تُدرك حقيقة علمه بالفكر والروية)[8] اهـ.
وقال: (فإن قال لنا قائل: فما الصواب في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله عز جل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله r. قيل: الصواب من هذا القول عندنا، أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى عن نفسه جل ثناؤه فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11،. فيقال: الله سميع بصير، له سمع وبصر، إذ لا يعقل مسمى سميعاً بصيراً في لغة ولا عقل في النشوء والعادة والمتعارف إلا من له سمع وبصر.) إلى أن قال: (فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما يُعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه فنقول: يسمع جل ثناؤه الأصوات، لا بخرق في أذن، ولا جارحة كجوارح بني آدم. وكذلك يبصر الأشخاص ببصر لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارح لهم.
وله يدان ويمين وأصابع، وليست جارحة، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير. ووجه لا كجوارح بني آدم التي من لحم ودم.
ونقول: يضحك إلى من شاء من خلقه. لا تقول: إن ذلك كشر عن أنياب.
ويهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا)[9] اهـ.
~ الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (395 هـ)
قال: (فمن الصفات التي وصف بها نفسه ومنح خلقه (الكلام) فالله عز وجل تكلم كلاماً أزلياً غير معلم ولا منقطع، فيه يخلق الأشياء، وبكلامه دل على صفاته التي لا يُستدرك كيفيتها مخلوق ولا يبلغ وصفها واصف. والعبد يتكلم بكلام محدث معلم مختلف فان بفنائه. ووصف وجهه فقال: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، الآية. فأخبر عن فناء الوجوه وبقاء وجهه، ووصف نفسه بالسميع والبصير فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11،، فأخبر أنه سميع من كل الجهات، لكل الأصوات، بصير بكل الأشياء من كل الجهات، لم يزل يسمع ويبصر، ولا يزال كذلك، ووصف عباده بالسمع والبصر المحدث المخلوق الفاني بفنائه التي تكل وتعجز عن جميع حقيقة المسموع والمبصر.
ووصف نفسه بالعلم والقدرة والرحمة، ومنحها عباده للمعرفة عند الوجود فيهم، والنكرة عند وجود المضاد فيهم، فجعل ضد العلم في خلقه الجهل، وضد القدرة العجز، وضد الرحمة القسوة، فهي موجودة في الخلق غير جائزة على الخالق، فوافقت الأسماء وباينت المعاني من كل الجهات، ووصف الله عز وجل نفسه بالعلم، وأنه يعلم كل شيء من كل الجهات، لم يزل ولا يزال موصوفاً بالعلم غير معلم، باق غير فان، والعبد مضطر إلى أن يتعلم مالم يعلم، ثم ينسى ثم يموت ويذهب علمه، والله موصوف بالعلم بجميع الأشياء من كل الجهات دائماً باقياً.
ففيما ذكرناه دليل على جميع الأسماء والصفات التي لم نذكرها، وإنما يَنفي التمثيل والتشبيه النية والعلم بمباينة الصفات والمعاني، والفرق بين الخالق والمخلوق، وفي جميع الأشياء فيما يؤدي إلى التمثيل والتشبيه عند أهل الجهل والزيغ، ووجوب الإيمان بالله عز وجل بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه وأخبر عنه رسوله r، وأن أسامي الخلق وصفاتهم وافقتها في الاسم وباينتها في جميع المعاني، بحدوث خلقه وفنائهم، وأزلية الخالق وبقائه، وبما أظهر من صفاته، ومنع استدراك كيفيتها، فقال الله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11)[10] اهـ.
وقال أيضاً: (ذكر بيان النهي عن تقدير كيفية صفات الله عز وجل، والدليل على إثبات صفاته وأن الله وصف نفسه بالسمع، والبصر، واليمين، بترك التشبيه والتمثيل)[11] اهـ.
~ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين (399 هـ)
قال: (وقد قال وهو أصدق القائلين: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقال: {قل أي شىء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} الأنعام19، وقال: {ويحذركم الله نفسه} آل عمران28، وقال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} الحجر29، وقال: {فإنك بأعيننا} الطور48، وقال: {ولتصنع على عيني} طه39، وقال: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} المائدة64، وقال: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} الآية الزمر67، وقال: {إنني معكما أسمع وأرى} طه46، وقال: {وكلم الله موسى تكليما} النساء164،، وقال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35الآية، وقال: {الله لا اله إلا هو الحي القيوم} الآية البقرة255، وقال: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} الحديد3، ومثل هذا في القرآن كثير، فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع، ويرى، ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن بطن علمه بخلقه، فقال {وهو بكل شيء عليم} الحديد3، قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم)[12] اهـ.
~ الإمام العارف أبو منصور معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني (418 هـ)
قال: (أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل التصوف والمعرفة ...) فذكر أشياء إلى أن قال: (وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف مجهول، وأنه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، فلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة، وأنه سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويعجب، ويضحك، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا بلا كيف ولا تأويل، كيف شاء، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا)[13] اهـ.
~ شيخ الإسلام الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (449 هـ)
قال: (وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول، والكلام، والرضا، والسخط، والحياة، واليقظة، والفرح، والضحك، وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله r من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله)[14] اهـ.
~ الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الطلحي الأصبهاني (535 هـ)
قال الإمام الحافظ أبو القاسم اسماعيل بن محمد التيمي الطلحي الأصبهاني : (مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه ولا تأويل، قال ابن عيينة: كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره) ثم قال: (أي هو هو على ظاهره لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل)[15] اهـ.
وقال: ( أن الله عز وجل سميع بصير، عليم خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ويرون الرب عز وجل يوم القيامة عياناً لا يشكون في رؤيته، ولا يختلفون ولا يمارون كذلك)[16] اهـ.
~ الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (748 هـ)
قال: (.. فالنزول، والكلام، والسمع، والبصر، والعلم، والاستواء، عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر)[17] اهـ.
فرع: في تقرير ذلك من كلام أبي الحسن الأشعري
قد سبق نقل كثير من كلام أبي الحسن الأشعري في الصفات، وأنه كان يثبتها لله تعالى على ظاهرها، من غير تأويل، ولا تفريق بين صفة وأخرى. وأنا أذكر بعضها:
فقال في "مقالات الإسلاميين": (وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} طه5،، ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف.
وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35.
وأن له وجهاً كما قال الله: {ويبقى وجه ربك} الرحمن27.
وأن له يدين كما قال: {خلقت بيدي} ص75.
وأن له عينين كما قال: {تجري بأعيينا} القمر14.
وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} الفجر22.
وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث.
ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله r)[18] اهـ.
وقال في "الإبانة" : (الباب السادس الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين:
قال الله تبارك وتعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، فأخبر أن له سبحانه وجهاً لا يفنى، ولا يلحقه الهلاك .
وقال تعالى: {تجرى بأعيننا} الطور48، وقال تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} هود37، فأخبر تعالى أن له وجهاً وعيناً، ولا تكيَّف ولا تحد .
وقال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} الطور48، وقال تعالى: {ولتصنع على عيني} طه39، وقال تعالى: {وكان الله سميعا بصيرا} النساء85،، وقال لموسى وهارون عليهما أفضل الصلاة والسلام: {إنني معكما أسمع وأرى} طه39. فأخبر تعالى عن سمعه وبصره ورؤيته...)[19] اهـ.
خلاصة الفصل:
الأمر الأول: أن السلف رحمهم الله يثبتون جميع الصفات الواردة لله تعالى على ظاهرها، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، ولا يفرقون بين صفة وأخرى، فالسمع واليد عندهم سواء في الإثبات، والبصر والنزول عندهم سواء. وهكذا.
[ بطلان تفريق الأشاعرة في الإثبات بين الصفات العقلية السبعة وبين غيرها ]
الأمر الثاني: بطلان ما ادعاه الأشعريان والأشاعرة من التفريق بين الصفات في الإثبات، حيث فرقوا بين صفات المعاني السبع وهي: السمع، والبصر، والعلم، والكلام، والإرادة، والقدرة، والحياة، فأثبتوها على ظاهرها وحقيقتها، وبين باقي الصفات كاليد، والوجه، والنزول، والمحبة، والرضا، ونحوها من الصفات، فسلطوا عليها سهام التأويل، ومنعوا من حملها على ظاهرها وحقيقتها.
قال الأشعريان في علة التفريق (ص193-194): (فالأولى منها – أي ما سوى الصفات السبع - أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماعها العضو والجسم الذي وضعت للدلالة عليه، فإذا أضيف ذلك اللفظ إلى الله تعالى قطع العارف بالله أن ذلك المعنى المتبادر والظاهر من اللفظ محال هنا ومنفي عن الله تعالى وإنما سيق الكلام على سبيل الاستعارة والمجاز، وذلك كلفظ (اليد، والأصبع، والقدم، والساق، والوجه، والضحك، والاستواء، والنزول) ونحوها من الألفاظ التي ترجع حقائقها المتبادرة منها إلى الحس.
أما الثانية منها وهي التي ترجع إلى المعنى مثل القدرة والإرادة السمع والبصر ونحوها فلا يلزم من حملها على ظاهرها وحقيقتها مشابهة، لأنها معان مجردة وحقائقها واسعة، فإذا أضيفت للخالق كان لها حقيقة لائقة به تعالى، وإذا أضيفت للمخلوق كانت لها حقيقة لائقة به، ولهذا لم يضطر العلماء إلى صرفها عن ظاهرها) اهـ.
وهذا كلام متناقض وباطل لأمور:
أولها: أنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات مثل ما يلزمهم فيما نفوه منها، فالسمع مثلاً: لا يُعرف في المخلوق إلى بجارحة الأذن، فيلزم بناءاً على أصلهم وقاعدتهم أن إثبات السمع لله تعالى يلزم منه الجارحة، وكذلك إثبات البصر يلزم منه العين والحدقة والأجفان ونحو ذلك من الجوارح، وإثبات الكلام يلزم منه الفم واللسان واللهاة، وهي جوارح، وهكذا في كل الصفات السبع.
وقد نقل الأشعريان عن ابن خلدون ما يؤكد هذا.
فقالا (ص198): (وقال العلامة ابن خلدون: ... وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر، لأنها وإن أوهم ظاهرها النقص بالصوت والحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والأصوات .... وأما السمع والبصر وإن كان يوهم إدراك الجارحة ...) اهـ.
فها هو ابن خلدون يقرر أن إثبات الصفات السبع يستلزم الجارحة، مما يبين بطلان ما ادعوه من الفرق!.
بل نقول أنه لا يوجد في الشاهد ما هو متصف بالسمع، والبصر، والعلم، والحياة، والقدرة، إلا ما هو جسم – على حسب تعريفهما للجسم -، فهلا استلزم إثبات هذه الصفات الجسمية لله تعالى.
فإن قالوا: لا يلزم فيما أثبتناه لله تعالى من الصفات ما يلزم من صفات المخلوق، بل نثبتها على حقيقتها اللائقة بالله مع نفي المماثلة.
قلنا: قولوا إذاً فيما نفيتموه مثل ما قلتم فيما أثبتموه، فأثبتوا وجهاً لله تعالى صفة له لا يشبه وجوه المخلوقين، وأثبتوا ضحكاً له تعالى لائقاً به لا يشبه ضحك المخلوق. وإلا كنتم متناقضين!!
قال الملا على القاري الحنفي في إبطال التفريق بين الصفات في الإثبات: (ويقال لمن تأول الغضب ويقال لمن تأول الغضب بإرادة الانتقام، والرضى بإرادة الإنعام والإكرام، لم تأولت ذلك الكلام؟
فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب، والرضى الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى.
فيقال له: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحي إلى الحي، أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا مائل إلى ما يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه يزداد بوجوده وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفت عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك.
فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
قيل له: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، فإن كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يُقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه، لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام.
وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لا بد أن يُثبت شيئاً على خلاف ما يعهده حتى في صفى الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به، ووجود الباري كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، فما سمّى به الرب نفسه، وسمّى به مخلوقاته مثل: الحي، والقيوم، والعليم، والقدير، أو سمّى به بعض صفات عباده فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل بين المعنيين قدراً مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كلم منهما ما يليق به)[20] اهـ.
الأمر الثاني: أن كثيراً مما تأوله الأشاعرة والأشعريان من الصفات وصرفوه عن ظاهره راجع إلى المعنى: كالمحبة، والرضا، والمقت، والفرح، وقد زعموا أنهم إنما أثبتوا الصفات السبع لكونها راجعة إلى المعنى.
فيقال لهم: فهلا أثبتم هذه الصفات وحملتموها على ظاهرها وحقيقتها اللائقة بالله تعالى من غير تشبيه.
فإن امتنعوا تناقضوا، وبطل ما زعموه من الفرق بين ما أثبتوه من الصفات وما نفوه، وصار تفريقهم بين الصفات في الإثبات تحكماً محضاً!!
الأمر الثالث: أنهم يثبتون ذاتاً لله تعالى حقيقة لا تشبه ذوات المخلوقين، ولا يلزم من إثباتها عندهم ما يلزم من ذوات المخلوقين، ومعلوم أن الذات ليست من الأمور التي ترجع إلى المعاني، بل إلى ما يتعلق بالحس.
فيلزمهم بناءاً على قاعدتهم في التفريق بين الصفات أن يكون وصف الله بالذات مستلزماً للتشبيه والنقص.
فإن قالوا: بل نثبت ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، ولو كانت مما يتعلق بالحس.
قلنا: أثبتوا إذا يداً، ووجهاً، ونزولاً، لا يشبه صفة المخلوق، وإلا كنتم متناقضين.
الأمر الرابع: أن ما سبق ذكره من الأدلة، ومن كلام السلف الصريح كافٍ بحمد الله في إبطال هذا التفريق المزعوم، وعدم اعتباره.
ثم قال الأشعريان مؤكدين لما ذكراه من التفريق (ص194): (ومما يعضد هذا القول –أي التفريق بين الصفات السبع وغيرها- أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم أنه قال في شيء من صفات المعاني: أمروها بلا كيف، أو لا تُفسر ولا تُكيف ..الخ وما هذا إلا لفطنتهم لهذا الفارق بين النوعين من الألفاظ) اهـ
وهذا من جهلهما بكلام السلف، وعدم اطلاعهما عليه، فإن قاعدة السلف في جميع الصفات واحدة، لا يقال كيف؟ ولا لم؟.
قال ابن عيينة: «كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل»[21] اهـ.
وقال عثمان الدارمي: (أخبرنا الله في كتابه أنه ذو سمع، وبصر، ويدين، ووجه، ونفس، وكلام، وأنه فوق عرشه فوق سماواته، فآمنا بجميع ما وصف به نفسه كما وصفه بلا كيف)[22] اهـ.
وقال أيضاً: (ولكنا نثبت له السمع والبصر والعين بلا تكييف)[23] اهـ
وقال الأزهري صاحب اللغة: (فهو سميع: ذو سمع بلا تكييف، ولا تشبيه بالسميع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه، ونحن نصفه بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف)[24] اهـ.
وقال السجزي: (مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه: إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه ولا تأويل)[25] اهـ.
وقال الذهبي: (وهذا الذي علمت من مذهب السلف، والمراد بظاهرها أي: لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة غير ما وضعت له، كما قال مالك وغيره الاستواء معلوم، وكذلك القول في السمع، والبصر، والعلم، والكلام، والإرادة، والوجه ونحو ذلك، هذه الأشياء معلومة فلا نحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في جميعها مجهول عندنا والله أعلم)[26] اهـ.
وانظر أيضاً كلام ابن جرير، والخطابي، ومعمر الأصبهاني، وغيرهم.
وهذا يدل على مجازفة الأشعريَّيْن في إطلاق الدعاوى العريضة دون أن يكونا على بينة من أمرهما، وهذا دأب أهل البدع عموماً.
[1] سبق تخريجه حاشية 22.
[2] سبق تخريجه حاشية 25.
[3] رواه ابن منده في التوحيد (3/308).
[4] رواه عبد الله في السنة (1/281) وابن منده في التوحيد (3/309) والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/54).
[5] ذكره أبو القاسم التيمي في الحجة (1/392).
[6] سبق تخريجه حاشية 162.
[7] الرد على المريسي (1/428).
[8] التبصير (ص134-135).
[9] المرجع السابق (ص141-145).
[10] التوحيد (3/7-9).
[11] التوحيد (3/21).
[12] سبق تخريجه حاشية 64.
[13] سبق تخريجه في حاشية 258.
[14] عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص39-40).
[15] سبق تخريجه في حاشية 87.
[16] الحجة في بيان المحجة (1/233).
[17] العلو (ص214).
[18] مقالات الإسلاميين (1/248).
[19] الإبانة للأشعري (ص104).
[20] شرح الفقه الأكبر (ص95-96).
[21] سبق تخريجه حاشية 138.
[22] الرد على المريسي (1/428).
[23] المرجع السابق (2/688).
[24] تهذيب اللغة (2/142).
[25] سبق تخريجه حاشية 87.
[26] العلو (ص253).
الفصل الخامس
في بيان اطراد قاعدة السلف في الصفات في وجوب إمرار الجميع على الظاهر بلا تأويل، لا يفرقون بين صفة وأخرى
سلك أهل السنة والجماعة في جميع صفات الله تعالى الواردة في الكتاب والسنة مسلكاً واحداً وهو إثباتها وإمرارها على ظاهرها اللائق بالله تعالى من غير تكييف ولا تشبيه، لا يفرقون في ذلك بين صفة وأخرى. فلا فرق عندهم بين الصفات الذاتية والفعلية، ولا بين العقلية والخبرية، ولا بين صفات المعاني وغيرها. ونصوصهم في هذا كثيرة جداً يصعب حصرها.
قال تعالى {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11، وهذه آية جامعة عامة في أن الله تعالى لا يماثله شيء لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله.
وقال تعالى {هل تعلم له سمياً} مريم65.
وقد كان النبي r يخاطب أصحابه جميعهم: المتعلم منهم والجاهل، الصغير والكبير، الذكر والأنثى، ويذكر صفات ربه، لا يفرق بين صفة وصفة، ولم يقل في بعضها: الظاهر غير مراد، أو لا تفهموا منها الحقيقة، ونحو ذلك. ولم يكن يقرن عند ذكر بعض صفاته ما يدل على كونها مجازاً، فكان يذكر صفة النزول مثلاً، ويكررها في مواضع كثيرة، ولا يقرن بالكلام ما يدل على أن المراد خلاف ظاهرها.
وأنا أذكر هنا شيئاً يسيراً من كلام السلف حيث يسوقون فيه الصفات سوقاً واحداً بلا تفريق بين صفة وصفة، فلا يفرقون بين السمع واليد، ولا بين البصر والوجه، ولا بين القدرة والنزول، ولا بين الإرادة والضحك، ولا بين العلم والمحبة، ولا بين الحياة والمقت، ولا بين الكلام والعلو.
~ الإمام أبو حنيفة النعمان بن ثابت (150 هـ)
قال: (لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى ولا يقال: غضبه عقوبته، ورضاه ثوابه. ونصفه كما وصف نفسه أحد صمد لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، حي قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم، ليست كأيدي خلقه، ووجهه ليس كوجوه خلقه)[1] اهـ.
~ الإمام عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون (164 هـ)
قال في بيان معتقد السلف في أسماء الله وصفاته، فذكر بعض ما ورد منها في الكتاب والسنة ثم قال: (وقال رسول الله r: "لا تمتلىء النار حتى يضع الجبار فيها قدمه فتقول قط قط، وينزوي بعضها إلى بعض"، وقال لثابت بن قيس: "لقد ضحك الله مما فعلت بضيفك البارحة"، وقال فيما بلغنا: "أن الله تعالى ليضحك من أزلكم وقنوطكم وسرعة إجابتكم، فقال له رجل من العرب: إن ربنا ليضحك؟ قال: نعم. قال: لا نعدم من رب يضحك خيراً"، إلى أشباه هذا مما لا نحصيه، وقال تعالى: {وهو السميع البصير} الشورى11، و{اصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} الطور48، وقال تعالى: {ولتصنع على عيني} طه39، وقال تعالى: {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي} ص75، وقال تعالى: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون} الزمر67، فوالله ما دلهم على عظم ما وصفه من نفسه، وما تحيط به قبضته، إلا صغر نظيرها منهم عندهم، إن ذلك الذي ألقي في روعهم، وخلق على معرفة قلوبهم، فما وصف الله من نفسه وسماه على لسان رسوله سميناه كما سماه، ولم نتكلف منه صفة ما سواه، لا هذا ولا هذا، لا نجحد ما وصف، ولا نتكلف معرفة ما لم يصف)[2] اهـ.
~ الإمام سلام بن أبي مطيع أبو سعيد الخزاعي (164 هـ)
قال هدبة: قال سلام بن أبي مطيع: (متى ينكرون من هذه الأحاديث شيئاً، فإنهم لا ينكرون شيئاً إلا في القرآن أبين منه، إنه {سميع بصير} الأعراف200، وإنه {السميع العليم} الأنعام13 ، {فلما تجلى ربه للجبل} الأعراف143، {وكلم الله موسى تكليما} النساء164،، وقال {لما خلقت بيدي} ص75،، فما زال يقول حتى غربت الشمس)[3] اهـ.
~ الإمام إسماعيل بن إبراهيم أبو معمر الهذلى (236 هـ)
قال عبد الله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبا معمر إسماعيل بن إبراهيم الهذلي يقول: (من زعم إن الله لا يتكلم، ولا يسمع، ولا يبصر، ولا يغضب، ولا يرضى، وذكر الأشياء من هذه الصفات، فهو كافر بالله بهذا ندين الله عز وجل)[4] اهـ.
~ مصعب بن عبد الله بن مصعب الزبيري المدني (236 هـ)
قال: (إن الله يتكلم بغير مخلوق، وإنه يسمع بغير ما يبصر، ويبصر بغير ما يسمع، ويتكلم بغير ما يسمع، وإن كل اسم من هذه يقع في موضع لا يقع غيره، ولست أقول إن كلام الله وحده غير مخلوق. أنا أقول أفعال الله كلها غير مخلوقة، وإن وجه الله غير يديه، وإن يديه غير وجهه. فإن قالوا: كيف؟ قلنا: لا ندري كيف هو؟ غير أن الله عز وجل أخبرنا أن له وجهاً ويدين ونفساً، وأنه سميع بصير. وكل اسم من هذه يقع في موضع لا يقع عليه الاسم الآخر.)[5] اهـ.
~ الإمام العلامة أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني (280 هـ)
قال أبو محمد حرب بن إسماعيل الكرماني في مسائله المعروفة التي نقلها عن احمد وإسحاق وغيرهما في الجامع: (باب القول في المذهب:
هذا مذهب أئمة العلم وأصحاب الأثر وأهل السنة المعروفين بها المقتدى بهم فيها، وأدركت من أدركت من علماء أهل العراق والحجاز والشام وغيرهم عليها، فمن خالف شيئاً من هذه المذاهب أو طعن فيها أو عاب قائلها فهو مبتدع خارج عن الجماعة زائل عن منهج السنة وسبيل الحق، وهو مذهب أحمد، وإسحاق بن إبراهيم بن مخلد، وعبد الله بن الزبير الحميدي، وسعيد بن منصور، وغيرهم ممن جالسنا وأخذنا عنهم العلم...) وذكر الكلام في الإيمان والقدر والوعيد والإمامة وما أخبر به الرسول من أشراط الساعة وأمر البرزخ والقيامة وغير ذلك إلى أن قال: (وهو سبحانه بائن من خلقه، لا يخلو من علمه مكان، ولله عرش، وللعرش حملة يحملونه، وله حد، والله أعلم بحده، والله على عرشه عز ذكره وتعالى جده ولا إله غيره، والله تعالى سميع لا يشك، بصير لا يرتاب، عليم لا يجهل، جواد لا يبخل، حليم لا يعجل، حفيظ لا ينسى، يقظان لا يسهو، رقيب لا يغفل، يتكلم ويتحرك، ويسمع، ويبصر، وينظر، ويقبض، ويبسط، ويفرح، ويحب، ويكره، ويبغض، ويرضى، ويسخط، ويغضب، ويرحم، ويعفو، ويغفر، ويعطي، ويمنع، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا كيف شاء، وكما شاء، ليس كمثله شيء وهو السميع البصير ..) إلى أن قال: (ولم يزل الله متكلماً عالماً فتبارك الله أحسن الخالقين)[6] اهـ.
~ الإمام العلامة الحافظ الناقد عثمان بن سعيد الدارمي (280 هـ)
قال: (أخبرنا الله في كتابه أنه ذو سمع، وبصر، ويدين، ووجه، ونفس، وعلم، وكلام، وأنه فوق عرشه فوق سماواته، فآمنا بجميع ما وصف به نفسه كما وصفه بلا كيف)[7] اهـ.
~ الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري (310 هـ)
قال: (ولله تعالى ذكره أسماء وصفات جاء بها كتابه، وأخبر بها نبيه r أمته..) إلى أن قال: (وذلك نحو إخبار الله تعالى ذكره إيانا أنه سميع بصير، وأن له يدين لقوله تعالى {بل يداه مبسوطتان} المائدة64، وأن له يميناً لقوله: {والسماوات مطويات بيمينه} الزمر67، وأن له وجهاً لقوله: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقوله: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27. وأن له قدماً لقول رسول الله r: "حتى يضع الرب قدمه فيها" يعني جهنم. وأنه يضحك إلى عبده المؤمن لقول النبي r للذي قُتل في سبيل الله: "إنه لقي الله عز وجل وهو يضحك إليه". وانه يهبط كل ليلة وينزل إلى السماء الدنيا، لخبر رسول الله r. وأنه ليس بأعور لقول النبي r، إذ ذكر الدجال فقال: "إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور".
وأن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم، كما يرون الشمس ليس دونها غياية، وكما يرون القمر ليلة البدر، لقول النبي r.
وأن له أصابع، لقول النبي r : "ما من قلب إلا وهو بين إصبعين من أصابع الرحمن".
فإن هذه المعاني التي وصفت، ونظائرها مما وصف الله عز وجل بها نفسه، أو وصفه بها رسوله r مما لا تُدرك حقيقة علمه بالفكر والروية)[8] اهـ.
وقال: (فإن قال لنا قائل: فما الصواب في معاني هذه الصفات التي ذكرت، وجاء ببعضها كتاب الله عز جل ووحيه، وجاء ببعضها رسول الله r. قيل: الصواب من هذا القول عندنا، أن نثبت حقائقها على ما نعرف من جهة الإثبات ونفي التشبيه، كما نفى عن نفسه جل ثناؤه فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11،. فيقال: الله سميع بصير، له سمع وبصر، إذ لا يعقل مسمى سميعاً بصيراً في لغة ولا عقل في النشوء والعادة والمتعارف إلا من له سمع وبصر.) إلى أن قال: (فنثبت كل هذه المعاني التي ذكرنا أنها جاءت بها الأخبار والكتاب والتنزيل على ما يُعقل من حقيقة الإثبات، وننفي عنه التشبيه فنقول: يسمع جل ثناؤه الأصوات، لا بخرق في أذن، ولا جارحة كجوارح بني آدم. وكذلك يبصر الأشخاص ببصر لا يشبه أبصار بني آدم التي هي جوارح لهم.
وله يدان ويمين وأصابع، وليست جارحة، ولكن يدان مبسوطتان بالنعم على الخلق، لا مقبوضتان عن الخير. ووجه لا كجوارح بني آدم التي من لحم ودم.
ونقول: يضحك إلى من شاء من خلقه. لا تقول: إن ذلك كشر عن أنياب.
ويهبط كل ليلة إلى سماء الدنيا)[9] اهـ.
~ الإمام الحافظ أبو عبد الله محمد بن إسحاق بن منده (395 هـ)
قال: (فمن الصفات التي وصف بها نفسه ومنح خلقه (الكلام) فالله عز وجل تكلم كلاماً أزلياً غير معلم ولا منقطع، فيه يخلق الأشياء، وبكلامه دل على صفاته التي لا يُستدرك كيفيتها مخلوق ولا يبلغ وصفها واصف. والعبد يتكلم بكلام محدث معلم مختلف فان بفنائه. ووصف وجهه فقال: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، الآية. فأخبر عن فناء الوجوه وبقاء وجهه، ووصف نفسه بالسميع والبصير فقال: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11،، فأخبر أنه سميع من كل الجهات، لكل الأصوات، بصير بكل الأشياء من كل الجهات، لم يزل يسمع ويبصر، ولا يزال كذلك، ووصف عباده بالسمع والبصر المحدث المخلوق الفاني بفنائه التي تكل وتعجز عن جميع حقيقة المسموع والمبصر.
ووصف نفسه بالعلم والقدرة والرحمة، ومنحها عباده للمعرفة عند الوجود فيهم، والنكرة عند وجود المضاد فيهم، فجعل ضد العلم في خلقه الجهل، وضد القدرة العجز، وضد الرحمة القسوة، فهي موجودة في الخلق غير جائزة على الخالق، فوافقت الأسماء وباينت المعاني من كل الجهات، ووصف الله عز وجل نفسه بالعلم، وأنه يعلم كل شيء من كل الجهات، لم يزل ولا يزال موصوفاً بالعلم غير معلم، باق غير فان، والعبد مضطر إلى أن يتعلم مالم يعلم، ثم ينسى ثم يموت ويذهب علمه، والله موصوف بالعلم بجميع الأشياء من كل الجهات دائماً باقياً.
ففيما ذكرناه دليل على جميع الأسماء والصفات التي لم نذكرها، وإنما يَنفي التمثيل والتشبيه النية والعلم بمباينة الصفات والمعاني، والفرق بين الخالق والمخلوق، وفي جميع الأشياء فيما يؤدي إلى التمثيل والتشبيه عند أهل الجهل والزيغ، ووجوب الإيمان بالله عز وجل بأسمائه وصفاته التي وصف بها نفسه وأخبر عنه رسوله r، وأن أسامي الخلق وصفاتهم وافقتها في الاسم وباينتها في جميع المعاني، بحدوث خلقه وفنائهم، وأزلية الخالق وبقائه، وبما أظهر من صفاته، ومنع استدراك كيفيتها، فقال الله عز وجل: {ليس كمثله شيء وهو السميع البصير} الشورى11)[10] اهـ.
وقال أيضاً: (ذكر بيان النهي عن تقدير كيفية صفات الله عز وجل، والدليل على إثبات صفاته وأن الله وصف نفسه بالسمع، والبصر، واليمين، بترك التشبيه والتمثيل)[11] اهـ.
~ الإمام أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين (399 هـ)
قال: (وقد قال وهو أصدق القائلين: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقال: {قل أي شىء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني وبينكم} الأنعام19، وقال: {ويحذركم الله نفسه} آل عمران28، وقال: {فإذا سويته ونفخت فيه من روحي} الحجر29، وقال: {فإنك بأعيننا} الطور48، وقال: {ولتصنع على عيني} طه39، وقال: {وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان} المائدة64، وقال: {والأرض جميعا قبضته يوم القيامة} الآية الزمر67، وقال: {إنني معكما أسمع وأرى} طه46، وقال: {وكلم الله موسى تكليما} النساء164،، وقال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35الآية، وقال: {الله لا اله إلا هو الحي القيوم} الآية البقرة255، وقال: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن} الحديد3، ومثل هذا في القرآن كثير، فهو تبارك وتعالى نور السماوات والأرض كما أخبر عن نفسه، وله وجه ونفس وغير ذلك مما وصف به نفسه، ويسمع، ويرى، ويتكلم، هو الأول لا شيء قبله، والآخر الباقي إلى غير نهاية ولا شيء بعده، والظاهر العالي فوق كل شيء، والباطن بطن علمه بخلقه، فقال {وهو بكل شيء عليم} الحديد3، قيوم حي لا تأخذه سنة ولا نوم)[12] اهـ.
~ الإمام العارف أبو منصور معمر بن أحمد بن زياد الأصبهاني (418 هـ)
قال: (أحببت أن أوصي أصحابي بوصية من السنة وأجمع ما كان عليه أهل الحديث وأهل التصوف والمعرفة ...) فذكر أشياء إلى أن قال: (وأن الله استوى على عرشه بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل، والاستواء معقول، والكيف مجهول، وأنه بائن من خلقه، والخلق بائنون منه، فلا حلول ولا ممازجة ولا ملاصقة، وأنه سميع، بصير، عليم، خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويعجب، ويضحك، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا بلا كيف ولا تأويل، كيف شاء، فمن أنكر النزول أو تأول فهو مبتدع ضال وسائر الصفوة من العارفين على هذا)[13] اهـ.
~ شيخ الإسلام الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني (449 هـ)
قال: (وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع، والبصر، والعين، والوجه، والعلم، والقوة، والقدرة، والعزة، والعظمة، والإرادة، والمشيئة، والقول، والكلام، والرضا، والسخط، والحياة، واليقظة، والفرح، والضحك، وغيرها، من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله r من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف، ولا تبديل، ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله)[14] اهـ.
~ الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الطلحي الأصبهاني (535 هـ)
قال الإمام الحافظ أبو القاسم اسماعيل بن محمد التيمي الطلحي الأصبهاني : (مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه، ووصفه بها رسوله من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه ولا تأويل، قال ابن عيينة: كل شيء وصف الله به نفسه فقراءته تفسيره) ثم قال: (أي هو هو على ظاهره لا يجوز صرفه إلى المجاز بنوع من التأويل)[15] اهـ.
وقال: ( أن الله عز وجل سميع بصير، عليم خبير، يتكلم، ويرضى، ويسخط، ويضحك، ويعجب، ويتجلى لعباده يوم القيامة ضاحكاً، وينزل كل ليلة إلى سماء الدنيا كيف يشاء، فيقول: هل من داعٍ فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟ حتى يطلع الفجر، ويرون الرب عز وجل يوم القيامة عياناً لا يشكون في رؤيته، ولا يختلفون ولا يمارون كذلك)[16] اهـ.
~ الإمام الحافظ شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي (748 هـ)
قال: (.. فالنزول، والكلام، والسمع، والبصر، والعلم، والاستواء، عبارات جلية واضحة للسامع، فإذا اتصف بها من ليس كمثله شيء فالصفة تابعة للموصوف، وكيفية ذلك مجهولة عند البشر)[17] اهـ.
فرع: في تقرير ذلك من كلام أبي الحسن الأشعري
قد سبق نقل كثير من كلام أبي الحسن الأشعري في الصفات، وأنه كان يثبتها لله تعالى على ظاهرها، من غير تأويل، ولا تفريق بين صفة وأخرى. وأنا أذكر بعضها:
فقال في "مقالات الإسلاميين": (وقال أهل السنة وأصحاب الحديث: ليس بجسم ولا يشبه الأشياء وأنه على العرش كما قال عز وجل: {الرحمن على العرش استوى} طه5،، ولا نقدم بين يدي الله في القول، بل نقول استوى بلا كيف.
وأنه نور كما قال تعالى: {الله نور السموات والأرض} النور35.
وأن له وجهاً كما قال الله: {ويبقى وجه ربك} الرحمن27.
وأن له يدين كما قال: {خلقت بيدي} ص75.
وأن له عينين كما قال: {تجري بأعيينا} القمر14.
وأنه يجيء يوم القيامة هو وملائكته كما قال: {وجاء ربك والملك صفاً صفاً} الفجر22.
وأنه ينزل إلى السماء الدنيا كما جاء في الحديث.
ولم يقولوا شيئاً إلا ما وجدوه في الكتاب، أو جاءت به الرواية عن رسول الله r)[18] اهـ.
وقال في "الإبانة" : (الباب السادس الكلام في الوجه والعينين والبصر واليدين:
قال الله تبارك وتعالى: {كل شيء هالك إلا وجهه} القصص88، وقال تعالى: {ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام} الرحمن27، فأخبر أن له سبحانه وجهاً لا يفنى، ولا يلحقه الهلاك .
وقال تعالى: {تجرى بأعيننا} الطور48، وقال تعالى: {واصنع الفلك بأعيننا ووحينا} هود37، فأخبر تعالى أن له وجهاً وعيناً، ولا تكيَّف ولا تحد .
وقال تعالى: {واصبر لحكم ربك فإنك بأعيننا} الطور48، وقال تعالى: {ولتصنع على عيني} طه39، وقال تعالى: {وكان الله سميعا بصيرا} النساء85،، وقال لموسى وهارون عليهما أفضل الصلاة والسلام: {إنني معكما أسمع وأرى} طه39. فأخبر تعالى عن سمعه وبصره ورؤيته...)[19] اهـ.
خلاصة الفصل:
الأمر الأول: أن السلف رحمهم الله يثبتون جميع الصفات الواردة لله تعالى على ظاهرها، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تحريف، ولا يفرقون بين صفة وأخرى، فالسمع واليد عندهم سواء في الإثبات، والبصر والنزول عندهم سواء. وهكذا.
[ بطلان تفريق الأشاعرة في الإثبات بين الصفات العقلية السبعة وبين غيرها ]
الأمر الثاني: بطلان ما ادعاه الأشعريان والأشاعرة من التفريق بين الصفات في الإثبات، حيث فرقوا بين صفات المعاني السبع وهي: السمع، والبصر، والعلم، والكلام، والإرادة، والقدرة، والحياة، فأثبتوها على ظاهرها وحقيقتها، وبين باقي الصفات كاليد، والوجه، والنزول، والمحبة، والرضا، ونحوها من الصفات، فسلطوا عليها سهام التأويل، ومنعوا من حملها على ظاهرها وحقيقتها.
قال الأشعريان في علة التفريق (ص193-194): (فالأولى منها – أي ما سوى الصفات السبع - أول ما يتبادر إلى الذهن عند سماعها العضو والجسم الذي وضعت للدلالة عليه، فإذا أضيف ذلك اللفظ إلى الله تعالى قطع العارف بالله أن ذلك المعنى المتبادر والظاهر من اللفظ محال هنا ومنفي عن الله تعالى وإنما سيق الكلام على سبيل الاستعارة والمجاز، وذلك كلفظ (اليد، والأصبع، والقدم، والساق، والوجه، والضحك، والاستواء، والنزول) ونحوها من الألفاظ التي ترجع حقائقها المتبادرة منها إلى الحس.
أما الثانية منها وهي التي ترجع إلى المعنى مثل القدرة والإرادة السمع والبصر ونحوها فلا يلزم من حملها على ظاهرها وحقيقتها مشابهة، لأنها معان مجردة وحقائقها واسعة، فإذا أضيفت للخالق كان لها حقيقة لائقة به تعالى، وإذا أضيفت للمخلوق كانت لها حقيقة لائقة به، ولهذا لم يضطر العلماء إلى صرفها عن ظاهرها) اهـ.
وهذا كلام متناقض وباطل لأمور:
أولها: أنه يلزمهم فيما أثبتوه من الصفات مثل ما يلزمهم فيما نفوه منها، فالسمع مثلاً: لا يُعرف في المخلوق إلى بجارحة الأذن، فيلزم بناءاً على أصلهم وقاعدتهم أن إثبات السمع لله تعالى يلزم منه الجارحة، وكذلك إثبات البصر يلزم منه العين والحدقة والأجفان ونحو ذلك من الجوارح، وإثبات الكلام يلزم منه الفم واللسان واللهاة، وهي جوارح، وهكذا في كل الصفات السبع.
وقد نقل الأشعريان عن ابن خلدون ما يؤكد هذا.
فقالا (ص198): (وقال العلامة ابن خلدون: ... وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر، لأنها وإن أوهم ظاهرها النقص بالصوت والحرف الجسمانيين، فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والأصوات .... وأما السمع والبصر وإن كان يوهم إدراك الجارحة ...) اهـ.
فها هو ابن خلدون يقرر أن إثبات الصفات السبع يستلزم الجارحة، مما يبين بطلان ما ادعوه من الفرق!.
بل نقول أنه لا يوجد في الشاهد ما هو متصف بالسمع، والبصر، والعلم، والحياة، والقدرة، إلا ما هو جسم – على حسب تعريفهما للجسم -، فهلا استلزم إثبات هذه الصفات الجسمية لله تعالى.
فإن قالوا: لا يلزم فيما أثبتناه لله تعالى من الصفات ما يلزم من صفات المخلوق، بل نثبتها على حقيقتها اللائقة بالله مع نفي المماثلة.
قلنا: قولوا إذاً فيما نفيتموه مثل ما قلتم فيما أثبتموه، فأثبتوا وجهاً لله تعالى صفة له لا يشبه وجوه المخلوقين، وأثبتوا ضحكاً له تعالى لائقاً به لا يشبه ضحك المخلوق. وإلا كنتم متناقضين!!
قال الملا على القاري الحنفي في إبطال التفريق بين الصفات في الإثبات: (ويقال لمن تأول الغضب ويقال لمن تأول الغضب بإرادة الانتقام، والرضى بإرادة الإنعام والإكرام، لم تأولت ذلك الكلام؟
فلا بد أن يقول: لأن الغضب غليان دم القلب، والرضى الميل والشهوة، وذلك لا يليق بالله تعالى.
فيقال له: وكذلك الإرادة والمشيئة فينا هي ميل الحي إلى الحي، أو إلى ما يلائمه ويناسبه، فإن الحي منا مائل إلى ما يجلب له منفعة، أو يدفع عنه مضرة، وهو محتاج إلى ما يريده ومفتقر إليه يزداد بوجوده وينقص بعدمه، فالمعنى الذي صرفت إليه اللفظ كالمعنى الذي صرفت عنه سواء، فإن جاز هذا جاز ذلك.
فإن قال: الإرادة التي يوصف الله بها مخالفة للإرادة التي يوصف بها العبد، وإن كان كل منهما حقيقة.
قيل له: إن الغضب والرضى الذي يوصف الله به مخالف لما يوصف به العبد، وإن كان كل منهما حقيقة، فإن كان ما يقوله في الإرادة يمكن أن يُقال في هذه الصفات لم يتعين التأويل، بل يجب تركه، لأنك تسلم من التناقض، وتسلم أيضاً من تعطيل معنى أسماء الله تعالى وصفاته بلا موجب، فإن صرف القرآن عن ظاهره وحقيقته بغير موجب حرام.
وهذا الكلام يقال لكل من نفى صفة من صفات الله لامتناع مسمى ذلك في المخلوق، فإنه لا بد أن يُثبت شيئاً على خلاف ما يعهده حتى في صفى الوجود، فإن وجود العبد كما يليق به، ووجود الباري كما يليق به، فوجوده تعالى يستحيل عليه العدم، ووجود المخلوق لا يستحيل عليه العدم، فما سمّى به الرب نفسه، وسمّى به مخلوقاته مثل: الحي، والقيوم، والعليم، والقدير، أو سمّى به بعض صفات عباده فنحن نعقل بقلوبنا معاني هذه الأسماء في حق الله وأنه حق ثابت موجود، ونعقل أيضاً معاني هذه الأسماء في حق المخلوق، ونعقل بين المعنيين قدراً مشتركاً، إذ المعنى المشترك الكلي لا يوجد مشتركاً إلا في الأذهان، ولا يوجد في الخارج إلا معيناً مختصاً، فيثبت في كلم منهما ما يليق به)[20] اهـ.
الأمر الثاني: أن كثيراً مما تأوله الأشاعرة والأشعريان من الصفات وصرفوه عن ظاهره راجع إلى المعنى: كالمحبة، والرضا، والمقت، والفرح، وقد زعموا أنهم إنما أثبتوا الصفات السبع لكونها راجعة إلى المعنى.
فيقال لهم: فهلا أثبتم هذه الصفات وحملتموها على ظاهرها وحقيقتها اللائقة بالله تعالى من غير تشبيه.
فإن امتنعوا تناقضوا، وبطل ما زعموه من الفرق بين ما أثبتوه من الصفات وما نفوه، وصار تفريقهم بين الصفات في الإثبات تحكماً محضاً!!
الأمر الثالث: أنهم يثبتون ذاتاً لله تعالى حقيقة لا تشبه ذوات المخلوقين، ولا يلزم من إثباتها عندهم ما يلزم من ذوات المخلوقين، ومعلوم أن الذات ليست من الأمور التي ترجع إلى المعاني، بل إلى ما يتعلق بالحس.
فيلزمهم بناءاً على قاعدتهم في التفريق بين الصفات أن يكون وصف الله بالذات مستلزماً للتشبيه والنقص.
فإن قالوا: بل نثبت ذاتاً لا تشبه ذوات المخلوقين، ولو كانت مما يتعلق بالحس.
قلنا: أثبتوا إذا يداً، ووجهاً، ونزولاً، لا يشبه صفة المخلوق، وإلا كنتم متناقضين.
الأمر الرابع: أن ما سبق ذكره من الأدلة، ومن كلام السلف الصريح كافٍ بحمد الله في إبطال هذا التفريق المزعوم، وعدم اعتباره.
ثم قال الأشعريان مؤكدين لما ذكراه من التفريق (ص194): (ومما يعضد هذا القول –أي التفريق بين الصفات السبع وغيرها- أنه لم ينقل عن أحد من السلف الصالح رضوان الله عليهم أنه قال في شيء من صفات المعاني: أمروها بلا كيف، أو لا تُفسر ولا تُكيف ..الخ وما هذا إلا لفطنتهم لهذا الفارق بين النوعين من الألفاظ) اهـ
وهذا من جهلهما بكلام السلف، وعدم اطلاعهما عليه، فإن قاعدة السلف في جميع الصفات واحدة، لا يقال كيف؟ ولا لم؟.
قال ابن عيينة: «كل شيء وصف الله به نفسه في القرآن فقراءته تفسيره، لا كيف ولا مثل»[21] اهـ.
وقال عثمان الدارمي: (أخبرنا الله في كتابه أنه ذو سمع، وبصر، ويدين، ووجه، ونفس، وكلام، وأنه فوق عرشه فوق سماواته، فآمنا بجميع ما وصف به نفسه كما وصفه بلا كيف)[22] اهـ.
وقال أيضاً: (ولكنا نثبت له السمع والبصر والعين بلا تكييف)[23] اهـ
وقال الأزهري صاحب اللغة: (فهو سميع: ذو سمع بلا تكييف، ولا تشبيه بالسميع من خلقه، ولا سمعه كسمع خلقه، ونحن نصفه بما وصف به نفسه بلا تحديد ولا تكييف)[24] اهـ.
وقال السجزي: (مذهب مالك، والثوري، والأوزاعي، والشافعي، وحماد بن سلمة، وحماد بن زيد، وأحمد، ويحيى بن سعيد القطان، وعبد الرحمن بن مهدي، وإسحاق بن راهويه: أن صفات الله التي وصف بها نفسه ووصفه بها رسوله من السمع، والبصر، والوجه، واليدين، وسائر أوصافه: إنما هي على ظاهرها المعروف المشهور، من غير كيف يتوهم فيها، ولا تشبيه ولا تأويل)[25] اهـ.
وقال الذهبي: (وهذا الذي علمت من مذهب السلف، والمراد بظاهرها أي: لا باطن لألفاظ الكتاب والسنة غير ما وضعت له، كما قال مالك وغيره الاستواء معلوم، وكذلك القول في السمع، والبصر، والعلم، والكلام، والإرادة، والوجه ونحو ذلك، هذه الأشياء معلومة فلا نحتاج إلى بيان وتفسير، لكن الكيف في جميعها مجهول عندنا والله أعلم)[26] اهـ.
وانظر أيضاً كلام ابن جرير، والخطابي، ومعمر الأصبهاني، وغيرهم.
وهذا يدل على مجازفة الأشعريَّيْن في إطلاق الدعاوى العريضة دون أن يكونا على بينة من أمرهما، وهذا دأب أهل البدع عموماً.
[1] سبق تخريجه حاشية 22.
[2] سبق تخريجه حاشية 25.
[3] رواه ابن منده في التوحيد (3/308).
[4] رواه عبد الله في السنة (1/281) وابن منده في التوحيد (3/309) والقاضي أبو يعلى في إبطال التأويلات (1/54).
[5] ذكره أبو القاسم التيمي في الحجة (1/392).
[6] سبق تخريجه حاشية 162.
[7] الرد على المريسي (1/428).
[8] التبصير (ص134-135).
[9] المرجع السابق (ص141-145).
[10] التوحيد (3/7-9).
[11] التوحيد (3/21).
[12] سبق تخريجه حاشية 64.
[13] سبق تخريجه في حاشية 258.
[14] عقيدة السلف وأصحاب الحديث (ص39-40).
[15] سبق تخريجه في حاشية 87.
[16] الحجة في بيان المحجة (1/233).
[17] العلو (ص214).
[18] مقالات الإسلاميين (1/248).
[19] الإبانة للأشعري (ص104).
[20] شرح الفقه الأكبر (ص95-96).
[21] سبق تخريجه حاشية 138.
[22] الرد على المريسي (1/428).
[23] المرجع السابق (2/688).
[24] تهذيب اللغة (2/142).
[25] سبق تخريجه حاشية 87.
[26] العلو (ص253).
No comments:
Post a Comment