بسم الله الرحمن الرحيم
المطلب الثالث : رؤية سلفية في فهم المعنى والكيفية وعلاقته بالمحكم والمتشابه .
لما قال علماء الخلف من الأشعرية بأن نصوص الصفات الإلهية موهمة للتشبيه والجسمية ، تغير تبعا لذلك مفهوم المحكم والمتشابه عندهم وعند أتباعهم ، من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة ، ظاهرها مراد في حق الله ، وليس كمثله شيء في حقائقها وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات ، تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا تدل على ظاهر باطل محال ، يحمل التشبيه والتجسيم ويجب صرفه عن الصورة المنفرة التي صورها لربهم ، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم ، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس كخيار ينسبونه لعقيدة السلف ، وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية ، معانيها معان مجهولة أعجمية ، يفوض فيها الأمر والعلم إلى الله ، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التسليم وعدم الخوض في توحيد الصفات كما كان شأن السلف ، ومن هنا كان لابد من تحقيق الأمر في قضية المحكم والمتشابه ، وتجليته بصورة جديدة تبين حقيقة الفهم السلفي الصحيح .
يذكر أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه ، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض ، قال الله تعالى : } الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ { ([1]) ، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ، وقال تعالى : } اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ِ{ ([2]) ، فوصف جميعه بالمتشابه ، ثم قال في موضع آخر :
} هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ { ([3]) ، فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه ، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول ، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ { ، فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا ([4]) .
ويحاول أبو بكر الجصاص في كلامه السابق ، أن يبلور آراء الناس في المحكم والمتشابه ، لأنهم اختلفوا اختلافا عظيما في قضية العلم بتأويل المتشابه بهذا الإطلاق الأخير ، هل هو مقصور على الله تعالى ، أو هو بحيث يتأتى للراسخين في العلم أيضا ؟
ومن أبرز المتشابه بهذا الإطلاق في القرآن ، ما يعرف لدى علماء الخلف والمتكلمين بآيات الصفات الخبرية ، أو متشابه الصفات ، كالآيات التي جاء فيها ذكر صفات الذات والأفعال ، مثل الوجه واليد والجنب والفوقية ، والاستواء والمجيء والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات الإلهية .
ويهمنا أن نبين مقدمة هامة مبنية على ما سبق من الآراء في المحكم والمتشابه ، فجميع الأراء في معنى المحكم والمتشابه ، تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح ، الذي يمكن تحديده وتمييزه ، كتمييز الصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها ، وضبط ملامحها ، والتمكن من وصفها ، فما لا يحتمل إلا وجها واحداً يصبح معلوما مميزا ، كما أن المتشابه عكس المحكم ، وهو المجهول الذي لا يعلم ، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى : } كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ِ{ ([5]) ، أي أشبهت قلوب مشركى العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ([6]) وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقول الله تعالى عن بنى إسرائيل : } إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ِ{ ([7]) .
وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه ، سوف ننظر إلى الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل بحثنا في قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض ، يقول تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ { .
كثير من علماء الخلف الأشعرية ، يعتبرون معاني نصوص الصفات الإلهية من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله مستدلين بهذه الآية ، وفي هذا نظر ، حيث يترتب علي ذلك من اللوازم الباطلة ما لا يرضاه المسلم على كلام الله ، يقول أبو محمد بن قدامة المقدسي :
( وكل ما جاء في القرآن ، أو صح عن المصطفي عليه السلام من صفات الرحمن ، وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول ، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله ، ونجعل عهدته على ناقله ، اتباعا لطريق الراسخين في العلم ) ([8]) .
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي معبرا عن فهمه في قضية المحكم والمتشابه : ( فعاملوا الله بحسن النيات ، واتقوه في الحركات والسكنات ، وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة ، لأن ذلك من أصول الكفر ، قال تعالى : } فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ِ { ، والواجب عليكم وعلى كل مكلف في المتشابه ، الإيمان بأنه من عند الله ، أنزله على عبده سيدنا رسول الله ، وما كلفنا سبحانه وتعالى تفصيل علم تأويله ، قال جلت عظمته : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا { ، فسبيل المتقين من السلف تنزيه الله تعالى عما دل عليه ظاهره ، وتفويض معناه المراد منه إلى الحق تعالى وتقدس ، وبهذا سلامة الدين ) ([9]) .
فهؤلاء يدعون إلى ترك التأويل والبعد عن طريقة الخلف لعدم قناعتهم بها ، لكن الطرح الذي يقدمونه لأتباعهم يزعمون فيه أن طريقة السلف هي الكف معاني نصوص الصفات ومنع البحث عن مدلول الآيات ، ثم يجعلون ذلك سبيل المتقين ، ظنا منهم أن الظواهر تدل على التشبيه والمعاني الكفرية ، فلا هم فهموا طريقة السلف ولا صوبوا طريقة الخلف .
وهؤلاء إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ، لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : } وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ { ([10]) ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ، فهذا الظن الفاسد أوجب قولهم : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ، تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر ، وقد تقولوا على طريقة السلف ، ولم يقتنعوا في قرارة أنفسهم بطريقة الخلف ([11]) .
يقول شارح الطحاوية في وصف حالهم في باب الصفات : ( يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات وما يخالفه إما أن يتأوله تأويلا يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وإما أن يقولوا هذا متشابه لا يعلم أحد معناه فيجحدوا ما أنزله من معانيه وهو في معنى الكفر بذلك لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : } مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) ([12]) ، وقال تعالى : } وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ { ([13]) أي إلا تلاوة من غير فهم معناه ، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به واشتبه عليه بعضه ، فوكل علمه إلى الله كما أمره النبي بقوله : ( فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه فامتثل ما أمر به ) ([14]) .
وسبب ذلك كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر ، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى ، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل وتعطيل السمع ، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات ، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه ، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم ، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين ، بمنزلة الصالحين من العامة ، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي ، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ([15]) .
والحقيقة أن الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران ، يتسم بالدقة ويتسق مع اعتقادهم في التوحيد ، لاسيما في توحيد الصفات ، فهم لما آمنوا بصفات حقيقية جاءت بها الأدلة السمعية ، وفرقوا بين فهم المعنى الذي حواه اللفظ العربي وفهم الكيفية ، وفقوا في تفسير المحكم والمتشابه .
فإذا كان المحكم هو المعلوم الواضح المعنى ، وكان المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم - على نحو ما تقدم - فإنهم يعتبرون معاني نصوص الصفات محكمات ، والكيفية الغيبية فقط من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله .
أما إذا كان معنى النص معلوما ، والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا ، كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم ، كما هو الحال في جميع آيات الأحكام ، ولذلك - والله أعلم - سميت نصوص التكليف بما تحويه من أحكامٍ أحكاماً ، لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
وإن كان المعنى معلوما والكيف مجهولا ، كان النص محكم المعنى متشابه الكيف ، وإذا قيل في عرف السلف هذا النص متشابه ، فيحمل على هذا المعنى ، أي أنه متشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت:241هـ) : ( فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل : } كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ { ([16]) ، ونحو هذا من متشابه القرآن ) ([17]) .
وكما روى أبو القاسم بسنده عن سليمان بن يسار ، أن رجلا من بني غنيم يقال له صبيغ بن عسل ، قدم المدينة وكانت عنده كتب ، فجعل يسأله عن متشابه القرآن ، فبلغ ذلك عمر ، فبعث إليه ، وقد أعد له عراجين النخيل ، فلما دخل عليه جلس ، قال : من أنت ؟ ، قال : أنا عبد الله صبيغ ، قال عمر : وأنا عبد الله عمر ، وأومأ عليه فجعل يضربه بتلك العراجين ، فما زال يضربه حتى شجه وجعل الدم يسيل عن وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي ([18]) .
ويقول ابن بطة العكبري (ت: 378هـ) : ( فالجهمي ينكر أن المؤمنين يرون ربهم في القيامة ، فإذا سئل عن حجته في ذلك نزع بآيات من متشابه القرآن ) ([19]) .
فهؤلاء جميعا يقصدون بمتشابه القرآن ، ما يؤدى الخوض فيه إلى الضلال من جهة التجهم على وصف الغيبيات ، وتصوير ما فيها من الكيفيات ، وتمثيلها من خلال الأقيسة التي تحكم سائر المخلوقات ، أو القول بتعطيل الصفات ، وتأويلها على غير مراد الله من الآيات ، والنتيجة التي نصل إليها من هذه الرؤية ، أن القرآن جميعه محكم المعنى لقوله تعالى عن جميع آيات القرآن : } الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ { ([20]) ، أي أحكمت باعتبار المعنى ، فليس في القرآن كلام بلا معنى ، أما من جهة الكيفية التي دلت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فبعضها محكم معلوم ، وبعضها متشابه مجهول ، وهذا المقصود بقول الإمام مالك رحمه الله :
( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ) ، وهو المعنى المشار إليه في قوله تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ { ([21]) ، فلو سأل سائل عن استواء الله الذي ورد في قوله تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { هل هو من المحكمات أم من المتشابهات ؟ قيل له : الاستواء محكم المعنى ، متشابه الكيف .
فما عاينه الإنسان من الكيفيات التي تتعلق بالمخلوقات ، والتي دلت عليها ألفاظ الآيات ككيفية أداء الصلاة والزكاة والصيام وأفعال الحج وما شابه ذلك ، فهذا محكم المعنى والكيفية ، فلو سأل مسلم أعجمي لا يعرف العربية عن معنى الصلاة في قوله تعالى : } الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { ([22]) ، لقيل له بلسانه : الصلاة ، أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم ، فيسأل عن كيفية أدائها ؟ فيقال له : أمرنا رسول اللَّه S بأن نحاكيه تماما في الكيفية فقال مبينا ذلك في بعض الأحاديث النبوية : ( وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) ([23]) .
أما إذا كان المعنى معلوما ، والكيف الذي دل عليه المعنى مجهولا ، كانت الآية من المتشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما في جميع الأخبار والنصوص التي وردت في وصف عالم الغيب ، فالجنة مثلا ، سمعنا عن وجود ألوان النعيم فيها ، وأخبرنا اللَّه بذلك في كتابه وسنة نبيه S ، وعلى الرغم من ذلك قال رسول اللَّه S عن كيفية ألوان النعيم فيها : ( قَالَ اللَّهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : } فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ { ) ([24]) .
فتأمل قوله : ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ) ماذا يعنى ؟ هل يعنى معنى الآيات والنصوص التي وردت عن وصف الجنة ، أم الكيفية التي دلت عليها ؟ فإن قيل المعنى : فخطأ ، لأننا سمعنا به في الكتاب والسنة ، كما أن المعنى لا يرى بعين البصر ، وإنما يدرك بعين البصيرة ، وإن قيل الكيف فصواب ، لأننا لم نره ولم نر له مثيلا .
فالمتشابه كيفية الموجودات في الجنة ، لا المعنى الذي يدل عليها ، وعلى ذلك فجميع آيات الصفات محكمة المعنى متشابهة في الكيفية فقط ، فلا يدخل في المتشابه معاني الآيات التي وصف اللَّه بها نفسه ، كما اعتقد الخلف ذلك في مذهب السلف ، وإلا لكانت الآيات بلا معنى ، وكانت ألفاظها معطلة عن الهداية والبيان ، فقوله تعالى : } وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ { أي باعتبار الكيف لا المعنى .
وجميع آيات القرآن لها معنى معلوم عند الراسخين في العلم ، حسب اجتهادهم في تحصيله ، وعليه جاء قول ابن عباس t في آية آل عمران : ( أنا من الراسخين في العلم ) ([25]) .
فالمتشابه هو الذي استأثر اللَّه بعلمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو والتي أخبرنا بها في كتابه ، ومن ثم فإن القرآن كله محكم باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ وباعتبار الكيفية ففيه المحكم والمتشابه ، قال ابن تيميه رحمه اللَّه معقبا على قوله تعالى : } كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ { ([26]) : ( وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات ، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ) ([27]) .
وقال أيضا في قوله تعالى : } أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { ([28]) ، ( فلم يستثن شيئا منه نهي عن تدبره ، واللَّه ورسوله S إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره اللَّه ، وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه اللَّه بل أمر بذلك ومدح عليه ) ([29]) .
وقد ذكر أن الصحابة والتابعين ، لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب اللَّه ، أو قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين ، أن في القرآن آيات لا تعلم معناها ولا يفهمها رسول اللَّه S ، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم ، وإنما قد ينفون علم بعض الناس وهذا لا ريب فيه ([30]) .
لما قال علماء الخلف من الأشعرية بأن نصوص الصفات الإلهية موهمة للتشبيه والجسمية ، تغير تبعا لذلك مفهوم المحكم والمتشابه عندهم وعند أتباعهم ، من معنى سلفي يعتبر المتشابه من القرآن آيات معلومات المعنى واضحات الدلالة ، ظاهرها مراد في حق الله ، وليس كمثله شيء في حقائقها وأن المجهول فقط وهو كيفية الصفات الإلهية التي دلت عليها هذه الآيات ، تغير مفهوم المتشابه عندهم إلى اعتبار هذه النصوص نصوصا تدل على ظاهر باطل محال ، يحمل التشبيه والتجسيم ويجب صرفه عن الصورة المنفرة التي صورها لربهم ، كل ذلك ليجعلوا الناس مؤيدين لآرائهم وأصولهم ، مهيئين لقبول تأويلهم وتبديلهم .
ثم طرحوا بديلا آخر أمام الناس كخيار ينسبونه لعقيدة السلف ، وهو القول بأن نصوص الصفات الإلهية ، معانيها معان مجهولة أعجمية ، يفوض فيها الأمر والعلم إلى الله ، ثم ألصقوا هذا الطرح بدعوى التسليم وعدم الخوض في توحيد الصفات كما كان شأن السلف ، ومن هنا كان لابد من تحقيق الأمر في قضية المحكم والمتشابه ، وتجليته بصورة جديدة تبين حقيقة الفهم السلفي الصحيح .
يذكر أبو بكر الجصاص أن كلا من المحكم والمتشابه في القرآن ينقسم إلى معنيين : أحدهما يصح وصف القرآن بجميعه ، والآخر إنما يختص به بعض القرآن دون بعض ، قال الله تعالى : } الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ { ([1]) ، فوصف جميع القرآن في هذه المواضع بالإحكام ، وقال تعالى : } اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّه ِ{ ([2]) ، فوصف جميعه بالمتشابه ، ثم قال في موضع آخر :
} هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ { ([3]) ، فوصف هاهنا بعضه بأنه محكم وبعضه متشابه ، والإحكام الذي عم به الجميع هو الصواب والإتقان اللذان يفضل بهما القرآن كل قول ، وأما موضع الخصوص في قوله تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ { ، فإن المراد به اللفظ الذي لا اشتراك فيه ولا يحتمل سامعه إلا معنى واحدا ([4]) .
ويحاول أبو بكر الجصاص في كلامه السابق ، أن يبلور آراء الناس في المحكم والمتشابه ، لأنهم اختلفوا اختلافا عظيما في قضية العلم بتأويل المتشابه بهذا الإطلاق الأخير ، هل هو مقصور على الله تعالى ، أو هو بحيث يتأتى للراسخين في العلم أيضا ؟
ومن أبرز المتشابه بهذا الإطلاق في القرآن ، ما يعرف لدى علماء الخلف والمتكلمين بآيات الصفات الخبرية ، أو متشابه الصفات ، كالآيات التي جاء فيها ذكر صفات الذات والأفعال ، مثل الوجه واليد والجنب والفوقية ، والاستواء والمجيء والرضا والغضب وغير ذلك من الصفات الإلهية .
ويهمنا أن نبين مقدمة هامة مبنية على ما سبق من الآراء في المحكم والمتشابه ، فجميع الأراء في معنى المحكم والمتشابه ، تكاد تتمثل في أن المحكم هو المعلوم الواضح ، الذي يمكن تحديده وتمييزه ، كتمييز الصورة في المرآة المصقولة عند تحديد معالمها ، وضبط ملامحها ، والتمكن من وصفها ، فما لا يحتمل إلا وجها واحداً يصبح معلوما مميزا ، كما أن المتشابه عكس المحكم ، وهو المجهول الذي لا يعلم ، إما من التشابه والتماثل كقوله تعالى : } كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ ِ{ ([5]) ، أي أشبهت قلوب مشركى العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو ([6]) وإما من الاختلاط وعدم التمييز بين الأشياء كقول الله تعالى عن بنى إسرائيل : } إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا ِ{ ([7]) .
وعلى هذا المعنى السابق للمحكم والمتشابه ، سوف ننظر إلى الآية السابعة من آل عمران والتي هي محل بحثنا في قضية المحكم والمتشابه وأثرها على القول بالتفويض ، يقول تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلا أُوْلُوا الأَلْبَابِ { .
كثير من علماء الخلف الأشعرية ، يعتبرون معاني نصوص الصفات الإلهية من المتشابه الذي لا يعلمه إلا الله مستدلين بهذه الآية ، وفي هذا نظر ، حيث يترتب علي ذلك من اللوازم الباطلة ما لا يرضاه المسلم على كلام الله ، يقول أبو محمد بن قدامة المقدسي :
( وكل ما جاء في القرآن ، أو صح عن المصطفي عليه السلام من صفات الرحمن ، وجب الإيمان به وتلقيه بالتسليم والقبول ، وترك التعرض له بالرد والتأويل والتشبيه والتمثيل ، وترك التعرض لمعناه ونرد علمه إلى قائله ، ونجعل عهدته على ناقله ، اتباعا لطريق الراسخين في العلم ) ([8]) .
ويقول الشيخ أحمد الرفاعي معبرا عن فهمه في قضية المحكم والمتشابه : ( فعاملوا الله بحسن النيات ، واتقوه في الحركات والسكنات ، وصونوا عقائدكم من التمسك بظاهر ما تشابه من الكتاب والسنة ، لأن ذلك من أصول الكفر ، قال تعالى : } فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ِ { ، والواجب عليكم وعلى كل مكلف في المتشابه ، الإيمان بأنه من عند الله ، أنزله على عبده سيدنا رسول الله ، وما كلفنا سبحانه وتعالى تفصيل علم تأويله ، قال جلت عظمته : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا { ، فسبيل المتقين من السلف تنزيه الله تعالى عما دل عليه ظاهره ، وتفويض معناه المراد منه إلى الحق تعالى وتقدس ، وبهذا سلامة الدين ) ([9]) .
فهؤلاء يدعون إلى ترك التأويل والبعد عن طريقة الخلف لعدم قناعتهم بها ، لكن الطرح الذي يقدمونه لأتباعهم يزعمون فيه أن طريقة السلف هي الكف معاني نصوص الصفات ومنع البحث عن مدلول الآيات ، ثم يجعلون ذلك سبيل المتقين ، ظنا منهم أن الظواهر تدل على التشبيه والمعاني الكفرية ، فلا هم فهموا طريقة السلف ولا صوبوا طريقة الخلف .
وهؤلاء إنما أتوا من حيث ظنوا أن طريقة السلف هي مجرد الإيمان بألفاظ القرآن والحديث من غير فقه ، لذلك بمنزلة الأميين الذين قال الله فيهم : } وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ { ([10]) ، وأن طريقة الخلف هي استخراج معاني النصوص المصروفة عن حقائقها بأنواع المجازات وغرائب اللغات ، فهذا الظن الفاسد أوجب قولهم : طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم ، تلك المقالة التي مضمونها نبذ الإسلام وراء الظهر ، وقد تقولوا على طريقة السلف ، ولم يقتنعوا في قرارة أنفسهم بطريقة الخلف ([11]) .
يقول شارح الطحاوية في وصف حالهم في باب الصفات : ( يقرون بما يوافق رأيهم من الآيات وما يخالفه إما أن يتأوله تأويلا يحرفون فيه الكلم عن مواضعه وإما أن يقولوا هذا متشابه لا يعلم أحد معناه فيجحدوا ما أنزله من معانيه وهو في معنى الكفر بذلك لأن الإيمان باللفظ بلا معنى هو من جنس إيمان أهل الكتاب ، كما قال تعالى : } مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً ) ([12]) ، وقال تعالى : } وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَظُنُّونَ { ([13]) أي إلا تلاوة من غير فهم معناه ، وليس هذا كالمؤمن الذي فهم ما فهم من القرآن فعمل به واشتبه عليه بعضه ، فوكل علمه إلى الله كما أمره النبي بقوله : ( فما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه فامتثل ما أمر به ) ([14]) .
وسبب ذلك كما ذكره شيخ الإسلام ابن تيمية ، اعتقادهم أنه ليس في نفس الأمر صفة دلت عليها هذه النصوص بالشبهات الفاسدة ، فلما اعتقدوا انتفاء الصفات في نفس الأمر ، وكان مع ذلك لابد للنصوص من معنى ، بقوا مترددين بين الإيمان باللفظ وتفويض المعنى - وهي التي يسمونها طريقة السلف - وبين صرف اللفظ إلى معان بنوع تكلف - وهي التي يسمونها طريقة الخلف - فصار هذا الباطل مركبا من فساد العقل وتعطيل السمع ، فإن النفي إنما اعتمدوا فيه على أمور عقلية ظنوها بينات وهي شبهات ، والسمع حرفوا فيه الكلم عن مواضعه ، فلما ابتنى أمرهم على هاتين المقدمتين الكاذبتين كانت النتيجة استجهال السابقين الأولين واستبلاههم ، واعتقاد أنهم كانوا قوما أميين ، بمنزلة الصالحين من العامة ، لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ، ولم يتفطنوا لدقائق العلم الإلهي ، وأن الخلف الفضلاء حازوا قصب السبق في هذا كله ([15]) .
والحقيقة أن الفهم السلفي لمسألة المحكم والمتشابه التي وردت في آية آل عمران ، يتسم بالدقة ويتسق مع اعتقادهم في التوحيد ، لاسيما في توحيد الصفات ، فهم لما آمنوا بصفات حقيقية جاءت بها الأدلة السمعية ، وفرقوا بين فهم المعنى الذي حواه اللفظ العربي وفهم الكيفية ، وفقوا في تفسير المحكم والمتشابه .
فإذا كان المحكم هو المعلوم الواضح المعنى ، وكان المتشابه عكس المحكم وهو المجهول الذي لا يعلم - على نحو ما تقدم - فإنهم يعتبرون معاني نصوص الصفات محكمات ، والكيفية الغيبية فقط من المتشابهات التي لا يعلمها إلا الله .
أما إذا كان معنى النص معلوما ، والكيفية التي دل عليها معلومة أيضا ، كانت الآية محكمة لأهل العلم على تفاوتهم في المعرفة والفهم ، كما هو الحال في جميع آيات الأحكام ، ولذلك - والله أعلم - سميت نصوص التكليف بما تحويه من أحكامٍ أحكاماً ، لوضوح معناها والعلم بكيفية أدائها .
وإن كان المعنى معلوما والكيف مجهولا ، كان النص محكم المعنى متشابه الكيف ، وإذا قيل في عرف السلف هذا النص متشابه ، فيحمل على هذا المعنى ، أي أنه متشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله (ت:241هـ) : ( فإن احتج مبتدع أو زنديق بقول الله عز وجل : } كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلا وَجْهَهُ { ([16]) ، ونحو هذا من متشابه القرآن ) ([17]) .
وكما روى أبو القاسم بسنده عن سليمان بن يسار ، أن رجلا من بني غنيم يقال له صبيغ بن عسل ، قدم المدينة وكانت عنده كتب ، فجعل يسأله عن متشابه القرآن ، فبلغ ذلك عمر ، فبعث إليه ، وقد أعد له عراجين النخيل ، فلما دخل عليه جلس ، قال : من أنت ؟ ، قال : أنا عبد الله صبيغ ، قال عمر : وأنا عبد الله عمر ، وأومأ عليه فجعل يضربه بتلك العراجين ، فما زال يضربه حتى شجه وجعل الدم يسيل عن وجهه ، فقال : حسبك يا أمير المؤمنين ، فقد والله ذهب الذي أجد في رأسي ([18]) .
ويقول ابن بطة العكبري (ت: 378هـ) : ( فالجهمي ينكر أن المؤمنين يرون ربهم في القيامة ، فإذا سئل عن حجته في ذلك نزع بآيات من متشابه القرآن ) ([19]) .
فهؤلاء جميعا يقصدون بمتشابه القرآن ، ما يؤدى الخوض فيه إلى الضلال من جهة التجهم على وصف الغيبيات ، وتصوير ما فيها من الكيفيات ، وتمثيلها من خلال الأقيسة التي تحكم سائر المخلوقات ، أو القول بتعطيل الصفات ، وتأويلها على غير مراد الله من الآيات ، والنتيجة التي نصل إليها من هذه الرؤية ، أن القرآن جميعه محكم المعنى لقوله تعالى عن جميع آيات القرآن : } الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ { ([20]) ، أي أحكمت باعتبار المعنى ، فليس في القرآن كلام بلا معنى ، أما من جهة الكيفية التي دلت عليها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية ، فبعضها محكم معلوم ، وبعضها متشابه مجهول ، وهذا المقصود بقول الإمام مالك رحمه الله :
( الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ) ، وهو المعنى المشار إليه في قوله تعالى : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ { ([21]) ، فلو سأل سائل عن استواء الله الذي ورد في قوله تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { هل هو من المحكمات أم من المتشابهات ؟ قيل له : الاستواء محكم المعنى ، متشابه الكيف .
فما عاينه الإنسان من الكيفيات التي تتعلق بالمخلوقات ، والتي دلت عليها ألفاظ الآيات ككيفية أداء الصلاة والزكاة والصيام وأفعال الحج وما شابه ذلك ، فهذا محكم المعنى والكيفية ، فلو سأل مسلم أعجمي لا يعرف العربية عن معنى الصلاة في قوله تعالى : } الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ { ([22]) ، لقيل له بلسانه : الصلاة ، أقوال وأفعال مفتتحة بالتكبير ومختتمة بالتسليم ، فيسأل عن كيفية أدائها ؟ فيقال له : أمرنا رسول اللَّه S بأن نحاكيه تماما في الكيفية فقال مبينا ذلك في بعض الأحاديث النبوية : ( وَصَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِي أُصَلِّي ، فَإِذَا حَضَرَتِ الصَّلاةُ ، فَلْيُؤَذِّنْ لَكُمْ أَحَدُكُمْ ، وَلْيَؤُمَّكُمْ أَكْبَرُكُمْ ) ([23]) .
أما إذا كان المعنى معلوما ، والكيف الذي دل عليه المعنى مجهولا ، كانت الآية من المتشابه باعتبار الكيف لا المعنى ، كما في جميع الأخبار والنصوص التي وردت في وصف عالم الغيب ، فالجنة مثلا ، سمعنا عن وجود ألوان النعيم فيها ، وأخبرنا اللَّه بذلك في كتابه وسنة نبيه S ، وعلى الرغم من ذلك قال رسول اللَّه S عن كيفية ألوان النعيم فيها : ( قَالَ اللَّهُ : أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لا عَيْنٌ رَأَتْ وَلا أُذُنٌ سَمِعَتْ وَلا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ ، فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ : } فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ { ) ([24]) .
فتأمل قوله : ( ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ) ماذا يعنى ؟ هل يعنى معنى الآيات والنصوص التي وردت عن وصف الجنة ، أم الكيفية التي دلت عليها ؟ فإن قيل المعنى : فخطأ ، لأننا سمعنا به في الكتاب والسنة ، كما أن المعنى لا يرى بعين البصر ، وإنما يدرك بعين البصيرة ، وإن قيل الكيف فصواب ، لأننا لم نره ولم نر له مثيلا .
فالمتشابه كيفية الموجودات في الجنة ، لا المعنى الذي يدل عليها ، وعلى ذلك فجميع آيات الصفات محكمة المعنى متشابهة في الكيفية فقط ، فلا يدخل في المتشابه معاني الآيات التي وصف اللَّه بها نفسه ، كما اعتقد الخلف ذلك في مذهب السلف ، وإلا لكانت الآيات بلا معنى ، وكانت ألفاظها معطلة عن الهداية والبيان ، فقوله تعالى : } وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ { أي باعتبار الكيف لا المعنى .
وجميع آيات القرآن لها معنى معلوم عند الراسخين في العلم ، حسب اجتهادهم في تحصيله ، وعليه جاء قول ابن عباس t في آية آل عمران : ( أنا من الراسخين في العلم ) ([25]) .
فالمتشابه هو الذي استأثر اللَّه بعلمه من الأمور الغيبية التي لا يعلمها إلا هو والتي أخبرنا بها في كتابه ، ومن ثم فإن القرآن كله محكم باعتبار المعنى الذي دل عليه اللفظ وباعتبار الكيفية ففيه المحكم والمتشابه ، قال ابن تيميه رحمه اللَّه معقبا على قوله تعالى : } كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ { ([26]) : ( وهذا يعم الآيات المحكمات والآيات المتشابهات ، وما لا يعقل له معنى لا يتدبر ) ([27]) .
وقال أيضا في قوله تعالى : } أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا { ([28]) ، ( فلم يستثن شيئا منه نهي عن تدبره ، واللَّه ورسوله S إنما ذم من اتبع المتشابه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ، فأما من تدبر المحكم والمتشابه كما أمره اللَّه ، وطلب فهمه ومعرفة معناه ، فلم يذمه اللَّه بل أمر بذلك ومدح عليه ) ([29]) .
وقد ذكر أن الصحابة والتابعين ، لم يمتنع أحد منهم عن تفسير آية من كتاب اللَّه ، أو قال هذه من المتشابه الذي لا يعلم معناه ، ولا قال قط أحد من سلف الأمة ولا من الأئمة المتبوعين ، أن في القرآن آيات لا تعلم معناها ولا يفهمها رسول اللَّه S ، ولا أهل العلم والإيمان جميعهم ، وإنما قد ينفون علم بعض الناس وهذا لا ريب فيه ([30]) .
شكل توضيحي
اللفظ العربي أو النص الذي نزل به القرآن | معاني الألفاظ التي يستوعبا الذهن | الحقائق والكيفيات التي دلت عليها الألفاظ |
النص المتعلق بالمخلوق في عالم الشهادة من جهة الإحكام والتشابه | معلومة محكمة | موجودة معلومة محكمة |
النص المتعلق بعالم الغيب وأوصاف الله من جهة الإحكام والتشابه | معلومة محكمة | موجودة مجهولة متشابهة |
ويذكر ابن القيم رحمه الله ، أننا لو قلنا كما قال الخلف : إن قوله تعالى : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ { يتناول المعنى ، يكون الأنبياء والمرسلون لا يعلمون معاني ما أنزل الله عليهم من هذه النصوص ولا الصحابة والتابعون لهم بإحسان ، بل يقرؤون كلاما لا يعقلون معناه ، فهم متناقضون أفحش تناقض ، فإنهم يقولون النصوص تجري على ظاهرها وتأويلها باطل ، ثم يقولون لها تأويل لا يعلمه إلا الله ([31]) ، وقول هؤلاء باطل فإن الله سبحانه أمر بتدبر كتابه وتفهمه وتعقله ، وأخبر أنه بيان وهدى وشفاء لما في الصدور ، وحاكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ومن أعظم الاختلاف اختلافهم في باب الصفات والقدر والأفعال ، واللفظ الذي لا يعلم ما أراد به المتكلم ، لا يحصل به حكم ولا هدى ولا شفاء ولا بيان ([32]) .
وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فإن التأويل في عرف السلف ، المراد به الحقيقة التي يؤول إليه الكلام ، كالتأويل في مثل قوله تعالى : } هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ { ([33]) ، وكقوله تعالى : } وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا { ([34]) ، فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به والمنهي عنه ، تأويله تنفيذه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( كَانَ النَّبِيُّ S يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ) ([35]) .
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو وقوعة ، وهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها ، وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ، ولهذا قال مالك وربيعة : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول ) ([36]) .
وفي رده على الخلف في زعمهم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله ، يذكر ابن القيم أن التشابه والإحكام نوعان ، تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض ، فإن أردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا ، وكذلك آيات الأحكام ، وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد ، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس ، فهو أمر نسبي إضافي ، فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره ، ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات ، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض ، وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك ، فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم ، وهم لا يتنازعون في شيء منها ، وآيات الأحكام هي المحكمة ، وقد وقع بينهم النزاع في بعضها ؟ ([37]) .
والمقصود أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له ، و لا يجوز أن يكون الرسول S وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما و لا يعلمون الآخر ([38]) .
توجيه الوقف في الآية السابعة من آل عمران :_
وعلى هذا المنهج السلفي لفهم المحكم والمتشابه يمكن تفسير آية آل عمران ، بأن الله يخبر أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد ، سواء من جهة المعنى أو الكيفية ، وهي أصل الدين وقوام العبودية ، وتتمثل في الأحكام الشرعية الدينية ، فلا بد من وضوحها وبيان معانيها ، ولا بد من وصف كيفيتها لسائر الناس ، دون اشتباه أو التباس ، فهن حجة الرب وعصمة العباد ، ودفع خصوم الباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به ) ([39]) ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي أنهم قالوا : المحكم الذي يعمل به ([40]) .
وأخر متشابهات كآيات الصفات من حيث اشتراك الألفاظ والكلمات عند تجردها عن الإضافة والتخصيص والتركيب لا من حيث المعنى المراد ، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، ألا يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرفن عن الحق ، ولهذا قال الله تعالى : } فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ { ، أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ، } فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ِ { ، إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها } ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ِ { أي تحريفه على ما يريدون ([41]) .
روى عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أنها قَالَتْ : ( تَلا رَسُولُ اللَّهِ S هَذِهِ الآيَةَ : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ { قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S : فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّي اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ) ([42]) .
وقوله تعالى : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ { ، يجب الوقف هاهنا ، إذا كان المقصود هو العلم بكيفية الحقائق الغيبية وكيفية الصفات الإلهية ، فلا يعلم ذلك إلا الله ، ويجوز الوقف على قوله سبحانه : } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ { إذا كان المقصود هو العلم بمعاني الآيات القرآنية ، سواء المتعلقة بالخالق أو المخلوق ، وكذلك كيفية أداء الأحكام الشرعية ، أو كيفية ما دلت عليه الآيات في الإخبار عن سائر المخلوقات في الدنيا .
قال ابن كثير : ( وأما إن أريد بالتأويل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء فالوقف على قوله : } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ { ، لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ) ([43]) .
(1) هود:1.
(2) الزمر:23 .
(3) آل عمران:7.
(4) الجصاص : أبو بكر ، (1405هـ ) أحكام القرآن ، تحقيق محمد الصادق قمحاوي ، بيروت ، نشر دار إحياء التراث العربي 2/286 .
(5) البقرة:118.
(6) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم (1401هـ) ، بيروت ، دار الفكر ، 1/163 .
(7) البقرة:70 .
(8) ابن قدامة : أبو محمد المقدسي ، (1406هـ) ، لمعة الاعتقاد الهادي إلي سبيل الرشاد ، ، تحقيق بدر بن عبد الله البدر ، الكويت ، نشر الدار السلفية ، ص 8:7 .
(9) الرفاعي : أحمد بن علي بن ثابت الحسيني ، (1408هـ) البرهان المؤيد ، ، تحقيق عبد الغني نكهمي ، بيروت ، نشر دار الكتاب النفيس ، ص 15.
(10) البقرة:78 .
(11) انظر في هذا المعني : ابن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 .
(12) الجمعة:5.
(13) البقرة:78 .
(14) الحنفي : ابن أبي العز ، شرح العقيدة الطحاوية 585 .
(15) ابن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 بتصرف .
(16) القصص: من الآية 88 .
(17) أحمد بن حنبل : أبو عبد الله الشيباني ، (1408هـ) ، العقيدة رواية أبي بكر الخلال ، تحقيق عبد العزيز عز الدين السيروان ، دمشق ، نشر دار قتيبة ، ص77.
(18) اللالكائي : شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/635 .
(19) ابن بطة : أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي (1418هـ) ، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة ، تحقيق د.عثمان عبد الله آدم الأثيوبي ، الرياض ، نشر دار الراية 3/70 .
(20) هود:1.
(21) آل عمران:7 .
(22) البقرة:3 .
(23) أخرجه البخاري في كتاب الآذان ، باب من قال فليؤذن في السفر مؤذن برقم (602) 1/226.
(24) السجدة:17 ، والحديث أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة ، برقم (3072) 3/1185.
(25) ابن جرير : أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر ، مراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر ، القاهرة ، طبعة دار المعارف ، 6/170 .
(26) سورة ص:29 .
(27) ابن تيمية : رسالة الإكليل ضمن مجموعة الرسائل 2/8 .
(28) محمد:24 .
(29) ابن تيمية : رسالة الإكليل 2/8 .
(30) ابن تيمية : رسالة الإكليل 2/15 .
(31) ابن قيم الجوزية : أبو عبد الله أحمد بن أبي بكر أيوب ، (1418هـ) ، الصواعق المرسلة علي الجهمية والمعطلة ، تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله ، الرياض ، نشر دار العاصمة ، 3/921 بتصرف .
(32) السابق : 3/921 .
(33) الأعراف:53 .
(34) يوسف:100.
(35) رواه البخاري في كتاب الأذان باب التسبيح والدعاء في السجود برقم (784) 1/281 .
(36) ابن القيم : الصواعق 3/921 بتصرف .
(37) السابق 3/921 بتصرف .
(38) السابق 3/922 بتصرف .
(39) ابن كثير : تفسير 1/347 ، وابن جرير :جامع البيان 3/172 ، والسيوطي :الدر المنثور 2/144.
(40) البغوي : أبو محمد الحسين بن مسعود ، (1407هـ) ، معالم التنزيل ، بيروت ، دار المعرفة ، 1/279.
(41) ابن كثير : تفسير 1/347.
(42) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب تفسير سورة آل عمران برقم (4273) 4/1655.
(43) ابن كثير : تفسير 1/348.
وهؤلاء لم يفهموا مراد السلف بقولهم لا يعلم تأويل المتشابه إلا الله ، فإن التأويل في عرف السلف ، المراد به الحقيقة التي يؤول إليه الكلام ، كالتأويل في مثل قوله تعالى : } هَلْ يَنظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ { ([33]) ، وكقوله تعالى : } وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا { ([34]) ، فتأويل الكلام الطلبي هو نفس فعل المأمور به والمنهي عنه ، تأويله تنفيذه ، كما قالت عائشة رضي الله عنها : ( كَانَ النَّبِيُّ S يُكْثِرُ أَنْ يَقُولَ فِي رُكُوعِهِ وَسُجُودِهِ سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا وَبِحَمْدِكَ اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي يَتَأَوَّلُ الْقُرْآنَ ) ([35]) .
وأما تأويل ما أخبر الله به عن نفسه وعن اليوم الآخر فهو وقوعة ، وهو نفس الحقيقة التي أخبر الله عنها ، وذلك في حق الله هو كنه ذاته وصفاته التي لا يعلمها غيره ، ولهذا قال مالك وربيعة : ( الاستواء معلوم والكيف مجهول ) ([36]) .
وفي رده على الخلف في زعمهم أن آيات الصفات من المتشابه الذي لا يعلم معناه إلا الله ، يذكر ابن القيم أن التشابه والإحكام نوعان ، تشابه وإحكام يعم الكتاب كله وتشابه وإحكام يخص بعضه دون بعض ، فإن أردتم بتشابه آيات الصفات النوع الأول فنعم هي متشابهة غير متناقضة يشبه بعضها بعضا ، وكذلك آيات الأحكام ، وإن أردتم أنه يشتبه المراد بها بغير المراد ، فهذا وإن كان يعرض لبعض الناس ، فهو أمر نسبي إضافي ، فيكون متشابها بالنسبة إليه دون غيره ، ولا فرق في هذا بين آيات الأحكام وآيات الصفات ، فإن المراد قد يشتبه فيهما بغيره على بعض الناس دون بعض ، وقد تنازع الناس في المحكم والمتشابه تنازعا كثيرا ولم يعرف عن أحد من الصحابة قط أن المتشابهات آيات الصفات بل المنقول عنهم يدل على خلاف ذلك ، فكيف تكون آيات الصفات متشابهة عندهم ، وهم لا يتنازعون في شيء منها ، وآيات الأحكام هي المحكمة ، وقد وقع بينهم النزاع في بعضها ؟ ([37]) .
والمقصود أنه لا يجوز أن يكون الله أنزل كلاما لا معنى له ، و لا يجوز أن يكون الرسول S وجميع الأمة لا يعلمون معناه كما يقول ذلك من يقوله من المتأخرين وهذا القول يجب القطع بأنه خطأ ، سواء كان مع هذا تأويل القرآن لا يعلمه الراسخون أو كان للتأويل معنيان يعلمون أحدهما و لا يعلمون الآخر ([38]) .
توجيه الوقف في الآية السابعة من آل عمران :_
وعلى هذا المنهج السلفي لفهم المحكم والمتشابه يمكن تفسير آية آل عمران ، بأن الله يخبر أن في القرآن آيات محكمات هن أم الكتاب ، أي بينات واضحات الدلالة ، لا التباس فيها على أحد ، سواء من جهة المعنى أو الكيفية ، وهي أصل الدين وقوام العبودية ، وتتمثل في الأحكام الشرعية الدينية ، فلا بد من وضوحها وبيان معانيها ، ولا بد من وصف كيفيتها لسائر الناس ، دون اشتباه أو التباس ، فهن حجة الرب وعصمة العباد ، ودفع خصوم الباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، وفي هذا يقول ابن عباس رضي الله عنهما : ( المحكمات ناسخه وحلاله وحرامه وحدوده وفرائضه وما يؤمر به ويعمل به ) ([39]) ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد وقتادة والضحاك ومقاتل بن حيان والربيع بن أنس والسدي أنهم قالوا : المحكم الذي يعمل به ([40]) .
وأخر متشابهات كآيات الصفات من حيث اشتراك الألفاظ والكلمات عند تجردها عن الإضافة والتخصيص والتركيب لا من حيث المعنى المراد ، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ، ألا يصرفن إلى الباطل ، ولا يحرفن عن الحق ، ولهذا قال الله تعالى : } فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ { ، أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل ، } فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ِ { ، إنما يأخذون منه بالمتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة ، وينزلوه عليها } ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِه ِ { أي تحريفه على ما يريدون ([41]) .
روى عَنْ عَائِشَةَ رَضِي اللَّه عَنْهَا أنها قَالَتْ : ( تَلا رَسُولُ اللَّهِ S هَذِهِ الآيَةَ : } هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ { قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ S : فَإِذَا رَأَيْتِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ، فَأُولَئِكِ الَّذِينَ سَمَّي اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ ) ([42]) .
وقوله تعالى : } وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلا اللَّهُ { ، يجب الوقف هاهنا ، إذا كان المقصود هو العلم بكيفية الحقائق الغيبية وكيفية الصفات الإلهية ، فلا يعلم ذلك إلا الله ، ويجوز الوقف على قوله سبحانه : } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ { إذا كان المقصود هو العلم بمعاني الآيات القرآنية ، سواء المتعلقة بالخالق أو المخلوق ، وكذلك كيفية أداء الأحكام الشرعية ، أو كيفية ما دلت عليه الآيات في الإخبار عن سائر المخلوقات في الدنيا .
قال ابن كثير : ( وأما إن أريد بالتأويل التفسير والبيان والتعبير عن الشيء فالوقف على قوله : } وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ { ، لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علما بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ) ([43]) .
(1) هود:1.
(2) الزمر:23 .
(3) آل عمران:7.
(4) الجصاص : أبو بكر ، (1405هـ ) أحكام القرآن ، تحقيق محمد الصادق قمحاوي ، بيروت ، نشر دار إحياء التراث العربي 2/286 .
(5) البقرة:118.
(6) ابن كثير : تفسير القرآن العظيم (1401هـ) ، بيروت ، دار الفكر ، 1/163 .
(7) البقرة:70 .
(8) ابن قدامة : أبو محمد المقدسي ، (1406هـ) ، لمعة الاعتقاد الهادي إلي سبيل الرشاد ، ، تحقيق بدر بن عبد الله البدر ، الكويت ، نشر الدار السلفية ، ص 8:7 .
(9) الرفاعي : أحمد بن علي بن ثابت الحسيني ، (1408هـ) البرهان المؤيد ، ، تحقيق عبد الغني نكهمي ، بيروت ، نشر دار الكتاب النفيس ، ص 15.
(10) البقرة:78 .
(11) انظر في هذا المعني : ابن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 .
(12) الجمعة:5.
(13) البقرة:78 .
(14) الحنفي : ابن أبي العز ، شرح العقيدة الطحاوية 585 .
(15) ابن تيمية : مجموع الفتاوى 5/9 بتصرف .
(16) القصص: من الآية 88 .
(17) أحمد بن حنبل : أبو عبد الله الشيباني ، (1408هـ) ، العقيدة رواية أبي بكر الخلال ، تحقيق عبد العزيز عز الدين السيروان ، دمشق ، نشر دار قتيبة ، ص77.
(18) اللالكائي : شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 4/635 .
(19) ابن بطة : أبو عبد الله عبيد الله بن محمد العكبري الحنبلي (1418هـ) ، الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية ومجانبة الفرق المذمومة ، تحقيق د.عثمان عبد الله آدم الأثيوبي ، الرياض ، نشر دار الراية 3/70 .
(20) هود:1.
(21) آل عمران:7 .
(22) البقرة:3 .
(23) أخرجه البخاري في كتاب الآذان ، باب من قال فليؤذن في السفر مؤذن برقم (602) 1/226.
(24) السجدة:17 ، والحديث أخرجه البخاري في كتاب بدء الخلق ، باب ما جاء في صفة الجنة ، برقم (3072) 3/1185.
(25) ابن جرير : أبو جعفر محمد ابن جرير الطبري ، جامع البيان عن تأويل آي القرآن ، ، تحقيق الأستاذ محمود محمد شاكر ، مراجعة الشيخ أحمد محمد شاكر ، القاهرة ، طبعة دار المعارف ، 6/170 .
(26) سورة ص:29 .
(27) ابن تيمية : رسالة الإكليل ضمن مجموعة الرسائل 2/8 .
(28) محمد:24 .
(29) ابن تيمية : رسالة الإكليل 2/8 .
(30) ابن تيمية : رسالة الإكليل 2/15 .
(31) ابن قيم الجوزية : أبو عبد الله أحمد بن أبي بكر أيوب ، (1418هـ) ، الصواعق المرسلة علي الجهمية والمعطلة ، تحقيق د. علي بن محمد الدخيل الله ، الرياض ، نشر دار العاصمة ، 3/921 بتصرف .
(32) السابق : 3/921 .
(33) الأعراف:53 .
(34) يوسف:100.
(35) رواه البخاري في كتاب الأذان باب التسبيح والدعاء في السجود برقم (784) 1/281 .
(36) ابن القيم : الصواعق 3/921 بتصرف .
(37) السابق 3/921 بتصرف .
(38) السابق 3/922 بتصرف .
(39) ابن كثير : تفسير 1/347 ، وابن جرير :جامع البيان 3/172 ، والسيوطي :الدر المنثور 2/144.
(40) البغوي : أبو محمد الحسين بن مسعود ، (1407هـ) ، معالم التنزيل ، بيروت ، دار المعرفة ، 1/279.
(41) ابن كثير : تفسير 1/347.
(42) أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن ، باب تفسير سورة آل عمران برقم (4273) 4/1655.
(43) ابن كثير : تفسير 1/348.
No comments:
Post a Comment