Saturday, August 14, 2010

قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض - المبحث الثاني المطلب الاول

بسم الله الرحمن الرحيم
المبحث الثاني

العلاقة بين فهم المحكم والمتشابه وقضية التفويض

المطلب الأول : حقيقة مذهب الخلف في نصوص الصفات :

يعتقد الخلف من الأشعرية والماتريدية أن الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، التي وردت في الصفات الخبرية موهمة للتشبيه والجسمية ، وظاهرها باطل غير مراد ، فإما أن تؤول وإما أنها من أخبار الآحاد التي لا تفيد اليقين في أمور الاعتقاد ([1])  .

وقد بنوا ذلك على أصول عقلية ، زعموا أنها أمور يقينية ، واعتبروها أصول الدين والفيصل المبين في النظر إلى كتاب الله وسنة رسوله S ، فما وافق تلك الأصول من النصوص والآيات فهو دليل لهم ، وما خالف أصولهم وتقسيمهم للتوحيد ، فينبغي عندهم التعامل معه بأي وسيلة ، إما بادعاء مجاز أو تأويل ، أو تهوين وتعطيل ، أو تقبيحها في نفس السامع حتى تبدو ضربا من المستحيل  المهم أن يقر بأن ظاهرها الذي ورد في التنزيل ، باطل ومستحيل ويجب صرفه إلى شيء آخر.

 فالتوحيد عندهم مبنى على قولهم : إن الله واحد في ذاته لا قسيم له ، وواحد في صفاته لا شبيه له، وواحد في أفعاله لا شريك له ، وهم يدرجون تحت شعار أنه لا ينقسم نفي علو الله على خلقه ومباينته لمصنوعاته ونفي ما ينفونه من صفاته ، ويقولون : إن إثبات ذلك يقتضي أن يكون مركبا منقسما مشابها للحوادث ([2])  .

 يقول الرازي وهو من أعمدة المذهب الأشعري في نفي علو الله على خلقه وتعطيل استوائه على عرشه : ( لو كان الله مختصا بالمكان لكان الجانب الذي في يمينه يلي ما على يساره ، فيكون مركبا منقسما فلا يكون أحدا في الحقيقة ، فيبطل قوله : } قل هو الله أحد { ) ([3])  .

 وهم لما نفوا الاستواء وعطلوا علو الفوقية بهذه الحجج العقلية ،ساءت سمعتهم عند عامة المسلمين ، فالله يقول صراحة هو على العرش ، وهم يقولون صراحة ليس على العرش ، فما المخرج من هذه المأزق الذي وضعوا أنفسهم فيه ؟ والجواب في قول أحدهم :

 ( لو سئلنا عن قوله تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { ، لقلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قول العرب استوى فلان على المملكة أي استعلى عليها واطردت له ، ومنه قول الشاعر :

      قد استوى بشر على العراق    :      من غير سيف أو دم مهراق ) ([4]) .

 وهذا تحريف للكلم عن مواضعه في ثوب التأويل ، فالتأويل يقبل إن كان بدليل صحيح ، لكن العرب لا تعرف أبدا استوى بمعنى استولى ، بل إن أهل اللغة لما سمعوا ذلك أنكروه غاية الإنكار ولم يجعلوه من لغة العرب .

 روى الحسن بن محمد الطبري عن أبي عبد الله نفطويه النحوي ، قال أخبرني أبو سليمان ، قال : ( كنا عند ابن الأعرابي فأتاه رجل فقال : يا أبا عبد الله ما معنى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { ؟ قال : إنه مستو على عرشه كما أخبر ، فقال الرجل : إنما معنى استوى استولى ، فقال له ابن الأعرابي : ما يدريك ؟ العرب لا تقول استولى فلان على الشيء حتى يكون له فيه مضاد ، فأيهما غلب قيل قد استولى عليه ، والله تعالى لا مضاد له فهو على عرشه كما أخبر ) ([5]) .

 وقال أبو سليمان الخطابي وهو من أئمة اللغة : ( وزعم بعضهم أن الاستواء هنا بمعنى الاستيلاء ، ونزع فيه إلى بيت مجهول لم يقله شاعر معروف يصح الاحتجاج بقوله ، ولو كان الاستواء ها هنا بمعنى الاستيلاء لكان الكلام عديم الفائدة ، لأن الله تعالى قد أحاط علمه وقدرته بكل شيء وكل بقعة من السماوات والأرضين وتحت العرش ، فما معنى تخصيصه العرش بالذكر؟! ثم إن الاستيلاء إنما يتحقق معناه عند المنع من الشيء ، فإذا وقع الظفر به قيل استولى عليه فأي منع كان هناك حتى يوصف بالاستيلاء بعده ! )  ([6]) .

ومعلوم أن كل تأويل لا يحتمله اللفظ في أصل وضعه ، وكما جرت به عادة الخطاب بين العرب هو نوع من التزوير والتدليس ، والخلط والتلبيس ، الذي يضيع ثوابت القول وقواعد الكلم ، فأهل العلم يعلمون أن إثبات الاستواء والنزول ، والوجه واليد والقبض والبسط ، وسائر صفات الذات والفعل لا يسمى في لغة العرب التي نزل بها القرآن تركيبا ولا انقساما ولا تمثيلا ، وكان أولى بالصحابة والتابعين ، وهم أئمة اللغة وأسياد الفهم أن يعترض واحد منهم على الأقل ويقول : كيف نؤمن بهذه الصفات التي تدل على التركيب والانقسام في الذات ؟ ([7]) .

 ولذلك فإن كثيرا ممن نشأ في الأوساط التي يسودها مذهب الخلف أنكروا تأويلهم المتعسف للنصوص ، وادعوا أن السكوت وتفويض الأمر إلى الله هو المسلك المفضل ، ظنا منهم أنهم على عقيدة السلف الصالح ، فظهرت قضية التفويض التي وسم بها السلف متأثرة بعقيدة الخلف في فهم المحكم والمتشابه ، وعدم التمييز بين كون معاني نصوص الصفات محكمات ، وكون الكيفية الغيبية هي فقط من المتشابهات ، وقد سرى هذا الاعتقاد منذ ظهور المذهب الأشعري حتى عصرنا هذا .

يقول أبو سعيد النيسابوري (ت:478) : ( لأصحابنا في ذلك طريقان ، أحدها الإعراض عن التأويل والإيمان بها كما جاءت والإيمان بها صحيح وإن لم يعرف معناها ، وهذا الطريق أقرب إلى السلامة ، ومن أصحابنا من صار إلى التأويل ، والاختلاف صادر عن اختلاف القراءتين في قوله تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ .. الآية { ، فمن صار إلى الوقف على قوله : وما يعلم تأويله إلا الله ، أعرض عن التأويل ، وجعل قوله والراسخون في العلم كلاما مبتدأ ، ومعناه أن العلماء يقولون آمنا به ، ومن صار إلى الوقف على قوله والراسخون في العلم ، فيكون معناه أن الله تعالى يعلم تأويله ، والراسخون في العلم أيضا يعلمون تأويله ، صار إلى التأويل ) ([8]) .

فعلى الرغم من كونه يذكر في كلامه موقف السلف من المحكم والمتشابه ، إلا أنه نسب إليهم الإيمان بنصوص الصفات وإن لم يعرفوا معناها ، وجعلهم بمنزلة الأعاجم والأميين .

 ويقول مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي (ت:1033) : ( ومن المتشابه الاستواء في قوله تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { وهو مذكور في سبع آيات من القرآن ، فأما السلف فإنهم لم يتكلموا في ذلك بشيء جريا على عادتهم في المتشابه ، من عدم الخوض فيه مع تفويض علمه إلى الله تعالى والإيمان به ) ([9]) ، ثم يستدل على ذلك بقول الإمام مالك : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ([10])  .

(1)        انظر في هذا المعني : الشيخ محمد عبده ، (1966م) ، رسالة التوحيد ، نشر مطابع دار الكتاب العربي  ص 17 وما بعدها ، وجمال الدين : أحمد بن محمد بن سعيد ، (1998م) ، أصول الدين ، تحقيق عمر وفيق الداعوق ، بيروت ، نشر دار البشائر الإسلامية ، ص63.

(2)             ابن تيمية : درء تعارض العقل والنقل 1/225.

(3)             الرازي : فخر الدين ، (1406هـ) ، أساس التقديس ، تحقيق الدكتور أحمد حجازي السقا ، القاهرة ، طبعة مكتبة الكليات الأزهرية  ص 203.

(4)        عبد الملك : بن عبد الله بن يوسف ، (1987م) ، لمع الأدلة في قواعد أهل السنة والجماعة ، تحقيق د. فوقية حسين ، بيروت ، نشر عالم الكتب ص 108 ، والشاعر هو الأخطل النصراني الحاقد علي الإسلام والمسلمين ، قال ابن كثير في التعقيب علي هذا البيت : ( هذا البيت تستدل به الجهمية علي أن الاستواء بمعني الاستيلاء ، وهذا من تحريف الكلم عن مواضعه وليس في بيت هذا النصراني حجة ولا دليل علي ذلك ، ولا أراد الله عز وجل باستوائه علي عرشه استيلاءه عليه ، ولا نجد أضعف من حجج الجهمية  ، حتى أداهم الإفلاس من الحجج إلي بيت هذا النصراني المقبوح ) انظر البداية والنهاية 9/295 ، والعجب كل العجب أن قوة احتجاج الأشعرية بهذا البيت علي نفي الاستواء أقوي من قوة الاحتجاج بكلام الله علي إثباته ، مع أن الأخطل النصراني المشرك هو القائل في شعره مستهزءا بالصلاة والصيام والأضاحي : ولست بصائم رمضان يوما : ولست بآكل لحم الأضاحي - ولست بزائر بيتا بعيدا :  بمكة ابتغي فيه صلاحي - ولست بقائم كالعير أدعو      :           قبيل الصبح حي علي الفلاح ، انظر السابق 9/263 ، وابن الجوزي : (1412هـ) ، المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ، تحقيق محمد ومصطفي عبد القادر عطا ، بيروت ، دار الكتب العلمية 7/36  .

(5)             ابن القيم : (1415هـ) ، حاشية ابن القيم علي سنن أبي داود ،بيروت ، دار الكتب العلمية 3/18.

(6)             ابن تيمية : (1392هـ) ، بيان تلبيس الجهمية في تأسيس بدعهم الكلامية ، مكة المكرمة ، نشر مطبعة الحكومة 2/438.

(7)        انظر أنواع التأويلات الباطلة وأمثلتها من كلام الأشعرية في مقدمة في أصول التفسير لابن تيمية ص43 وما بعدها ، و درء تعارض العقل والنقل 1/226 وما بعدها.

(8)        النيسابوري : أبو سعيد ، (1987م) ، الغنية في أصول الدين ، تحقيق عماد الدين أحمد حيدر ، بيروت ، نشر مؤسسة الخدمات والأبحاث الثقافية ، ص 77.

(9)        المقدسي : مرعي بن يوسف الكرمي (1406هـ) أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات ، تحقيق شعيب الأرناؤوط بيروت مؤسسة الرسالة 1/120.

(10)         السابق 1/120.
 


 

No comments:

Post a Comment