بسم الله الرحمن الرحيم
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدِّين كُلِّه ولو كره المشركون ، وصلى الله على نبينا محمد وآله ، وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
فلا يخفى عليكم أن كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني من أعظم كتب المسلمين ..
إلا أن عمل البشر ـ مهما بلغ صاحبه من العلم ـ لا بد فيه من النقص .. وهذا النقص يختلف من كتاب لآخر كمـا ، ونوعا ..
ومن المعلوم أنّ من النقص الذي لا يحسن التساهل معه ما كان متعلقا بالعقيدة ؛ إذ هي أغلى ما مع العبد ، وأولى ما يحافظ عليه .
وعندما أراد الإخوة في دار طيبة ـ وفقهم الله ـ إخراج الكتاب بتحقيق الشيخ أبي قتيبة نظر الفاريابي ، كان في مقدمة اهتماماتهم التعليق على ما ورد في الكتاب مما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة ؛ فكان أن يسر الله لهذه المهمة الكريمة الشيخ عبد العزيز الجليل ـ حفظه الله ـ ، فقام بعرض فكرة التعليق على الشيخ عبد الرحمن البراك ـ حفظه الله ـ = فشرح الله صدره لذلك ، فعلق على مواضع كثيرة بيَّن فيها الحق ـ مذهب أهل السنة والجماعة ـ بيانا شافيا .
وعناية الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك في هذا الباب ظاهرة مشهورة فقد أمضى حفظه الله قريبا من نصف قرن في تدريس العقيدة السلفية ونشرها للناس جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء.
ولما كان من الصعب وصول الكتاب لإخواننا المسلمين في بعض البلاد ، أو عدم قدرة بعضهم على اقتنائه = عقدت العزم على نقل تلك التعليقات النفيسة النافعة ؛ لينتفع بها الإخوة .
تنبيه : العزو للطبعة السلفية الأولى .
تنبيه آخر: سألتُ الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله ونفع به : هل قرأ الشيخ عبد العزيز الجليل عليكم الفتح كاملا ثم علقتم عليه ؟ أو أخرج المواضع التي فيها مخالفة وعلقتم عليها ؟
فقال ـ حفظه الله ـ لم يقرأه كاملا ، بل أخرج المواضع التي فيها مخالفة وقرأها عليّ ، وعلقت عليها . هذا معنى سؤالي وجواب الشيخ ـ حفظه الله ـ لا نصه .
نقله على الشبكة العنكبوتية
عبدالرحمن بن صالح السديس
1 - قال الحافظ في المقدمة ص 136 :
قـــوله " استوى على العرش " هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى ، ووقع تفسيره في الأصل .اهـ
الشيخ البراك : قولــه : " هو من المتشابه ... الخ " إن أراد ما يشتبه معناه على بعض الناس فهذا حق ؛ فإن نصوص الصفات ومنها الاستواء قد خفي معناها على كثير من الناس ، فوقعوا في الاضطراب فيها وعلِم العلماء من السلف وأتباعهم معانيها المرادة منها، فأثبتوها، وفوضوا علم حقائقها وكيفياتها إلى الله تعالى؛ كما قال الإمام مالك وشيخه ربيعة لما سـئل عن الاستواء: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب" وهذه قاعدة يجب اتباعها في جميع صفات الله تعالى ، وقد فسر السلف الاستواء: بالعلو والارتفاع والاستقرار.
وإن أراد بالمتشابه: (ما لا يفهم معناه أحد، فيجب تفويض علم معناه إلى الله تعالى) فهذا قول أهل التفويض من النفاة المعطلة ، وهو باطل؛ لأنه يقتضي أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمه أحد ، وهذا خلاف ما وصف الله به كتابه من البيان والهدى والشفاء.
وهذا الاحتمال الثاني هو الذي يقتضيه سياق الحافظ عفا الله عنه.
2- قال الحافظ في المقدمة ص 208 :
قوله : (أطولهن يدًا) أي: أسمحهن، ووقــع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافًا إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات ، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به ؛ فمنهم من وقف ولم يتأول، ومنهم من حمل كل لفظ منهــا على المعنى الــذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك.اهـ
قال الشيخ البراك: قوله: "واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة... الخ": لفظ الجارحة لم يرد إطلاقه في الكتاب والسنة ولا في كلام السلف على صفة الرب سبحانه ؛ لا نفيًا ولا إثباتًا، وهو لفظ مجمل ، فيجب التفصيل فيه نفيًا وإثباتًا ؛ فإن أريد بالجارحة الـيد التي تماثل أيدي المخلوقين ، فيد الله سبحانه ليست مثل يد أحد من الخلق .
وإن أريد بالجارحة اليد التي يكون بها الفعل، والأخذ، والعطاء، ومن شأنها القبض والبسط ؛ فيد الله كذلك ؛ فقد خلق آدم بيديه، ويأخذ أرضه وسماءه يوم القيامة بيديه، ويقبض يديه ويبسطهما كما جاء في الكتاب والسنة؛ فالنافي للمعنى الأول محق ، والنافي للمعنى الثاني مبطل.
ولا ريب أن أهل السنة متفقون على نفي مماثلة الله لخلقه في شيء من صفاته ـ لا اليد ولا غيرها ـ بل يثبتونها لله سبحانه على الوجه اللائق به مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
وقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "واتفق أهل السنة والجماعة": يدخل فيهم الأشاعرة ونحوهم من طوائف الإثبات كما يقتضيه آخر كلامه ، ومذهبهم في صفة اليدين لله نفي حقيقتهما ، ثم لهم في النصوص الواردة بذكر اليدين أحد منهجين:
إما التفويض، أي: تفويض المعنى.
وإما التأويل: بصرف لفظ اليد عن المعنى المتبادر ـ وهو الراجح ـ إلى معنى مرجوح كالقدرة والنعمة.
وهو صرف للكلام عن ظاهره بغير حجة صحيحة يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف.
3 – قال الحافظ في الفتح 1 / 46 :قوله : ( وهو ) أي الإيمان ( قول وفعل يزيد وينقص ) ... والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته ، والسلف جعلوها شرطًا في كماله.
قال الشيخ البراك: قوله: "والفارق بينهم وبين السلف .... الخ": هذا الفرق بين المعتزلة والسلف لا يستقيم سواء أريد بشرط الصحة أو شرط الكمال: جنس العمل ، أو أنواع العمل الواجبة ، أو الواجبة والمستحبة ؛ فإن الأعمال المستحبة من كمال الإيمان المستحب، فلا تكون شرطاً لصحة الإيمان، ولا لكماله الواجب.
وأما الأعمال الواجبة: فليس منها شرط لصحة الإيمان عند جميع أهل السنة، بل بعضها شرط لصحة الإيمان عند بعض أهل السنة كالصلاة.
وأما عند المعتزلة: فالمشهور من مذهبهم ومذهب الخوارج أن ما كان تركه كبيرة فهو شرط لصحة الإيمان، وعلى هذا فلا يصح أن يقال: إن جنس العمل عندهم شرط لصحة الإيمان؛ لأن ذلك يقتضي أن الموجب للخروج عن الإيمان عندهم هو ترك جميع الأعمال، وليس كذلك، بل يثبت عندهم الخروج عن الإيمان بارتكاب ما هو كبيرة.
وأما عند السلف: فعمل الجوارح تابع لعمل القلب، وجنس عمل القلب شرط لصحة الإيمان، وجنس عمل الجوارح تابع أو لازم لعمل القلب، فيلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فإن الإعراض عن جميع الأعمال دليل على عدم انقياد القلب.
هذا، ولا أعلم أحدا من أئمة السلف أطلق القول بأن الأعمال شرط أو ليست شرطا لصحة الإيمان أو كماله ، وإنما المأثور المشهور عنهم قولهم: "الإيمان قول وعمل" أو "قول وعمل ونية" ؛ يقصدون بذلك الرد على المرجئة الذين أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، وخصوا الإيمان بالتصديق، أو التصديق والإقرار باللسان.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ بإطلاق القول بأن الأعمال شرط لصحة الإيمان عند المعتزلة، وشرط لكماله عند السلف ليس بمستقيم لما تقدم.
4– قال الحافظ ابن حجر 1 / 157 : " قوله " فاستحيا الله منه " أي رحمه ولم يعاقبه .
قوله : " فأعرض الله عنه " أي سخط عليه ، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر ، هذا إن كان مسلما ، ويحتمل أن يكون منافقا ، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره ، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : فأعرض الله عنه " إخبارا أو ادعاء .
قال الشيخ البراك : قوله: "فاستحيا الله منه أي رحمه"، وقوله: "فأعرض الله عنه أي سخط عليه": في هذا التفسير للاستحياء والإعراض من الله عدول عن ظاهر اللفظ من غير موجب، والحامل على هذا التفسير عند من قال به هو اعتقاده أن الله لا يوصف بالحياء أو الإعراض حقيقة؛ لتوهم أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، وليس كذلك بل القول في الاستحياء والإعراض كالقول في سائر ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات، والواجب في جميع ذلك هو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، وقد ورد في الحديث: "إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" [أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه].
وفي ذكر الاستحيـاء والإعراض في هذا الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، وشواهده كثيرة .
5 – قال الحافظ في الفتح 1 / 229 : قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" أي لا يأمر بالحياء في الحق.
قال الشيخ البراك : قوله: "أي لا يأمر بالحياء في الحق": ليس في هذا تفسير للاستحياء مضافا إلى الله عز وجل، ولا تفسير لنفي الاستحياء؛ فليس فيه تعرض لإثبات الاستحياء أو نفيه عن الله عز وجل، بل هو بيان للمراد من سياق هذا الخبر في قوله: "لا يستحيي من الحق"، وهو المعنى الذي قدمت به أم سليم لسؤالها . وانظر: التعليق رقم (4)
6– قال الحافظ في الفتح 1 / 352 : "والمراد باليد هنا القدرة".
قال الشيخ البراك : قوله: "والمراد باليد القدرة": يريد في قول ابن مسعود: "والذي نفسي بيده"، وهذا القسم كثيراً ما يقسم به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: والذي نفسي في ملكه يتصرف فيها بقدرته ومشيئته. هذا هو معنى الكلام مركبا، فإذا أراد الحافظ أو غيره بقولهم: "المراد باليد هنا القدرة"
المعنى المراد من جملة القسم كان صحيحا، وإن أراد أن يد الله المراد بها قدرته؛ فهذا جار على مذهب أهل التأويل من نفاة الصفات الذين ينفون عن الله عز وجل حقيقة اليدين، ويؤولون ما ورد في النصوص بالقدرة أو النعمة. وهو تأويل باطل مبني على باطل، وهو: اعتقاد نفي حقيقة اليدين عن الله عز وجل. وهذا التأويل صرف للنصوص عن ظاهرها، كقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"، فلو كان المراد باليدين القدرة لما كان بين آدم وإبليس فرق؛ إذ الكل مخلوق بالقدرة. والحافظ رحمه الله جار في صفة اليد لله تعالى على طريق النفاة.
وانظر: تعليق رقم (2) .
7 - قال الحافظ في الفتح1/508:
"والمراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى، ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا، والمعنى: إقباله عليه بالرحمة والرضوان".
قال الشيخ البراك: قوله: "ومن قبل الرب لازم ذلك ... الخ": هذا القول يتضمن نفي حقيقة المناجاة عن الله عز وجل. والمناجاة هي المسارة في الحديث. وقد ثبتت إضافة المناجاة إلى الله عز وجل في قولـه سبحـانه: "وقربناه نجيا"؛ فالله عز وجل كلم موسى عليه السلام فناداه وناجاه، فهو كليم الله ونجيه. وليس في هذا الحديث ذكر للمناجاة من الله تعالى، بل المناجاة في الحديث من طرف العبد. ونفي حقيقة المناجاة هو مذهب من ينفي الكلام عن الله تعالى من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب من يقول إن كلام الله معنى نفسي ليس بحرف ولا صوت كالكلابية والأشاعرة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ويكلم من شاء، فيسمعه كلامه؛ فموسى عليه السلام سمع كلام الله من الله. وهكذا الأبوان في قوله سبحانه: "وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ..." الآية. والذي يظهر أن الحافظ رحمه الله تعالى مشى في صفة المناجاة على مذهب أهل التأويل من الأشاعرة.
8- قال الحافظ ابن حجر 1/508: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته "
[أي:حديث : إن ربه بينه وبين القبلة]
قال الشيخ البراك : وقوله: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته...الخ": هذا صريح في أن الحافظ ـ عفا الله عنه ـ ينفي حقيقة استواء الله على عرشه ؛ وهو علوه وارتفاعه بذاته فوق عرشه العظيم.
وهذا مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب كل من ينفي علو الله على خلقه؛ ومنهم الماتريدية ومتأخرو الأشاعرة ؛ وهو مذهب باطل مناقض لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة.
ومذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وجميع أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه؛ أي ليس حالاً في مخلوقاته، ولا ينافي ذلك أنه مع عباده أينما كانوا، وأنه تعالى يقرب مما شاء متى شاء كيف شاء. وكذلك لا ينافي علوه واستواؤه على عرشه ما جاء في هذا الحديث من أنه سبحانه قِِبل وجه المصلي، أو بينه وبين القبلة؛ فالقول فيه كالقول في القرب والمعية؛ كل ذلك لا ينافي علوه ولا يوجب حلوله تعالى في شيء من المخلوقات؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
"ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة; مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أين ما كنتم }، وقوله صلى الله عليه وسلم: { إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه }، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }؛ فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: { والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه }؛ وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى؛ فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك; وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.... وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
{ إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه } الحديث. حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى - ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به} فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ هذا القمر: كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم". [مجموع الفتاوى 5 / 102 – 107 باختصار].
9 – قال الحافظ 1 / 514 : " ويستفـــاد منه أن التحسين والتقبيــــح إنما هو بالشرع ... ".
قال الشيخ البراك : قوله: "ويستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع": المراد بالتحسين والتقبيح: الحكم على الشيء بأنه حسن أو قبيح، وقد اختلف الناس فيما يعرف به حسن الأشياء وقبحها:
فمذهب المعتزلة: أن ذلك يعرف بالعقل، وأن حُسْن الحَسَنْ وقبح القبيح ذاتيان، وأن الشرع كاشف لذلك .
ومذهب الأشاعرة: أن الأشياء في ذاتها مستوية لاشتراكها في الصدور عن المشيئة، وإنما تكسب الحسن والقبح بالشرع؛ فالحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه، فالحسن والقبح عندهم شرعيان لا عقليان، ويجوز عندهم أن يأمر الله بما نهى عنه فيصير حسناً، وينهى عما أمر به فيصير قبيحاً. وهذا ظاهر الفساد.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن حسن الأشياء وقبحها يعرف بالعقل والشرع؛ فما أمر به الشرع فهو حسن في ذاته ، وزاده الأمر به حسناً، وما نهى عنه الشرع قبيح وزاده النهي قبحاً؛ فالحُسْن والقبح عند أهل السنة شرعيان وعقليان، ولكن الحكم بالوجوب والتحريم، وترتب العقاب موقوف على الشرع.
وبهذا يتبين أن الحافظ رحمه الله تعالى يذهب في التحسين والتقبيح مذهب الأشاعرة، ودعواه أن ذلك مما يستفاد من الحديث، وتوجيه ذلك بأن جهة اليمين مفضلة على اليسار وأن اليد مفضلة على القَدَم - يعني في الشرع - دعوى غير صحيحة. وما ذكره من الدليل هو حجة على خلاف ما ذهب إليه؛ فإن تفضيل اليمين على الشمال، واليد على القدم كما قد دل عليه الشرع فقد شهد به العقل والفطرة؛ فكل عاقل يدرك قبل ورود الشرع فضل الوجه على الدبر، وفضل اليد على الرجل، وفضل اليمين على الشمال، فتطابق على ذلك الشرع والعقل.
10– قال الحافظ 1 / 514 : " لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ، ولا مقابلة ، ولا قرب ... " .
قال الشيخ البراك: قوله: "لأن الحق عند أهل السنة والجماعة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضوا ... إلخ": مراد الحافظ بأهل السنة هنا الأشاعرة، وهو يشير عفا الله عنه بهذا الكلام إلى مذهبهم في الرؤية؛ أي في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهو أنه سبحانه وتعالى يُرى لا في جهة؛ فلا يقولون إن المؤمنين يرونه من فوقهم، ولا بأبصارهم، ولامع مقابلة. وهذا كله مبني على نفي علوه سبحانه؛ فحقيقة قولهم في الرؤية موافق لمن ينفيها كالمعتزلة؛ فإن قولهم يُرى لا في الجهة معناه أنه يُرى لا من فوق، ولا من تحت، ولا من أمام، ولا من خلف، ولا عن يمين، ولا عن شمال؛ وحقيقة هذا نفي الرؤية، فكانوا بهذا الإثبات على هذا الوجه متناقضين موافقين في اللفظ لأهل السنة بدعوى إثباتهم للرؤية، وموافقين في المعنى للمعتزلة. وليس في الحديث دليل على جنس هذه الرؤية، بل في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يراهم من أمامه ومن خلفه.
وقوله : "إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" يدل على أن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم من فوقهم من غير إحاطة؛ فقد شبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي، ولعل الحافظ يريد بأهل البدع المعتزلة.
11– قال الحافظ 2 / 144 : في قوله : " سبعة يظلهم الله في ظله " قال عياض: " إضافة الظل إلى الله إضافة ملك ، وكذا قال ، وكان حقه أن يقول : إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره ، وقيل : المراد بظله : كرامته وحمايته كما يقال : فلان في ظل الملك .
قال الشيخ البراك: قوله : "سبعة يظلهم الله في ظله": المتبادر أن المراد بالظل هنا ما يستظل به ويتقى به من الحر، وهو أثر الحائل المانع من شعاع الشمس، والظاهر أن المراد بالظل المضاف إلى الله عز وجل في الحديث هو ما يظل به عباده الصالحين يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، وهو أثر أعمالهم الصالحة كما في الحديث: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس...". [انفرد به أحمد وسنده متصل ورجاله ثقات].
وعلى هذا فهذا الظل مخلوق وإضافته إلى الله سبحانه إضافة ملك وتشريف كما قال عياض والحافظ رحمهما الله تعالى، وليس إضافة صفة إلى موصوف؛ فلا يقال: إن لذات الله ظلاً أخذاً من هذا الحديث؛ لأن الظل مخلوق كما قال سبحانه: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل"، والمخلوق ليس صفة للخالق، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يوم لا ظل إلا ظله" يعني يوم القيامة. ومعناه: ليس لأحد ما يستظل به من حر الشمس إلا من له عمل صالح يجعل الله له به ظلا، وذلك من ثواب الله المعجل في عرصات القيامة.
هذا ولم أقف لأحد من أئمة السنة على تفسير للظل في هذا الحديث ، وهل هو صفة او مخلوق ، وما ذكرته هو ما ظهر لي، والله أعلم بالصواب.
12– قال الحافظ: 3 / 158 : " وفي هذا الحديث من الفوائد : – غير ما تقدم – جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم ، وجواز القسم عليهم لذلك "
قال الشيخ البراك: قوله: "في هذا الحديث من الفوائد – غير ما تقدم – جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر .... الخ": في هذا الاستنباط نظر؛ فإن التي استحضرت الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته، ويحتمل أن يكون استحضارها للرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة وحكم القرابة ليسليها ويواسيها، ومما يؤكد رغبتها في ذلك أن أباها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حضوره برد لحر المصاب، ولهذا أقسمت عليه بالمجيء، ولمَّا أقسمت عليه بر بقسمها. ولا ريب أنه يجوز استحضار من ينتفع بحضوره لدى المحتضر في أمر دين أو دنيا مما يعود إلى المحتضر أو أهله بالفائدة، ولا ريب أن استحضار من ينفع المحتضر وأهله بعلمه وتوجيهه مما يرغب فيه. وينبغي حمل قول الحافظ: "لرجاء بركتهم ودعائهم" على هذا؛ لأن مجالسة أهل العلم والصلاح فيها خير وبركة لمجالسيهم.
13– قال الحافظ 3 / 463 : وقال المهلب : حديث عمر هذا يرد على من قال : إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده ، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة .
قال الشيخ البراك : قوله: "حديث عمر هذا يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده": هذا المعنى الذي نفاه قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، وقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما يعرف من قول ابن عباس. ولفظه: "إن الحجر يمين الله في الأرض، فمن استلمه وقبله فكأنما صافح الله و قبل يمينه". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "قوله : ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال : ( يمين الله في الأرض ) ، وقال : (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) ومعلوم أن المشبه غير المشبه به؛ ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً وأنه محتاج إلى تأويل؟!".
[ التدمرية ص: 73،72 ، ط العبيكان، تحقيق د. السعوي]
وقوله: "ومَعاذ الله أن يكون لله جارحة":
انظر: تعليق رقم (2) .
14- قال الحافظ 4 / 105 - 106 حديث رقم ( 1894 ): قوله : " أطيب عند الله من ريح المسك " اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك – مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح؛ إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه – على أوجه:
قال المازري : هو مجاز؛ لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك للصوم لتقريبه من الله ، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم ، أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، وقيل: المراد أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك .
وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهو قريب من الأول، وقيل: المراد أن الله تعالى يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جرحه تفوح مسكاً.
وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض.
وقال الداودي وجماعة: المعنى أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح النووي هذا الأخير، وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا، فحصلنا على ستة أوجه".
قال الشيخ البراك : قوله: "... مع أنه سبحانه تعالى منزه عن استطابة الروائح ... إلخ": هذا الجزم من الحافظ رحمه الله بنفي صفة الشم عن الله تعالى الذي هو إدراك المشمومات لم يذكر عليه دليلاً إلا قوله: "إذ ذاك من صفة الحيوان"، وهذه الشبهة هي بعينها شبهة كل من نفى صفة من صفات الله سبحانه من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة. وهي شبهة باطلة؛ فما ثبت لله تعالى من الصفات يثبت له على ما يليق به ويختص به كما يقال ذلك في سمعه وبصره وعلمه وسائر صفاته. وصفة السمع ليس في العقل ما يقتضي نفيها فإذا قام الدليل السمعي على إثباتها وجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، وهذا الحديث - وهو قوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" - ليس نصاً في إثبات الشم، بل هو محتمل لذلك، فلا يجوز نفيه من غير حجة، وحينئذ فقد يقال: إن صفة الشم لله تعالى مما يجب التوقف فيه لعدم الدليل البين على النفي أو الإثبات فليتدبر، والله أعلم بمراده ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد قال ابن القيم عند هذا الحديث: "بعد ذكر كلام الشراح في معنى طيبه وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم والرضا بفعله، على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة، حتى كأنه قد بورك فيه فهو موكل به. وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته؟ وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له. ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلوماً بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة، وأدنى أحوالها أن تكون شهادة بلا علم.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثل النبي هذا الخلوف عند الله بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم. ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم، وأفعاله لا تشبه أفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا. ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا، فإن قال رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب. [ الوابل الصيب، ص 44 – 45 ط دار الصحابة للتراث، ت: مصطفى العدوي ]. ويلاحظ أن ابن القيم اقتصر على لفظ الاستطابة دون لفظ الشم وقوفاً مع لفظ الحديث.
15 – قال الحافظ ابن حجر 4 / 253 على حديث رقم ( 2010 ): " والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشــرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة".
قال الشيخ البراك : قوله: "والتحقيق أنها إن كانت – أي البدعة – مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة .... إلخ": تقسيم البدعة في الشرع إلى حسنة محمودة وسيئة مذمومة مذهب لبعض العلماء، وهو راجع إلى التوسع في معنى البدعة؛ وذلك بالنظر إلى معناها اللغوي ، فإنه يشمل كل ما أحدث في الإسلام مما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كانت أصول الشريعة تقتضيه . ويجري على ذلك قول عمر رضي الله عنه في جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد ، وقد أدى هذا المذهب إلى التذرع به في تسويغ كل ما استحسنه الناس بآرائهم ، وعَدُّوه من الدين.
والتحقيق أن كل بدعة في الدين فهي سيئة مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وعلى هذا فما تقتضيه أصول الشريعة مما أحدث بعد موته صلى الله عليه وسلم ليس بدعة شرعية بل لغوية.
16 – قال الحافظ 5 / 183 على حديث رقم ( 2559 ): "وقد قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره، وقال: صورة لا كالصورة، انتهى.
وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، وأحمد من طريق ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تقولوا: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته" وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك ...".
قال الشيخ البراك : قوله: "قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره .. إلخ": ابن قتيبة يعرف بخطيب أهل السنة ، وله جهود في الرد على الزنادقة والمعتزلة كما في "تأويل مختلف الحديث" له.
وما ذهب إليه ابن قتيبة رحمه الله تعالى من إثبات الصورة لله عز وجل، وأنها ليست كصورة أحد من الخلق ـ فله سبحانه وتعالى صورة لا كالصور ـ هو مذهب جميع أهل السنة المثبتين لكل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكما يقولون: له وجه لا كوجوه المخلوقين، يقولون: له صورة لا كصور المخلوقين، وقد دل على إثبات الصورة لله عز وجل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: "وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها"، وهو نص صريح لا يحتمل التأويل، فلهذا لم يخالف أحد من أهل السنة في دلالته.
وأما حديث: "فإن الله خلق آدم على صورته" فقد استدل به أكثر أهل السنة على إثبات الصورة أيضاً، وردوا الضمير إلى الله تعالى، وأيدوا ذلك برواية من رواياته بلفظ: "على صورة الرحمن". ومن رد الضمير إلى آدم عليه السلام أو إلى المقاتل - وقصده نفي الصورة عن الله تعالى - فهو جهمي كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ونفي الصورة هو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية ، ومنشأ ذلك هو توهم التشبيه في صفات الله تعالى ، فزعموا أن إثبات الصورة أو الوجه أو اليدين ونحو ذلك يستلزم التشبيه بالمخلوقات ، وهي حجة داحضة ، وطردها يستلزم نفي وجود الله سبحانه وتعالى .
ومن رد من أهل السنة الضمير إلى آدم عليه السلام وضعَّف رواية " على صورة الرحمن " فليس مقصوده التوصل إلى نفي الصورة عن الله عز وجل، وليس من مذهبه ذلك ، بل رأى لفظ هذا الحديث " خلق الله آدم على صورته " محتملا ، فترجح عنده عود الضمير إلى آدم أو إلى المقاتل. وهو منازع في تضعيفه لتلك الرواية وفي هذا الترجيح .
وبهذا يتبين أن إثبات الصورة لله عز وجل لا يتوقف على دلالة حديث " خلق الله آدم على صورته " ، ونقول : بل غلط المازري عفا الله عنه ، ولم يغلط ابن قتيبة.
17 – قال الحافظ 5 / 292 على حديث رقم ( 2685 ) : قوله : " أحدث الأخبار بالله " أي أقربها نزولا إليكم من عند الله عز وجل ، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم ، وهو في نفسه قديم " .
قال الشيخ البراك قوله: " فالحديث بالنسبة إلى المنزل إليهم ، وهو في نفسه قديم ": يريد أن وصف القرآن بأنه (حديث ) باعتبار نزوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأما نفس القرآن ، فهو قديم .
والقديم هو الذي لا بداية لوجوده ، وهذا جار على مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ فإن كلام الله عندهم هو معنى نفسي ليس هو حروف وأصوات، وهو معنى واحد لا تعدد فيه ، وهو قديم لا تتعلق به مشيئة الله سبحانه ، فعندهم أن هذا القرآن المسموع المتلو المكتوب ليس هو كلام الله حقيقة ، بل هو عبارة عن ذلك المعنى النفسي .
وهذا خلاف ما عليه سلف الأمة وأئمتها وجميع أهل السنة ؛ فعندهم أن الله لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء ، كيف شاء ، وأنه يُسمِع كلامه من يشاء؛ فموسى عليه السلام سمع كلام الله من الله سبحانه، فعندهم أن القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف ، كما قال تعالى : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ، وهو منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، وعلى هذا فأهل السنة لا يقولون: القرآن قديم ، ولا يطلقون القول بأن كلام الله قديم ، بل يقولون : إن الله لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء ، أو يقولون : قديم النوع حادث الآحاد .
ومذهب الأشاعرة في كلام الله وفي القرآن هو أقرب إلى مذهب المعتزلة ، وهو يتضمن تشبيه الله سبحانه بالأخرس ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا .
18 – قال الحافظ 5 / 341 عـلى الحديثين رقم ( 2731 ، 2732)
: " وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل ، والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة ".
انظر : تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هامش 1 / 327 .
19 – قال الحافظ 5/ 351 على الحديثين رقم ( 2731 ، 2732)
" وفي رواية موسى بن عقبة ، عن الزهري : فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير ، فقدم كتابه وأبو بصير يموت ، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وجعل عند قبره مسجدًا ... " .
قال الشيخ البراك قوله: " وجعل عند قبره مسجدًا ": هذه الرواية منكرة لا تصح سندًا ولامتنًا ؛ فإن بناء المساجد على القبور مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا بالغًا؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الذين يبنون المساجد على قبور الصالحين " أولئك شرار الخلق " ؛ وذلك أن اتخاذ القبور مساجد من أعظم وسـائل الشـرك ، فيمتنع مع هذا أن يبني أبو جندل مسـجـدًا عنـد قبر أبي بصير ، كيف وهو في عصر النبوة، والمعروف أن بناء المساجد على القبور لم يعرف في الإسلام إلا بعد القرون المفضلة؟! والذي يظهر أن قوله : " وجعل عند قبره مسجدًا " ليس في أصل رواية موسى بن عقبة ، وأن قوله " جُعل " مبني للمجهول ، فيكون الفاعل غير أبي جندل ، ولعلها من قول الحافظ أو غيره ، وأن أصل العبارة " وقد جعل " فليحرر من مغازي موسى بن عقبة.اهـ
أضاف الناشر: في رواية معمر عن الزهري: (...ورد كتاب النبي وأبو بصير في الموت يجود بنفسه، فأعطي الكتاب فجعل يقرأه ويُسرُّ به حتى قبض والكتاب على صدره، فبُني عليه هناك مسجد يرحمه الله) [الروض الأنف 7/79 ط.دار إحياء التراث العربي] فورد الفعل (بُني) بصيغة ما لم يسم فاعله، ووردت لفظة (مسجد) مرفوعة على أنها نائب فاعل، وهذا يعني أن بناء المسجد لم يكن من أبي جندل رضي الله عنه، ويحتمل أنه حدث بعد ذلك بزمن طويل.
وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" للدكتور أكرم العمري 2/451،452 بالهامش حيث ذكر رواية الزهري من مخطوط، ولم يذكر فيها قصة بناء المسجد.
والذي في "الإصابة" في ترجمة أبي بصير (6/375): (وعند موسى بن عقبة في المغازي من الزيادة في قصته: ...ولما كتب النبي إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، ورد الكتاب وأبو بصير يموت، فمات وكتاب النبي في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه). فلعله التبس على بعض النقلة عن موسى بن عقبة جملة: (وصلى عليه) بجملة: (بُني عليه هناك مسجد) أو جملة: (جعل عند قبره مسجدًا).
وانظر تعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز هامش 1 / 525 .
20 – قال الحافظ 6 / 40 على حديث رقم ( 2826) قوله : " يضحك الله إلى رجلين " قال الخطابي : الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى ، وإنما هذه مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم ، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما .
قال : وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة ، وهو قريب ، وتأويله على معنى الرضا أقرب ، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول .
قال : والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء ، فيكون المعنى في قوله : " يضحك الله " أي يجزل العطاء .
قال : وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما ، وهذا يتخرج على المجاز ، ومثله في الكلام يكثر " .
قال الشيخ البراك: قول الخطابي: " الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب .... إلخ ":
مذهب أهل السنة في الضحك المضاف إلى الله تعالى في هذا الحديث وغيره إثباته لله عز وجل على ما يليق به ويختص به ، وأنه ضحك لا كضحك المخلوقين كما يقولون مثل ذلك في سائر ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ؛ فعندهم أنه تعالى يضحك حقيقة، والضحك منه تعالى غير العجب، وغير الرحمة والرضا، لكنه يتضمن هذه المعاني أو يستلزمها.
ونفي حقيقة الضحك عن الله تعالى هو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة. وليس لهذا النفي من شبهة إلا من جنس ما تُنفى به سائر الصفات. ثم إن الذين نفوا الضحك عن الله عز وجل من الأشاعرة أو من وافقهم منهم من يسلك في النصوص طريقة التفويض فلا يفسرها، ولا يثبت ظاهرها إلا بلفظ دون معنى، ومنهم من يسلك فيها طريقة التأويل فيفسرها بما يخالف ظاهرها؛ وهذا هو الذي سلكه الخطابي فيما نقله عنه الحافظ رحمهما الله تعالى، وعفا عنهما.
ونقول: نعم، الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى؛ فإن ذلك ضحك البشر وهو مختص بهم، وضحك الرب سبحانه مختص به. فليس الضحك كالضحك، كما يقال مثل ذلك في قدرته وإرادته وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى.
وقول الخطابي: " وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة " فيه نظر، والأشبه أن هذا لا يصح عن البخاري، ويؤيد ذلك قول الحافظ رحمه الله تعالى عندما نقل قول الخطابي عن البخاري في كتاب التفسير حديث ( 4889 ) حيث قال: "قال الخطابي: وقال أبو عبد الله : معنى الضحك هنا الرحمة" قلت: - أي الحافظ - ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري.
21 – قال الحافظ 6 / 40 على حديث رقم ( 2826): قال: " وقال ابن الجوزي: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرونه كما جاء، وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه.
قلت: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بإلى، تقول: ضحك فلان إلى فلان، إذا توجه إليه طلق الوجه، مظهرا للرضا عنه " .
قال الشيخ البراك : قول ابن الجوزي: " أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرون كما جاء .... إلخ ":
المعروف عن ابن الجوزي نفي حقائق الصفات الخبرية - مثل الضحك والفرح - كما هو مذهب جمهور الأشاعرة. ثم إن كثيرًا منهم يفسر النصوص الواردة في تلك الصفات بما يخالف ظاهرها، كما فسروا المحبة والرضا بإرادة الإنعام.
وقد يفسرون الفرح والضحك بمثل ذلك، أو يفسرونهما بالرحمة والرضا. وهذه طريقة أهل التأويل منهم فيجمعون بين التعطيل والتحريف.
ومنهم من يذهب في نصوص الضحك والفرح ونحو ذلك مذهب التفويض؛ وهو إمرار ألفاظ النصوص من غير فهم لمعناها؛ فعندهم أنها لا تدل على شيء من المعاني. وهذا يقتضي أنه لا يجوز تدبرها لأن المتدبر يطلب فهم المعنى المراد، ولا سبيل إليه عندهم.
وقد زعم ابن الجوزي فيما نقله عنه الحافظ هنا أن هذا – أي التفويض – هو مذهب أكثر السلف. وهو باطل وغلط عليهم، بل إن السلف يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات.
ومن قال من السلف في نصوص الصفات: أمروها كما جاءت أو أمروها بلا كيف لا يريدون أنه لا معنى لها كما يدَّعي المفوضة من النفاة، بل يريدون إثبات ما يدل عليه ظاهرها وعدم العدول بها عن ظاهرها، فلا يجوز حمل كلامهم ذلك على ما يخالف المعروف من مذهبهم في صفاته سبحانه وتعالى.
22 – قال الحافظ 6 / 136 على حديث رقم ( 2994 – 2995): قال: "وقيل: مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه، فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله ألا يوصف بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي، ولم يرد ضد ذلك، وإن كان قد أحاط بكل شيء علمًا جل وعز".
قال الشيخ البراك : قوله: "ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله ألا يوصف بالعلو من جهة المعنى ... إلخ": مضمون هذا الكلام أن الله عز وجل كما يستحيل أن يكون في جهة السفل يستحيل أن يكون في جهة العلو، ولا يلزم من ذلك أن لا يوصف بالعلو المعنوي؛ فالمستحيل عليه هو العلو الحسي. ويراد بالعلو الحسي علو الذات، وبالمعنوي علو القدر والقهر. وهذا هو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشاعرة؛ فإنهم جميعًا ينفون علو الله عز وجل بذاته فوق مخلوقاته، ولذا ينفون استواءه على عرشه، ثم إما أن يقولوا: إنه في كل مكان - وهذا هو القول بالحلول - وإما أن يقولوا: إنه لا داخل العالم ولا خارجه - وهذا يستلزم عدمه - وبهذا يعلم أن النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع إنما هو في علو الذات، وقد تضافرت كل أنواع الأدلة على إثبات أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه؛ فتطابق على ذلك الكتاب والسنة والعقل والفطرة، ومضى على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ من نفي علو الذات واستحالته قول باطل، والذي يظهر أنه يرتضيه ويقول به عفا الله عنه.
23 – قال الحافظ 6 /142على حديث رقم (3005): "هذا كله في تعليق التمائم وغيرها مما ليس فيه قرآن ونحوه، فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه؛ فإنـه إنمـا يجعـل للتبرك به، والتعـوذ بأسمائه وذكـره ... ".
قال الشيخ البراك : قوله: " فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه": التمائم من القرآن قد اختلف فيها السلف؛ فرخص فيها بعضهم، منهم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومنهم من لم يرخص فيها كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يكرهون التمائم من القرآن وغير القرآن - يريد أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه - وهذا هو الراجح؛ وذلك لأمور:
منها: أن أحاديث النهي عن التمائم عامة فلا تخص إلا بدليل.
ومنها: أن تعليق التمائم من القرآن يفضي إلى امتهانه.
ومنها: أن ذلك وسيلة إلى تعليق غيرها؛ إذ يمكن أن يدَّعي كل من علق تميمة أنها من القرآن. والحافظ رحمه الله تعالى قد اختار هنا القول بالجواز.
24- قال الحافظ 6 / 145 على حديث رقم ( 3010) "وقد تقدم توجيه العجب في حق الله في أوائل الجهاد، وأن معناه الرضا، ونحو ذلك".
قال الشيخ البراك : قوله: " وأن معناه الرضا ": هذا يقتضي نفي حقيقة العجب، وقد ثبتت صفة العجب لله تعالى بالكتاب والسنة كما قُرئ: {بل عجبتُ ويسخرون}، وكما قال تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم}. وفي الحديث: " عجب ربك من قنوط عباده ". وأهل السنة والجماعة يثبتون العجب لله تعالى على ما يليق به، كما يثبتون الضحك، والفرح، والحب، والبغض. والنفاة ينفون حقائق هذه الصفات. ومعلوم أن العجب الذي يثبت لله تعالى ليس كعجب المخلوقين؛ لا في حقيقته، ولا في سببه؛ فإن عجب المخلوق يكون لخفاء السبب كما قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب، أما العجب من الله تعالى فإنه واقع مع كمال العلم، لكنه يقتضي أن الشيء الذي عجب الله منه قد تميز عن نظائره.
وتفسير العجب بالرضا لا يصح؛ فإن الله يعجب من بعض ما يحب ويرضى، ويعجب من بعض ما يبغض ويسخط كما في الآيتين والحديث. ومن يفسر من النفاة العجب بالرضا يفسر الرضا بالإرادة؛ فيؤول الأمر إلى تفسير العجب بالإرادة؛ وهذا كله من صرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها بغير حجة؛ وهذا هو التحريف الذي نهى الله عنه في كتابه وذم به اليهود في قوله تعالى: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه".
25 – قال الحافظ 6 / 291 على حديث رقم ( 3194) قوله: ( كتب في كتابه ) أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ ... إلخ ".
قال الشيخ البراك قوله: " أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ ... إلخ ": هذا يقتضي أن الله تعالى لم يكتب بنفسه ، بل أمر القلم أن يكتب ، وأن هذه الكتابة هي الكتابة في اللوح المحفوظ ، وأنه المراد بالكتاب في هذا الحديث.
وفي هذا نظر؛ فإنه لا موجب لصرف اللفظ هنا عن ظاهره ، فإن الله تعالى يكتب بنفسه ، بيده ما شاء إذا شاء ، وهذا على مذهب أهل السنة المثبتين لقيام الأفعال الاختيارية به.
وأما نفاة الأفعال الاختيارية كالمعطلة من الجهمية والمعتزلة وكذا الأشاعرة، فإنهم ينفون قيام الكتابة به سبحانه ، فلذا يتأولون كل ما ورد فيه إضافة الكتابة إليه . وإن كان يصح حمله على الأمر بالكتابة في بعض المواضع ، فإن ذلك لا يصح في كل موضع ؛ فإن اللفظ المحتمل يجب حمله على الظاهر ما لم يمنع منه مانع ، أو يدل دليل يوجب صرفه عن ظاهره ، وحمله على المعنى الآخر، وكذلك لا يتعين أن يكون المراد بالكتاب في هذا الحديث هو اللوح المحفوظ ، بل يحتمل أن يكون كتابًا آخر كتب الله فيه ما شاء ، ومنه قوله تعالى: " إن رحمتي غلبت غضبي " ؛ فالواجب إمرار الحديث على ظاهره على مراد الله ومراد رسوله من غير تكييف ولا تحريف.
وأما قول الحافظ: " ويحتمل أن يكون الكتاب: اللفظ الذي قضاه .... إلخ " فهو أبعد من التأويل الذي قبله ، ولا حجة له في قوله تعالى: " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي "؛ فإنه لا يمتنع أن يكون كتب الله هذا الحكم فيما شاء ، بل هذا هو الظاهر؛ فالآية نظير الحديث في نسبة الكتابة إلى الله عز وجل، ولا موجب لصرفهما عن ظاهرهما، إذ لم يدلا إلا على الحق.
26 – قال الحافظ 6 / 291 على حديث رقم ( 3194) قوله: ( فهو عنده فوق العرش ) ، قيل: معناه دون العرش، وهو كقوله تعالى: " بعوضة فما فوقها " والحامل على هذا التأويل استبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره؛ لأن العرش خلق من خلق الله. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " فهو عنده " أي ذكره أو علمه، فلا تكون العندية مكانية، بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيًا عن الخلق مرفوعًا عن حيز إدراكهم ".
قال الشيخ البراك : ما نقله الحافظ في شرح هذا الحديث تخبط الحامل عليه نفي علو الله بذاته على خلقه واستوائه على عرشه؛ فإن من ذهب إلى ذلك من الأشاعرة وغيرهم ينفون عن الله عز وجل عندية المكان، فليس بعض المخلوقات عنده دون بعض لأنه تعالى بزعمهم في كل مكان فلا اختصاص لشيء بالقرب منه، فلذا يتأولون كل ما ورد مما يدل ظاهره على خلاف ذلك؛ كقوله تعالى: "إن الذين عند ربك"، وكقوله في هذا الحديث: " فهو عنده فوق العرش"، فجرهم الأصل الفاسد إلى مثل هذه التأويلات المستهجنة التي ذكرها الحافظ وتعقب بعضها، وأهل السنة المثبتون للعلو والاستواء يجرون هذا الحديث وأمثاله على ظاهره، وليس عندهم بمشكل، فهذا الكتاب عنده فوق العرش، والله فوق العرش كما أخبر به سبحانه عن نفسه، وأخبر به أعلم الخلق به .
27 – قال الحافظ 6 / 292 على حديث رقم ( 3194) : قال: " والمراد من الغضب لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق، أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب فإنه متوقف على سابق عمل من العبد الحادث ".
قال الشيخ البراك قوله: " المراد من الغضب لازمه .... إلخ ": صرف للفظ عن ظاهره من غير دليل يوجب ذلك، والموجب لذلك عند من تأوله هو امتناع حقيقة الغضب في حق الله تعالى؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه. وبهذه الشبهة نفى الأشاعرة كثيرًا من الصفات، ونفى الجهمية والمعتزلة جميع الصفات.
ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الغضب والرحمة وأنهما صفتان قائمتان بالله كسائر الصفات الذاتية والفعلية. ولا يستلزم شيء من ذلك مشابهته للمخلوق كما يقول الأشاعرة مثل ذلك في الصفات السبع التي يثبتونها. ولذلك يلزمهم أن يقولوا في سائر الصفات التي ينفونها نظير قولهم فيما أثبتوه.
والغضب الذي يفسر بأنه غليان دم القلب طلبًا للانتقام هو غضب المخلوق، وليس غضب الخالق كغضب المخلوق، وبهذا يتبين أنه لا موجب لتأويل الغضب بالإرادة أو العقوبة. ويلزم المتأول فيما تأوله نظير ما فر منه؛ إذ القول في الإرادة كالقول في الغضب.
28 – قال الحافظ 6 / 299 على حديث رقم ( 3199 ) قال: " قال ابن العربي: أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد، ثم ترجع. قلت: إن أراد بالخروج الوقوف فواضح، وإلا فلا دليل على الخروج، ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال، فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في ذلك الحين ".
قال الشيخ البراك : قوله: " قال ابن العربي : .... إلخ": دل القرآن على مثل ما دل عليه حديث أبي ذر من سجود الشمس؛ وذلك في قوله تعالى: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب"، كما دلت الآية على أن سجود هذه المخلوقات غير دلالتها بلسان الحال وصورة الحال على ربوبيته تعالى؛ إذ لو كان سجودها هو دلالتها على الخالق سبحانه أو تسخيرها وانقيادها للقدرة لما خص ذلك بكثير من الناس ونفاه عن كثير- وهم الذين حق عليهم العذاب - فإن الدلالة على الخالق سبحانه والانقياد لقدرته حاصلتان في جميع الناس وجميع المخلوقات، فالواجب إثبات سجود الشمس وما ذكر معها في الآية، وأنه سجود حقيقي يناسب هذه المخلوقات ولا يعلم العباد كيفيته، فإنكاره رد لما أخبر الله به ورسوله، وصرفه عن ظاهره لا موجب له، ولا دليل عليه، فإن هذه المخلوقات لها شعور بالعبودية لله تعالى تسبح وتسجد وتؤوب وتخشى كما قال تعالى: "وإن منها لما يهبط من خشية الله"، وقال تعالى: "ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه". وقال: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم".
29 – قال الحافظ 6 / 353 على حديث رقم ( 3303) قال: "ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركا بهم .... إلخ".
قال الشيخ البراك : قوله: "ويؤخذ منه استحباب الدعاء ....": في هذا الاستنباط نظر؛ فإن مأخذه قياس الصالحين على الملائكة. ولا يخفى أن للملائكة شأنًا ليس كشأن الآدميين، وليس لهذا الاستنباط ما يعضده من هدي السلف الصالح، وطرد هذا القياس استحباب التعوذ عند حضور الأشرار، فالأظهر أن ما ذكر في الحديث من السؤال والتعوذ تعبدي لا يقاس عليه.
30 – قال الحافظ 6 / 366 على حديث رقم ( 3326) قال: " وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم، والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها .... إلخ ".
انظر التعليق رقم (16) .
31– قال الحافظ 6 / 389 على باب 8 من كتاب أحاديث الأنبياء .
قال: " والخليل فعيل بمعنى فاعل .... وأما إطلاقه في حق الله تعالى فعلى سبيل المقابلة، وقيل: الخلة أصلها الاستصفاء، وسمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله تعالى، وخلة الله له نصره، وجعله إماما .... إلخ".
قال الشيخ البراك : قوله: "والخليل: فعيل بمعنى فاعل .... إلخ": في هذا غلط على اللغة وعلى الشرع؛ فالخليل كالحبيب: فعيل بمعنى مفعول، وهذا هو الغالب في هذه الصيغة؛ فحبيب بمعنى محبوب، وخليل بمعنى محبوب غاية المحبة، ومن ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم " يخبر بذلك عن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، لا عن حب الرسول له؛ فتفسير الخليل بمعنى المحب بناء على أن فعيل بمعنى فاعل مبني على نفي صفة المحبة عن الله عز وجل كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فجمعوا بين التعطيل والتحريف.
وأقبح من هذا تفسير الخليل بالفقير على أن اللفظ مأخوذ من الخَلَّة بمعنى الحاجة.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل: يُحِبُّ ويُحَبُّ، كما في قوله تعالى: "يحبهم ويحبونه"، ومحبة الله لأوليائه ليست كمحبة المخلوق، وقد أنكر السلف والأئمة على الجهمية نفيهم للصفات، وأفتوا بقتل إمامهم الجعد بن درهم حين زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
والحافظ رحمه الله تعالى وعفا عنه جرى فيما ذكره في معنى الخليل على مذهب الأشاعرة؛ فإنهم ينفون حقيقة المحبة عن الله عز وجل، وكثير منهم يؤولون النصوص الواردة فيها بأنواع التأويلات المخالفة لظاهرها كما ذُكر هنا.
32 – قال الحافظ 6 / 436 على حديث رقم ( 3402)
قال: " وكانوا يرون أنه الخضر ... إلخ ".
قال الشيخ البراك : الخضر عبد من عباد الله الصالحين، وهذا الذي ذكره الله خبره مع موسى عليه السلام في سورة الكهف في قوله تعالى: " فوجدا عبدا من عبدنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ".
وصح في خبره حديث ابن عباس، عن أُبي رضي الله عنهما كما رواه البخاري وغيره.
وقد اختلف الناس فيه هل هو نبي أو غير نبي على قولين أصحهما أنه نبي كما أوضح ذلك الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان ( 4 / 162 )، ولابن حجر نفسه رسالة في إثبات ذلك اسمها: "الزهر النضر في نبأ الخضر".
كما اختلف الناس في حياته ووجوده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، والذي رجحه الأئمة المتقدمون أنه قد مات، ولم يدرك عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال كثير من المتأخرين بأنه حي، ولم يذكروا على ذلك دليلا يعول عليه في معارضة أدلة أهل القول الأول، بل كل ما ذكروه آثار لم يصح منها شيء، كما أوضح ذلك الحافظ رحمه الله تعالى في هذا الموضع، فالصواب، والله اعلم هو قول الأئمة كالبخاري وغيره.
وانظر أيضا تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز ..
33 – قال الحافظ 6 / 444 على حديث رقم ( 3408) قال: " لأن الأنبياء أحياء عند الله، وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا .... إلخ ".
قال الشيخ البراك : قوله: " لأن الأنبياء أحياء عند الله ..... إلخ ": إن أراد أنهم أحياء حياة برزخية تخالف في حقيقتها وأحكامها حياتهم في الدنيا وحياتهم بعد البعث فهذا حق، ولا يخرجون بذلك عن الوصف بالموت الذي هو مفارقة هذه الحياة الدنيا، كما لا تثبت لهم بهذه الحياة البرزخية أحكام الحياة التي بعد البعث، كما لم نثبت لهم أحكام الحياة الدنيا.
وإن أراد أنهم أحياء في قبورهم كحياتهم في الدنيا إلا أنهم في صور الأموات بالنظر لأهل الدنيا فهذا باطل؛ فإن الشهداء تنكح نساؤهم، ويقسم ميراثهم، وينقطع تكليفهم، وهذه أحكام الميت.
34 – قال الحافظ 6 / 488 على حديث رقم ( 3441) وإذا ثبت أنهم أحياء ـ الأنبياء ـ من حيث النقل فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء .... إلخ " .
انظر : التعليق (33)
35 – قال الحافظ 6 / 600 على حديث رقم ( 3581)
قال: " وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء .... إلخ ".
قال الشيخ البراك : قوله: " وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء ... ": ليس في القصة تبرك بطعام الأولياء؛ فإن الضيف لم يقصد بأكله التبرك بطعام أبي بكر، وأبو بكر لم يقصد بأكله التبرك بأثر ذلك الضيف، وإنما الذي في الحديث أن الله عز وجل بارك في طعام أبي بكر رضي الله عنه بأن كثَّره كرامة لأبي بكر رضي الله عنه حيث أضاف بعض أهل الصفة طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم كما جرى مثل ذلك وأعظم منه من تكثير الطعام والشراب على يده صلى الله عليه وسلم .
وانظر في حكم التبرك بآثار الصالحين تعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - في هامش 1 / 525
36 – قال الحافظ 7 / 23 على حديث رقم ( 3658) قال :" ... أما خلة الله للعبد فبمعنى نصره له ومعاونته .... إلخ ".
قال الشيخ البراك : في هذا صرف للكلام عن ظاهره بغير دليل. وانظر التعليق (31)
37 – قال الحافظ 7 / 29 على حديث رقم ( 3667)
قال: " والأنبياء أحياء في قبورهم .... إلخ ".
انظر التعليق (33)
38 – قال الحافظ 7 / 124 على حديث رقم ( 3803) قال : " وليس العرش بموضع استقرار الله.. ".
قال الشيخ البراك: لا وجه لهذا النفي؛ فإن الله عز وجل مستو على عرشه كما أخبر سبحانه في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش. ومن عبارات السلف في تفسير ( استوى ): استقر. ولكن نفي أن يكون العرش موضع استقرار الله مبني على نفي حقيقة الاستواء، وهو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة؛ فعندهم أن الله في كل مكان، أو يقال: إنه لا خارج العالم ولا داخله، ثم الواجب عندهم في نصوص الاستواء إما التفويض وإما التأويل؛ مثل أن يقال في معنى ( استوى ): استولى. وهذا هو الغالب عليهم، فيجمعون بين التعطيل والتحريف. وكل هذا بلا حجة من عقل ولا سمع.
ومذهب أهل السنة إثبات الاستواء بمعناه المعلوم في اللغة مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول".
ومعلوم أن استواء الله عز وجل على عرشه لا يستلزم حاجته سبحانه إليه؛ لأنه الغني عن كل ما سواه، وهو سبحانه الممسك للعرش وما دون العرش .
39 – قال الحافظ 7 / 156 على حديث رقم ( 3803) قال: " ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء ... " .
قال الشيخ البراك: قوله: " أن الله منزه عن الحركة والتحول .... ": لفظ الحركة والتحول مما لم يرد في كتاب ولا سنة، فلا يجوز الجزم بنفيه، ونسبة نفيه إلى السلف والأئمة من أهل السنة والجماعة لا تصح. بل منهم من يجوز ذلك ويثبت معناه ويمسك عن إطلاق لفظه، ومنهم من يثبت لفظ الحركة، ولا منافاة بين القولين؛ فإن أهل السنة متفقون على إثبات ما هو من جنس الحركة كالمجيء، والنزول، والدنو، والصعود، مما جاء في الكتاب والسنة . والأولى: الوقوف مع ألفاظ النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: " وكذلك لفظ الحركة: أثبته طوائف من أهل السنة ... وقال: والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك ، ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة، وإن أثبت أنواعًا قد يدرجها المثبت في جنس الحركة" الاستقامة: 1 / 71 – 72 .
ثم ذكر قول الفضيل بن عياض: " إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل : أنا أومن برب يفعل ما يشاء " الاستقامة: 1 / 77 .
ونفي الحركة يتفق مع مذهب نفاة الأفعال الاختيارية من الأشاعرة وغيرهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحافظ رحمه الله، وأما لفظ التحول فالقول فيه يشبه القول في لفظ الحركة.
40 – قال الحافظ 7 / 145 على حديث رقم ( 3827) قال: " والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب ... ".
قال الشيخ البراك: الواجب إثبات حقيقة الغضب ، وحقيقة اللعن قولا وفعلا على ما يليق به سبحانه كسائر الصفات والأفعال، وتأويل الغضب بإرادة العقاب هي طريقة أهل التأويل من الأشاعرة وغيرهم ممن يثبت بعض الصفات وينفي بعضها، فيلزمهم القول فيما نفوه نظير قولهم فيما أثبتوه، وإلا كانوا متناقضين مفرقين بين المتماثلات.
وانظر : التعليق (27)
41 – قال الحافظ 7 / 412 على حديث رقم ( 4121) قال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة" وأرقعة بالقاف جمع رقيع، وهو من أسماء السماء، قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم، وهذا كله يدفع ما وقع عن الكرماني ( بحكم الملك ) بفتح اللام وفسّره بجبريل ؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام.
قال السهيلي: قوله: "من فوق سبع سماوات" معناه أن الحكم نزل من فوق ، قال: ومثله قول زينب بنت جحش: "زوجني الله من نبيه من فوق سبع سماوات" أي نزل تزويجها من فوق، قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه ... ".
قال الشيخ البراك: قول السهيلي: "ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق ..... ": هذا يتضمن أن الفوقية منها ما يستحيل على الرب سبحانه فيجب نفيه، ومنها ما لا يستحيل عليه فلا مانع من إثباته، وعليه يحمل ما جاء من وصف الله تعالى بالفوقية. وهذا التفصيل مبني على نفي علو الله تعالى بذاته على خلقه واستوائه على عرشه؛ فالفوقية ثلاثة أنواع: فوقية الذات، وفوقية القدر، وفوقية القهر؛ فنفاة العلو من الجهمية ومن تبعهم يثبتون فوقية القدر والقهر دون فوقية الذات، وأهل السنة والجماعة يثبتون له سبحانه الفوقية بكل معانيها؛ كما قال تعالى: "وهو القاهر فوق عباده"، كما يقولون مثل ذلك في العلو؛ فعندهم أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه.
42- قال الحافظ : 8 /155 في كلامه على مقدمة كتاب التفسير قوله: "الرحمن الرحيم: اسمان من الرحمة" أي: مشتقان من الرحمة ، والرحمة لغة: الرقة والانعطاف ، وعلى هذا فوصفه بها تعالى مجاز عن إنعامه على عباده، وهي صفة فعل لا صفة ذات ..
قال الشيخ البراك : مضمون هذا نفي حقيقة الرحمة عن الله تعالى، وحمل ما ورد في ذلك على المجاز، وتفسير الرحمة من الله عز وجل إما بإرادة الإنعام أو بالإنعام، وهذا جمع بين التعطيل والتحريف، وهو سبيل الجهمية ومن تبعهم.
والصواب أن الله عز وجل موصوف بالرحمة حقيقة كما دل على ذلك إسماه تعالى: الرحمن الرحيم.
والقول في الرحمة في حقه تعالى كالقول في سائر صفاته من علمه وسمعه وبصره تُثبت له على ما يليق به سبحانه من غير تكييف ولا تمثيل.
وتفسير الرحمة بالرقة يناسب رحمة المخلوق، ورحمة الخالق ليست كرحمة المخلوق، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فالواجب اتباع سبيلهم، فإنه سبيل المؤمنين الذي قال الله عز وجل فيه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" .
43- قال الحافظ 8/336 على حديث 4670: (قال: إنه منافق فصلى عليه) أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره واستصحابا لظاهر الحكم ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة .. الخ
قال الشيخ البراك : الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالصلاة على ابن أبي بن سلول، بل وتكفينه بقميصه، الاستجابة لرغبة ولده، وتطييب قلبه، وتأليف عشيرته؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا بين الاستغفار وتركه كما في قوله تعالى: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" فلما جاءه النهي انتهى؛ قال الله تعالى: "ولاتصل على أحد منهم".
44 – قال الحافظ : 8 / 336 على حديث رقم 4670 قال: "وتعقبه ابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض، وهو كما قال .. ".
قال الشيخ البراك : هذا مبني على أن الإيمان هو التصديق، وأن العمل ليس من مسمى الإيمان؛ وهو مذهب المرجئة، وهو باطل، بل الإيمان كما قال أئمة السنة: قول وعمل، أو هو: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
وعلى هذا فالإيمان شعب كما قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" وهذا يقتضي أنه يتبعض؛ فقد يترك العبد بعض تلك الشعب، أو كثيرا منها، وكذلك التصديق يتبعض باعتبار التفاوت في العلم بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التصديق بما علم من خبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتبعض ضرورة أنه يجب الإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا التصديق يتفاوت في القوة والضعف.
وبهذا يتبين أن إطلاق القول بأن الإيمان لا يتبعض لفظ مجمل يحتاج إلى تفصيل واستفصال عن مراد المتكلم، ولكن إذا عرف مذهبه في الإيمان عرف مراده، والله الهادي إلى سواء السبيل.
45 – قال الحافظ : 8 / 340 على حديث رقم ( 4672) قال: "وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئا من ماله لضرورة دينية".
قال الشيخ البراك : في هذا الاستنباط نظر؛ فإن عبد الله رضي الله عنه لم يقصد مطلق المال، وإنما قصد ما فيه أثر بركة النبي صلى الله عليه وسلم - وهو القميص - رجاء أن ينتفع والده بذلك، فموضع الاستدلال أخص من الاستنباط الذي ذكره الحافظ رحمه الله تعالى، وهو جار على سنن ما قبله من الاستدلال بمثل ذلك على التبرك بآثار الصالحين، وتقدم أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقاس عليه غيره.
وانظر التعليق (35) .
46 – قال الحافظ : 8 / 429 على حديث رقم ( 4731 ) قال: " وحكى ابن التين للداودي في هذا الموضع كلاما في استشكال نزول الوحي في القضايا الحادثة، مع أن القرآن قديم .... ".
قال الشيخ البراك : قوله: " فإن القرآن قديم ... ": هذا من إطلاقات الأشاعرة؛ فإن من مذهبهم أن كلام الله معنى نفسي واحد قديم، ومعنى ذلك أنه لا تتعلق به المشيئة، ولا بداية لشيء منه؛ فهذا القرآن المسموع المتلو عبارة عن ذلك المعنى النفسي، فإذا قالوا: القرآن قديم، فإنهم يريدون ذلك المعنى. وهذا مذهب باطل؛ لأن مقتضاه أن القرآن المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف ليس كلام الله حقيقة. وهذا خلاف ما عليه أهل السنة من أن القرآن كلام الله حقيقة كيفما تصرف متلوًا ومحفوظًا ومكتوبًا ومسموعًا. والله عز وجل تكلم به بمشيئته، وكثير منه يتعلق بحوادث في عصر النبوة، فنزل في شأنها القرآن خبرًا وأمرًا كالسور والآيات المتعلقة بالغزوات كبدر وأحد والأحزاب.
وانظر : التعليق (17)
47 – قال الحافظ 8 /505 :والمراد بالوجه الذات، والعرب تعبر بالأشرف عن الجملة..".
قال الشيخ البراك: إن أراد بذلك التفسير نفي حقيقة الوجه الموصوف بالجلال والإكرام وبالأنوار فهو باطل، وهو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ووافقهم على ذلك متأخرو الأشاعرة، لذلك يتأولون كل ما ورد في الوجه لله عز وجل، ومن ذلك قولهم: المراد بالوجه الذات، وهذا هو الجاري على طريقة الحافظ في أكثر المواضع.
وإن أراد بهذا التفسير بيان أن المراد بالكلام إثبات وصف البقاء، وعدم الهلاك للرب سبحانه بذاته وصفاته، لا لخصوص الوجه، فتكون دالة على بقائه سبحانه، وعلى إثبات وجهه، فهذا هو الحق، وهو يستلزم بقاء ما أريد به وجهه، وسياق الآية يرشد إلى هذا المعنى، وذلك في قوله تعالى: "ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه".
48 – قال الحافظ 8 /551 قال: "والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه". حديث ( 4811 )
قال الشيخ البراك قوله "والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل ..": المراد بـ(ـهذه الأشياء): الصفات الخبرية كالإصبع واليد والعين.
وقوله: "الكف عن التأويل": يقال: بل الواجب في جميع صفات الله تعالى الكف عن تأويلها الذي هو صرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها بغير دليل؛ فإن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه، فما ذهب إليه ابن فورك من تأويل الإصبع هو من ذلك، فهو باطل، بل هو من أقبح التحريف.
وقوله في العبارة: "مع اعتقاد التنزيه": إن أراد بالكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه إثبات هذه الصفات لله تعالى على ما يليق به فهو حق، وإن أراد نفي حقائقها مع تفويض معاني ما ورد في النصوص من ذلك فيكون مراده بهذا القول ترجيح طريقة التفويض على طريقة التأويل، وكلاهما باطل؛ لأن مبناهما على نفي حقائق هذه الصفات، وهو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة وغيرهم.
وهذا التقدير هو الغالب على طريقة الحافظ والنووي – رحمهما الله - وأهل السنة والجماعة يثبتون الأصابع لله تعالى على ما دل عليه هذا الحديث وأنها من صفة اليد، وقولهم في الأصابع كقولهم في سائر الصفات؛ وهو: الإثبات ونفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية.
49 – قال الحافظ 8 /580 قال: " قوله: ( فأخذت ) كذا للأكثر بحذف مفعول أخذت، وفي رواية ابن السكن: " فأخذت بحقو الرحمن "، وفي رواية الطبري : " بحقوي الرحمن " بالتثنية، قال القابسي: أبى أبو زيد المروزي أن يقرأ لنا هذا الحرف لإشكاله ... وقال عياض: الحقو معقد الإزار، وهو الموضع الذي يستجار به ويحتزم على عادة العرب، لأنه من أحق ما يحامى عنه ويدفع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أزرنا، فاستعير ذلك مجازا للرحم من استعاذتها بالله القطيعة. انتهى، وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه ..
والمعنى على هذا صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة، قال الطيبي: هذا القول مبني على الاستعارة التمثيلية؛ كأنه شبه حال الرحم وما هي عليه من الافتقار إلى الصلة والذب عنها بحال مستجير يأخذ بحقو المستجار به، ثم أسند على سبيل الاستعارة التخييلية ما هو لازم للمشبه به من القيام، فيكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، ثم رشحت الاستعارة بالقول والأخذ وبلفظ الحقو، فهو استعارة أخرى، والتثنية فيه للتأكيد؛ لأن الأخذ باليدين آكد في الاستجارة من الأخذ بيد واحدة ". حديث (4830 )
قال الشيخ البراك : ومن خير ما يقال في هذا المقام: قول الشافعي رحمه الله تعالى: " آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".
وقول شيخ الإسلام في نقض التأسيس ( 3 / 127 ) : "هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء ، وردوا على من نفى موجبه".
50 – قال الحافظ 8 / 596 قال: " واختلف في المراد في القدم .. ، وقيل: المراد بالقدم الفرط السابق..وقيل: المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين. أو المراد بالقدم الأخير..حتى يضع الرب فيها موضعًا .. وأنه يجعل مكان كل واحد منهم واحدا من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج، وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور .. قال: المراد بالقدم قدم إبليس .. يكون المراد بالرجل إن كانت محفوظة الجماعة .... ".
على حديث ( 4848 )
قال الشيخ البراك : لم يختلف أهل السنة والجماعة في المراد بالقدم المذكور في الحديث؛ فالقدم عندهم هو قدم الرب سبحانه، والرجل كذلك؛ فالله تعالى موصوف بأن له قدمًا ورجلاً كما جاء في الحديث الصحيح، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الكرسي أنه موضع قدمي الرب سبحانه. وقول أهل السنة في القدم لله تعالى كقولهم في العينين واليدين والوجه؛ وهو الإثبات لحقائقها اللائقة به سبحانه ، وأنها لا تماثل صفات المخلوقين، ولا يعلم العباد كنهها؛ فمعانيها معلومة وكيفياتها مجهولة. ويقولون في النصوص الواردة فيها: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ ومرادهم الإيمان بها، وبما تدل عليه من إثبات الصفات من غير تفسير لها بما يخالف ظاهرها، وهو التأويل المذموم الذي حقيقته التحريف.
والحافظ عفا الله عنه أكثر من نقل أقوال الشراح في تأويل القدم والرجل، وكلها أقوال مخالفة لظاهر الحديث ولمذهب السلف. ومبناها كلها على أنه ليس لله قدم حقيقة، كما أنه ليس له يدان حقيقة، ولا عينان حقيقة، ولا وجه، وهو مذهب المعطلة من الجهمية ومن تبعهم في تعطيل الصفات كلها أو بعضها، وليت الحافظ رحمه الله تعالى ضرب عن هذه الأقوال صفحًا؛ لأنها مخالفة كلها لظاهر الحديث، والمقصود منها دفع ظاهر الحديث - وهو إثبات القدم لله حقيقة - وهو مستحيل على الله عند النفاة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه، ولكن الحافظ ذكر أن مذهب السلف هو إمرار الحديث على ظاهره دون التعرض لتأويله.
ويظهر من سياق كلامه ترجيح هذه الطريقة. والغالب أن الحافظ يريد بطريقة السلف: التفويض في معاني النصوص لا إثبات ما تدل عليه من الصفات، فترجيحه لطريقة السلف لا يدل على أنه يثبت القدم لله حقيقة؛ يدل على ذلك قوله: (بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله).
وعند النفاة إثبات كل هذه الصفات نقص، فإضافتها إلى الله تعالى في هذه النصوص يوهم النقص عندهم، فيوجبون نفي ظاهرها، ثم يوجبون فيها:
إما التفويض، وإما التأويل مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهو مخالف لمذهب السلف كما أسلفنا.
51– قال الحافظ 8 / 632-633: قال: "قال الخطابي": إطلاق العجب على الله محال، ومعناه الرضا؛ فكأنه قال: إن ذلك الصنيع حل من الرضا عند الله حلول العجب عندكم، قال: وقد يكون المراد بالعجب هنا أن الله يعجب ملائكته من صنيعهما لندور ما وقع منهما في العادة، قال: وقال أبو عبد الله: معنى الضحك هنا الرحمة.
قلت: ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري.
قال الخطابي: وتأويل الضحك بالرضا أقرب من تأويله بالرحمة؛ لأن الضحك من الكرام يدل على الرضا؛ فإنهم يوصفون بالبشر عند السؤال ... " .
حديث رقم 4889
قال الشيخ البراك : القول في العجب والرضا والضحك كالقول في سائر الصفات، والواجب إثباتها لله حقيقة على ما يليق به سبحانه.
وقول الخطابي: "إطلاق العجب على الله محال" يقتضي نفي صفة العجب عن الله تعالى، وصفة العجب ثابتة في الكتاب والسنة كما قال تعالى: " بل عجبتُ " بضم التاء على إحدى القراءتين ، ومن السنة هذا الحديث، والعجب المثبت لله تعالى ليس كعجب المخلوق الذي منشأه أحيانا خفاء السبب؛ كما قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب، وهذا النوع من العجب ممتنع على الله تعالى؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولكن العجب من الله تعالى يدل على عظم الشيء وتميزه على أمثاله فيما يوجب مدحًا أو ذمًا.
وانظر التعليق (20) و(24) .
52 – قال الحافظ 8 / 664: قال: " لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء ".
حديث رقم 4919
قال الشيخ البراك : لفظ الأعضاء والجوارح من الألفاظ المحدثة في صفات الله تعالى، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة إطلاق نفيها ولا إثباتها، ونفيها من الألفاظ المجملة؛ فمن أراد بذلك نفي التجزؤ عن الله تعالى فهو حق، ولكن اللفظ محدث، ومن أراد نفي حقيقة اليدين والعينين والساق والقدم فهو مبطل، وهذه الصفات لله تعالى لا يقال لها أعضاء ولا جوارح؛ لما في هذا اللفظ من الاحتمال الذي يتوصل به المعطل إلى مراده.
وقوله في هذا الحديث: "يكشف ربنا عن ساقه" نص في إثبات الساق لله تعالى، والقول فيه كالقول في سائر صفاته تعالى، والآية وإن لم تكن نصا في إثبات صفة الساق لأنها جاءت بلفظ التنكير فالحديث مفسر لها .
وإن صح أن يُختلف في دلالة الآية، فلا يصح أن يختلف في دلالة الحديث. وتأويل الساق في الحديث بالقدرة هو من سبيل أهل التأويل من النفاة لتلك الصفات، وهم بهذا التأويل يجمعون بين التعطيل والتحريف. وأهل السنة يمرون هذه الصفات على ظاهرها مؤمنين بما دلت عليه، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته سبحانه بصفات خلقه.
53 – قال الحافظ 8 / 703: قال: "وإسناد الاطمئنان إلى الله من مجاز المشاكلة، والمراد به لازمه من إيصال الخير ونحو ذلك ...".
وذلك في كلامه في كتاب التفسير، سورة والفجر، باب 89.
قال الشيخ البراك : يقال: إسناد الاطمئنان إلى الله تعالى هو من لفظ الحسن البصري رحمه الله تعالى، والبخاري رحمه الله تعالى مقرر له، وخير ما يحمل عليه هذا اللفظ ما جاء في الحديث الصحيح: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"؛ وذلك عند الموت كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه لعائشة رضي الله عنها، وعلى هذا فلا وجه لدعوى المجاز.
54 – قال الحافظ 9 / 69: قال: " وقال القرطبي: أصل الأذن بفتحتين أن المستمتع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حق الله لا يراد به ظاهره، وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام القارئ وإجزال ثوابه؛ لأن ذلك ثمرة الإصغاء ...".
حديث رقم 5023
قال الشيخ البراك : الأذن في معناه ثلاثة وجوه : منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل ؛ لأنه صرف للكلام عن ظاهره بغير دليل، ومنها ما لا يصح الجزم بإثباته و لا نفيه.
فالأول: هو الاستماع؛ وهو ثابت بالقرآن لقوله تعالى: "إنّا معكم مستمعون" وهذا هو الصواب في تفسير الأذن؛ فمعنى: "ما أذن الله " أي: ما استمع .
والثاني: تفسير الأذَن بإكرام القارئ؛ فإنه يتضمن نفي حقيقة الاستماع إلى الله عز وجل، مع مخالفته لمعنى الأذن في اللغة.
والثالث: تفسير الأذَن بالإصغاء بالأذُن؛ فإن الأذُن لم يقم دليل على إثباتها ولا نفيها، فيجب الإمساك عن إضافتها إلى الله تعالى نفيًا وإثباتًا.
واقتصار القرطبي - والحافظ تبعًا له - على ذكر الثاني والثالث مع الجزم بإثبات الثاني ونفي الثالث غلط ظاهر، ولعل الحامل لهما على ذلك نفيهما للصفات الفعلية كما هو مذهب الأشاعرة؛ فإن الاستماع وفي معناه الأذن من الصفات الفعلية.
55 – قال الحافظ 9 / 320: قال: " قال عياض: ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل: الغيرة في الأصل الحمية والأنفة، وهو تفسير بلازم التغير فيرجع إلى الغضب، وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتابه الغضب والرضا.
وقال ابن العربي: التغير محال على الله بالدلالة القطعية، فيجب تأويله بلازمه، كالوعيد أو إيقاع العقوبة بالفاعل، ونحو ذلك".
وذلك في كلامه على كتاب النكاح ، باب 107 .
قال الشيخ البراك : دل حديث ابن مسعود على إثبات صفة الغيرة لله تعالى، وأن غيرته أكمل وأعظم من غيرة كل أحد، فيجب أن يكون القول فيها كالقول في سائر الصفات؛ وهو الإيمان بأن الله تعالى يغار حقيقة، وأن غيرته ليست كغيرة المخلوقين، بل غيرة الله تليق به سبحانه. ويدل على أن الغيرة من الله حقيقة قوله في حديث سعد المذكور مع ترجمة الباب: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني" والغيرة في مثل هذا السياق تتضمن الغضب لانتهاك الحرمة.
والله سبحانه يبغض ما حرم، ويغضب إذا انتهكت حرماته، وقول عياض: "ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك" هو من التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة، والحامل عليه الحذر من إضافة التغير إلى الله تعالى الذي يُشعِر به لفظ الغيرة، وهو ممتنع عنده وعند ابن العربي؛ ولهذا قال فيما نقله الحافظ ابن حجر: "التغير محال على الله بالدلالة القطعية". والحق أن التغير من الألفاظ المجملة المبتدعة في باب صفات الله تعالى؛ إذ لم يرد إطلاقه على الله تعالى نفيًا ولا إثباتًا، والواجب في مثل هذا التفصيل والاستفصال؛ فمن أراد بالإثبات أو النفي حقاً قُبل، وإن أراد باطلا رد؛ فالتغير إن أريد به النقص بعد الكمال، أو الكمال بعد النقص فهو ممتنع على الله عز وجل؛ لأنه منزه عن النقص أزلا وأبداً، وإن أريد به التغير في أفعاله تبعاً لمشيئته وحكمته - مثل أنه يحب ويبغض ، ويغضب ويرضى - فذلك من كماله، وتسمية هذا تغيراً في ذاته ممنوع وباطل، والأسماء لا تغير الحقائق، والمعول في الأحكام على الحقائق والمعاني لا على الألفاظ والعبارات.
56 – قال الحافظ 10 / 100: قال: "والتبرك بآثار الصالحين ....".
حديث رقم 5637
ينظر التعليق رقم (35)
57 – قال الحافظ 10 / 198: قال: "... وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه، وخصوصا اليد اليمنى".
حديث 5735
قال الشيخ البراك : تقدم في مواضع أن ما جعل الله عز وجل في بدنه صلى الله عليه وسلم وآثاره من البركة، وما يتعلق بذلك من التبرك به هو من خصائصه، فلا يقاس عليه غيره من الصالحين مهما بلغ صلاحًا وتقوى؛ يدل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره من الصحابة والقرابة ما كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك بآثاره المباركة.
وقول الحافظ: "وخصوصا اليد اليمنى" بأن المسح منه كان باليد اليمنى خاصة، وليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا.
58 – قال الحافظ (10 / 207) على حديث رقم 5742
" قوله " أنت الشافي " يؤخذ منه جواز تسمية الله بما ليس في القرآن بشرطين : أحدهما: ألا يكون في ذلك ما يوهم نقصًا ، والثاني: أن يكون له أصل في القرآن . وهذا من ذاك ، فإن في القرآن " وإذا مرضت فهو يشفين " .
قال الشيخ البراك: يريد ـ رحمه الله ـ أن أسماء الله تثبت بالسنة كما تثبت بالقرآن، وهذا حق، ولكن لا وجه للشرطين الذين ذكرهما؛ فكل ما سمى الرسول به ربه وجب أن نؤمن به ونثبته، ونسمي الله به ولو لم يكن للفظه أصل في القرآن؛ كالجميل والرفيق . وتوهم النقص لا يصلح أن يكون ضابطًا في ما ينفى عن الله تعالى؛ فقد يتوهم بعض الناس ما ليس بنقص نقصًا لقصور في إدراكه، أو لمذهب باطل بنى اعتقاده عليه.
59 – قال الحافظ (10 / 233) على حديث رقم 5765 : وأخرجه الطبري في التهذيب من طريق يزيد بن زريع، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب" أنه كان لا يرى بأسا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: هو صلاح" .. الخ
قال الشيخ البراك: تمسك بعض الناس بقول سعيد هذا: حل السحر بسحر مثله؛ وذلك بذهاب المسحور إلى ساحر يحل السحر عنه.
وقول سعيد ـ رحمه الله ـ تعالى ليس صريحا في هذا، بل هو مجمل؛ فإن النشرة، وهي حل السحر عن المسحور، نوعان كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
الأول: حل بسحر مثله، وعليه يحمل قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر؛ فيتقرَّب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، وهذا النوع من النشرة حرام، وهي من عمل الشيطان كما في الحديث.
والثاني: حل السحر بالأدعية والتعويذات والأدوية المباحة؛ فهذا جائز بلا خلاف، وينبغي أن يحمل قول سعيد على هذا النوع. ومما يدل على تحريم الذهاب إلى الساحر لحل السحر قوله : "من أتى كاهنا أو عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " [رواه الإمام أحمد، والأربعة]، والساحر من جنس الكاهن والعراف.
60 – قال الحافظ (10 / 258) على حديث رقم 5788
"قوله: (لا ينظر الله) أي لا يرحمه؛ فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازًا، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية، ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة .. الخ
قال الشيخ البراك: النظر إلى الشيء يدل في اللغة على مجرد الرؤية عن إرادة، وقد يدل مع ذلك على العناية والمحبة والإكرام. وقد جاء مضافًا إلى الله تعالى على الوجه الأول في سياق الإثبات كما في قوله : "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".
ويشبه هذا النوع قوله سبحانه: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" [يونس14]، كما يوضح ذلك قوله تعالى: "فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" [التوبة105].
وجاء مضافًا إلى الله تعالى على الوجه الثاني في سياق النفي؛ كما في قوله تعالى: "ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم" [آل عمران77]، وفي السنة من هذا النوع كثير، ومن ذلك هذا الحديث، ويشبه هذا النوع قوله : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
والواجب في ذلك كله: إثباته لله تعالى على ما يليق به كسائر صفاته؛ كعلمه وسمعه وبصره وإرادته وحياته، وكل صفاته؛ فهو تعالى ينظر إلى ما شاء ومن شاء كيف شاء .
وما ذكره الحافظ أو نقله عن الشراح في معنى النظر من الله كله من التأويل الباطل الذي حقيقته صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة، والحامل لهم على ذلك أن من مذهبهم نفي حقيقة العينين عن الله تعالى، ونفي الأفعال الاختيارية التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى ومنها النظر.
ومما تقدم يتبين أن معنى : "لا ينظر الله" أي نظر محبة وإكرام. وقريب من هذا ما جعله الحافظ احتمالا، وهو أقرب إلى الصواب؛ حيث قال: "ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة"، والله أعلم.
61 – قال الحافظ (10 / 330) على حديث رقم 5879 "وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها".
تقدم في مواضع التنبيه على أن مثل هذا من خصائصه .
التعليق رقم (18) و (35) و(57)
62 – قال الحافظ (10 / 394) على حديث رقم 5963
" واستدل به على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، للحوق الوعيد بمن تشبه بالخالق ... ". واستدل به على جواز التكليف بما لا يطاق. والجواب ما تقدم، وأيضا فنفخ الروح في الجماد قد ورد معجزة للنبي ؛ فهو يمكن وإن كان في وقوعه خرق عادة، والحق أنه خطاب تعجيز لا تكليف كما تقدم والله أعلم ".
قوله: "واستدل به على جواز التكليف بما لا يطاق" : في هذا الاستدلال نظر؛ فإن الأمر بنفخ الروح المذكور في الحديث أمر تعجيز لا تكليف كما ذكر الحافظ رحمه الله ، وهو كما قال . وما لا يطاق قد يراد به: الممتنع لذاته؛ كالجمع بين النقيضين والضدين، فهذا لا يجوز التكليف به؛ لأنه لا يتصور.
وقد يراد به: الممتنع لغيره، وإن كان في ذاته ممكنا؛ كإيمان الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن، واعتبار هذا مما لا يطاق هو مذهب الجبرية. وقد يراد به: ما يشق مشقة عظيمة فوق الوسع؛ فالتكليـف بهذين جائز وواقع كما قال تعالى: "ربنا ولا تحمــل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .... الآية" [البقرة286] .
وقد يراد بما لا يطاق: ما لا قدرة للعبد عليه أصلا؛ كالمشي من المقعد، والكتابة من أقطع اليد، وهذا جائز عقلاً غير واقع شرعًا.
63 – قال الحافظ (10 / 417) على حديث رقم 5987
"إن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش ....".
انظر التعليق رقم (49)
64 – قال الحافظ (10 / 418) على حديث رقم 5987
"قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال، وهو القرب منه، وإسعافه بما يريد، ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده.
قال : وكذا القول في القطع هو كناية عن حرمان الإحسان ...".
قال الشيخ البراك: قوله : "أن أصل من وصلك .." الوصل من الله عز وجل لمن يصل رحمه يدل على أن الجزاء من جنس العمل، وهذه سنة الله عز وجل في جزائه ثوابًا وعقابًا. والوصل من الله تعالى يكون بما شاء سبحانه وتعالى مما يدخل في معنى الوصل اللائق به سبحانه، وكلها تدخل في الإحسان، وهو سبحانه يحسن إلى المحسنين بمحبته وتقربه، وبأنواع المنافع والمحبوبات؛ قال تعالى: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" [البقرة195] ، وقال في الحديث القدسي: "ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا" ، وقال تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" [الرحمن60].
وقصر معنى الوصل من الله تعالى على بعض أنواعه تقييد وتخصيص بغير حجة.
وقول ابن أبي جمرة: "الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه ... إلخ" هذا كلام متناقض؛ فقد أثبت أن الوصل كناية عن الإحسان، ونفى أن يكون منه قرب الله من عبده، وإسعافه بما يريد، ومساعدته على ما يرضيه. وزعم أن ذلك مستحيل في حق الله تعالى، وهذه الأنواع من أعظم أنواع الإحسان التي يكرم الله بها أولياءه كما في حديث الولي؛ يقول الله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
65 – قال الحافظ (10 / 432) على حديث رقم 6000
"قلت: وحاصل كلامه أن الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليه هنا ....".
قال الشيخ البراك: دلت النصوص من الكتاب والسنة على أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى رحمتان :
1 - رحمة هي صفته؛ وصفاته غير مخلوقة، وإضافتها إلى الله هي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ كما قال تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" [النمل19] ، وقال تعالى: "وربك الغفور ذو الرحمة" [الكهف58] ، وقال تعالى: "الرحمن الرحيم"؛ فهذان الاسمان متضمنان صفة الرحمة، فاسمه الرحمن يدل على الرحمة الذاتية التي لم يزل ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدل على الرحمة الفعلية التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى: "إن يشأ يرحمكم" [الإسراء54]، وقال تعالى: "ويرحم من يشاء" [العنكبوت21].
وأهل السنة والجماعة يثبتون الرحمة لله تعالى صفة قائمة به سبحانه، والمعطلة ومن تبعهم ينفون حقيقة الرحمة عن الله تعالى - ومنهم الأشاعرة - ويؤولونها بالإرادة أو النعمة .
2 - والرحمة الأخرى مما يضاف إليه تعالى: رحمة مخلوقة، وإضافتها إليه هي من إضافة المخلوق إلى خالقه، ومن شواهدها قوله تعالى: "فانظر إلى آثار رحمة الله" [الروم50] ، وقوله تعالى: "وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون" [آل عمران107] ، وقوله سبحانه للجنة كما في الحديث القدسي: " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء".
والرحمة المذكورة في الحديث هي الرحمة المخلوقة، وهي التي جعلها الله عز وجل في مائة جزء. والرحمة
المخلوقة في الدنيا والآخرة هي أثر الرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى ومقتضاها.
66 – قال الحافظ (10 / 462) على حديث رقم 6040
" والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل والرضا عنه ..، والمراد بمحبة الله إرادة الخير ....".
قال الشيخ البراك: قوله"والمراد بمحبة الله إرادة الخير..": هذا صرف للفظ عن ظاهره بغير حجة صحيحة، وهذا هو التأويل المذموم الذي يسلكه نفاة الصفات، أو بعضهم كالأشاعرة ؛ فإن مذهبهم نفي حقيقة المحبة عن الله تعالى زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه. لكن الأشاعرة لما كانوا يثبتون الإرادة لله تعالى صار كثير منهم يَرُدُّ بعض الصفات إليها ويؤولها بها، مع أنه يلزمهم في الإرادة نظير ما فروا منه في المحبة، فلم يستفيدوا بهذا التأويل إلا التناقض والجمع بين التعطيل والتحريف.
والواجب إثبات كل ما أثبته الله تعالى لنفسه وأن الله سبحانه موصوف به حقيقة على الوجه الذي لا يماثل فيه أحدًا من خلقه. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ فيمرون النصوص مؤمنين بها، بلا تكييف ولا تمثيل لمعانيها.
67 – قال الحافظ (10 / 488) على حديث رقم 6070
"ويدنو المؤمن من ربه أي يقرب منه قرب كرامة، وعلو منزلة".
قال الشيخ البراك: يريد بقوله: "قرب كرامة وعلو منزلة" أن دنو المؤمن من ربه المذكور في الحديث دنو معنوي ، لا أنه دنو بقرب المكان، بحيث يكون في مكان هو فيه أقرب إلى ربه. والأصل في القرب والدنو قرب المكان، وهذا هو المعنى المتبادر من لفظ الحديث وسياقه.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله سبحانه بذاته في العلو فوق كل شيء، وأنه سبحانه يقرب من بعض خلقه إذا شاء، كيف شاء، ويدني ويقرب من عباده من شاء، وأن من الملائكة ملائكة مقربين، فهم عنده.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله لا يتأولون شيئا منه على خلاف ظاهره. وأما نفاة العلو القائلون بالحلول من الجهمية ومن وافقهم - ومنهم الأشاعرة - فعندهم أنه تعالى لا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، وأن نسبة جميع المخلوقات إليه نسبة واحدة. لذلك يلجأون إلى تأويل النصوص المخالفة لأصولهم، ومن ذلك دنو المؤمن من ربه أو إدناؤه له؛ فيؤولونه بقرب المكانة والمنزلة. وهذا هو الذي ذكره الحافظ، ومشى عليه في هذا الحديث ونحوه.
68 – (11 / 3) قال: "والمراد بالصورة: الصفة....". على حديث رقم 6227
قال الشيخ البراك : قوله: " وقيل: الضمير لله…": هذا هو الذي عليه أئمة السنة، ومن مذهبهم إثبات الصورة لله حقيقة، وأنها لا تماثل صورة أحد من المخلوقات.
وانظر التعليق (16)
69 – (11 / 101) على حديث رقم 6307
قال الحافظ : "وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية.
وأجيب بعدة أجوبة: منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر، فلم يعصموا من الصغائر، كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا....".
قال الشيخ البراك : قوله: "والراجح عصمتهم من الصغائر أيضاً": في هذا الترجيح نظر، بل الراجح جواز بل وقوع الصغائر منهم، والسهو والنسيان من باب أولى؛ فهذا آدم عليه السلام نسي وعصى، فقال تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما" [طه115] ، وقال تعالى: "وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" [طه121] ، وهذا نوح عليه السلام سأله ربه ما ليس له أن يسأله كما قال تعالى: "فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين" [هود46،47] ، وهذا موسى عليه السلام قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها فندم وقال: "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم" [القصص16] .
وإن كان هذا قبل الإرسال فهو وارد على القائلين بالعصمة مطلقًا، وقد عاتب الله عز وجل نبيه في مواضع من القرآن فقال: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" [التوبة43] ، وقال: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" [الأنفال67] ، وقال: "عبس وتولى" [عبس1] .
والمقطوع به أنهم صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، ومن الإقرار على شيء من الذنوب أو الخطأ، ومعصومون من الذنوب التي تنفر عن دعوتهم. والمقتضي للاستغفار أعم من أن يكون ذنبًا، بل قد يكون تقصيرًا عما يطلب من الكمال، وقد يكون شعورًا بالتقصير وإن لم يكن، وهذا من الكمال، وبهذا يتحقق لهم كمال العبودية في سائر مقامات الدين والله أعلم.
70 – (11 / 106) قال الحافظ: ".. وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه".
على حديث رقم 6308
قال الشيخ البراك : قوله: "وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه..." إلى آخر ما ذكره وأورده من النقول في تأويل الفرح: كل ما ذكره الحافظ ونقله في هذا الموضع جار على مذهب النفاة، وأهل التأويل منهم، وفي هذا كله صرف للفظ ( الفرح ) عن ظاهره؛ فمن المعلوم أن الفرح غير الرضا، والرضا غير المحبة، وكلها غير الإرادة؛ فإن الفرح ضده الحزن، والرضا ضده السخط، والمحبة ضدها البغض، وكل هذه الصفات التي وردت في النصوص إضافتها إلى الله تعالى تنفيها الأشاعرة، وأهل التأويل منهم يفسرونها بالإرادة.
وأهل السنة والجماعة لا يفرقون بين الصفات الواردة في الكتاب والسنة، بل يثبتونها لله عز وجل على ما يليق به سبحانه من غير تكييف ولا تمثيل، ويردون على الأشاعرة بأن حكم الصفات واحد، والتفريق بينها تفريق بين المتماثلات، ولهذا يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه فيما نفوه.
* وقول ابن العربي: "كل صفة تقتضي التغير لا يجوز أن يوصف الله بحقيقتها"
تقدم التعليق عليه ، وبيان ما يحتمله لفظ التغير . انظر : التعلـيق (55) .
71 – (11 / 106) قال الحافظ : "وقال ابن أبي جمرة: كنى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح؛ لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه....".
على حديث رقم 6308
انظر التعليق (70) .
72 – (11 / 106) قال الحافظ: "وهذا القانون جار في جميع ما أطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به....". على حديث رقم 6308
تقدم التعليق على مثل ذلك؛ ينظر التعليق (70)
73 – (11 / 129) قال الحافظ: "وقال الكرماني: ...النزول محال على الله؛ لأن حقيقة الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك، فليتـأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه، أو يفوض مع اعتقاد التنزيه....".
على حديث رقم 6321
قال الشيخ البراك : "وقال الكرماني : ... النزول محال على الله....": هذا قول منكر، وردٌّ لخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أعلم الخلق بربه، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم الخبر بنزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة؛ فقد نقل ذلك الجم الغفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلقى ذلك أهل السنة والجماعة بالقبول فأثبتوا أنه سبحانه ينزل حقيقة كيف شاء، كما قالوا: إنه استوى على العرش وإنه يجيء يوم القيامة كما أخبر عن نفسه سبحانه وتعالى، فقول أهل السنة في النزول كقولهم في سائر أفعاله وصفاته سبحانه؛ وهو إثباتها مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
وقول الكرماني: (النزول محال على الله) هو مذهب المعطلة من الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والأشاعرة، ومن مذهبهم نفي علوه سبحانه بذاته واستوائه على عرشه، ونفي قيام الأفعال الاختيارية به.
ومن لا يثبت العلو يمتنع عليه أن يثبت النزول، والحامل لهم على هذا الباطل هو توهم التشبيه وقياس الخالق على المخلوق. وهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، وما يثبت له من الصفات هو على ما يليق به لا يماثل صفات المخلوقين؛ فنزوله ليس كنزول المخلوق، كما أن علمه وسمعه وبصره ليس كعلم المخلوق وسمعه وبصره. وتأويل النفاة لنزوله سبحانه بنزول ملك، أو نزول الرحمة هو من تحريف الكلم عن مواضعه؛ فهل يجوز أن يقول الملك: "من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه"، فلفظ الحديث نص بأن الذي ينزل هو الله نفسه، وهو الذي يقول ذلك، فالذين تأولوا النزول بنزول ملك قد جمعوا بين التحريف والتعطيل فضلوا عن سواء السبيل.
وانظر التعليق ( 39)
74 – (11 / 208) قال الحافظ: "وقوله: "حبيتان إلى الرحمن" تثنية حبيبة وهي المحبوبة، والمراد أن قائلها محبوب لله، ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم ...".
على حديث رقم 6406
قال الشيخ البراك :قوله: "والمراد أن قائلها محبوب لله تعالى ... إلخ": هذا عدول عن ظاهر الحديث بلا موجب؛ فالحديث ظاهر في تعلق محبة الله تعالى بالكلمتين، فهو يفيد أن الله يحبهما، وفي هذا حث وترغيب في الاستكثار منهما، وأن ذلك من أسباب محبة الرب لعبده.
وقول الحافظ: "ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم": تأويل يقتضي نفي حقيقة المحبة عن الله تعالى، وهو مذهب الأشاعرة وهو باطل؛ فإنه سبحانه يُحِبُّ ويُحَبُّ كما أخبر بذلك عن نفسه في كتابه، ومحبته لما شاء ولمن شاء لا تماثل محبة المخلوق؛ كما هو الشأن في سائر صفاته تعالى، فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهره، وأهل السنة يثبتون المحبة له حقيقة على ما يليق به، وأنه تعالى كما أخبر عن نفسه يحب المتقين والتوابين والمتطهرين، ويحب هذه الخصال والأفعال.
75 – (11 / 223) قال الحافظ: "واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة؟ فقال الفخر: المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه على الله. وقال القاضي أبو بكر والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات، قال : وهذا هو المختار ...." .
على حديث رقم 6410
قال الشيخ البراك : الصواب أن أسماء الله عز وجل وصفاته توقيفية، ومعنى ذلك أنها مبنية على توقيف من الله تعالى أو رسوله r ؛ فلا يثبت له من الأسماء والصفات إلا ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سمّاه به رسوله r ، ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله r كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله؛ لا يتجاوز القرآن والحديث".
76 – (11 / 227) قال الحافظ: "ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه ...".
حديث رقم 6410
قال الشيخ البراك : هذا تأويل ، وانظر : التعليق (74 ) .
77 – (11 / 301) قال الحافظ: "قلت: المراد بالرحمة هنا ما يقع من صفات الفعل كما سأقرره فلا حاجة للتأويل ....".
على حديث رقم 6469
قال الشيخ البراك : يريد الحافظ ـ رحمه الله ـ أن الرحمة في هذه الأحاديث هي الرحمة المخلوقة ، وهي أمور منفصلة ليست قائمة بذات الرب سبحانه وتعالى، وهذا الذي قاله حق، ولكن إطلاقه الصفات على هذه المفعولات هو من الاضطراب في الفهم والتصور عند النفاة ؛ إذ كيف يكون المفعول صفة للفاعل وهو لا يقوم به ؟!
وبناء على الفهم الفاسد يؤول كثير منهم الصفات الفعلية كالمحبة والرضا والرحمة والغضب والسخط بما يخلقه الله من النعم والعقوبات.
وقوله: "فلا حاجة للتأويل": يريد به الرد على ابن الجوزي فيما نقله عنه هنا ؛ فابن الجوزي فهم أن الرحمة المذكورة في الحديث هي صفة الرب سبحانه وتعالى القائمة بذاته ، وأن ذكر الأجزاء تمثيل للتقريب ، وهذا غلط منه رحمه الله تعالى ؛ فالرحمة المذكورة في الحديث هي الرحمة المخلوقة لا الرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، والحديث نص في هذا لا يحتمل غيره؛ فهو يدل على الرحمة المخلوقة بالنص وعلى الصفة بطريق اللزوم ؛ لأن الأولى أثر الثانية.
وأهل السنة يثبتون الرحمة صفة لله تعالى حقيقة كما يثبتون سائر الصفات، وأنها لا تماثل رحمة المخلوقين و لا يعلم العباد كنهها.
وانظر التعليق (65)
78 – (11 / 343) قال الحافظ : "قوله: (يتقرب إليَّ): التقرب طلب القرب؛ قال أبوالقاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه، ثم بإحسانه. وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه. ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق. قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء....".
على حديث رقم 6502
انظر التعليق (67)
79 – (11 / 358) قال: "قال العلماء: محبة الله لعبده إرادته الخير له وهدايته إليه وإنعامه عليه، وكراهته له على الضد من ذلك".
وذلك في كلامه على كتاب الرقاق ، باب 41 ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).
هذا تأويل وصرف للكلام عن ظاهره بغير دليل .
انظر : التعليق (66) و(74)
80 – (11 / 404) قال الحافظ : "ومعنى قوله: (لا يرضى) أي لا يشكره لهم، ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل، وقيل: معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل: الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل: الإرادة تطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى، والله أعلم، وقيل: الرضا من الله إرادة الخير، كما أن السخط إرادة الشر...". على حديث رقم 6538
قال الشيخ البراك: الصواب أن الرضا ضده السخط كما قال تعالى: "ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم" [محمد28] والرضا يتضمن المحبة، والسخط يتضمن البغض؛ فمعنى قوله: "ولا يرضى لعباده الكفر" [الزمر7] أنه لا يرضاه و لا يحبه بل يسخطه ويبغضه ، وتفسير نفي الرضا بعدم الشكر غير لائق؛ فإن ذلك لا يدل على قبح الكفر ولا يقتضي عقابًا بخلاف نفي المحبة والرضا، والله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والرضا، وأنه يمقت الكافرين ويسخط عليهم، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات لله تعالى على الحقيقة اللائقة به سبحانه، وتأويلها بالإرادة أو ببعض المخلوقات هو طريقة أهل التأويل من الأشاعرة وغيرهم ؛ لأن مذهبهم نفي هذه الصفات عن الله تعالى .
وقول من قال: "الرضا صفة وراء الإرادة": يعني أنها غيرها، وهو قول صحيح.
وقول من قال: "الإرادة تطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا" هو معنى قول أهل السنة: الإرادة من الله نوعان: إرادة كونية؛ وهي المتعلقة بجميع الكائنات، وهي بمعنى المشيئة؛ كقوله تعالى: "فعال لما يريد" [البروج16] ، وإرادة شرعية؛ وهي المتعلقة بما يحبه ويرضاه؛ كقوله تعالى: "يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر" [البقرة185] .
81 – (11 / 434) قال الحافظ: وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء..... واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا....".على حديث رقم 6565
قال الشيخ البراك : أجمع العلماء على عصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله تعالى، وأنهم معصومون من الإقرار على الخطأ، أو الإصرار على شيء من الذنوب. وجمهور العلماء على أنه تجوز عليهم الصغائر، وهذا التفصيل هو الصواب .
وانظر التعليق (69)
82 – (11 / 441) قال الحافظ: "وفيه جواز إطلاق الغضب على الله، والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي، وقال غيره: المراد بالغضب لازمه، وهو إرادة إيصال السوء للبعض..".
على حديث رقم 6565
قال الشيخ البراك : الحق أن الله سبحانه موصوف بالغضب حقيقة كما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله r ، والقول فيه كالقول في سائر الصفات؛ وهو وجوب الإثبات ونفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية. وتأويله بإرادة إيصال السوء عدول عن ظاهر هذا اللفظ بغير موجب، وهذه طريقة كثير من الأشاعرة فيما ينفونه عن الله من الصفات زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه مع إثباتهم للصفات السبع، فكانوا لذلك متناقضين ومفرقين بين المتماثلات؛ إذ القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
83 – (11 / 444) قال الحافظ: "وقوله: (الله يستهزئ بهم) أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم.." على حديث رقم 6571 .
قال الشيخ البراك : معنى هذا أن الله سبحانه لا يستهزئ بالمنافقين حقيقة، وإنما سمى جزاءه لهم استهزاء مشاكلة لفظية، والصواب أن الله تعالى يستهزئ بالمنافقين حقيقة، وتلك سنته في الجزاء؛ وهي أنه من جنس العمل.
ومثل الاستهزاء من الله تعالى الخداع والمكر؛ فقد أخبر سبحانه أنه يخدع المنافقين ويمكر بالكافرين؛ قال الله تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" [النساء142] ، وقال سبحانه: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" [الأنفال30] . وكل هذه الأفعال من الله تعالى ذكرت جزاءً على خداع المنافقين واستهزائهم ومكر الكافرين، وهي من الله سبحانه عدل وكمال؛ لأنها من المجازاة بالمثل، وما قبوله تعالى لعلانية المنافقين وإعطائهم النور لهم يوم القيامة مع المؤمنين ثم إطفائه عليهم، وما استدراجه للكافرين والمنافقين إلا من ذلك المكر والاستهزاء جزاء وفاقًا.
84 – (11 / 444) قال الحافظ: قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا...". على حديث رقم 6571 .
قال الشيخ البراك : الصواب أن الله تعالى يضحك حقيقـة ضحكًا يليـق بجلالـه، والقـول فيـه كالقول في سائر الصفات.
وانظر التعليق (20) و(21)
85 – قال الحافظ (11 / 447) "يقول(تضامون) بضم أوله وتشديد الميم يريد: لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض؛ فإنه لا يرى في جهة، ومعناه بفتح أوله: "لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد من الضيم معناه: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض؛ فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق ، باب 52 .
قال الشيخ البراك : قوله: "فإنه لا يرى في جهة...": معنى ذلك أنه لا يرى في العلو؛ فلا يرى من فوق و لا من تحت و لا أمام و لا خلف و لا يمين و لا شمال، وهذا قول باطل في العقل والشرع؛ فالمرئي رؤية بصرية لا بد أن يكون في جهة من الرائي، وهذا القول في الرؤية هو حقيقة قول الأشاعرة، وهو مبني على باطل، وهو نفي علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه، فكانوا في الرؤية متذبذبين بين النفاة والمثبتين، بل هم أقرب إلى نفاة الرؤية كالمعتزلة.
وقوله: "فإنكم ترونه في جهاتكم كلها": يناقض القول بأنه تعالى لا يرى في جهة، فتبين أن قول الأشاعرة في الرؤية متناقض ومناقض للعقل والشرع، وهذا شأن الباطل، وفي هذا الحديث دلالة على أنه سبحانه يراه المؤمنون في جهة العلو؛ لقوله: (فإنكم ترونه كذلك)، أي كما ترون الشمس والقمر، وهما يريان في العلو؛ فرؤيتهما بصرية ومن غير إحاطة والله تعالى يرى كذلك، كما أخبر بذلك أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم.
86 – (11 / 450) قال الحافظ : "وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى فقيل: هو عبارة عن رؤيتهم إياه؛ لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالمجيء إليه، فعبر عن الرؤية بالإتيان مجازا، وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث . وقيل: فيه حذف، وتقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض، قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك؛ لأنه مخلوق".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق، باب 52 .
قال الشيخ البراك : الإتيان من الله تعالى والمجيء فعل من أفعاله سبحانه التي تكون بمشيئته كما قال تعالى: "فعال لما يريد" [البروج16] ، وقال: "ويفعل الله ما يشاء" [إبراهيم27]. وقد أخبر سبحانه في كتابه الكريم أنه يجيء ويأتي، وتأتي ملائكته؛ وذلك للفصل بين عباده يوم القيامة؛ قال تعالى: "وجاء ربك والملك صفًا صفًا" [الفجر22]، وقال: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك...الآية" [الأنعام158] .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هذه الأمة تبقى فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفون. وهذا كله حق على حقيقته ليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره، فلذلك كان من مذهب أهل السنة إثبات المجيء لله عز وجل والإتيان، وإثبات الصورة له سبحانه، كما أثبتوا له سائر الصفات والأفعال؛ إثباتًا بلا تشبيه ولا تكييف. وأما نفي حقيقة المجيء والإتيان ونفي الصورة عن الله تعالى فهو مذهب الجهمية، وتبعهم على ذلك المعتزلة والأشاعرة؛ ولذلك احتاجوا إلى تأويل هذه النصوص بما ذكره الحافظ، وهي تأويلات حقيقتها تحريف الكلم عن مواضعه؛ إذ ليس لهم من دليل عقلي ولا نقلي يوجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها إلا ما هو من جنس حجة الجهمية في نفي جميع الأسماء والصفات، وهي حجة داحضة، ومذهب ظاهر الفساد .
وأما قوله: "وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه...إلخ": فيحتمل أنه حكاية لمذهب أهل السنة المثبتين لحقيقة الإتيان كما تقدم، ويحتمل أنه حكاية لمذهب أهل التفويض من النفاة؛ وهم الذين يثبتون اللفظ ويفوضون المعنى، وهو مذهب باطل كمذهب أهل التأويل؛ فإنهما يقومان على النفي والتعطيل.
87 – (11 / 450) قــال الحافظ : "وعبر عن الصفة بالصورة....بقوله: يكشف عن ساق: أي عن شدة...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق، باب 52 .
انظر التعليق : (16) (52) .
88 – (11 / 451) قال الحافظ : "ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق، باب 52 .
قال الشيخ البراك : تفسير الكشف عن الساق بزوال الخوف والهول فيه نظر؛ فإن المشهور في معنى يكشف عن ساق أنه كناية عن شدة الأمر والهول كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويبدو أن الذي فسره بزوال الشدة توهمه من لفظ الكشف. والذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما محتمل في الآية، ولكن جاء في السنة ما يبين أن المراد كشف الله تعالى عن ساقه بلفظ الإضافة، فيدل على إثبات الساق لله سبحانه، وهو أولى ما تفسر به الآية؛ فإن سياق الحديث موافق لسياق الآية لفظًا ومعنى.
وانظر التعليق (52)
89 – (11 / 490) قال الحافظ: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فمن لم يشرك فهو داخل في المشيئة. واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق، لأنه دل على أن الله كلف العباد كلهم بالإيمان مع أنه قدر على بعضهم أن يموت على الكفر ..".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6594 ، كتاب القدر ، باب 1 .
قال الشيخ البراك : قوله: "واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق...إلخ": تقدم أن ما لا يطاق يطلق على معان؛ ومنها: ما علم الله عز وجل أنه لا يكون وهو ممكن في ذاته ومما تعلق به القدرة؛ فالتكليف به من التكليف بما لا يطاق عند الجبرية. وما ذكر عن الأشعري من تجويز التكليف بما لا يطاق هو جار على هذا الأصل.
وانظر التعليق (62) .
90 – (11 / 490) قال الحافظ: " وللعبد قدرة غير مؤثرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرًا لكنه يسمى كسبا، وبسط أدلتهم يطول....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6594 ، كتاب القدر، باب 1 .
قال الشيخ البراك : معناه أن قدرة العبد غير مؤثرة في فعله، وما العلاقة بينهما إلا الاقتران. وهذا تحقيق قول الأشاعرة في أفعال العباد، وهذا يرجع إلى أصل كبير عندهم وهو نفي تأثير الأسباب في المسببات، وأن الأسباب محض أمارات على مسبباتها، وهذا مذهب الجبرية في الأسباب، وقول الأشاعرة في أفعال العباد راجع عند التحقيق إلى قول الجبرية؛ فإن إثبات قدرة ومشيئة لا تأثير لها لا معنى له. وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون للعبد قدره ومشيئة مؤثرة في فعله، ولكن مشيئته موقوفة على مشيئة الله تعالى؛ كما قال عز وجل: "لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير28، 29]. فالعبد فاعل حقيقة، والله خالقه وخالق أفعاله؛ فهي أفعال للعبد حقيقة ومفعولة لله تعالى؛ فالعبد هو المصلي والصائم والبر والفاجر والمؤمن والكافر؛ كل ذلك حقيقة. وما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى عن بعضهم أنه أثبت أن لها تأثيرًا لكنه يسمى كسبًا يشبه أن يقول: هو قول أهل السنة الذي تقدم ذكره، وهم يسمون أفعال البعاد كسبًا كما سماه الله سبحانه وتعالى؛ فهي أفعالهم وأعمالهم وأكسابهم كما قال تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" [البقرة286]، وقوله سبحانه: "جزاء بما كانوا يعملون" [السجدة17] ، وقوله عز وجل: "ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون" [الزمر70] .
91 – (11 / 507) قال الحافظ : "... وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف.".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6614 ، كتاب القدر، باب 11 .
قال الشيخ البراك : أما إضافة الروح التي نفخت في آدم إلى الله فهي من إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ إذن فإضافتها إلى الله تعالى إضافة تشريف كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى.
وأما إضافة خلق آدم إلى يديه سبحانه فلأن خلقه كان باليدين، وفي هذا تشريف لآدم على سائر المخلوقات. وقد دل على هذه الفضيلة لآدم عليه السلام الكتاب والسنة المتواتر؛ قال تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص75]، وهذا التركيب لا يحتمل إلا الخلق باليدين، وهذا بينٌ على منهج أهل السنة والجماعة المثبتين لليدين وسائر صفات الله تعالى، وأما الذين ينفون حقيقة اليدين عن الله تعالى ويتأولونها في الآية بالقدرة أو النعمة، فعلى قولهم لا يكون لآدم خصوصية ومزية على غيره، فلا تكون إضافة الخلق إلى اليدين تشريف حقيقي بل تشريف لفظي.
وقول الحافظ في هذه الإضافة: "إضافة تشريف" لفظه يحتمل التشريف الحقيقي والتشريف اللفظي، وحمله على الثاني هو الموافق لطريقته رحمه الله تعالى، ولذلك لم يفرق بين إضافة خلق آدم ليده، وإضافة الروح إليه سبحانه.
92 – (11 / 527) قال الحافظ: "وفيه جواز تسمية الله تعالى بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به..".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6628 ، كتاب الأيمان والنذور، باب 3 .
قال الشيخ البراك : في هذا الإطلاق نظر، والقاعدة الصحيحة أن الله عز وجل لا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به الرسول r ، وأن كل اسم ثبت لله تعالى فهو متضمن لصفة؛ فأسماؤه تعالى أعلام وصفات، ليست أعلامًا محضة كما تقول المعتزلة؛ فالعزيز دال على ذات الرب سبحانه وصفة العزة، والقدير دال على الذات وصفة القدرة، وهكذا سائر الأسماء، وأما الصفات فلا يشتق له تعالى من كل صفة اسم، بل يقتصر في ذلك على ما ورد؛ فلا يسمى سبحانه بالغاضب والراضي والمدمر والمهلك والماكر لورود هذه الأفعال في صفاته، والحديث إنما يدل على إثبات هذا الاسم: ( مقلب القلوب ) لا يدل على القاعدة التي أطلقها الحافظ رحمه الله تعالى، والحافظ نفسه قد منع ذلك .
وانظر التعليق (75).
93 – (11 / 562) قال الحافظ : "ولا ينظر الله إليه" قال في الكشاف: هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه، وبالغضب إيصال الشر إليه ...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6676 ، كتاب الأيمان والنذور، باب 17 .
قال الشيخ البراك : الصواب أن الله تعالى ينظر إلى من يشاء حقيقة، ويغضب على من يشاء حقيقة، وما ذكره الحافظ عن صاحب الكشاف تأويل مخالف لظاهر اللفظ، وهو مناسب لمذهبه الاعتزالي، وهو نفي الصفات عن الله تعالى، ويوافقهم الأشاعرة على نفي حقيقة النظر، وحقيقة الغضب، وأكثر الصفات .
وانظر التعليق رقم (60)
94 – (12 / 428) قال الحافظ : " وقال المهلب في قوله : " كلف أن يعقد بين شعيرتين ، حجة للأشعرية في تجويزهم تكليف ما لا يطاق ، ومثله في قوله تعالى : " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " وأجاب من منع ذلك بقوله تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " أو حملوه على أمور الدنيا ، وحملوا الآية والحديث المذكورين على أمور الآخرة ، انتهى ملخصا . والمسألة مشهورة فلا نطيل بها " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7042 ، كتاب التعبير ، باب 45 .
انظر تفصيل القول في تكليف ما لا يطاق في التعليق (62) (89).
95 – (13 / 203) قال الحافظ : " ومعنى لا ينظر إليهم : يعرض عنهم ، ومعنى نظره لعباده : رحمته لهم ولطفه بهم ... " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7212 ، كتاب الأحكام ، باب 48 .
انظر التعليق (60) (93).
96 – (13 / 254) قال الحافظ : " وقال ابن عبد السلام في أواخر القواعد : البدعة خمسة أقسام : " فالواجبة " كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله ، لأن حفظ الشريعة واجب ، ولا يتأتى إلا بذلك ، فيكون من مقدمة الواجب ، وكذا شرح الغريب ، وتدوين أصول الفقه ، والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم . " والمحرمة " : ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة . " والمندوبة " : كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع عند التراويح ، وبناء المدارس والربط ، والكلام في التصوف المحمود ، وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله . " والمباحة " كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن ، وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأولى ، والله أعلم " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7277 ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب 2 .
قال الشيخ البراك : هذا التقسيم يصح باعتبار البدعة اللغوية، وأما البدعة في الشرع فكلها ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم : "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ومع هذا العموم لا يجوز أن يقال: من البدع ما هو واجب، أو مستحب أو مباح، بل البدعة في الدين إما محرمة أو مكروهة، ومن المكروه مما قال عنها إنها بدعة مباحة: تخصيص الصبح والعصر بالمصافحة بعدهما.
وانظر التعليق (15)
97 – (13 / 344) قال الحافظ : "وأما أهل السنة، ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل. قال الجنيد فيما حكاه أبوالقاسم القشيري: (والتوحيد إفراد القديم من المحدث..)". وذلك في كلامه على مقدمة كتاب التوحيد .
قال الشيخ البراك : يريد بأهل السنة في مقابل الجهمية والمعتزلة: الأشاعرة، ولا ريب أن الأشاعرة أقرب في باب الصفات إلى أهل السنة والجماعة؛ إذ يثبتون بعض الصفات كالحياة والسمع والبصر، لذلك لم يكونوا من المعطلة مطلقًا، وهم الذين ينفون جميع الصفات أو الصفات والأسماء؛ فالتحقيق أن الأشاعرة من المنتسبين للسنة لا من أهل السنة المحضة؛ لأنهم يخالفون أهل السنة في بعض أصول الاعتقاد: كنفيهم لأكثر الصفات، وأن الإيمان هو التصديق، وأن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى.
وتفسير التوحيد الذي ذكره الحافظ عنهم قاصر ومجمل؛ إذ لم يتعرض فيه لتوحيد العبادة الذي هو المقصود الأعظم من شهادة "لا إله إلا الله" وكانت الخصومة فيه بين الرسل وأممهم.
وأما الإجمال؛ فإن نفي التشبيه تدَّعيه الجهمية والمعتزلة، ويريدون به نفي الصفات، ويسمون ذلك توحيدًا، ويسمون إثبات الصفات تشبيهًا، وقد شاركهم الأشاعرة هذا المعنى في أكثر الصفات. والصواب أن توحيد الأسماء والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
98 – (13 / 345) قال الحافظ : "وقال ابن بطال: تضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم، لأن الجسم مركب من أشياء مؤلفة....".
وذلك في كلامه على مقدمة كتاب التوحيد.
قال الشيخ البراك : إطلاق نفي الجسم عن الله تعالى هو من مذهب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة وكذلك الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فلا يطلقون لفظ الجسم على الله تعالى لا نفيًا ولا إثباتًا؛ وذلك أنه لفظ مجمل لأن له عدة معانٍ منها: ما يجب إثباته لله تعالى كالموجود والقائم بنفسه، ومنها: ما يجب نفيه كالمركب من الجواهر المفردة. ولهذا كان الواجب في مثل هذا هو الاستفصال ممن تكلم به عن مراده؛ فإن أراد حقًا قبل، وإن أراد باطلاً ردّ. هذا ولفظ الجسم مما لم يرد في كتاب ولا سنة، وعلى هذا فإطلاق نفيه أو إثباته في صفات الله تعالى من المحدثات في باب الأسماء والصفات.
وقول ابن بطال: "وتضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم" يريد أن التوحيد الذي يجب لله تعالى يتضمن نفي أن يكون الله جسمًا؛ لأن الجسم عنده هو المركب من أشياء مؤلفة. وهذا هو معنى من قال: إن الجسم هو المركب من الجواهر المفردة، وهذا هو أحد معاني الجسم الاصطلاحية كما سبق.
وعند الجهمية والمعتزلة: الجسم: ما تقوم به الصفات، والأجسام عندهم متماثلة؛ فلذلك نفوا الصفات عن الله تعالى حذرًا من التجسيم والتشبيه، وسموا نفي الصفات توحيدًا، وسموا إثباتها تشبيهًا وتجسيمًا وتركيبًا. وكل ذلك من تشويه الحق وتزويق الباطل تمويهًا وتضليلاً.
99 – (13 / 357) قال الحافظ: "وقال المازري ومن تبعه: محبة الله لعباده إرادة ثوابهم وتنعيمهم، ـ إلى قوله ـ وفاعلها يرجع إلى إرادته إهانته " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7375 ، كتاب التوحيد ، باب 1 .
قال الشيخ البراك : تقدم في تعليقات سابقة أن من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يُحِبُّ ويُحَبُّ حقيقة، كما قال سبحانه وتعالى في القوم الذين أثنى عليهم: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" [المائدة 54]، وقال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" [آل عمران 31]. وما ذكره الحافظ من الأقاويل في تفسير محبة الله لعباده أو محبتهم له هو من التأويل المذموم الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره بغير حجة توجب ذلك. وهذه التأويلات مبنية على أن الله تعالى لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ حقيقة، وهذا عين ما تقوله الجهمية. وأما الأشاعرة فينفون المحبة من جهة الله تعالى، وأهل التأويل منهم يفسرونها بالإرادة أو الإثابة كما ذكر هنا. وأما المحبة من جهة العبد، فمنهم من يثبتها كما ذكر عن المازري، ومنهم من يتأولها كما ذكر عن ابن التين.
وانظر التعليقات (66) و (74)
100 – (13 / 358) قال الحافظ : " قال ابن بطال : .... والمراد برحمته إرادته نفع من سبق في علمه أنه ينفعه .... وقيل : يرجعان إلى معنى الإرادة ، فرحمته إرادته تنعيم من يرحمه ، وقيل : راجعان إلى تركه عقاب من يستحق العقوبة " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7377 ، كتاب التوحيد ، باب 2 .
قال الشيخ البراك : تفسير الرحمة بالإرادة يتضمن نفي حقيقة الرحمة عن الله تعالى، وهذا مصادم لما أخبر الله به ورسوله من اتصافه بالرحمة كما قال تعالى: "وربك الغفور ذو الرحمة" [الكهف 58]، وكما دل على ذلك الاسمان الكريمان: الرحمن الرحيم .
ونفي حقيقة الرحمة وتفسير ما ورد بالإرادة أو الإثابة جمع بين التعطيل والتحريف. وهذا منهج أهل التأويل من الأشاعرة ونحوهم في كل الصفات التي ينفونها كما سبق التنبيه على ذلك في مواضع سابقة، والواجب إثبات صفة الرحمة لله حقيقة على ما يليق به كما هو الواجب في إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم دون تفريق بين الصفات. وهذا هو ما مضى عليه السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
وانظر التعليق (65) (77) .
101 – (13 / 359) قال الحافظ : "ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود: لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمنا كذلك، إلا إن كان عاميًا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفى منه بذلك، كما في قصة الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مؤمنة؟" قالت: نعم، قال: "فأين الله؟" قالت: في السماء، فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة" ، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم.... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7377 ، كتاب التوحيد، باب 2.
قال الشيخ البراك : معناه أن اليهود يقرون بأن الله في السماء - يعني في العلو- وهذا عند المعطلة نفاة العلو تجسيم؛ أي أن الله لو كان في السماء لزم أن يكون جسمًا، ومن مذهبهم أن الله تعالى ليس بجسم، فوجب نفي ما يستلزم الجسمية، ومن ذلك العلو على المخلوقات؛ فلذلك نسبوا اليهود إلى التجسيم والتشبيه. ونسبوا كذلك إلى التجسيم أهل السنة المثبتين للعلو وسائر الصفات، لذلك هم يشَبِّهون أهل السنة باليهود.
وإثبات اليهود للعلو هو من الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام، كما جاءت به سائر الرسل، وجاء به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وتنوعت أدلته في الكتاب والسنة، ودلت عليه الفطر والعقول السليمة. وكفر اليهود لا يقدح فيما يقرون به من الحق، وأما إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى نفيًا أو إثباتًا فقد تقدم قريبًا القول فيه، وبينَّا هناك مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك.
انظر التعليق (98) .
102 – (13 / 368) قال الحافظ: "وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله تعالى من صفات ذاته وليست جارحة، خلافًا للمجسمة.انتهى ملخصا ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7382، كتاب التوحيد، باب 6.
قال الشيخ البراك : لفظ الجارحة في صفات الله تعالى لفظ محدث؛ فلم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، ولهذا أهل السنة يثبتون اليدين والعينين ونحوهما من الصفات لله تعالى، ويقولون: إن ذلك حقيقة، ولا تماثل صفات المخلوقين، ولا يقولون في هذه الصفات إنها ليست جارحة؛ لأنه لفظ محدث ومجمل، والغالب على من يقول عن هذه الصفات أنها ليست جارحة نفي حقائقها، ثم إما أن يثبت ألفاظها ويفوض معانيها، وإما أن يتأولها بخلاف ظاهرها كتأويل اليدين بالقدرة، والعينين بالرؤية، ومن أثبت هذه الصفات لله تعالى على حقيقتها اللائقة به سبحانه وقال: إنها ليست بجارحة، وأراد بالجارحة ما يماثل صفات المخلوقين فقد أصاب فيما أراد من النفي، ولكنه أخطأ في التعبير عن ذلك بلفظ محدث مجمل يحتمل حقاً وباطلاً.
وانظر التعليقات (2) و(6) و(13)و (53)
103 – (13 / 374-375) قال الحافظ: "وليس المراد قرب المسافة؛ لأنه منزه عن الحلول كما لا يخفى، ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7386، كتاب التوحيد، باب 9.
قال الشيخ البراك: القرب في هذا الحديث هو القرب الخاص؛ وهو قربه سبحانه من عابديه وداعيه، ولا يلزم من هذا القرب حلول الرب سبحانه في شيء من المخلوقات، كما لا يلزم من نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة علو سائر السماوات عليه؛ بل هو العلي الأعلى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء؛ فعلوه سبحانه فوق المخلوقات من لوازم ذاته، فنزوله وقربه لا ينافي علوه، بل هو سبحانه عال في دنوه قريب في علوه، فلا يقاس بخلقه، ولا يلزم من صفاته سبحانه ما يلزم في صفات المخلوقين، وعلى هذا فقوله: "وليس المراد قرب المسافة" احتراز لا حاجة إليه، وتقييد لا موجب له؛ لأنه مبني على أن قربه يستلزم الحلول، وهو ممنوع كما تقدم .
104 – (13 / 377) قال الحافظ: "وجواز اشتقاق الاسم له تعالى من الفعل الثابت".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7391، كتاب التوحيد، باب 11.
قال الشيخ البراك: هذا لا يصح على الإطلاق ؛ فالقاعدة الصحيحة أن كل اسم من أسماء الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة متضمن لصفة من الصفات خلافاً للمعتزلة، وأما الصفات الفعلية فلا يشتق لله تعالى من كل صفة اسم؛ فلا يطلق على الله تعالى المدمر والمدمدم، والغاضب، والراضي لثبوت هذه الأفعال في حقه سبحانه تعالى، لكن ما ورد من الأسماء مشتق من بعض أفعاله وجب إثباته والاقتصار عليه؛ مثل: الخلاق، والرزاق، ومقلب القلوب .
وقد يسهل فيما مطلقه مدح من الأفعال؛ كالمنعم والمحسن من الإنعام والإحسان، وقد ورد لفظ المحسن في بعض الأحاديث.
105 – (13 / 379) قال الحافظ: "قوله: (باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها) قال ابن بطال: مقصوده بهذه الترجمة تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى ...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 13 .
قال الشيخ البراك: الجزم بأن هذا هو مقصود البخاري فيه نظر، ولم يذكر ابن بطال دليلاً على ما قال. نعم المراد بالأسماء في قول البخاري: السؤال بأسماء الله المسمى بها؛ فالمراد بقول الداعي: يا الله، يا رحمن، يا حي، يا قيوم: المسمى بهذه الأسماء، وهو رب العالمين، ولا يلزم من ذلك تصحيح البخاري للقول بأن الاسم هو المسمى مطلقاً؛ فإن الصواب في هذه المسألة أن الاسم قد يراد به المسمى، وقد يراد به غير المسمى، وهو اللفظ كقولك: الله مشتق، وأصله الإله، والرحمن عربي.
فأسماء الله تعالى إذا وردت في سياق الدعاء والاستعاذة فالمراد بها المسمى، وإذا وردت في مقام التعداد واختلاف الدلالات فالمراد بها الأسماء الدالة على المسمى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : "إن لله تسعًا وتسعين اسمًا" .
وقول ابن بطال: "فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم كما تصح بالذات" هذا يقتضي أن الأصل في الاستعاذة الاستعاذة بذات الله تعالى؛ كأن يقول: أعوذ بذات الله. وهذا اللفظ لم يرد، نعم ورد معناه في قوله صلى الله عليه وسلم : "وأعوذ بك منك"، وأما غالب ما ورد من ألفاظ الاستعاذة فبأسماء الله وصفاته.
وقوله: "ويطلق الاسم ويراد به التسمية …إلخ" فيه نظر كذلك؛ فإن التسمية هي فعل المسمِّي، وهو وضع الاسم للمسمى، أو إطلاق الاسم على من سمي به. إذن فالأمور ثلاثة: 1- الاسم: وهو اللفظ الدال.
2- والمسمى: وهو المدلول.
3- والتسمية: هي وضع الاسم للمسمى أو إطلاقه عليه كما تقدم.
وبهذا يعلم أنه ليس المراد بالاسم في حديث الأسماء: التسمية، خلافاً لما قال ابن بطال، بل المراد اللفظ الدال على ذات الرب، وصفته سبحانه كالعزيز، والحكيم، والسميع، والبصير.
فأسماء الله كلها دالة على ذاته، وكل اسم دال على صفة من صفاته؛ فهي متحدة في دلالتها على الذات متعددة متباينة في دلالتها على الصفات.
106 – (13 / 382) قال: "قال ابن بطال: أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب.... والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات الذات قائمة به، وصفات الفعل ثابتة له بالقدرة، ووجود المفعول بإرادته جل وعلا ... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7402، كتاب التوحيد، باب 14 .
قال الشيخ البراك: في هذا الكلام عدة مآخذ:
الأول: قوله:"أحدها يرجع إلى ذاته وهو الله": فإنه يقتضي أن هذا الاسم (الله) لا يدل إلا على ذات الرب سبحانه، ولا يدل على صفة؛ لأنه اسم جامد غير مشتق.
والصواب أنه مشتق من (أله) بمعنى: عبد، وأن أصل (الله): الإله، فحذفت الهمزة، وأدغمت اللام في اللام مفخمة، فمعناه: الإله أي المعبود، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الله ذو الألوهية، وعلى هذا فهو دال على ذات الرب سبحانه وصفة الألوهية. ومع ذلك فهو عَلَم على الرب تعالى لا يطلق على سواه .
الثاني: قوله: "والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل... إلخ": هذا الفرق مضمونه: أن الصفات الفعلية لا تقوم به سبحانه، وهذا هو المعروف من مذهب الأشاعرة الذين لا يثبتون إلا سبعًا من الصفات، وما عداها يفسرونه ببعض الصفات السبع كالقدرة والإرادة، أو يفسرونه ببعض المفعولات أي المخلوقات؛ مثل المحبة، والرضا، والغضب، فإنهم يفسرونها إما بالإرادة أو ببعض المفعولات من النعم والعقوبات، فعندهم أنه تعالى لا يقوم به ما تتعلق به مشيئته.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن صفات الله الفعلية قائمة به كالصفات الذاتية، والفرق بينهما أن الصفات الذاتية لا تتعلق بها المشيئة، فلا تنفك عنه سبحانه؛ مثل حياته وقدرته، ومثل وجهه ويديه سبحانه وتعالى .
وأما الصفات الفعلية: فهي التي تتعلق بها المشيئة؛ مثل استوائه على عرشه ونزوله إلى السماء الدنيا، ومثل محبته ورضاه .
ومن صفاته تعالى ما هو ذاتي وفعلي كالخلق والكلام؛ فإنه لم يزل خالقًا، ويخلق ما شاء إذا شاء، ولم يزل متكلمًا إذا شاء بما شاء، كيف شاء.
الثالث: قول ابن بطال: "وصفات الفعل ثابتة بالقدرة...إلخ": تقدم أنه هذا يقتضي أن صفات الفعل غير قائمة به، وإذا لم تقم به فكيف يقال: إنها صفات له؟ إذ لا يعقل أن تقوم الصفة بغير الموصوف، وأن يوصف الشيء بغير ما قام به، والحقيقة أنهم لا يثبتون الصفات الفعلية لله تعالى؛ فإطلاقهم صفات الفعل لا حقيقة له، فهم لا يثبتون إلا الفاعل والمفعول؛ كالخالق والمخلوق، ولا يثبتون (الخلق) الذي هو فعل الرب سبحانه. والصواب: إثبات الفعل والفاعل والمفعول.
107 – (13 / 383) قال الحافظ: "والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على الإجمال، وبالله التوفيق".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7402 ، كتاب التوحيد ، باب 12 .
قال الشيخ البراك: مقصوده ـ رحمه الله تعالى ـ الإمساك عن تأويل نصوص الصفات، وهو تفسيرها بما يخالف ظاهرها، وهذا في حد ذاته سديد؛ لأنه ترك للتأويل الباطل، ولكنه في مقابل ذلك رجح التفويض، وحقيقته: الإعراض عن فهم النصوص، والإيمان بلفظها وتفويض علم معانيها إلى الله تعالى؛ فالإثبات الذي يجب الإيمان به عند المفوضة هو إثبات ألفاظ النصوص دون إثبات ما يدل عليه ظاهرها من الصفات، بل ينفون ما يدل عليه ظاهرها، ومع ذلك يقولون: يجب إجراء النصوص على ظاهرها فيتناقضون، وبذلك يتبين أنه لا فرق بين أهل التأويل وأهل التفويض من حيث نفيهم للصفات التي دلت عليها النصوص من الكتاب والسنة. لكن أهل التأويل يفسرون النصوص بخلاف ظاهرها، وأهل التفويض يمسكون عن ذلك، ولا يثبتون ما تدل عليه. فالمذهبان باطلان، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة؛ وهو إثبات ما تدل عليه هذه النصوص من صفات الله تعالى مع نفي مماثلة المخلوقات، وتفويض علم كيفيتها إلى الله تعالى.
108 – (13 / 384) قال الحافظ: قال الراغب: نفسه: ذاته ... وقيل: إن إضافة النفس هنا إضافة ملك، والمراد بالنفس نفوس عباده. انتهى ملخصًا، ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه".
قال الشيخ البراك: ما قاله الراغب في تفسير النفس هو الصواب، والقول الثاني، وهو:"إن إضافة النفس هنا إضافة ملك...إلخ" هو قول باطل؛ لأنه خلاف الآيات التي ورد فيها ذكر النفس، وقد أحسن الحافظ في قوله: "ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه".
وقول الراغب: "سبحانه وتعالى عن الاثنينية من كل وجه": هذه من عبارات المعطلة لجميع الصفات كالمعتزلة؛ يقصدون بها أن الله تعالى ليس إلا ذاتًا مجردة عن جميع الصفات؛ لأن إثبات الصفات عندهم يلزم منه التعدد في ذاته. وهذه تنافي حقيقة التوحيد عندهم. وقولهم هذا مخالف للعقل والشرع؛ فقيام الصفات بالموصوف وتعددها لا ينافي أنه واحد؛ فالله تعالى بصفاته إله واحد.
109 - (13/ 384 – 385) قال الحافظ: "وقيل: غيرة الله كراهة إتيان الفواحش؛ أي عدم رضاه بها لا التقدير، وقيل: الغضب لازم الغيرة، ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7403 ، كتاب التوحيد ، باب 15 .
قال الشيخ البراك: لا ريب أن غيرة الله سبحانه من الفعل تتضمن كراهته له، والغضب على فاعله، وهذا يدل على قبح الفعل عنده سبحانه، ولذلك يحرمه على عباده. يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن". والغيرة والكراهة والغضب صفات ثابتة لله تعالى على ما يليق به، وتأويلها بإرادة إيصال العقوبة هي طريقة الأشاعرة الذين لا يثبتون إلا الصفات السبع - ومنها الإرادة - ومعنى ذلك أنه لا يوصف عندهم بهذه الصفات على حقيقتها.
وقوله: "لا التقدير": يظهر أن في هذه اللفظة تصحيف، وأن أصلها: "لا التغير"؛ فإن ذلك هو المناسب لمادة الغيرة.
وانظر التعليق (55)
110 – (13 / 385) قال الحافظ: "والله منزه عن الحلول في المواضع؛ لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث، والحادث لا يليق بالله...." .
وقال ابن التين: "معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7405 ، كتاب التوحيد ، باب 15 .
قوله صلى الله عليه وسلم "وهو وَضْعٌ عنده على العرش": هذا عند أهل السنة المثبتين لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه ليس بمشكل، بل هذا من أدلتهم على أن الله عز وجل بذاته فوق العرش، وأن هذا الكتاب عنده سبحانه فوق العرش، ولا يلزم من ذلك محذور في حقه سبحانه؛ لا حلول ولا حصر في شيء من مخلوقاته.
وإنما يُشْكِل هذا الحديث وأمثاله مِنْ وصْفِ بعض المخلوقات بأنها عنده على نفاة العلو والاستواء كالأشاعرة؛ فمن قال منهم بأنه سبحانه في كل مكان فقد تناقض أعظم تناقض، ومن قال منهم إنه لا داخل العالم ولا خارجه فقد وصف الله بالعدم؛ فإنه لا يوصف بذلك إلا المعدوم.
وقول ابن بطال وابن التين في تفسير الكتاب والعندية بالعلم في هذا الحديث هو من التأويل المذموم الذي حقيقته صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة صحيحة؛ فقد جريا في ذلك على مذهب أهل التعطيل من نفاة العلو، وهو مذهب باطل تضمن التعطيل والتحريف؛ تعطيل الله عز وجل عن ما يجب إثباته له من علوه على خلقه، وتحريف النصوص الدالة على ذلك. ومذهب أهل السنة بريء من هذا وهذا.
111 – (13 / 386) قال الحافظ: "قوله: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًا ذكرته بالثواب والرحمة سرًا، وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى: "فاذكروني أذكركم" ومعناه: اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7405 ، كتاب التوحيد ، باب 15.
قال الشيخ البراك: هو من الأدلة على أن الجزاء من جنس العمل. والذكر من حيث هو يكون بالقول والفعل، وهو في مثل هذا السياق أظهر في القول، بل حمله على القول في هذا الحديث متعين، لقوله :"في نفسه... في نفسي" وقوله: "في ملأ... في ملأ خير منهم"، فبان بذلك أن الله تعالى يذكر عبده بكلام في نفسه، أي بدون أن يُعلم بذلك أحدًا من ملائكته، وقد يذكره بشهود من شاء من ملائكته مثل ثنائه عليه، والإخبار بأنه يحبه كما في الحديث المشهور: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريلَ إن الله يحب فلانًا فأحبه..." وبهذا يتبين أن تأويل ذكر الله لعبده بالرحمة والثواب، أو الإنعام صرف للكلام عن ظاهره بلا حجة، وكأن الذي قال ذلك يذهب إلى أن الله تعالى لا يتكلم بكلام حقيقي يُسمِعه إذا شاء لمن شاء من عباده، وهذا موجب مذهب الأشاعرة في كلام الله سبحانه، وهو أن معنى كلام الله: معنى نفسي، ليس بحرف ولا صوت فلا يتصور سماعه منه، وهو ظاهر الفساد.
112 – (13/388 - 389) قال الحافظ: "وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين.... ولو كانت صفة من صفات الفعل لشملها الهلاك كما شمل غيرها من الصفات وهو محال" .
وذلك في كلامه في كتاب التوحيد ، باب 16 .
قال الشيخ البراك: دلّت الآية والحديث في هذا الباب على أن لله تعالى وجهًا، وأهل السنة والجماعة يثبتون ذلك ويقولون: لله تعالى وجه حقيقة لا كوجوه العباد موصوف بالجلال والإكرام وبالنور، وعلى هذا فما نقله الحافظ عن ابن بطال ظاهره جيد لولا قوله: "ليس بجارحة" فإن أهل السنة لا يطلقون لفظ الجارحة لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأن ذلك لم يرد، ولما فيه من الاحتمال والإجمال.
وأما تفسير الوجه بالذات؛ فإن أريد به أنه عبَّر بالوجه عن الذات مع إثبات حقيقة الوجه، وأنه من صفات الذات فلا مانع من ذلك، وإن أريد به نفي حقيقة الوجه، فهذا مذهب المعطلة نفاة الصفات. وصفة الوجه لله هي من الصفات التي يتفق على نفيها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وأهل التأويل منهم يفسرون الوجه بالذات كما تقدم أو الثواب، وهذا من التأويل المذموم الذي حقيقته تحريف الكلم عن مواضعه؛ إذ ليس لهذا التعطيل والتأويل من حجة صحيحة.
وانظر التعليق (47)
113 – (13/390) قال الحافظ: " قال ابن المنير: وجه الاستدلال على إثبات العين لله تعالى ... وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم، لا على معنى إثبات الجارحة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7407 ، و 7408 ، كتاب التوحيد ، باب 17 .
قال الشيخ البراك: استدل البخاري بالآيتين والحديث على إثبات العين لله تعالى، وأهل السنة والجماعة يثبتون عينين لا تشبهان أعين المخلوقين، كقولهم في سائر الصفات، ويستدلون لذلك بمثل قوله تعالى:"تجري بأعيننا" وبحديث الدجال .
ووجه الاستدلال أن تنزيه الله تعالى عن العور في قوله صلى الله عليه وسلم : "إن ربكم ليس بأعور" يدل على إثبات العينين لله تعالى وسلامتهما؛ فإن العور هو عمى إحدى العينين، لا عدم العين، خلافًا لما قاله ابن المنير في بيانه لوجه الاستدلال؛ حيث قال: "العور عرفًا عدم العين، وضد العور ثبوت العين".
وأما قوله: "وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة": فمعناه نفي حقيقة العين عن الله تعالى، وهذا هو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة.
ولفظ الجارحة لا يطلقه أهل السنة لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأنه من الألفاظ المجملة المبتدعة، فلا يقولون: إن عينه جارحة، أو ليست جارحة. والنافون لحقيقة العين منهم من يفسرها بالبصر كأهل التأويل، ومنهم من لا يتعرض لها بتأويل بل يثبت اللفظ من غير فهم لمعناه، وهم أهل التفويض.
114 – (13/390) قال الحافظ: " قال : ولأهل الكلام في هذه الصفات – كالعين والوجه واليد – ثلاثة أقوال، أحدها: أنها صفات ذات أثبتها السمع و لا يهتدي إليها العقل" .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7407 ، و 7408، كتاب التوحيد، باب 17 .
قال الشيخ البراك: الصواب من الأقوال الثلاثة التي حكاها ابن المنير هو القول الأول، ويتفق معه ما نقله الحافظ عن السهروردي، ومن بعده.
وأما القول الثاني والثالث فهما مذهب التأويل وأهل التفويض - كما تقدمت الإشارة إليهما- وأنهما مذهبان للنفاة.
115 – (13/390) قال الحافظ: "قال ابن بطال: احتجت المجسمة بهذا الحديث، وقالوا في قوله: (وأشار بيده إلى عينه) دلالة على أن عينه كسائر الأعين، وتعقب باستحالة الجسمية عليه؛ لأن الجسم حادث وهو قديم؛ فدل على أن المراد نفي النقص عنه" انتهى .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7408، كتاب التوحيد، باب 17.
قال الشيخ البراك: قوله: "وأشار بيده إلى عينه": أي الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يخفى عليكم؛ إن الله ليس بأعور" هو نظير لما جاء في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قرأ هذه الآية: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها...[إلى قوله تعالى] إن الله كان سميعًا بصيرًا} قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه..." [أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب (19) في الجهمية، ح 4728]، وهذه الإشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة المثبتين للعين، والسمع، والبصر، لبيان إرادة الحقيقة؛ فهو يسمع حقيقة ويبصر حقيقة، وكذلك له عين حقيقة، وكل ذلك على ما يليق به ويختص به سبحانه، لا يماثل في شيء من ذلك صفات المخلوق، وهذا هو الواجب في جميع ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم . ومثل هذه الإشارة ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يديه ويبسطهما لما ذكر أن الله تعالى يأخذ السماوات بيديه، وأن الله تعالى يقبض يديه ويبسطهما ويقول: "أنا الملك..." الحديث، ومعلوم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن القبض والبسط من الله تعالى مثل قبضه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وبسطه ليديه، وإنما أراد بيان أن الله يقبض يديه ويبسطهما حقيقة، وأما من لم يثبت العينين، ولا اليدين لله تعالى، فلا بد أن يتأول هذه النصوص بتأويلات تخرجها عن ظاهرها، أو يمسك عن تدبرها معتقدًا أنه لا سبيل إلى فهمها. وهي طريقة أهل التفويض من النفاة.
116 – (13/390) قال: " وقد سئلت هل يجوز لقارئ هذا الحديث أن يصنع كما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأجبت وبالله التوفيق...إلخ .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7408، كتاب التوحيد، باب 17.
قال الشيخ البراك: حاصل جواب الحافظ عما سئل عنه أنه يجوز بشرطين:
الأول: أن يكون من بحضرته يعتقد التنزيه.
الثاني: أن يقصد بالإشارة محض التأسي.
وفي هذا الجواب نظر من وجهين:
أولاً: أن الإشارة إذا كان المراد بها محض التأسي لم يكن لها معنى بالنسبة للمخاطبين، ولا بالنسبة لمضمون الكلام .
ثانيًا: أن لفظ تنزيه الله عن صفات الحدوث يريد به المعطلة ومن وافقهم نفي الصفات عن الله؛ لأن الصفات عندهم تستلزم الحدوث.
وأما التنزيه الذي يقول به أهل السنة فهو تنزيهه سبحانه عن مماثلة المخلوقات مع إثبات الصفات إثباتًا بلا تشبيه وتنزيهًا بلا تعطيل .
والأشبه بطريقة الحافظ أنه أراد بالتنزيه المعنى الأول، ولو اقتصر رحمه الله تعالى على قوله: "والأولى به الترك" لكان أسلم له. وأما المعنى الذي ذكر أنه خطر له في معنى الإشارة في الحديث، ولم يره من شراح الحديث، وهو: "أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال" فهو معنى باطل يرده أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أشار بيده إلى عينه عند قوله: "إن الله ليس بأعور" لا عند قوله: "وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى". وكل هذا هروب من الاستدلال بالحديث على إثبات العين لله تعالى، وهو المعنى الذي قصده البخاري رحمه الله تعالى؛ فالبخاري في واد والحافظ في واد آخر؛ فهو في مثل هذه المواضع يخالف منهج البخاري وأهل السنة والجماعة. والأظهر في الجواب عن ذلك السؤال أن يقال: تجوز الإشارة عند ذكر هذه الأحاديث لنفس المعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم بإشارته - وهو إرادة تأكيد الحقيقة كما تقدم - يدل لذلك عموم قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" فيدخل في ذلك طرق البيان التي بين فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبلغ بها رسالة ربه، ويمكن إذا خشي أن يتوهم أحد من الإشارة التشبيه أن يقصد المتحدث بإشارته حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول: وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عينه، فيشير إلى عينه ونحو ذلك، ويمكن رفع التوهم أيضًا ببيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بإشارته. وما كان السلف الصالح يستوحشون من ذكر آيات وأحاديث الأسماء والصفات لأنهم يؤمنون بما دلت عليه على الوجه اللائق به سبحانه، ويقولون: أمروها كما جاءت بلا كيف. وأما الذين دخل عليهم مذهب التعطيل فإنهم يقفون من تلك النصوص موقف الرد إن أمكنهم، أو موقف التأويل أو التفويض؛ فهم لا يؤمنون بحقائقها، بل يرون أنه لا يجوز اعتقاد ظاهرها؛ فإن ظاهرها عندهم هو التشبيه ، ومن عوفي فليحمد الله.
117 – (13/394) قال الحافظ: "باب قول الله تعالى: لما خلقت بيدي ، قال ابن بطال : في هذه الآيات إثبات اليدين لله، وهما صفتان من صفات ذاته، وليستا بجارحتين، خلافًا للمشبهة من المثبتة، وللجهمية من المعطلة...." .
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 19 .
قال الشيخ البراك: قول ابن بطال رحمه الله تعالى: "في هذه الآيات إثبات اليدين لله تعالى...إلخ" فيه خطأ وصواب؛ فأصاب في أول كلامه بقوله: "في هذه الآيات إثبات اليدين لله تعالى وهما صفتان من صفات ذاته"، وأصاب في آخر كلامه في الرد على الجهمية في نفيهم للقدرة، وفي رده على من يتأول اليدين بالقدرة.
ولكن قوله: "وليستا بجارحتين" من النفي المبتدع، ولفظ الجارحة لفظ مجمل؛ فإن أريد بنفي الجارحة نفي حقيقة اليدين التي يكون بهما الفعل، ومن شأنهما القبض والبسط فباطل، وإن أريد به نفي أن تكون يداه سبحانه مثل أيدينا كما يقول المشبه: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي، فهذا النفي حق. فالواجب إثبات اليدين لله تعالى مع نفي مماثلتهما للخلق، ونفي العلم بكيفيتهما مع إثبات ما ورد في صفاتهما كالقبض والبسط والأخذ والأصابع، والله أعلم.
118 – (13/394) قال الحافظ: "وقال غيره: هذا يساق مساق التمثيل للتقريب؛ لأنه عهد أن من اعتنى بشيء واهتم به باشره بيديه، فيستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم كانت أتم من العناية بخلق غيره".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 19.
قال الشيخ البراك: معناه أن الله تعالى لم يخلق آدم عليه السلام بيديه حقيقة من بين سائر المخلوقات، وهذا يقوله من ينفي حقيقة اليدين عن الله عز وجل، وهم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشاعرة وغيرهم. فمن هؤلاء من يجعل هذه الآية من قبيل المجاز التمثيلي الذي لا يقصد ظاهره، وإنما عبر به عن معنى آخر للمبالغة في تقريبه، وهذا أحد تأويلات أهل التأويل لهذه الآية، وذِكرُ الحافظ عفا الله عنه لمعاني اليدين والمبالغة في جمعها لا وجه له؛ فإن ذلك من طريقة النفاة لتشويش الفهم لنصوص الصفات بدعوى كثرة الاحتمالات، ونصوص الصفات بحمد الله تعالى هي نصوص لا تحتمل إلا ما أراده الله منها، وهي المعاني الثابتة له سبحانه، وهذه المعاني هي المعاني القريبة المتبادرة للأفهام السليمة التي لم تتكدر بشبه أهل التعطيل أو أهل التشبيه؛ فاليدان في الآية لا تحتمل إلا معنى واحدًا، وهي اليدان اللتان بهما الفعل والأخذ، ومن شأنهما القبض والبسط كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
119 – (13/398) قال الحافظ: "قال ابن بطال: لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة، بل يحمل أنه صفة من صفات الذات.... وعن ابن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقا يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان... " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7414 ، كتاب التوحيد ، بآب 19 .
قال الشيخ البراك: هذا الحديث يستدل به أهل السنة على إثبات الأصابع لله عز وجل، وأنها من صفة يديه؛ لأن هذا هو المفهوم من لفظ الإصبع في هذا السياق، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي على قوله كما فهم ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا له"، ويؤيد ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: "وما قدروا الله حق قدره". وقول أهل السنة في الأصابع لله تعالى كقولهم في اليدين والوجه وغير ذلك من الصفات؛ وهو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، ونفي العلم بالكيفية على حد قول الأئمة في الاستواء: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب". إذا ثبت هذا فما نقله الحافظ عن ابن بطال وابن فورك وابن التين دائر بين التفويض كما هو ظاهر قول ابن بطال، والتأويل كما هو ظاهر قول ابن فورك وابن التين.
وأهل التفويض والتأويل لا يثبتون المعاني الظاهرة من نصوص الصفات بل ينفونها. ثم منهم من يوجب في تلك النصوص التفويض، ومنهم من يوجب التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة توجب ذلك، وهذه حقيقة التحريف كما هو ظاهر في تأويلات ابن فورك للإصبع المذكور في هذا الحديث، فنعوذ بالله من الضلال.
120 – (13/398) قال الحافظ : " وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة .... " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7414 ، كتاب التوحيد ، باب 19 .
انظر التعليقين (2) (102)
121 – (13/398) قال الحافظ : قال الخطابي " ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي؛ فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين الخ
وقول القرطبي: هذا كله قول اليهودي ، وهم يعتقدون التجسيم وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي ..الخ
وذلك في كلامه على حديث رقم 7414 ، كتاب التوحيد ، باب 19 .
قال الشيخ البراك: من العجب إفراط الحافظ عفا الله عنا وعنه في نقل أقوال المتأولين من النفاة لحقائق كثير من الصفات مع ما فيها من التمحلات والتكلفات في صرف الكلام عن وجهه بشبهات واهية؛ مثل التشكيك في تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لضحك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "تصديقًا له"، وتخطئة ابن مسعود رضي الله عنه في خبره ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو المشاهد للقصة والأعلم بدلالة حال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاله. هذا، ولو لم يرد هذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه لكان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلاوته للآية كافيًا في تقرير ما قاله اليهودي من ذكر الأصابع، وجعل المخلوقات عليها. وأما الحمل في ذلك على اليهود، وأن اليهود مشبهة، فنعم اليهود مشبهة فيما نسبوه إلى الله تعالى من النقائص؛ كالفقر والإعياء والبكاء. وأما ما وصفوا الله به مما دل عليه القرآن والسنة فلا يجوز رده لوروده على بعض ألسنتهم؛ فلو لم يقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم اليهودي بما قال لما صح الاستدلال بقول اليهودي على إثبات الأصابع، بل كان الواجب التوقف فيه كما هو الواجب في كل ما يحدث به بنو إسرائيل فيما لم يرد به دليل على ثبوته ولا نفيه.
وفي كلام الخطابي والقرطبي عفا الله عنهما تخبطٌ حملهما عليه أصلهما الفاسد الذي استقر في عقليهما وعقول كثير ممن لم يفهم حقيقة مذهب السلف الصالح.
وذلك الأصل الفاسد هو نفي حقائق هذه الصفات كالوجه واليدين والأصابع والعينين، وكالمحبة والرضا والغضب، والضحك والفرح إلى غير ذلك؛ بشبهة أن إثباتها يستلزم التشبيه، وهي عين الشبهة التي نفت بها الجهمية أسماء الله وصفاته. فما يرد به الأشاعرة - ونحوهم ممن يفرق بين الصفات - على الجهمية والمعتزلة هو ما يرد به أهل السنة عليهم فيما وافقوا فيه المعتزلة والجهمية.
فلا بد للأشاعرة ونحوهم من الرجوع إلى المذهب الحق البريء من التناقض - وهو مذهب أهل السنة والجماعة - أو الخروج إلى مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، فلا مخلص لهم من تناقضهم إلا بأحد الأمرين، فالواجب الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح الذين مذهبهم هو الأسلم والأعلم والأحكم خلافًا لما زعمه بعض الخلف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وبعد فقد أحسن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تعقبه على من خطَّأ ابن مسعود في فهمه من ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديق قول اليهودي، وأحسن كذلك في إيراده تعقب ابن خزيمة لمن منع صفة الأصابع لله تعالى؛ ونص كلام ابن خزيمة كما ورد في كتاب التوحيد له: «وقد أجَلَّ الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق بحضرته بما ليس من صفاته فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكًا تبدو نواجزه تصديقًا وتعجبًا لقائله. لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته» [كتاب التوحيد 1/178 ط. الرشد] ويريد ابن خزيمة – رحمه الله – بذلك أنه يلزم من ينفي صفة الأصابع لله عز وجل مع ثبوت ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقًا لوصف اليهود لله تعالى بذلك؛ يلزم هذا النافي أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالضحك وإقرار الباطل بدلاً من إنكار ذلك والغضب منه؛ فيصف النبي صلى الله عليه وسلم بترك الواجب وقد أجلَّه الله عن ذلك.
122- (13/399) قال الحافظ : " قال ابن دقيق العيد : المنزهون لله إما ساكت عن التأويل وإما مؤول ، والثاني يقول : المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية ، وهما من لوازم الغيرة فأطلقت على سبيل المجاز كالملازمة ، وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب " .
وذلك في كلامه على باب قول النبي r لا شخص أغير من الله، كتاب التوحيد ، باب 20 .
قال الشيخ البراك: يريد ابن دقيق العيد بالمنزهين نفاة حقائق كثير من الصفات؛ كالمحبة والرضا، والضحك والفرح، والغضب والكراهة، والغيرة، وأنهم في نصوص هذه الصفات طائفتان: إما مفوضة، وإما مؤولة. وهذا يصدق على الأشاعرة ونحوهم؛ فإنهم ينفون هذه الصفات ويوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل المخالف لظاهر اللفظ. وإطلاق لفظ المنزهة عليهم يستلزم أن من يثبت هذه الصفات مشبه. وكذلك يسمون المثبتين لسائر الصفات - وهم أهل السنة - مشبهة، كما أن الجهمية والمعتزلة يسمون المثبتين لبعض الصفات كالأشاعرة مشبهة. والحق أن المنزهة على الحقيقة هم أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات؛ فتسمية النفاة: منزهة، والمثبتين للصفات: مشبهة من المغالطات. وأما الكلام في الغيرة فقد سبق التعليق عليه.
وانظر التعليقين (55) و(109) .
123- (13/401) قال الحافظ: "قال ابن بطال: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به... وأما الخطابي فقال: إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز؛ لأن الشخص لا يكون إلا جسمًا مؤلفًا، فخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفًا من الراوي...".
وذلك في كلامه على باب (20) قول النبي r «لا شخص أغير من الله» ، كتاب التوحيد.
قال الشيخ البراك: المنكرون لإطلاق لفظ الشخص على الله تعالى - كابن بطال والخطابي وابن فورك- لم يذكروا لهذا الإنكار دليلاً إلا أن إثبات ذلك عندهم يستلزم أن يكون الله تعالى جسمًا. وهذه عين الشبهة التي نفت بها المعتزلة جميع الصفات، ونفى بها الأشاعرة ما نفوا من الصفات. ومعلوم أن لفظ الجسم لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، وهو لفظ مجمل يحتمل حقًا وباطلاً، فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى في النفي ولا في الإثبات. فعلم أن المنع من إطلاق الشخص على الله تعالى مبني على هذه الشبهة الباطلة التي نفيت بها كثير من الصفات، وهي باطلة وما بني عليها باطل.
ودعوى الإجماع على منع إطلاق الشخص على الله تعالى، ودعوى التصحيف كل ذلك ممنوع؛ فلا إجماع ولا تصحيف، ولفظ الشخص يدل على الظهور والارتفاع، والقيام بالنفس، فلو لم يرد في الحديث لما صحّ نفيه لعدم الموجب لذلك، بل لو قيل: يصح الإخبار به لصحةِ معناه لكان له وجه، فكيف وقد ورد في الحديث، ونقله الأئمة ولم يَرَوه مشكلاً. فنقول: إن الله شخص لا كالأشخاص كما نقول مثل ذلك فيما ورد من الأسماء والصفات، والله أعلم.
124 – (13/401) قال الحافظ : "ثم قال ابن فورك: وإنما منعنا من إطلاق لفظ الشخص أمور، أحدها: أن اللفظ لم يثبت من طريق السمع، والثاني: الإجماع على المنع منه، والثالث: أن معناه الجسم المؤلف المركب، ثم قال: ومعنى الغيرة الزجر والتحريم".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7416 ، كتاب التوحيد ، باب 20 .
انظر التعليق السابق (123) .
وأما قوله: "ومعنى الغيرة: الزجر والتحريم"
فانظر للرد على ذلك التعليـقين (55) و(109)
125- (13/402) قال الحافظ: "والمراد بالوجه الذات، وتوجيهه أنه عبر عن الجملة بأشهر ما فيها... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7416 ، كتاب التوحيد ، باب 21 .
قال الشيخ البراك: تقدم أن مذهب أهل السنة والجماعة إثبات الوجه لله تعالى كما صرحت بذلك الآيات والأحاديث، وأنه موصوف بالجلال والإكرام، وبالأنوار، وأن القول فيه كالقول في سائر الصفات.
وأما تأويل الوجه بالذات، وأنه في الآية مجاز، فهذا سبيل أهل التأويل من النفاة لحقائق الصفات من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة ونحوهم، ومذهبهم باطل ومخالف لمذهب السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
انظر التعليق (47) و(112)
126 – (13/405 - 406) قال الحافظ: قال ابن بطال .. وقالت الجسمية: معناه الاستقرار وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع وبعضهم معناه علا ..
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 22 .
قال الشيخ البراك: مقصود البخاري رحمه الله بترجمة الباب تقرير علو الله بذاته على مخلوقاته واستوائه على عرشه، واكتفى بالإشارة إلى الاستواء بذكر العرش في الآية والأحاديث التي أوردها في الباب، لأن العرش متعلَّق الاستواء، وإن كان قد جاء التصريح بالاستواء على العرش في سبع آيات، وأشار إليها في نقل تفسير السلف للاستواء كأبي العالية، ومجاهد ، واكتفى من أدلة العلو خاصة بحديث أنس رضي الله عنه في شأن زينب رضي الله عنها، وقولها: "وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات" مع أن أدلة العلو في الكتاب والسنة لا تحصى كثرة، وأهل السنة يثبتون ما دلت عليه هذه النصوص ويمرونها كما جاءت بلا كيف، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب".
وأما المعطلة والجهمية ومن وافقهم، فإنهم ينفون علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، ثم منهم من يقول بالحلول العام، أو أنه - تعالى الله عن قولهم - لا داخل العالم ولا خارجه، وفي هذا غاية التنقص لله تعالى، أو ما يتضمن وصفه بالعدم. ثم يضطربون في جوابهم عن هذه النصوص؛ فأكثرهم يذهب إلى التأويل المخالف لظاهر اللفظ كتأويل الاستواء بالاستيلاء، أو الملك والقدرة، أو التمام كما ذكر ذلك الحافظ فيما حكاه عن ابن بطال. وهؤلاء يجمعون بين التعطيل والتحريف. ومن نفاة العلو والاستواء من الأشاعرة من يذهب إلى التفويض؛ وهو الإمساك عن تدبر هذه النصوص لأنه لا سبيل إلى فهم معناها، مع نفي أن يكون ظاهرها مرادًا، ويزعم بعض أولئك أن هذا هو مذهب السلف في نصوص الصفات كالعلو والاستواء كما نقله الحـافظ عن إمام الحرمين بعد ذلك، وهو خطأ ظاهر وجهل بحقيـقة مذهب السلف.
ومما يدل على فساد مذهب المفوضة أن الله عز وجل أمر بتدبر الكتاب كله، وما لا يفهم معناه لا يؤمر بتدبره ولا معنى لتدبره.
وقد وصف الله كتابه بأنه هدى وشفاء وبيان، وما لا يفهم معناه لا يوصف بشيء من ذلك. فالمخرج من هذا الاضطراب هو الاعتصام بما دل عليه كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان، والله الهادي إلى الصواب.
127 – (13/408) قال الحافظ : " وقسم بعضهم أقوال الناس في هذا الباب إلى ستة أقوال..."
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 22.
قال الشيخ البراك: الصواب من هذه الأقوال هو القول الثاني من القولين الأولين، وهو: إجراء نصوص الصفات على ظاهرها - أي إثبات ما تدل عليه من الصفات - مع نفي مماثلة المخلوقات، وأن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا قول أهل السنة والجماعة المثبتين لجميع الصفات، والقول الأول من القولين الأولين هو قول المشبهة كما ذكر المصنف.
وأما الثالث فقول أهل التفويض، والرابع قول أهل التأويل. وكل منهما ينفي أن يكون ظاهر النصوص مرادًا، وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشاعرة.
وأما القولان الأخيران - الخامس والسادس - فهما مذهبان للواقفة وهم الشاكون الذين لا يجزمون بإثبات الصفات ولا بنفيها، وحكمهم حكم من يصرح بنفي الصفات؛ لأن حكم الشاك في الحق والمكذب واحد.
128 – (13/410) قال الحافظ: "قوله: ( كان الله ولم يكن شيء قبله) تقدم في بدء الخلق بلفظ: "ولم يكن شيء غيره" وفي رواية أبي معاوية: "كان الله قبل كل شيء" وهو بمعنى: "كان الله ولا شيء معه"، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت على كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7418 ، كتاب التوحيد ، باب 22.
قال الشيخ البراك: قوله: "وفي رواية أبي معاوية: ( كان الله قبل كل شيء) وهو بمعنى: ( كان الله ولا شيء معه)... إلخ": يرجح الحافظ هاتين الروايتين على رواية الباب: (كان الله ولم يكن شيء قبله)؛ وذلك من جهة المعنى الذي يرى أنهما تدلان عليه؛ وهو أن الله تعالى كان منفردًا لم يخلق شيئًا في الأزل ثم ابتدأ الخلق، وعليه فجنس المخلوقات له بداية لم يكن قبلها شيء من المخلوقات. وهذا قول من يقول بامتناع حوادث لا أول لها، وهم أكثر المتكلمين، وهو الذي يختاره المؤلف، ولهذا رجح الروايتين المشار إليهما آنفًا بناء على أنهما تدلان على مطلوبه، ولهذا قال: "وفي رواية أبي معاوية... وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها" واستشنع من ابن تيمية القول بذلك، ولهذا ضعف ترجيح ابن تيمية لرواية: "كان الله ولم يكن شيء قبله"، وزعم أن الجمع بين هذه الروايات مقدم على الترجيح. وهذا ممنوع في الحديث الواحد الذي قصته واحدة كما في هذا الحديث؛ فإنه جاء بأربع روايات، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا أحد هذه الألفاظ، والأخريات رويت بالمعنى، فتعيَّن الترجيح. وكل هذه الروايات لا تدل على مطلوب المتكلمين وهو امتناع حوادث لا أول لها. ولكن بعض هذه الروايات فيه شبهة لهم مثل رواية: "ولم يكن شيء معه"، ولهذا رجحها الحافظ على رواية الباب، ورواية الباب أرجح منها؛ لأن لها شاهدًا عند مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "أنت الأول فليس قبلك شيء" كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع وجوه أخرى من الترجيح.
ومسألة تسلسل الحوادث - أي المخلوقات في الماضي وهو معنى حوادث لا أول لها - فيها للناس قولان:
أحدهما: أن دوام الحوادث ممتنع؛ وهو قول أكثر المتكلمين. وشبهه هذا القول هي اعتقاد أن ذلك يستلزم قدم العالم الذي تقول به الفلاسفة، وهو باطل عقلاً وشرعًا. وهذا الاعتقاد خطأ؛ فإن معنى تسلسل الحوادث في الماضي أنه ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق إلى ما لا نهاية، ومعنى ذلك أن كل مخلوق فهو محدث بعد أن لم يكن، فهو مسبوق بعدم نفسه ، والله تعالى مقدم على كل مخلوق تقدم لا أول له، وليس هذا بقول الفلاسفة؛ فإن حقيقة قولهم أن هذا العالم قديم بقدم علته الأولى لأنه صادر عنها صدور المعلول عن علته التامة، لا صدور المفعول عن فاعله؛ فإن المفعول لا بد أن يتأخر عن الفاعل.
القول الثاني: أن تسلسل الحوادث في الماضي ممكن، وهو موجب دوام قدرة الرب تعالى وفاعليته؛ فكل من يثبت أن الله لم يزل فعالاً لما يريد وهو على كل شيء قدير، لا بد أن يقول بأن الخلق لم يزل ممكنًا. وهذا الحد لا يمكن النزول عنه؛ فإن من قال بامتناع حوادث لا أول لها منهم من يقول: إن الله لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا، ومن قال منهم: إن الله لم يزل قادرًا كان متناقضًا؛ فإن المقدور لا يكون ممتنعًا لذاته.
أما كون تسلسل المخلوقات واقعًا أو غير واقع فهذا يُبنى على الدليل؛ فمن قام عنده الدليل على أحدها فعليه القول بموجبه. فالقول المنكر الذي لا شك في بطلانه هو القول بامتناع حوادث لا أول لها؛ لما يستلزمه من تعجيز الرب سبحانه في الأزل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة فأجاد وأفاد، فأتى بالفرقان بين الحق والباطل في هذا المقام، وقد رماه خصومه والغالطون عليه بأنه يقول بقول الفلاسفة، وهو الذي يفند قول الفلاسفة بما لم يستطعه المنازعون له. ومن رد قول الفلاسفة بالقول بامتناع حوادث لا أول لها فقد رد باطلاً بباطل، والحق في خلافهما، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
انظر: مجموع الفتاوى 18/210- 244 ، ودرء تعارض العقل والنقل 1/121-127، 303-305، 2/344-399.
129 – (13/412) قال الحافظ: "قال الكرماني: قوله: "في السماء" ظاهره غير مراد؛ إذ الله منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7420 ، كتاب التوحيد ، باب 22 .
قال الشيخ البراك: وصفُ اللهِ تعالى بأنه في السماء جاء في القرآن في قوله: "أأمنتم من في السماء"، وفي السنة: قال صلى الله عليه وسلم : "وأنا أمين من في السماء"، ومن هذا قول زينب رضي الله عنها: "إن الله أنكحني في السماء". ومعنى هذا كله أن الله تعالى في السماء أي في العلو فوق جميع المخلوقات، وليس ظاهره أن الله تعالى في داخل السماوات كما ظنه الكرماني، ولهذا قال: "ظاهره غير مراد".
وقوله: "إذ الله منزه عن الحلول في المكان": إن أراد أنه تعالى لا يحويه شيء من مخلوقاته ويحيط به فهو حق؛ فإن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
وإن أراد أنه ليس في العلو الذي وراء العالم، ولا هو فوق العرش بذاته فهذا باطل؛ فإن هذا هو قول الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من نفاة العلو، وأكثرهم يقول بالحلول العام؛ أي أن - الله تعالى عن قولهم - في كل مكان.
وقول الكرماني: "لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها...": هذا يقتضي أن الله تعالى ليس بذاته في العلو، وإنما وصف بذلك للتشريف؛ لأن السماء أشرف الجهات وفي ذلك إشارة إلى علو قدره في ذاته وصفاته. وليس هذا محل النزاع مع المبتدعة نفاة العلو، وإنما النزاع معهم في علوه سبحانه بذاته فوق مخلوقاته، وهو سبحانه العلي بكل معاني العلو، وله الفوقية بكل معانيها ذاتًا وقدرًا وقهرًا. وما ذكره الحافظ عن الراغب في مفردات القرآن إنما هو استعراض لمعاني الفوقية بحسب ما أضيفت إليه في القرآن، ولم يذكر من معاني الفوقية المضافة إلى الله تعالى إلا فوقية القهر، وأهمل الإشارة إلى فوقية ذاته سبحانه كما يدل عليها نصًا قوله تعالى:"يخافون ربهم من فوقهم".
والحافظ عفا الله عنه يكثر من النقول في هذه المسائل ولا يحررها.
130 – (13/413) قال الحافظ: "ويكون معنى: "فهو عنده فوق العرش" أي ذكره وعلمه، وكل ذلك جائز في التخريج.... "الرحمن على العرش استوى" أي ما شاءه من قدرته، وهو كتابه الذي وضعه فوق العرش".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7422، كتاب التوحيد، باب 22 .
قال الشيخ البراك: هذا الحديث من أدلة أهل السنة على علو الله فوق خلقه واستوائه على عرشه، وهو يدل كذلك على أن الكتاب الذي كتبه كتب فيه على نفسه أن رحمته تغلب غضبه عنده فوق العرش، وهذه العندية عندية مكان لقوله: "فوق العرش"، وهذا الكتاب يحتمل أن يكون هو اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب - وهو كتاب المقادير- ويحتمل أنه غيره فهو كتاب خاص، والله أعلم.
وعلى كل فلا يمتنع أن يكون الكتاب المذكور عند الله تعالى فوق العرش كما هو ظاهر الحديث، ولا موجب لتأويله بصرفه عن ظاهره كما صنع ذلك الخطابي عندما قال: "المراد بالكتاب أحد الشيئين... إلخ"، فنفى على كل من التقديرين أن يكون فوق العرش كتاب؛ إذ تأول الكتاب بعلم الله تعالى بما كتب على نفسه، أو أن الذي عنده ذكر الكتاب وعلمه، والحامل له على هذا التأويل إما اعتقاد أن الله ليس بذاته فوق العرش، فلا يكون شيء من المخلوقات عنده فوق العرش، وإما اعتقاد امتناع أن يكون شيء غير الله فوق العرش. والأول باطل بأدلة العلو والاستواء، والثاني لا دليل عليه. بل هذا الحديث بمجموع ألفاظه يدل على بطلانه؛ فقد دلّ الحديث على أن هذا الكتاب عند الله فوق العرش، والله تعالى أعلم بنفسه، والرسول الذي أخبر بذلك أعلم بربه، فليس لأحد أن يعارض خبره صلى الله عليه وسلم . وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطابي؛ فإنه يثبت أن فوق العرش كتابًا وهو مما اقتضته حكمته وقدرته، ولكن من المنكر في كلامه قوله: "وقد يكون تفسيرًا لقوله: "الرحمن على العرش استوى"... إلخ"؛ فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى الله عز وجل مجاز، وأن المراد به كون ذلك الكتاب فوق العرش، فيؤول معنى قوله: "الرحمن على العرش استوى" إلى معنى: " كتابه على العرش استوى" وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه تحريف للكلم عن مواضعه.
131- 13/416 قال الحافظ:" قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء، وأما ما وقع من التعبير في ذلك بقوله: "إلى الله" فهو على ما تقدم عن السلف في التفويض، وعن الأئمة بعدهم في التأويل، وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب..." .
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 23 .
قال الشيخ البراك: فيما نقله الحافظ ابن حجر في شرح هذا الباب عن البيهقي وابن بطال تخبط وحيرة في فهم النصوص والآثار الدالة على علو الله تعالى على خلقه؛ فإن كلامهما يقتضي نفي علو الله على خلقه، فعلى هذا يجب عندهم في هذه النصوص: إما التفويض؛ وهو الإعراض عن فهمها مع اعتقاد بأن الأمر بخلاف ظاهرها، وإما التأويل. ويزعمون أن التفويض هو طريقة السلف. وهذا باطل؛ فالسلف من الصحابة والتابعين يتدبرون القرآن كله ويفهمونه كما أمرهم الله، ويؤمنون بما دلت عليه الآيات والأحاديث من صفاته تعالى.
وحقيقة التأويل - وهو طريقة أكثر النفاة - صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بغير حجة توجب ذلك، وهذه حقيقة التحريف، ومن ذلك قول البيهقي: "صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول"، ومعنى ذلك أنه لا يصعد إلى الله شيء، وكذا قوله: "وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء"، ومعنى ذلك أنهم لا يعرجون إلى الله .
وكذا قول ابن بطال: "وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف"، ومعناه أن الملائكة لا تعرج إليه حقيقة؛ لأن الله – عنده – ليس في السماء، وعبر عن ذلك بقوله: "وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه؛ فقد كان ولا مكان"، وهو يريد بذلك نفي أن يكون الله بذاته فوق المخلوقات ومستويًا على العرش، ولكن هذه الألفاظ الواردة في عبارته ألفاظ مبتدعة مجملة لا بد فيها من التفصيل والاستفصال؛ لأنها تحتمل حقًا وباطلاً. نعم الله سبحانه لا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته: لا مكان ولا غيره. وإذا كان سبحانه فوق مخلوقاته على عرشه فلا يلزم من ذلك أن يكون مفتقرًا إلى العرش، ولا أنه يحيط به شيء من الموجودات، بل هو سبحانه فوق جميع الموجودات، وهو الممسك بالعرش وما دون العرش.
وقول ابن بطال: "ومعنى الارتفاع إليه: اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان" كلام فيه قلق؛ فإنه فسر ارتفاع بعض المخلوقات إليه باعتلائه فأضاف إليه ما هو مضاف إلى المخلوق.
وقوله: "مع تنزيهه عن المكان" فيه ما تقدم من الإجمال، وإرادة نفي علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، وهذا هو المعنى الباطل المنافي لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة، والله أعلم.
132 – 13/419 قال الحافظ: " قال ابن المنير: جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس" إلى أن قال: "وقِدَمُه يحيل وصفه بالتحيز فيها، والله أعلم" .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7433، كتاب التوحيد، باب 23.
قال الشيخ البراك: قول ابن المنير في حديث ابن عباس: "ومطابقته والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان قول من أثبت الجهة....إلخ": يريد مطابقة الحديث للترجمة ومناسبته لها، ويزعم أن البخاري قصد بإيراد الحديث التنبيه على بطلان قول من أثبت الجهة. ويريد بمن أثبت الجهة من أثبت علو الله تعالى بذاته فوق عرشه وجميع مخلوقاته، وفي هذا غلط قبيح على البخاري؛ فإن البخاري من أئمة السنة المثبتين لعلو الله تعالى واستوائه على عرشه، وقد عقد عددًا من التراجم لتقرير هذا الأصل، فزعم ابن المنير أن قصد البخاري الرد على من أثبت العلو والاستواء على العرش قلبٌ لمقصود البخاري، بل أراد البخاري بذكر هذا الحديث إثبات علو الله تعالى واستوائه على العرش استنباطًا من ذكر العرش حيث إنه متعلق الاستواء.
وقول ابن المنير: "فبين – أي البخاري – أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء، والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب محدث": فيه دعوى باطلة على البخاري أنه أراد ما ذكر، وفيه دعوى أن الجهة سواء أريد بها السماء أو العرش فإنها مخلوقة، وهذه الدعوى لا تصح في السماء على الإطلاق؛ فإن السماء يراد بها السماء المبنية - وهي السماوات السبع، وهذه مخلوقة - ويراد بها العلو مطلقًا، فتتناول ما فوق المخلوقات؛ وليس فوق المخلوقات شيء موجود إلا الله تعالى. فلا يلزم من كونه في السماء الذي وراء العالم أن يكون في ظرف وجودي يحيط به تعالى؛ لأنه ليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى. بل المخلوق إذا قيل إنه في السماء بمعنى العلو لا يلزم أن يكون في ظرف وجودي؛ كما إذا قيل العرش في السماء، ومن المعلوم أن العرش فوق السماوات فالله تعالى أولى أن لا يلزم فيه ذلك. وعلى هذا فلفظ الجهة لفظ مجمل قد يراد به شيء موجود مخلوق كما إذا أريد به نفس العرش، وقد يراد به ما ليس بموجود كما إذا أريد به ما وراء العالم؛ فإنه ليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى.
وقول ابن المنير: "وقِدَمُه سبحانه وتعالى يحيل وصفه بالتحيز فيها": إن أراد أنه مستغن عن هذه المخلوقات من العرش وغيره فهذا حق، وإن أراد أن قدمه يحيل كونه بذاته فوق مخلوقاته مستو على عرشه فهذا باطل. بل هذا عين الكمال؛ فإن له سبحانه العلو بكل معانيه ذاتًا وقدرًا وقهرًا.
ولفظ التحيز لفظ مجمل مبتدع لا يجوز إطلاقه نفيًا ولا إثباتًا، ولا يجوز الحكم على قائله إلا بعد معرفة مراده، فإن أراد حقًا قُبِل، وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن أراد حقًا وباطلاً لم يقبل مطلقًا، ولم يرد جميع معناه.
133- 13/426 قال الحافظ: "ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية، متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله منزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده؛ فهو راء لا من جهة، واختلف من أثبت الرؤية في معناها؛ فقال قوم: يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب: "كما ترون القمر" إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 24 .
قال الشيخ البراك: قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": هي أصرح آية في الدلالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بأبصارهم؛ فإن النظر إذا عدي بإلى اختص بنظر العين، وقد اختلف الناس في مسألة الرؤية: فذهب أهل السنة إلى أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم عيانًا من فوقهم من غير إحاطة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة كهذه الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب. وذهبت المعتزلة إلى نفي الرؤية وتأولوا الآيات والأحاديث بصرفها عن ظاهرها، وردّ ما أمكنهم ردّه من السنة على أصولهم. وذهب الأشاعرة إلى إثبات الرؤية بالأبصار، لكن قالوا: إن الله تعالى يُرى لا في جهة بناء على مذهبهم في نفي العلو؛ فأثبتوا رؤية غير معقولة، فخالفوا بذلك العقل والشرع، وكانوا بذلك متذبذبين بين النفاة والمثبتين، بل كانوا أقرب إلى مذهب النفاة كالمعتزلة وغيرهم.
وكل ما ذكر الحافظ في هذا المقام ونقله عن الشراح يدور حول مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة، وفيه من الحق ردّ مذهب المعتزلة، ومن الباطل نفي علو الله تعالى، ونفي أن يرى في جهة العلو بل يرى لا في جهة؛ مما أوجب لهم الحيرة والاضطراب، وظهور حجة المعتزلة عليهم. وليس لمذهب أهل السنة المحضة ذكر صريح.
وقول ابن بطال: "وذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة...إلخ" كلام مجمل، والظاهر أن مراده بأهل السنة: الأشاعرة.
134- 13/427: قال: "وقال البيهقي: سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله: "لا تضامون في رؤيته" بالضم والتشديد، معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة، ولا يضم بعضكم إلى بعض، ومعناه بفتح التاء كذلك، والأصل: لا تتضامون في رؤيته باجتماع في جهة. وبالتخفيف من الضيم، ومعناه: لا تظلمون فيه برؤيتكم بعضكم دون بعض؛ فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7436 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك: قول الصعلوكي الذي نقله البيهقي ونقله عنه الحافظ جارٍ على مذهب الأشاعرة؛ وهو إثبات الرؤية مع نفي الجهة أي نفي العلو، ومعنى ذلك أن المؤمنين يرونه سبحانه لا من فوق ولا من أسفل، ولا من أمام ولا من خلف، ولا من يمين ولا من شمال، وتقدم قريبًا أن هذه الرؤية لا حقيقة لها في الواقع[انظر التعليق السابق]؛ فهي مع مخالفتها لنص السنة المتواترة مخالفة للعقل. وبناء على نفي الصعلوكي لعلو الله تعالى نفى أن يكون في جهة من العباد، ونفى أن يكونوا في جهة منه سبحانه حيث قال في: "تضامون" معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة. وأما قوله: "فإنكم ترونه في جهاتكم كلها" فيقتضي أنهم يرونه من فوقهم ومن تحتهم ومن الجهات الأربع، وهذا يتناقض مع نفيه الجهة عن الله بقوله بعده: "وهو متعال عن الجهة"، بل يناقض المعروف من قول الأشاعرة: إن الله تعالى يرى لا في جهة؛ فإنهم ينفون الجهة عن الله مطلقًا، وما يرى من جميع الجهات هو موجود في جميع الجهات، وتقدم في التعليق قريبًا[ص314،هامش1] ما في لفظ الجهة من الإجمال، وما يجب فيه من الاستفصال.
135 – 13/427 قال الحافظ: "وقال ابن بطال: تمسك به المجسمة فأثبتوا لله صورة....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7439 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك: قوله صلى الله عليه وسلم : "فيأتيهم الله في صورته التي تعرفون....إلخ": يستدل أهل السنة به وبغيره على أن لله تعالى صورة هي أحسن الصور، وأنها لا تماثل صورة أحد من المخلوقين؛ فالقول فيها كالقول في الوجه وسائر الصفات، وما نقله الحافظ عن ابن قتيبة هو الصواب؛ فإنه جارٍ على مذهب أهل السنة، وأما ما نقله عن ابن بطال من نسبة إثبات الصورة إلى المجسمة فهو على طريقة الجهمية ومن تبعهم من وصف المثبتين للصفات بالتجسيم وهم برآء من التشبيه ومن إطلاق الجسم على الله نفيًا أو إثباتًا.
وكذلك تفسيره الصورة في الحديث بالعلامة هو تحريف للكلم عن مواضعه، ومثله ما نقله الحافظ عن ابن التين من تفسير الصورة بالاعتقاد، وما نقله عن الخطابي من حمل الصورة على المشاكلة. وكل هذا التخبط حملهم عليه اعتقادهم امتناع أن يكون لله تعالى صورة، وليس لهم حجة على هذا الاعتقاد إلا ما هو من جنس حجة الجهمية على نفي جميع الصفات، وهم لا يوافقونهم على هذا، فأفضى بهم ذلك إلى التناقض والاضطراب، والله يغفر لمن كان مراده الحق، وهذا هو الظن في هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى.
وانظر التعليق (16)
136 – (13/428) قال الحافظ: "وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن، وزاد: إذا خفي علكم شيء من القرآن فأتبعوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: "في سنة قد كشفت عن ساقها....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7439 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فيكشف عن ساقه" يدل على أن لله تعالى ساقًا كما أن له قدمًا، والقول فيهما كالقول في الوجه واليدين؛ وهو الإيمان بذلك على ما يليق به سبحانه وأن صفاته لا تماثل صفات خلقه، وأن كيفية هذه الصفات غير معقول لنا، وهذا الحديث أولى ما تفسر به الآية، وهي قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" ولولا هذا الحديث لما أمكن الاستدلال بالآية على إثبات الساق لأنها محتملة؛ وذلك أن ذكر الساق فيها غير مضاف، ولهذا جاء تفسير الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما بشدة الأمر، والكشف عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة. والآية محتملة لذلك، ولا مانع من تفسير الآية بذلك وبما جاء في الحديث؛ فإنه لا منافاة بينهما، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما لم يبلغه الحديث، وعلى هذا فلا موجب للعدول عن ظاهر الحديث بتأويل الساق بالقدرة أو النفس كما صنع الخطابي رحمه الله تعالى، وهذه طريقته في مثل هذه الصفات: لا يثبت حقائقها بل يتأولها على معانٍ تخالف ظواهر النصوص. والواجب إجراء النصوص على ظاهرها كما قال الأئمة: "أمروها كما جاءت بلا كيف"؛ أي آمنوا بما دلت عليه ولا تعدلوا بها عنه، كما قال الإمام مالك وغيره: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب".
137 = 157 – (13/429) قال الحافظ: "ومثله من التبكيت ما يقال لهم بعد ذلك: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق، بل إظهار خزيهم، ومثله: "كلف أن يعقد شعيرة"؛ فإنها للزيادة في التوبيخ والعقوبة. انتهى.
ولم يجب عن قصة أبي لهب. وقد ادعى بعضهم أن مسألة تكليف ما لا يطاق لم تقع إلا بالإيمان فقط، وهي مسألة طويلة الذيل ليس هذا موضع ذكرها".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7439 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
انظر التعليق على هذه المسألة (62) و(89)
قال الشيخ البراك : وأما احتجاج من قال به بتكليف أبي لهب بالإيمان مع أن الله أخبر أنه سيصلي نارًا ذات لهب، وأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين وهما: أمره بالإيمان مع إخباره بأنه لا يؤمن؛ فالجواب: أنه بعد نزول السورة أصبح بمنزلة من عاين العذاب؛ فإنه لا ينفعهم إيمانهم لأنهم غير مأمورين به تلك الساعة؛ لأن التكليف والامتثال إنما ينفع قبل المعاينة كما قال تعالى: "فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا...."الآية ومعنى هذا أن أبا لهب بعد نزول السورة لا يؤمر بالإيمان لانكشاف عاقبته كما قال الله تعالى لنوح في قومه: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن". وعلى هذا فيعلم بعد نزول السورة أن أبا لهب لن يؤمن كما أن قوم نوح بعد خبر الله له لن يؤمن أحد منهم، فانقضى بذلك وقت الدعوة والإنذار، وحق القول عليهم بأنهم من أصحاب النار.
138 = (13/429) قال الحافظ: "وقوله: فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، قال الخطابي: هذا يوهم المكان، والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره التي اتخذها لأوليائه، وهي الجنة، وهي دار السلام، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل: بيت الله وحرم الله".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7440 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قول الخطابي: "هذا يوهم المكان والله منزه عن ذلك": يقال في لفظ المكان ما يقال في لفظ الجهة بأنه لفظ مجمل؛ فإن أريد به أن الله تعالى في مكان موجود من المخلوقات يحيط به فالله منزه عن ذلك،
وإن أريد به ما فوق جميع المخلوقات - وليس فوق المخلوقات شيء موجود إلا الله تعالى - فلا يلزم بإثبات المكان بهذا المعنى محذور.
وقوله في الحديث: "في داره": لا ريب أن إضافة الدار إليه إضافة تشريف، ولا يلزم من ذلك أن يكون حالاً في هذه الدار؛ فإنه تعالى منزه عن الحلول في شيء من مخلوقاته. وأما المراد بهذه الدار فالله أعلم به، وإن كان المتبادر أنها الجنة.
وانظر التعليقات (129) و (130) و(131)
139– (13/431) قال الحافظ: "قال ابن بطال: معنى رفع الحجاب .... إلى قوله: فإن ظاهره ليس مردًا قطعا، فهي استعارة جزمًا، وقد يكون المراد بالحجاب في بعض الأحاديث الحجاب الحسي، لكنه بالنسبة للمخلوقين، والعلم عند الله تعالى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7443 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم : "ولا حجاب يحجبه": يدل على أن الله تعالى يكلم عباده يوم القيامة كفاحًا بلا واسطة فيجتمع لهم التكليم والرؤية، والحجاب المنفي في هذا الحديث هو المثبت في قوله تعالى: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب". والحجاب إذا ذكر في مقام نفي الرؤية لا بد أن يكون خارجًا عن ذات الرائي ليكون مانعًا من الرؤية مع سلامة الحاسة. والحجاب الذي يمنع رؤية العباد لربهم قد يكون مخلوقًا، وقد يكون صفة لله تعالى كما في الحديث الذي بعد هذا؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" فالله يحتجب من عباده بما شاء وكيف شاء. وما يكون حاجبًا لعباده عن رؤيته لا يحجبه سبحانه وتعالى عن رؤيته لخلقه، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" والحديثان في صحيح مسلم .
ومما تقدم يتبين خطأ ابن بطال في قوله: "معنى رفع حجاب: إزالة الآفة من أبصار المؤمنين ... إلخ"؛ فإن معناه أنه ليس هناك حجاب يرفع بين المؤمنين وربهم فينظرون إليه، بل المانع لهم من الرؤية أولاً قصور أبصارهم عن رؤيته فمتى منحهم الله القدرة على ذلك رأوه. وهذا المعنى يرتبط بقول الأشاعرة في الرؤية وأنه يُرى تعالى لا في جهة، وبقولهم: إنه حال في كل مكان.
وما نقله الحافظ في شرح هذا الحديث عن العلائي من قوله: "ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية...إلى قوله: وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسم": هذا الكلام جارٍ على مذهب من ينفي كثيرًا من الصفات كالأشاعرة، ويحمل نصوصها على المجاز إما بالاستعارة أو بالمجاز المرسل، أو العقلي؛ فهذه النصوص عندهم محمولة على خلاف ظاهرها لأن ظاهرها عندهم تجسيم وتشبيه، فمن أثبت هذا فهو عندهم مشبه مجسم، وأهل السنة يثبتون ما دلّت عليه هذه النصوص مع نفي مماثلة المخلوقات، ويقولون: القول في الصفات كالقول في الذات، والقول في بعض الصفات كالقول في بعض.
وقول العلائي: "والله سبحانه وتعالى منزه عما يحجبه؛ إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس": إن أراد أنه تعالى منزه عما يحجبه عن خلقه فلا يراهم ولا يسمعهم، أو أراد أنه منزه عن حجاب مخلوق يحيط به فهذا حق، وإن أراد أنه تعالى منزه عن حجاب محسوس يحجب الخلق عن رؤيته مثل النور الذي ورد ذكره في الحديث فهذا ما دلت عليه النصوص الواردة في ذكر الحجاب، فنفيه باطل.
وقوله: "إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس": كلام مخالف للواقع ومبني على باطل؛ فإنه لا يلزم أن يكون الحجاب محيطًا بالمحتجب عن غيره.
وقوله: "بمقدر محسوس": يرجع عندهم إلى نفي العلو فوق المخلوقات والقول بالحلول، ونفي الرؤية الحقيقية، وكل ذلك باطل.
140 – (13/432) قال الحافظ : "قال المازري: .... ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها.... وقال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات فإما مفوض، وإما متأول بأن المراد بالوجه الذات....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7444 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم : "إلا رداء الكبرياء على وجهه": يدل على أن الحجاب قد يكون صفة كما تقدم تقرير ذلك في التعليق الذي قبل هذا [رقم139]، وما نقله الحافظ هنا عن المازري وعياض يقتضي نفي حقيقة الحجاب، وأن المانع من الرؤية ضعف أبصار العباد فقط، لا أن هناك حجابًا بينهم وبين الله تعالى، وهذا جارٍ على أصل الأشاعرة في الرؤية وأنه يُرى لا في جهة بناء على نفيهم للعلو. وكذا ما نقله بعد ذلك عن القرطبي وابن بطال هو جارٍ على هذا السَنَن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر من أن يحتاج إلى هذا التمحل الذي حمل عليه رعاية الأصول الفاسدة والمحافظة عليها.
141 – (13/435) قال الحافظ: "قوله: ( باب ما جاء في قول الله تعالى: إن رحمت الله قريب من المحسنين، قال ابن بطال: الرحمة تنقسم إلى صفة ذات، وإلى صفة فعل، وهنا يحتمل أن تكون صفة ذات، فيكون معناها إرادة إثابة الطائعين، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون معناها أن فضل الله بسوق السحاب وإنزال المطر قريب من المحسنين، فكان ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وإرادته...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 25 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "الرحمة تنقسم إلى صفة ذات وإلى صفة فعل": هذا صحيح؛ فإنه سبحانه ذو الرحمة التي لم يزل متصفًا بها وهي لازمة لذاته، وهو ذو رحمة يرحم بها من يشاء؛ فالأولى هي الصفة الذاتية، والثانية هي الصفة الفعلية، وكلاهما قائم بذاته سبحانه وتعالى. ولولا ذلك لم تكن صفة. ولكن ابن بطال فسر الرحمة الذاتية بالإرادة على طريقة الأشاعرة، وفسر الرحمة الفعلية بالمفعول المخلوق كسوق السحاب، وكلا التفسيرين خطأ؛ فإن الرحمة غير الإرادة، والفعل القائم بالفاعل غير المفعول، والأشاعرة لا يثبتون حقيقة الرحمة، فلذا يؤولونها بالإرادة ولا يثبتون فعلاً يقوم بالرب بمشيئته سبحانه، فلذا يجعلون الفعل هو المفعول، ومعلوم أن المفعول ليس صفة للفاعل، بل هو أثر فعله. وبهذا تبين أن تسمية المفعول - وهو الرحمة المخلوقة كالمطر - صفة فعلية مخالفة للعقل. وتحرير المقام أن الرحمة المضافة لله تعالى إما أن تكون صفة ذاتية أو فعلية كما تقدم، وإما أن تكون مخلوقة؛ فمن الأول قوله تعالى: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"، ومن الثاني قوله تعالى: "فانظر إلى آثار رحمة الله"؛ فإن المراد بالرحمة هنا: المطر. وكقوله تعالى: "وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته"، وكما في حديث الباب من قوله تعالى للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء".
وانظر التعليقين (65) و (77).
142 – (13/436) قال الحافظ: "قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة بأن يخلق الله فيهما حياة وفهمًا وكلامًا، والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازًا كقولهم: امتلأ الحوض وقال قطني، والحوض لا يتكلم وإنما ذلك عبارة عن امتلائه وأنه لو كان ممن ينطق لقال ذلك، وكذا في قول النار: "هل من مزيد".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7449، كتاب التوحيد، باب 25 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم : "اختصمت الجنة والنار....إلخ": قيل إن هذا الاختصام حقيقة بلسان المقال، وأن الله عز وجل أنطق الجنة والنار، وقيل: إن الخصومة بلسان الحال، ومعناه أنه لم يكن نطق ولا كلام؛ فذكر الخصومة مجاز. وقد ذكر ابن بطال هذين الوجهين عن المهلب احتمالاً دون ترجيح، والواجب حمل الكلام على الحقيقة ما لم يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا، ولا دليل يدل على صرف الكلام عن ظاهره، فالصواب أن الله تعالى أنطق الجنة والنار فاختصمتا كما ذكر في الحديث. والله تعالى ينطق الجلود بالشهادة على أهلها وليس في العادة أن تنطق؛ كما قال تعالى: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء".
143 – (13/440) قال الحافظ: "وتصرف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة القول الأول، والصائر إليه يسلم من الوقوع في مسألة حوادث لا أول لها، وبالله التوفيق"*.
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 27 .
قال الشيخ البراك : مقصود البخاري بترجمته لهذا الباب بيان الفرق بين الفعل والمفعول، وأن الفعل القائم بالرب - وهو تخليقه وتكوينه وأمره - غير مخلوق؛ لأن ذلك من صفته سبحانه، والله بصفاته غير مخلوق، والمفعول مخلوق، وهو المكوَّن بفعله وأمره وتكوينه.
فالمفعول أثر الفعل، والفعل صفة الفاعل، والمفعول ليس صفة له، وما قرره البخاري هنا من الفرق بين الفعل والمفعول هو الذي قرره في ( باب خلق أفعال العباد) كما أشار إليه الحافظ، وهذا هو الحق الموافق للعقل والشرع، وعلى هذا فنوع الفعل والكلام من الله قديم، وآحاد ذلك حادثة تبعًا لمشيئته سبحانه وتعالى؛ فإنه لم يزل فعالاً لما يريد، فلا بداية لفاعليته، ولم يزل متكلمًا بما شاء إذا شاء. وأما جنس المفعول فلا ريب في إمكان قدمه؛ لأن ذلك لازم دوام فاعلية الرب وقدرته سبحانه، وبهذا التقرير يتبين الصواب والخطأ من الأقوال التي نقلها الحافظ في هذا المقام، وبيان ذلك فيما يلي:
1- قوله: "وأصلها أنهم اختلفوا هل صفة الفعل قديمة أو حادثة...إلخ": الصواب أن جنس الفعل القائم بالرب سبحانه قديم وآحاده حادثة، وهذا مذهب أهل السنة، وهو المراد مما حكاه الحافظ عن أبي حنيفة وجماعة من السلف، وأما قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما بأن صفة الفعل حادثة فالأظهر أن مرادهم بالفعل: المفعول؛ أي المخلوق، وعندهم أنه يمتنع دوام الحوادث في الماضي، فيجب أن يكون جنس المخلوقات حادثًا، وإذا كان المراد من الفعل في قولهم هو المفعول فلا معنى للتعبير عنه بالصفة؛ لأن المفعول ليس صفة للفاعل، ويبعد أن يريدوا بالفعل ما يقوم بالرب سبحانه لأنه لا يجوز عندهم أن يقوم به ما هو حادث بمشيئته. وبهذا يعلم أن الفعل الذي قال أبو حنيفة بقدمه ليس هو الذي قال ابن كلاب والأشعري بحدوثه، فمتعلق المذهبين مختلف، فلا وجه للمعارضة بينهما .
2- قوله: "فأجاب الأول أنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق....إلخ": المراد بالأول: أبو حنيفة ومن قال بقوله. وقوله: "أنه يوجد في الأزل صفة الخلق" بمعنى أن الله تعالى لم يزل موصوفًا بالخلق أي مسمى بالخالق هو الصواب؛ إذ لم يزل الرب سبحانه قادرًا على الخلق مستحقًا لهذا الاسم. وقول الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق كما لا يكون ضارب ولا مضروب: إن أراد أن فعل الخلق يستلزم المخلوق فصحيح، وإن أراد أن صفة الخالقية تستلزم مخلوقًا فممنوع؛ فإن القادر على الخلق خالق ولو لم يخلق، وهكذا يقال إن فعل الضرب يستلزم مضروبًا، والقادر على الضرب قد يسمى ضاربًا ولو لم يكن منه ضرب بالفعل.
3- قوله: "فألزموه بحدوث صفات، فيلزم حلول الحوادث بالله": حلول الحوادث في ذات الله تعالى من الألفاظ المجملة المبتدعة؛ فإن أريد بنفيه نفي حلول شيء من المخلوقات في ذاته فهو حق، وإن أريد به نفي قيام الأفعال الاختيارية به فهو باطل؛ فإن الله تعالى لم يزل فعالاً لما يريد، ولا يزال يفعل ما يشاء إذا شاء، فبطل الإلزام. ولكن الأشعري يوافق على نفي قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، ولهذا أجاب بقوله: "إن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئًا جديدًا". وهو كلام ليس بسديد؛ فإذا كانت هذه الصفات حادثة، وكانت قائمة بذات الله، فقد حدث في الذات شيء جديد، وإن لم تكن قائمة بالذات فليست بصفات؛ لأن الصفة لا بد أن تقوم بالموصوف.
4- قوله: "فتعقبوه بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقًا ولا رازقًا": الصواب أن هذا ليس بلازم؛ لأن القادر على الخلق والرزق يسمى خالقًا ورازقًا ولو قدر أنه لم يقع منه الفعل. وقولهم: "إن كلام الله قديم" معناه عندهم أنه لا يكون بمشيئته، وهذا لا يصح على الإطلاق، بل إنه سبحانه لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء كيف شاء، فكلامه قديم النوع حادث الآحاد. وقدم أسمائه سبحانه معلوم من قدم كماله. وقول بعض الأشعرية: "إن إطلاق اسم الخالق الرازق على الله قبل أن يخلق ويرزق بطريق المجاز": هذا القول باطل؛ فإن القادر على الخلق والرزق هو خالق حقيقة رازق حقيقة، كما أن القادر على الكلام متكلم وإن كان في الحال لا يتكلم. وقول الأشعري: "إن الأسامي- أي أسامي الله- جارية مجرى الأعلام...إلخ" يقتضي أن أسماء الله تعالى لا تدل على معاني بل هي أعلام محضة، وهذا كقول المعتزلة. والصواب أن أسماء الله تعالى أعلام وصفات؛ فتتحد في دلالتها على الذات وتختلف في دلالتها على الصفات، وبهذا يعلم أن أسماء الله تعالى دالة على معانيها بالحقيقة اللغوية والشرعية، واسم الفاعل والفعال يصدق على من كان قادرًا على الفعل وإن قُدِّر أنه لم يفعل كما تقدم والله أعلم.
144 – (13/441) قوله: (باب قوله تعالى:(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين") قال: "وأشار به إلى ترجيح القول بان الرحمة من صفات الذات .... من قال: المراد بالرحمة إرادة إيصال الثواب، وبالغضب إرادة إيصال العقوبة...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 28 .
قال الشيخ البراك : السبق يراد به التقدم في الزمان، ويراد به الغلبة. والسبق في الآية الأظهر فيه: المعنى الأول؛ فيكون المراد به سبق القدر بأن النصر والغلبة لرسله وجنده، كما يشهد لذلك قوله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي".
كما أن السبق في الآية يتضمن المعنى الثاني. والأظهر في سبق الرحمة المعنى الثاني، ويؤيده أن الحديث ورد بلفظ : "إن رحمتي تغلب غضبي".
والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان: صفة ذاتية، وصفة فعلية، ولا ريب أن الرحمة الذاتية سابقة للغضب في الزمان؛ لأنه سبحانه موصوف بها في الأزل، فيصح أن يقال: لم يزل رحيمًا.
وأما الغضب فهو صفة فعلية، فهو تابع لمشيئته، والأظهر أن الرحمة التي تسبق وتغلب الغضب هي الرحمة الفعلية التي تكون بمشيئته سبحانه .
وأما سبق الكتاب في حديث ابن مسعود رضي الله عنه فالأظهر فيه هو المعنى الثاني، وإن كان المعنى الأول ثابتًا للكتاب لأن المراد به كتاب القدر. والظاهر أن مراد البخاري بالترجمة هو الاستدلال على أن كلام الله تعالى ورحمته من أفعاله التابعة لمشيئته، وما هذا شأنه لا بد أن يسبق بعضه بعضًا، فوصف بعض كلامه بالسبق يدل على ذلك. وأمره الكوني والشرعي من كلامه سبحانه، وبهذا يتبين الخطأ في قول الحافظ عن البخاري: "وأشار به – أي حديث إن رحمتي سبقت غضبي- إلى أن الرحمة صفة ذاتية".
وقوله: "وقد غفل عن مراده من قال: دل وصف الرحمة بالسبق على أنها من صفات الفعل": فالصواب مع هذا القائل خلافًا للحافظ؛ فهذه الرحمة الموصوفة بالسبق صفة فعلية كما تقدم .
وقد تقدم في غير موضع أن الأشاعرة ينفون حقيقة الرحمة والغضب، وأهل التأويل منهم يفسرونهما بالإرادة - وهو المعنى الذي أشار إليه الحافظ هنا - كما ينفون قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه؛ فلذلك قالوا: إن الرحمة صفة ذاتية وهي الإرادة، وإن كلام الله قديم لا يكون شيء منه بمشيئته ولا يسبق بعضه بعضًا، ولذلك استشكلوا وصف الرحمة والكلمة بالسبق كما أشار الحافظ. ومذهب أهل السنة أن جنس كلام الله تعالى لم يزل، وآحاده تحدث تبعًا لمشيئته؛ فلم يزل سبحانه يتكلم بما شاء إذا شاء.
145- (13/449) قال الحافظ: "... فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالعقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب، وحرف المسألة أن المعتزلة قاسوا الخالق على المخلوق، وهو باطل...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 31 .
قال الشيخ البراك : قوله: "فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة.... إلخ": جعل المعصية علامة على العقاب والطاعة علامة على الثواب معناه: أنه لا أثر لهما في الجزاء وإنما مرد الجزاء محض المشيئة من الله تعالى، وهذا قول القدرية الجبرية الجهمية؛ فإن من مذهبهم نفي الأسباب وأنها محض أمارات على ما يحدثه الله سبحانه، ومعنى ذلك أن الله يخلق عندها لا بها؛ فليس عندهم في أفعال الله تعالى باء سبب بل باء المصاحبة، وقد تبعهم الأشاعرة في ذلك، فما ذكره الحافظ من أن الطاعة والمعصية علامة هو من قولهم، وهو راجع إلى قولهم في نفي الأسباب، ومن فروع قولهم في الأسباب: قولهم في أفعال العباد أنها كسب من العباد، والكسب عندهم ما يحدث عند القدرة الحادثة؛ ومعنى ذلك أن فعل العبد يحدث عند قدرته لا بقدرته.
146 – (13/453) قال الحافظ: "قال ابن بطال: استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته لم يزل موجودًا به..... وملخص ذلك، قال البيهقي في كتاب "الاعتقاد": القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفات ذاته...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 32 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم....إلخ": تحريف لكلام البخاري عن وجهه، بل استدل البخاري بالآية على أن ما سمعه الملائكة وفزعوا منه كلام الله، وأنه ليس بمخلوق؛ ولهذا قال في وجه الاستدلال: "ولم يقل ماذا خلق ربكم" وفي ذلك رد على من قال: إن كلام الله مخلوق، ولكن ابن بطال وهو من الأشاعرة كما يظهر من سائر كلامه حمل كلام البخاري على مذهبه؛ وهو أن كلام الله قديم مطلقًا، لا يكون شيء منه بمشيئته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، وفي هذه الآية وما ورد من الحديث في معناها أبلغ رد على هذا المذهب؛ ففزع الملائكة كان لسماع كلام الله تعالى الذي تكلم به في ذلك الوقت، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ فعلم أنهم سمعوا قول الله تعالى ولم يسمعوا مخلوقًا؛ ولهذا قال البخاري: " ولم يقل: ما ذا خلق ربكم؟".
147- (13/458) قال الحافظ: "قال البيهقي: الكلام ما ينطق به المتكلم ...إلى قوله: فسماه كلامًا قبل التكلم به، قال: فإن كان المتكلم ذا مخارج سُمِعَ كلامُه ذا حروف وأصوات، وإن كان غير ذي مخارج فهو بخلاف ذلك، والباري عز وجل ليس بذي مخارج، فلا يكون كلامه بحروف وأصوات....".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 32، حديث جابر .
قال الشيخ البراك : قوله: "قال البيهقي: الكلام ما ينطق به المتكلم... إلخ": هذا من البيهقي من عجيب القول، وهو يدل على أن الذكي والعالم قد ينبو فهمه فيقع في خطأ فادح. وقد تضمن كلامه - رحمه الله تعالى- أخطاء عدة، أولها وأصلها: نفي أن يكون كلام الله تعالى بحرف وصوت؛ وهذا هو مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ فإن كلام الله عندهم معنى نفسي، وهو مذهب باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؛ فقد أخبر سبحانه أنه ناجى موسى عليه السلام وناداه، وهذا يدل على أنه كلمه بصوت، وأن موسى سمع كلام الله عز وجل من الله تعالى.
الثاني: دعواه أن الكلام ما يستقر في نفس المتكلم مستدلاً على ذلك بقول عمر رضي الله عنه، والصواب أن الكلام مطلقًا ما يتكلم به المتكلم، وإذا أريد به ما في النفس وجب تقييده كما قال سبحانه: "ويقولون في أنفسهم ... الآية".
الثالث: دعواه أن الكلام لا يسمع إلا من ذي المخارج، ومعناه: أن من ليس كذلك فلا يكون كلامه بصوت، فلذلك لا يسمع منه، وهذا باطل؛ فإن الملائكة يتكلمون بكلام مسموع، ولا يلزم من ذلك أن يكون لهم مخارج. وأيضًا فإن الله تعالى قادر على أن يُنْطِق الجماد، ولا يلزم أن يكون نطقه بمخارج، وقد أخبر سبحانه أنه يُنْطِق الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل، ولا يلزم من ذلك أن يكون بمخارج، وهذا يبطل دعوى أن إثبات الحرف والصوت لكلام الله تعالى يستلزم أن يكون له مخارج مع أن إضافة المخارج إلى الله تعالى مما يجب الإمساك عنه نفيًا أو إثباتًا.
148- (13/458) قال الحافظ: "وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به، ثم إما التفويض، وإما التأويل، وبالله التوفيق".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 32، حديث جابر.
قال الشيخ البراك : قد أحسن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى تعقبه للبيهقي بقوله: "إذ الصوت قد يكون من غير مخارج" وقوله: "وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به".
ولكن يعكر على قوله ذلك قوله بعده: "ثم إما التفويض وإما التأويل". وقد تقدم في أكثر من تعليق أن التفويض والتأويل طريقان للأشاعرة في نصوص ما ينفونه من الصفات.
149- (13/460) قال الحافظ: "قوله: (فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار) هذا آخر ما أورد منه من هذه الطريق، وقد أخرجه بتمامه في تفسير سورة الحج بالسند المذكور هنا، ووقع "فينادي" مضبوطا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور؛ فإن قرينة قوله: "إن الله يأمرك" تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7483، كتاب التوحيد، باب 32.
قال الشيخ البراك : قوله: "فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك...إلخ": خطأ ظاهر؛ فإن دعوى أن المنادي ملك دعوى لا دليل عليها، فهي من تحريف الكلم عن مواضعه، وهذا مبني على أصل باطل، وهو أن الله تعالى لا يوصف بالنداء لأن النداء يدل على الصوت، وكلام الله ليس بصوت، وهذا مذهب الأشاعرة، واستدلال الحافظ على هذا التأويل بقوله في الحديث: "إن الله يأمرك" وجهه: أنه ذكر الاسم الظاهر لا ضمير المتكلم، فلم يقل: إني آمرك. وهذا غفلة منه - عفا الله عنه - عما جاء في القرآن في قوله: "إن الله يأمركم"، وقوله: "إن الله يأمر بالعدل". ومَن أوّل النداء في هذا الحديث بنداء ملك كيف يستطيع أن يؤول مثل قوله تعالى: "ويوم يناديهم"، وقوله سبحانه: "وناداهما ربهما"، وقوله تعالى: "وناديناه من جانب الطور الأيمن".
150 – (13/460) قال الحافظ: "وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7483، كتاب التوحيد، باب 32 .
قال الشيخ البراك : قوله: "وأثبت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت": تخصيص الحنابلة بذلك لا وجه له؛ بل إثبات الحرف والصوت هو مذهب أهل السنة والجماعة من الحنابلة وغيرهم، ونفي ذلك هو مذهب الأشاعرة من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم؛ فإن أتباع المذاهب الأربعة منهم من هو على مذهب السلف، وهذا هو الغالب على متقدميهم، ومنهم من هو على مذهب الخلف، وهم كثير من متأخريهم.
151- (13/462) قال الحافظ: "قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: في تعبيره عن كثرة الإحسان بالحب تأنيس العباد وإدخال المسرة عليهم....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7485، كتاب التوحيد، باب 33 .
قال الشيخ البراك : قول ابن أبي جمرة: "في تعبيره عن كثرة الإحسان بالحب... إلخ": تأويل مبني عنده على نفي حقيقة المحبة عن الله تعالى، ولا موجب لهذا النفي والتأويل؛ فالواجب إثبات المحبة لله تعالى على ما يليق به كسائر الصفات من علمه وسمعه وبصره سبحانه وتعالى. ونفي جميع الصفات هو مذهب الجهمية والمعتزلة، والتفريق بين الصفات مذهب الأشاعرة؛ وكلاهما منحرف عن الصراط المستقيم، ومخالف لمذهب السلف الصالح والتابعين.
152- (13/467) قال الحافظ: "قوله: (باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله) كذا للجميع، زاد أبو ذر: الآية، قال ابن بطال: أراد بهذه الترجمة وأحاديثها ما أراد في الأبواب قبلها أن كلام الله تعالى صفة قائمة به، وأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 35 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "أراد بهذه الترجمة وأحاديثها...إلخ": تقصير في مراد البخاري؛ فمراده رحمه الله تعالى بهذه الترجمة وأحاديثها تقرير أن كلام الله صفة قائمة به خلافًا للمعتزلة، وأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال إذا شاء بما شاء خلافًا للكلابية والأشاعرة القائلين بأن كلام الله تعالى قديم لا تتعلق به المشيئة، ولهذا اقتصر ابن بطال في مراد البخاري على إثبات القدم، فالصواب أن كلام الله تعالى صفة ذاتية فعلية، فالآيات والأحاديث دالة على أن الله تعالى قال ويقول، ونادى وينادي، فكلامه تعالى قديم النوع، حادث الآحاد بمشيئته سبحانه وتعالى.
153 – (13/468) قال الحافظ: "وهو ظاهر في المراد سواء كان المنادي به ملكا بأمره أو لا؛ لأن المراد إثبات نسبة القول إليه، وهي حاصلة على كل من الحالتين، وقد نبهت على من أخرج الزيادة المصرحة بأن الله يأمر ملكًا فينادي".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35 .
قال الشيخ البراك : لقد شرق المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة بهذا الحديث لمخالفته لأصولهم؛ فإن الجهمية والمعتزلة ينفون عن الله تعالى جميع الصفات الذاتية والفعلية، وتبعهم متأخرة الأشاعرة في نفي الصفات الفعلية.
وقد دل هذا الحديث على أنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في آخر الليل فيقول: "من يدعوني .... إلخ"، فهذا النزول وهذا القول فعل من الرب سبحانه بمشيئته في ذلك الوقت. وأهل السنة والجماعة يثبتون ذلك على حقيقته مع نفي التمثيل والتكييف، وأما النفاة للصفات والأفعال الاختيارية فذلك عندهم ممتنع؛ فمنهم من يرد هذا الحديث زاعمًا أنه خبر آحاد، ومنهم من يوجب فيه التفويض أو التأويل. والحديث نص في معناه؛ فكل تأويل أولوه به فهو تحريف للكلم عن مواضعه، فالله تعالى هو الذي ينزل كيف شاء لا غيره، وهو الذي يقول: من يدعوني، ولا يجوز أن يقول الملك: من يدعوني، ومن بديع الرد على من ينفي النزول الإلهي قول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكان، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء.
154– (13/468) قال الحافظ: "وتأول ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا ...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35 .
قال الشيخ البراك : قول ابن حزم بأن: "النزول فعل يفعله الله في سماء الدنيا...إلخ": معناه أن النزول ليس فعلاً قائمًا بالرب، وهذا جار على مذهب نفاة الصفات، ونفاة قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، وهو باطل.
وتنظير النزول في الحديث بقول القائل: نزل لي فلان عن حقه غفلة أو مغالطة؛ لأن الذي في الحديث معدّى ( بإلى ) ونوع المتعلق مختلف.
155- (13/468) قال الحافظ: "فكما قَبِلَ النزولُ التأويلَ لا يمنع قَبولُ الصعودِ التأويلَ، والتسليم أسلم كما تقدم، والله أعلم".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35.
قال الشيخ البراك : الحق إمرار نصوص النزول والصعود وسائر الصفات على ظاهرها اللائق به سبحانه، ولا موجب لعقل ولا شرع لصرفها عن ذلك.
156- (13/477) قال الحافظ: "ثم قال الخطابي: والظاهر أن هذا من تخليط اليهود وتحريفهم، وأن ضحكه عليه الصلاة والسلام إنما كان على معنى التعجب والنكير له، والعلم عند الله تعالى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7513، كتاب التوحيد، باب 36.
قال الشيخ البراك : تقدم التعليق على كلام الخطابي في موضعه الذي أشار إليه الحافظ، وبُيِّن أن كل ما قاله الخطابي في هذا الحديث من التأويل والتعليل باطل مبني على باطل وهو: نفي حقيقة اليدين، وحقيقة الأصابع. ومذهب أهل السنة إثبات ذلك على حقيقته اللائقة بالرب سبحانه؛ فله تعالى وجه، وله يدان، وله أصابع لا تشبه ما للمخلوق من ذلك، ولا يعقل العباد كيفية ذلك.
وانظر التعليق (121)
157 – (13/477) قال الحافظ: "قوله: (يدنو أحدكم من ربه): قال ابن التين: يعني يقرب من رحمته، وهو سائغ في اللغة؛ يقال: فلان قريب من فلان ويراد الرتبة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7514، كتاب التوحيد، باب 36 .
قال الشيخ البراك: قوله: "يعني: يقرب من رحمته... ": تأويل لا موجب له، والصواب أن الله تعالى يقرب من خلقه إذا شاء كيف شاء، ويُقرّب من شاء من خلقه ويدنيه كيف شاء، فقوله في الحديث: "يدنو أحدكم من ربه" هو على ظاهره، وأن العبد يقرب من ربه؛ يؤكد ذلك قوله: "فيضع عليه كنفه". والذين أولوا ذلك بالدنو من الرحمة حملهم على ذلك قولهم: إن الله في كل مكان، فليس بعض الخلق أقرب إليه من بعض، ولا الملائكة المقربون الذين هم عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. والذي دل عليه العقل والسمع أن الله تعالى بذاته في العلو ليس حالاً في المخلوقات، ولا في شيء من المخلوقات تعالى الله عما يقول الظالمون والجاهلون علوًا كبيرًا.
158- (13/484) قال الحافظ: "وقد أزال العلماء إشكاله؛ فقال القاضي عياض في الشفاء: إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل تأنيس لنبيه وإكرام له، ويتأول فيه ما قالوه في حديث: "ينزل ربنا إلى السماء" وكذا في حديث: "من تقرب مني شبرًًا تقربت منه ذراعًا" وقال غيره: الدنو مجاز عن القرب المعنوي لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7516، كتاب التوحيد، باب 37 .
قال الشيخ البراك : قول القاضي عياض: "إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان... إلخ":
انظر في دنو الرب سبحانه وقربه من عبده، وفي دنو العبد وقربه من ربه التعليق السابق رقم (157) و(67)
159 – (13/491) قال الحافظ: "والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 40 .
قال الشيخ البراك: قوله: "والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر": المراد بهذا نفي مذهب الجبرية ومذهب القدرية في أفعال العباد. ولا ريب أن في كلا المذهبين حقًا وباطلاً؛ فقول الجبرية إن أفعال العباد مخلوقة لله حق، ونفيهم لقدرة العبد ومشيئته وإضافة أفعاله إليه حقيقةً باطل، وقول القدرية: إن أفعال العباد هي أفعالهم حقيقة، وإنها واقعة منهم بقدرة منهم ومشيئة حق، ونفيهم أن تكون مخلوقة لله تعالى ولا واقعة بمشيئته، بل بمحض مشيئة العبد باطل.
وكذلك قول الأشاعرة: إن أفعال العباد خلق لله، وكسب من العباد. ومعنى أنها كسب: أن الله تعالى يخلقها عند قدرتهم لا بقدرتهم؛ فلا أثر لقدرتهم في أفعالهم وما العلاقة بينهما إلا الاقتران. وهذا راجع إلى مذهبهم في الأسباب، وهو نفي تأثيرها في مسبباتها. وفيما قالوه في أفعال العباد حق وباطل؛ فإثباتهم خلق الله لأفعال العباد وإثباتهم لقدرة العبد حق، ونفي أن تكون أفعالاً لهم حقيقة، ونفي تأثير قدرتهم فيها وتعبيرهم عن حدوثها عند قدرتهم بالكسب باطل.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ عن الكرماني أو غيره هو مذهب الأشاعرة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهي أفعال لهم حقيقة واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، والله خالقهم، وخالق مشيئتهم وقدرتهم وأفعالهم، وأنه لا مشيئة لهم إلا بعد مشيئته سبحانه كما قال تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".
160- (13/493- 494) قال الحافظ: "ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر النهي عن الخوض فيها، واكتفوا باعتقاد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يزيدوا على ذلك شيئًا، وهو أسلم الأقوال، والله المستعان".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 40 .
قال الشيخ البراك :
أولاً: لا يسلم للحافظ دعوى شدة اللبس في مسألة كلام الله تعالى عند السلف ونهيهم عن الخوض فيها، بل هي عند السلف والأئمة مشرقة بينة لا لبس فيها ولا خفاء، ولم ينهوا عن الخوض فيها، بل خاضوا فيها صدعًا بالحق وردًا للباطل، وإنما اللبس في هذه المسألة عند طوائف المتكلمين المبتدعين، ولهذا فرقوا دينهم شيعًا كما ذكر الحافظ هنا أقاويلهم.
ثانياً: قوله إن السلف اكتفوا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كلام حق، لكنه كلام مجمل لا يحرر مذهب السلف، ولا يميزه عن غيره؛ فالصواب أنهم لم يكتفوا بهذا الإجمال بل قالوا في القرآن إنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقالوا: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء بما شاء كيف شاء، وقالوا: إن كلام الله صفة قائمة به كسائر صفاته، وإنه حروف وأصوات يكون بمشيئته، وإن موسى عليه السلام سمع كلام الله من الله. فتحرير المذهب الحق في كلام الله تعالى أنه: صفة قائمة به خلافًا للجهمية والمعتزلة، وأنه لم يزل متكلمًا خلافًا للكرامية، وأنه يتكلم بمشيئته خلافًا للكلابية والأشاعرة والسالمية، وأن كلامه بحرف وصوت وأن معانيها لا حصر لها، خلافًَا للكلابية والأشاعرة؛ قال تعالى: "قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا". والحاصل أن مذهب السلف في القرآن وفي كلام الله حق محض، وكل قول خالفه ففيه حق وباطل.
161 – (13/496) قال الحافظ: "إن غرضه في هذا الباب ما ذهب إليه أن الله يتكلم متى شاء، وهذا الحديث من أمثلة إنزال الآية بعد الآية على السبب الذي يقع في الأرض، وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7521، كتاب التوحيد، باب 41 .
قال الشيخ البراك : لا ريب أن ما قاله الحافظ عن غرض البخاري في هذه الترجمة أظهر من قول ابن بطال للوجه الذي ذكره الحافظ، ولا ريب أن مذهب البخاري أن الله تعالى يتكلم متى شاء. ووجه استدلال البخاري على هذا بالحديث أن الآية نزلت بعد تحاور أولئك النفر، وهذا يتضمن أن الله تكلم بها حينئذ.
وقول الحافظ: "وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته": معناه أن المخالف للبخاري في مذهبه يجيب عن استدلاله بأن الآية نزل بها الملك من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة، لا أنه سمعها من الله تعالى. وهذا الجواب أصله الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "إن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل إلى الأرض نجومًا"، ولكن الذي عليه أهل السنة أن الروح الأمين جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن من الله تعالى، وأن الله يكلمه به؛ كما قال تعالى: "قل نزَّله روح القدس من ربك" وقال سبحانه: "تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" ولا منافاة بين هذا وبين كون القرآن مكتوبًا في أم الكتاب. وفي تعبير الحافظ عن مذهب المخالف للبخاري ما يوهم أن مذهب البخاري يقتضي أن كلام الله ليس قائمًا به، وهذا خطأ، بل يقول إنه قائم به بمشيئته؛ فهو فعل من أفعاله سبحانه. والمذهب المناقض لمذهب البخاري هو قول من يقول: إن كلام الله تعالى قديم لا تتعلق به المشيئة؛ كما هو قول الكلابية والأشاعرة.
162- (13/497) قال الحافظ: "قال ابن بطال: غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه محدث...إلى أن قال: فإذا لم يجز وصف كلامه القائم بذاته تعالى بأنه مخلوق لم يجز وصفه بأنه محدث ...
قلت: والاحتمال الأخير أقرب إلى مراد البخاري؛ لما قدَّمت قبل أن مبنى هذه التراجم عنده على إثبات أن أفعال العباد مخلوقة، ومراده هنا الحدث بالنسبة للإنزال".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 42 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه محدث... ": لا شك أنه أقرب مما رجحه الحافظ في آخر الكلام بقوله: "ومراده هنا الحدث بالنسبة للإنزال" ؛ أي أن المحدث هو الإنزال لا كلام الله تعالى. بل هذا بعيد عن مراد البخاري في الترجمة وما اشتملت عليه. والصواب أن مراد البخاري هو إثبات قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، وأن كلامه من أفعاله التي يحدثها بمشيئته سبحانه؛ ولهذا قال رحمه الله تعالى: "وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين"؛ أي إحداثه لما شاء لا يشبه إحداث المخلوقين لأفعالهم لأن إحداثه فعل قائم به فهو من صفاته الفعلية. وتعقُّبْ ابن بطال البخاري في وصف القرآن بأنه محدث وتأويلاته للآية مبني على مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ وهو أنه معنى نفسي قديم لا يكون بمشيئته؛ فهو صفة ذاتية له كحياته، وهو خلاف مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى.
انظر التعليق السابق في تفصيل مذهب أهل السنة في ذلك (161).
ودعوى ابن بطال أن المحدث والمخترع والمنشأ والمخلوق مترادفة ممنوعة.
163 – (13/498) قال الحافظ: "فقال ابن التين أيضا: هذا من الداودي عظيم؛ لأنه يلزم منه أن يكون الله تعالى متكلمًا بكلام حادث فتحل فيه".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 42 .
قال الشيخ البراك : قول الداودي: "الذكر في هذه الآية هو القرآن وهو محدث عندنا... إلخ": ظاهره موافق لظاهر مراد البخاري بالاستشهاد بالآية. واستعظام ابن التين لكلام الداودي، وتعقب الحافظ له متأولاً كلام الداودي مبني على مذهبهما في كلام الله تعالى؛ وهو أنه قديم فلا يكون بمشيئته. وفهم كلام الداودي على حقيقته يتوقف على معرفة مذهبه في كلام الله تعالى، ومن أي الطوائف هو.
164- (13/500): قال الحافظ: " قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) فيه إضافة الفعل إلى الله تعالى والفاعل له من يأمره بفعله... إلى قوله: ففيه بيان لكل ما أشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى مما لا يليق به فعله من المجيء والنزول ونحو ذلك، انتهى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7524، كتاب التوحيد، باب 43 .
قال الشيخ البراك : قوله تعالى: "فإذا قرأناه فاتبع قرآنه": المعروف في التفسير أن المراد قراءة جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بأمره سبحانه، فأضاف القراءة إلى نفسه سبحانه لأنها مما تفعله الملائكة بأمره، وما فعلته الملائكة بأمره يضيفه الله تعالى لنفسه لأنه مما فعله بواسطة ملائكته. ويشهد لهذا ما جاء عن السلف في تفسير قوله تعالى: "ونحن أقرب إليه منكم": قالوا: المراد قرب ملائكته سبحانه، ومثل هذا لا يجري ولا يصح إلا فيما ذكر الله سبحانه فيه نفسه بصيغة الجمع، وبهذا يبطل تشبيه هذه الآية بقوله تعالى: "وجاء ربك"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "ينزل ربنا"؛ فالآية والحديث نص في إضافة المجيء والنزول إليه سبحانه، وليس هذا بمشكل عند أهل السنة لأنهم يثبتون قيام الأفعال الاختيارية به، وإنما يستشكل مثل هذا من ينفي أن يقوم بذاته سبحانه ما هو بمشيئته، وهي صفاته الفعلية كاستوائه على العرش وتكلمه بما شاء وضحكه وفرحه سبحانه.
165- (13/501 ) قال الحافظ: "قوله: (باب قول الله تعالى: وأسروا قولكم) أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره؛ فإن كان بالقرآن فالقرآن كلام الله، وهو من صفات ذاته".
وذلك في كتاب التوحيد، باب 44.
قال الشيخ البراك : قوله: "وأشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن....إلخ": فيه نظر من وجهين:
أولاً: دعوى أن القول في الآية يشمل القرآن؛ وهذا لا يصح لأن القول في الآية مضاف للمخاطبين، والقرآن ليس قولاً لهم وإن أدّوه بأصواتهم وأفعالهم؛ ولهذا يقال: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ. وإضافة القرآن للرسول من الملائكة والرسول من البشر إضافة تبليغ كما يشعر بذلك لفظ الرسول.
ثانيًا: دعوى أن البخاري أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره لا تصح؛ لما تقدم من أن القرآن لا تصح إضافته قولاً لكل قارئ، والأظهر أن البخاري أشار بالآية إلى أن أفعال العباد مخلوقة لأن أقوالهم من أفعالهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: "ألا يعلم من خلق"، ففي الآية رد على القدرية القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة لهم.
وقوله: "فالقرآن كلام الله وهو من صفات ذاته... إلخ": ظاهره حق، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن كلام الله معنى نفسي؛ فالقرآن الذي هو كلام الله حقيقة هو ذلك المعنى النفسي، وهذا عندهم ليس بمخلوق قطعًا، كعلمه وقدرته، وأما القرآن المكتوب المسموع والمحفوظ فهو عبارة عن ذلك المعنى النفسي، وعلى هذا فتسميته كلام الله مجاز. والحق أن القرآن كلام الله حقيقة - حروفه ومعانيه - وهو المحفوظ في الصدور والمكتوب في المصاحف المحفوظ المسموع، وعلى هذا فالقول في الآية هو المعنى المصدري بمعنى التلفظ والتكلم والنطق؛ وهذه كلها من أفعال العباد، وهي مخلوقة، وأما القول بمعنى المقول فإن كان من كلام الله فليس بمخلوق، وإن أدّاه العبد بفعله عند تلاوته، وإن كان كلامًا لبعض العباد فهو مخلوق، وهذا هو الذي قصد إليه البخاري في هذه التراجم المتتالية، وهو الفرق بين اللفظ الذي هو فعل العبد، والملفوظ الذي هو القرآن كما نبه على ذلك ابن المنير في كلامه بعد هذا.
166 – (13/513) قال الحافظ: "قوله: (ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي هرولته) لم يقع: (وإذا أتاني....) إلخ في رواية الطيالسي، قال ابن بطال: وصف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصف العبد بالتقرب إليه، ووصفه بالإتيان والهرولة كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرا وذراعا وإتيانه ومشيه معناه التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده وإتيانه والمشي عبارة عن إثابته على طاعته وتقربه من رحمته، ويكون قوله: أتيته هرولة أي أتاه ثوابي مسرعا.... فإن المراد به قرب الرتبة وتوفير الكرامة. والهرولة كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد وتضعيف الأجر، قال: والهرولة ضرب من المشي السريع وهي دون العدو، وقال صاحب المشارق: المراد بما جاء في هذا الحديث سرعة قبول توبة الله للعبد أو تيسير طاعته وتقويته عليها وتمام هدايته وتوفيقه، والله أعلم بمراده".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7536، 7537، كتاب التوحيد، باب 50 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "وصف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده... كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز... فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز": الصواب أن ما تضمنه الحديث من ذكر التقرب والمشي والهرولة على ظاهره حسبما يقتضيه سياق الكلام، ومعلوم أن المشي المضاف للعبد والهرولة المضافة لله تعالى ليس المراد به قطع المسافة بل مزيد التقرب كما يدل عليه ما قبله.
وأما التقرب المضاف للعبد، والتقرب المضاف إليه سبحانه فإنه يتضمن ما ذكره ابن بطال، ولكن ذلك لا ينفي دلالة الحديث على أن الله عز وجل يتقرب من عبده متى شاء كيف شاء، وذلك مما يدل عليه اسمه: (القريب)؛ فهو سبحانه قريب من داعيه وعابديه، وهو سبحانه وتعالى يقرِّب إليه من شاء من عبيده، وهذا لا يشكل على مذهب أهل السنة والجماعة القائلين بمباينة الله تعالى لخلقه، وأن بعض خلقه أقرب إليه من بعض، وإنما ينكر ذلك ويستشكله نفاة العلو كالأشاعرة وغيرهم.
167- (13/517) قال الحافظ: "المراد منه كما قال البيهقي فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما أنزل، وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات؛ فبأي لسان قرئ فهو كلام الله".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7542، كتاب التوحيد، باب 51 .
قال الشيخ البراك : قول البيهقي: "فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم....إلخ": فيه خطأ من وجوه:
الأول: قوله: "إن صدقوا فيما فسروا... " يقتضي أن تفسيرهم لما أنزل عليهم بالعربية يقال له كلام الله، وهذا باطل؛ فإن ما فسروا به كتابهم ليس كلامًا لله بل هو من كلامهم بينوا به المراد من كلام الله تعالى، وهذا يقتضي أن أي تفسير صحيح للقرآن وأي ترجمة له يصح أن يقال إنها كلام الله تعالى، وهذا ظاهر الفساد.
الثاني: قوله: "وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات": يجري على مذهب الأشاعرة في كلام الله سبحانه؛ وهو أنه معنى نفسي واحد لا يتعدد وليس بحرف ولا صوت، وما أنزل من الحروف والكلمات في التوراة والإنجيل والقرآن عبارة عن ذلك المعنى النفسي، فليس هو كلام الله حقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله عز وجل حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.
الثالث: قوله: "فبأي لسان قرئ فهو كلام الله": صريح بأن ألفاظ القرآن الدالة على معانيه ليست كلامًا لله تعالى على الحقيقة؛ فلو قرئ القرآن بالإنجليزية أو الأوردية أو غيرهما من اللغات لكان المقروء كلام الله. وهذا ينافي ما وصف الله به كتابه من أنه بلسان عربي مبين كما قال تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك"، وقال عز وجل: "نزل به الروح الأمين...بلسان عربي مبين". وأصل هذا الخطأ هو القول بأن كلام الله معنى نفسي، وأن القرآن المتلو والمكتوب المحفوظ عبارة عن الكلام النفسي، ولو أنه قال: " فبأي لسان نزل" لكان ذلك أهون؛ فإنه على هذا لا يسمى كلام الله إلا إذا كان باللسان الذي نزل به الكتاب، والله الهادي إلى الصواب.
168- (13/528) قال الحافظ: " قال الكرماني: ... ويسند إلى الله تعالى من حيث إن وجوده إنما هو بتأثير قدرته، وله وجهتان: جهة تنفي القدر، وجهة تنفي الجبر؛ فهو مسند إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة، وهي صفة يترتب عليها الأمر والنهي والفعل والترك، فكل ما أسند من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنظر إلى تأثير القدرة، ويقال له: الخلق. وما أسند إلى العبد يحصل بتقدير الله تعالى، ويقال له: الكسب".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 56 .
قال الشيخ البراك : قول الكرماني في فعل العبد: "فهو مسند إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة...إلخ": هو تقرير قول الأشاعرة في أفعال العباد؛ وهو أن أفعال العباد خلق لله وكسب لهم؛ ومعنى ذلك أنها لا تضاف إليهم حقيقة بل مجازًا وعادةً؛ لأنهم لا تأثير لقدرتهم فيها، وإنما توجد أفعالهم عند قدرتهم لا بقدرتهم، وهذا هو الذي عبروا عنه بالكسب. وعلى هذا فمذهبهم راجع إلى مذهب الجبرية. والصواب أن أفعال العباد هي أفعالهم حقيقة واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، وهم وصفاتهم وأفعالهم خلق لله تعالى.
وانظر التعليق (159) .
169 – (13/532) قال الحافظ: "وقال تعالى: (أأنتم تزرعونه) فسلب عنهم هذه الأفعال وأثبتها لنفسه ليدل بذلك على أن المؤثر فيها حتى صارت موجودة بعد العدم هو خلقه، وأن الذي يقع من الناس إنما هو مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها على ما أراد، فهي من الله تعالى خلق بمعنى الاختراع بقدرته القديمة، ومن العباد كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي كسبهم".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 56 .
قال الشيخ البراك : قوله: "فسلب عنهم هذه الأفعال وأثبتها لنفسه....إلخ": يريد الأفعال التي في هذه الآية وما بعدها وما قبلها؛ وهي الخلق والزرع والإنزال والإنشاء. ولا ريب أن الله تعالى هو المتفرد بخلق الإنسان، وإخراج النبات، وإنزال الماء، وإنشاء ما تقدح به النار أو توقد به. وهذا لا ينافي ما للإنسان من تأثير في بعض ذلك، ولا يمنع نسبة فعل الزرع إلى الحارث باعتبار تسببه كما قال صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا" [أخرجه البخاري، ح2320، ومسلم ح1553]، وقال: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه" [أخرجه مسلم ح1536]؛ فالزرع المنفي عن المخلوق غير المثبت؛ كما قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
وقوله: "من العباد كسب...إلخ": انظر التعليق السابق (168) .
170 – (13/535) قال الحافظ: "وقال الكرماني: أسند الخلق إليهم صريحا، وهو خلاف الترجمة، لكن المراد كسبهم....ثم قال الكرماني: هذه الأحاديث تدل على أن العمل منسوب إلى العبد؛ لأن معنى الكسب اعتبار الجهتين فيستفاد المطلوب منها....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7557، 7558، 7559، كتاب التوحيد، باب 56.
انظر التعليقين السابقين (168) و (169) .
171 – (13/538) قال الحافظ: "وتعقب أنه مجاز عن حقارة قدره، ولا يلزم منه عدم الوزن، وحكى القرطبي في صفة وزن عمل الكافر وجهين أحدهما: أن كفره يوضع في الكفة ولا يجد له حسنة يضعها في الأخرى فتطيش التي لا شيء فيها، قال: وهذا ظاهر الآية؛ لأنه وصف الميزان بالخفة لا الموزون... والصحيح أن الأعمال هي التي توزن".
وذلك في كتاب التوحيد، باب 58 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم في الكافر: "فلا يزن عند الله جناح بعوضة": يحتمل أنه إخبار عن وزنه وخفته، ويحتمل أنه إخبار عن حقارة قدره؛ فكلا المعنيين يعبر عنهما بهذا اللفظ، فلا يكون نصًا في أن العامل يوزن، لكن الدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أتعجبون من دقة ساقيه، إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد"، ومجموع النصوص يفيد أن الوزن يكون للعامل وعمله وصحائف عمله، والله على كل شيء قدير، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. اهـ
تعليقات الشيخ البراك على المخالفات العقدية في فتح الباري
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله أرسل رسوله بالهدى ودين الحقِّ ليظهرَه على الدِّين كُلِّه ولو كره المشركون ، وصلى الله على نبينا محمد وآله ، وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
فلا يخفى عليكم أن كتاب "فتح الباري شرح صحيح البخاري" للحافظ ابن حجر العسقلاني من أعظم كتب المسلمين ..
إلا أن عمل البشر ـ مهما بلغ صاحبه من العلم ـ لا بد فيه من النقص .. وهذا النقص يختلف من كتاب لآخر كمـا ، ونوعا ..
ومن المعلوم أنّ من النقص الذي لا يحسن التساهل معه ما كان متعلقا بالعقيدة ؛ إذ هي أغلى ما مع العبد ، وأولى ما يحافظ عليه .
وعندما أراد الإخوة في دار طيبة ـ وفقهم الله ـ إخراج الكتاب بتحقيق الشيخ أبي قتيبة نظر الفاريابي ، كان في مقدمة اهتماماتهم التعليق على ما ورد في الكتاب مما يخالف مذهب أهل السنة والجماعة ؛ فكان أن يسر الله لهذه المهمة الكريمة الشيخ عبد العزيز الجليل ـ حفظه الله ـ ، فقام بعرض فكرة التعليق على الشيخ عبد الرحمن البراك ـ حفظه الله ـ = فشرح الله صدره لذلك ، فعلق على مواضع كثيرة بيَّن فيها الحق ـ مذهب أهل السنة والجماعة ـ بيانا شافيا .
وعناية الشيخ العلامة عبدالرحمن البراك في هذا الباب ظاهرة مشهورة فقد أمضى حفظه الله قريبا من نصف قرن في تدريس العقيدة السلفية ونشرها للناس جزاه الله عن المسلمين خير الجزاء.
ولما كان من الصعب وصول الكتاب لإخواننا المسلمين في بعض البلاد ، أو عدم قدرة بعضهم على اقتنائه = عقدت العزم على نقل تلك التعليقات النفيسة النافعة ؛ لينتفع بها الإخوة .
تنبيه : العزو للطبعة السلفية الأولى .
تنبيه آخر: سألتُ الشيخ عبد الرحمن البراك حفظه الله ونفع به : هل قرأ الشيخ عبد العزيز الجليل عليكم الفتح كاملا ثم علقتم عليه ؟ أو أخرج المواضع التي فيها مخالفة وعلقتم عليها ؟
فقال ـ حفظه الله ـ لم يقرأه كاملا ، بل أخرج المواضع التي فيها مخالفة وقرأها عليّ ، وعلقت عليها . هذا معنى سؤالي وجواب الشيخ ـ حفظه الله ـ لا نصه .
نقله على الشبكة العنكبوتية
عبدالرحمن بن صالح السديس
1 - قال الحافظ في المقدمة ص 136 :
قـــوله " استوى على العرش " هو من المتشابه الذي يفوض علمه إلى الله تعالى ، ووقع تفسيره في الأصل .اهـ
الشيخ البراك : قولــه : " هو من المتشابه ... الخ " إن أراد ما يشتبه معناه على بعض الناس فهذا حق ؛ فإن نصوص الصفات ومنها الاستواء قد خفي معناها على كثير من الناس ، فوقعوا في الاضطراب فيها وعلِم العلماء من السلف وأتباعهم معانيها المرادة منها، فأثبتوها، وفوضوا علم حقائقها وكيفياتها إلى الله تعالى؛ كما قال الإمام مالك وشيخه ربيعة لما سـئل عن الاستواء: " الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب" وهذه قاعدة يجب اتباعها في جميع صفات الله تعالى ، وقد فسر السلف الاستواء: بالعلو والارتفاع والاستقرار.
وإن أراد بالمتشابه: (ما لا يفهم معناه أحد، فيجب تفويض علم معناه إلى الله تعالى) فهذا قول أهل التفويض من النفاة المعطلة ، وهو باطل؛ لأنه يقتضي أن الله سبحانه خاطب عباده بما لا يفهمه أحد ، وهذا خلاف ما وصف الله به كتابه من البيان والهدى والشفاء.
وهذا الاحتمال الثاني هو الذي يقتضيه سياق الحافظ عفا الله عنه.
2- قال الحافظ في المقدمة ص 208 :
قوله : (أطولهن يدًا) أي: أسمحهن، ووقــع ذكر اليد في القرآن والحديث مضافًا إلى الله تعالى، واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة التي هي من صفات المحدثات ، وأثبتوا ما جاء من ذلك وآمنوا به ؛ فمنهم من وقف ولم يتأول، ومنهم من حمل كل لفظ منهــا على المعنى الــذي ظهر له، وهكذا عملوا في جميع ما جاء من أمثال ذلك.اهـ
قال الشيخ البراك: قوله: "واتفق أهل السنة والجماعة على أنه ليس المراد باليد الجارحة... الخ": لفظ الجارحة لم يرد إطلاقه في الكتاب والسنة ولا في كلام السلف على صفة الرب سبحانه ؛ لا نفيًا ولا إثباتًا، وهو لفظ مجمل ، فيجب التفصيل فيه نفيًا وإثباتًا ؛ فإن أريد بالجارحة الـيد التي تماثل أيدي المخلوقين ، فيد الله سبحانه ليست مثل يد أحد من الخلق .
وإن أريد بالجارحة اليد التي يكون بها الفعل، والأخذ، والعطاء، ومن شأنها القبض والبسط ؛ فيد الله كذلك ؛ فقد خلق آدم بيديه، ويأخذ أرضه وسماءه يوم القيامة بيديه، ويقبض يديه ويبسطهما كما جاء في الكتاب والسنة؛ فالنافي للمعنى الأول محق ، والنافي للمعنى الثاني مبطل.
ولا ريب أن أهل السنة متفقون على نفي مماثلة الله لخلقه في شيء من صفاته ـ لا اليد ولا غيرها ـ بل يثبتونها لله سبحانه على الوجه اللائق به مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
وقول الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى: "واتفق أهل السنة والجماعة": يدخل فيهم الأشاعرة ونحوهم من طوائف الإثبات كما يقتضيه آخر كلامه ، ومذهبهم في صفة اليدين لله نفي حقيقتهما ، ثم لهم في النصوص الواردة بذكر اليدين أحد منهجين:
إما التفويض، أي: تفويض المعنى.
وإما التأويل: بصرف لفظ اليد عن المعنى المتبادر ـ وهو الراجح ـ إلى معنى مرجوح كالقدرة والنعمة.
وهو صرف للكلام عن ظاهره بغير حجة صحيحة يسمونه تأويلاً، وهو في الحقيقة تحريف.
3 – قال الحافظ في الفتح 1 / 46 :قوله : ( وهو ) أي الإيمان ( قول وفعل يزيد وينقص ) ... والمعتزلة قالوا: هو العمل والنطق والاعتقاد. والفارق بينهم وبين السلف أنهم جعلوا الأعمال شرطًا في صحته ، والسلف جعلوها شرطًا في كماله.
قال الشيخ البراك: قوله: "والفارق بينهم وبين السلف .... الخ": هذا الفرق بين المعتزلة والسلف لا يستقيم سواء أريد بشرط الصحة أو شرط الكمال: جنس العمل ، أو أنواع العمل الواجبة ، أو الواجبة والمستحبة ؛ فإن الأعمال المستحبة من كمال الإيمان المستحب، فلا تكون شرطاً لصحة الإيمان، ولا لكماله الواجب.
وأما الأعمال الواجبة: فليس منها شرط لصحة الإيمان عند جميع أهل السنة، بل بعضها شرط لصحة الإيمان عند بعض أهل السنة كالصلاة.
وأما عند المعتزلة: فالمشهور من مذهبهم ومذهب الخوارج أن ما كان تركه كبيرة فهو شرط لصحة الإيمان، وعلى هذا فلا يصح أن يقال: إن جنس العمل عندهم شرط لصحة الإيمان؛ لأن ذلك يقتضي أن الموجب للخروج عن الإيمان عندهم هو ترك جميع الأعمال، وليس كذلك، بل يثبت عندهم الخروج عن الإيمان بارتكاب ما هو كبيرة.
وأما عند السلف: فعمل الجوارح تابع لعمل القلب، وجنس عمل القلب شرط لصحة الإيمان، وجنس عمل الجوارح تابع أو لازم لعمل القلب، فيلزم من انتفاء اللازم انتفاء الملزوم ؛ فإن الإعراض عن جميع الأعمال دليل على عدم انقياد القلب.
هذا، ولا أعلم أحدا من أئمة السلف أطلق القول بأن الأعمال شرط أو ليست شرطا لصحة الإيمان أو كماله ، وإنما المأثور المشهور عنهم قولهم: "الإيمان قول وعمل" أو "قول وعمل ونية" ؛ يقصدون بذلك الرد على المرجئة الذين أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، وخصوا الإيمان بالتصديق، أو التصديق والإقرار باللسان.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ بإطلاق القول بأن الأعمال شرط لصحة الإيمان عند المعتزلة، وشرط لكماله عند السلف ليس بمستقيم لما تقدم.
4– قال الحافظ ابن حجر 1 / 157 : " قوله " فاستحيا الله منه " أي رحمه ولم يعاقبه .
قوله : " فأعرض الله عنه " أي سخط عليه ، وهو محمول على من ذهب معرضا لا لعذر ، هذا إن كان مسلما ، ويحتمل أن يكون منافقا ، واطلع النبي صلى الله عليه وسلم على أمره ، كما يحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم : فأعرض الله عنه " إخبارا أو ادعاء .
قال الشيخ البراك : قوله: "فاستحيا الله منه أي رحمه"، وقوله: "فأعرض الله عنه أي سخط عليه": في هذا التفسير للاستحياء والإعراض من الله عدول عن ظاهر اللفظ من غير موجب، والحامل على هذا التفسير عند من قال به هو اعتقاده أن الله لا يوصف بالحياء أو الإعراض حقيقة؛ لتوهم أن إثبات ذلك يستلزم التشبيه، وليس كذلك بل القول في الاستحياء والإعراض كالقول في سائر ما أثبته الله عز وجل لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من الصفات، والواجب في جميع ذلك هو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، وقد ورد في الحديث: "إن ربكم تبارك وتعالى حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع يديه إليه أن يردهما صفرا" [أخرجه أبو داود والترمذي وحسنه].
وفي ذكر الاستحيـاء والإعراض في هذا الحديث دليل على أن الجزاء من جنس العمل، وشواهده كثيرة .
5 – قال الحافظ في الفتح 1 / 229 : قوله: "إن الله لا يستحيي من الحق" أي لا يأمر بالحياء في الحق.
قال الشيخ البراك : قوله: "أي لا يأمر بالحياء في الحق": ليس في هذا تفسير للاستحياء مضافا إلى الله عز وجل، ولا تفسير لنفي الاستحياء؛ فليس فيه تعرض لإثبات الاستحياء أو نفيه عن الله عز وجل، بل هو بيان للمراد من سياق هذا الخبر في قوله: "لا يستحيي من الحق"، وهو المعنى الذي قدمت به أم سليم لسؤالها . وانظر: التعليق رقم (4)
6– قال الحافظ في الفتح 1 / 352 : "والمراد باليد هنا القدرة".
قال الشيخ البراك : قوله: "والمراد باليد القدرة": يريد في قول ابن مسعود: "والذي نفسي بيده"، وهذا القسم كثيراً ما يقسم به النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناه: والذي نفسي في ملكه يتصرف فيها بقدرته ومشيئته. هذا هو معنى الكلام مركبا، فإذا أراد الحافظ أو غيره بقولهم: "المراد باليد هنا القدرة"
المعنى المراد من جملة القسم كان صحيحا، وإن أراد أن يد الله المراد بها قدرته؛ فهذا جار على مذهب أهل التأويل من نفاة الصفات الذين ينفون عن الله عز وجل حقيقة اليدين، ويؤولون ما ورد في النصوص بالقدرة أو النعمة. وهو تأويل باطل مبني على باطل، وهو: اعتقاد نفي حقيقة اليدين عن الله عز وجل. وهذا التأويل صرف للنصوص عن ظاهرها، كقوله تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي"، فلو كان المراد باليدين القدرة لما كان بين آدم وإبليس فرق؛ إذ الكل مخلوق بالقدرة. والحافظ رحمه الله جار في صفة اليد لله تعالى على طريق النفاة.
وانظر: تعليق رقم (2) .
7 - قال الحافظ في الفتح1/508:
"والمراد بالمناجاة من قبل العبد حقيقة النجوى، ومن قبل الرب لازم ذلك، فيكون مجازا، والمعنى: إقباله عليه بالرحمة والرضوان".
قال الشيخ البراك: قوله: "ومن قبل الرب لازم ذلك ... الخ": هذا القول يتضمن نفي حقيقة المناجاة عن الله عز وجل. والمناجاة هي المسارة في الحديث. وقد ثبتت إضافة المناجاة إلى الله عز وجل في قولـه سبحـانه: "وقربناه نجيا"؛ فالله عز وجل كلم موسى عليه السلام فناداه وناجاه، فهو كليم الله ونجيه. وليس في هذا الحديث ذكر للمناجاة من الله تعالى، بل المناجاة في الحديث من طرف العبد. ونفي حقيقة المناجاة هو مذهب من ينفي الكلام عن الله تعالى من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب من يقول إن كلام الله معنى نفسي ليس بحرف ولا صوت كالكلابية والأشاعرة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله يتكلم إذا شاء متى شاء، ويكلم من شاء، فيسمعه كلامه؛ فموسى عليه السلام سمع كلام الله من الله. وهكذا الأبوان في قوله سبحانه: "وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة ..." الآية. والذي يظهر أن الحافظ رحمه الله تعالى مشى في صفة المناجاة على مذهب أهل التأويل من الأشاعرة.
8- قال الحافظ ابن حجر 1/508: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته "
[أي:حديث : إن ربه بينه وبين القبلة]
قال الشيخ البراك : وقوله: "وفيه الرد على من زعم أنه على العرش بذاته...الخ": هذا صريح في أن الحافظ ـ عفا الله عنه ـ ينفي حقيقة استواء الله على عرشه ؛ وهو علوه وارتفاعه بذاته فوق عرشه العظيم.
وهذا مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، بل ومذهب كل من ينفي علو الله على خلقه؛ ومنهم الماتريدية ومتأخرو الأشاعرة ؛ وهو مذهب باطل مناقض لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة.
ومذهب سلف الأمة من الصحابة والتابعين وأئمة الدين وجميع أهل السنة والجماعة: أن الله عز وجل فوق سماواته على عرشه بائن من خلقه؛ أي ليس حالاً في مخلوقاته، ولا ينافي ذلك أنه مع عباده أينما كانوا، وأنه تعالى يقرب مما شاء متى شاء كيف شاء. وكذلك لا ينافي علوه واستواؤه على عرشه ما جاء في هذا الحديث من أنه سبحانه قِِبل وجه المصلي، أو بينه وبين القبلة؛ فالقول فيه كالقول في القرب والمعية؛ كل ذلك لا ينافي علوه ولا يوجب حلوله تعالى في شيء من المخلوقات؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله -:
"ولا يحسب الحاسب أن شيئا من ذلك يناقض بعضه بعضا ألبتة; مثل أن يقول القائل: ما في الكتاب والسنة من أن الله فوق العرش يخالفه الظاهر من قوله: { وهو معكم أين ما كنتم }، وقوله صلى الله عليه وسلم: { إذ قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه }، ونحو ذلك؛ فإن هذا غلط؛ وذلك أن الله معنا حقيقة وهو فوق العرش حقيقة كما جمع الله بينهما في قوله سبحانه وتعالى: { هو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض وما يخرج منها وما ينزل من السماء وما يعرج فيها وهو معكم أين ما كنتم والله بما تعملون بصير }؛ فأخبر أنه فوق العرش يعلم كل شيء وهو معنا أينما كنا كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث الأوعال: { والله فوق العرش وهو يعلم ما أنتم عليه }؛ وذلك أن كلمة (مع) في اللغة إذا أطلقت فليس ظاهرها في اللغة إلا المقارنة المطلقة من غير وجوب مماسة أو محاذاة عن يمين أو شمال، فإذا قيدت بمعنى من المعاني دلت على المقارنة في ذلك المعنى؛ فإنه يقال: ما زلنا نسير والقمر معنا أو والنجم معنا، ويقال: هذا المتاع معي لمجامعته لك; وإن كان فوق رأسك. فالله مع خلقه حقيقة وهو فوق عرشه حقيقة.... وكذلك قوله صلى الله عليه وسلم:
{ إذا قام أحدكم إلى الصلاة فإن الله قبل وجهه فلا يبصق قبل وجهه } الحديث. حق على ظاهره وهو سبحانه فوق العرش وهو قبل وجه المصلي، بل هذا الوصف يثبت للمخلوقات؛ فإن الإنسان لو أنه يناجي السماء أو يناجي الشمس والقمر لكانت السماء والشمس والقمر فوقه وكانت أيضا قبل وجهه. وقد ضرب النبي صلى الله عليه وسلم المثل بذلك - ولله المثل الأعلى - ولكن المقصود بالتمثيل بيان جواز هذا وإمكانه، لا تشبيه الخالق بالمخلوق؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: { ما منكم من أحد إلا سيرى ربه مخليا به} فقال له أبو رزين العقيلي: كيف يا رسول الله وهو واحد ونحن جميع ؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : {سأنبئك بمثل ذلك في آلاء الله؛ هذا القمر: كلكم يراه مخليا به وهو آية من آيات الله ; فالله أكبر } أو كما قال النبي صلى الله عليه وسلم". [مجموع الفتاوى 5 / 102 – 107 باختصار].
9 – قال الحافظ 1 / 514 : " ويستفـــاد منه أن التحسين والتقبيــــح إنما هو بالشرع ... ".
قال الشيخ البراك : قوله: "ويستفاد منه أن التحسين والتقبيح إنما هو بالشرع": المراد بالتحسين والتقبيح: الحكم على الشيء بأنه حسن أو قبيح، وقد اختلف الناس فيما يعرف به حسن الأشياء وقبحها:
فمذهب المعتزلة: أن ذلك يعرف بالعقل، وأن حُسْن الحَسَنْ وقبح القبيح ذاتيان، وأن الشرع كاشف لذلك .
ومذهب الأشاعرة: أن الأشياء في ذاتها مستوية لاشتراكها في الصدور عن المشيئة، وإنما تكسب الحسن والقبح بالشرع؛ فالحسن ما أمر به الشرع، والقبيح ما نهى عنه، فالحسن والقبح عندهم شرعيان لا عقليان، ويجوز عندهم أن يأمر الله بما نهى عنه فيصير حسناً، وينهى عما أمر به فيصير قبيحاً. وهذا ظاهر الفساد.
ومذهب أهل السنة والجماعة: أن حسن الأشياء وقبحها يعرف بالعقل والشرع؛ فما أمر به الشرع فهو حسن في ذاته ، وزاده الأمر به حسناً، وما نهى عنه الشرع قبيح وزاده النهي قبحاً؛ فالحُسْن والقبح عند أهل السنة شرعيان وعقليان، ولكن الحكم بالوجوب والتحريم، وترتب العقاب موقوف على الشرع.
وبهذا يتبين أن الحافظ رحمه الله تعالى يذهب في التحسين والتقبيح مذهب الأشاعرة، ودعواه أن ذلك مما يستفاد من الحديث، وتوجيه ذلك بأن جهة اليمين مفضلة على اليسار وأن اليد مفضلة على القَدَم - يعني في الشرع - دعوى غير صحيحة. وما ذكره من الدليل هو حجة على خلاف ما ذهب إليه؛ فإن تفضيل اليمين على الشمال، واليد على القدم كما قد دل عليه الشرع فقد شهد به العقل والفطرة؛ فكل عاقل يدرك قبل ورود الشرع فضل الوجه على الدبر، وفضل اليد على الرجل، وفضل اليمين على الشمال، فتطابق على ذلك الشرع والعقل.
10– قال الحافظ 1 / 514 : " لأن الحق عند أهل السنة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضو مخصوص ، ولا مقابلة ، ولا قرب ... " .
قال الشيخ البراك: قوله: "لأن الحق عند أهل السنة والجماعة أن الرؤية لا يشترط لها عقلا عضوا ... إلخ": مراد الحافظ بأهل السنة هنا الأشاعرة، وهو يشير عفا الله عنه بهذا الكلام إلى مذهبهم في الرؤية؛ أي في رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة، وهو أنه سبحانه وتعالى يُرى لا في جهة؛ فلا يقولون إن المؤمنين يرونه من فوقهم، ولا بأبصارهم، ولامع مقابلة. وهذا كله مبني على نفي علوه سبحانه؛ فحقيقة قولهم في الرؤية موافق لمن ينفيها كالمعتزلة؛ فإن قولهم يُرى لا في الجهة معناه أنه يُرى لا من فوق، ولا من تحت، ولا من أمام، ولا من خلف، ولا عن يمين، ولا عن شمال؛ وحقيقة هذا نفي الرؤية، فكانوا بهذا الإثبات على هذا الوجه متناقضين موافقين في اللفظ لأهل السنة بدعوى إثباتهم للرؤية، وموافقين في المعنى للمعتزلة. وليس في الحديث دليل على جنس هذه الرؤية، بل في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم يراهم من أمامه ومن خلفه.
وقوله : "إنكم سترون ربكم كما ترون الشمس والقمر" يدل على أن المؤمنين يرون ربهم عياناً بأبصارهم من فوقهم من غير إحاطة؛ فقد شبه الرؤية بالرؤية ولم يشبه المرئي بالمرئي، ولعل الحافظ يريد بأهل البدع المعتزلة.
11– قال الحافظ 2 / 144 : في قوله : " سبعة يظلهم الله في ظله " قال عياض: " إضافة الظل إلى الله إضافة ملك ، وكذا قال ، وكان حقه أن يقول : إضافة تشريف ليحصل امتياز هذا على غيره ، وقيل : المراد بظله : كرامته وحمايته كما يقال : فلان في ظل الملك .
قال الشيخ البراك: قوله : "سبعة يظلهم الله في ظله": المتبادر أن المراد بالظل هنا ما يستظل به ويتقى به من الحر، وهو أثر الحائل المانع من شعاع الشمس، والظاهر أن المراد بالظل المضاف إلى الله عز وجل في الحديث هو ما يظل به عباده الصالحين يوم تدنو الشمس من رؤوس الخلائق، وهو أثر أعمالهم الصالحة كما في الحديث: "كل امرئ في ظل صدقته حتى يفصل بين الناس...". [انفرد به أحمد وسنده متصل ورجاله ثقات].
وعلى هذا فهذا الظل مخلوق وإضافته إلى الله سبحانه إضافة ملك وتشريف كما قال عياض والحافظ رحمهما الله تعالى، وليس إضافة صفة إلى موصوف؛ فلا يقال: إن لذات الله ظلاً أخذاً من هذا الحديث؛ لأن الظل مخلوق كما قال سبحانه: "ألم تر إلى ربك كيف مد الظل"، والمخلوق ليس صفة للخالق، وقوله صلى الله عليه وسلم: "يوم لا ظل إلا ظله" يعني يوم القيامة. ومعناه: ليس لأحد ما يستظل به من حر الشمس إلا من له عمل صالح يجعل الله له به ظلا، وذلك من ثواب الله المعجل في عرصات القيامة.
هذا ولم أقف لأحد من أئمة السنة على تفسير للظل في هذا الحديث ، وهل هو صفة او مخلوق ، وما ذكرته هو ما ظهر لي، والله أعلم بالصواب.
12– قال الحافظ: 3 / 158 : " وفي هذا الحديث من الفوائد : – غير ما تقدم – جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر لرجاء بركتهم ودعائهم ، وجواز القسم عليهم لذلك "
قال الشيخ البراك: قوله: "في هذا الحديث من الفوائد – غير ما تقدم – جواز استحضار ذوي الفضل للمحتضر .... الخ": في هذا الاستنباط نظر؛ فإن التي استحضرت الرسول صلى الله عليه وسلم ابنته، ويحتمل أن يكون استحضارها للرسول صلى الله عليه وسلم بمقتضى العادة وحكم القرابة ليسليها ويواسيها، ومما يؤكد رغبتها في ذلك أن أباها هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي حضوره برد لحر المصاب، ولهذا أقسمت عليه بالمجيء، ولمَّا أقسمت عليه بر بقسمها. ولا ريب أنه يجوز استحضار من ينتفع بحضوره لدى المحتضر في أمر دين أو دنيا مما يعود إلى المحتضر أو أهله بالفائدة، ولا ريب أن استحضار من ينفع المحتضر وأهله بعلمه وتوجيهه مما يرغب فيه. وينبغي حمل قول الحافظ: "لرجاء بركتهم ودعائهم" على هذا؛ لأن مجالسة أهل العلم والصلاح فيها خير وبركة لمجالسيهم.
13– قال الحافظ 3 / 463 : وقال المهلب : حديث عمر هذا يرد على من قال : إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده ، ومعاذ الله أن يكون لله جارحة .
قال الشيخ البراك : قوله: "حديث عمر هذا يرد على من قال: إن الحجر يمين الله في الأرض يصافح بها عباده": هذا المعنى الذي نفاه قد جاء عن ابن عباس رضي الله عنه مرفوعاً وموقوفاً، وقال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: إنما يعرف من قول ابن عباس. ولفظه: "إن الحجر يمين الله في الأرض، فمن استلمه وقبله فكأنما صافح الله و قبل يمينه". يقول شيخ الإسلام ابن تيمية : "قوله : ( الحجر الأسود يمين الله في الأرض، فمن صافحه وقبله فكأنما صافح الله وقبل يمينه) صريح في أن الحجر الأسود ليس هو صفة لله، ولا هو نفس يمينه؛ لأنه قال : ( يمين الله في الأرض ) ، وقال : (فمن قبله وصافحه فكأنما صافح الله وقبل يمينه ) ومعلوم أن المشبه غير المشبه به؛ ففي نص الحديث بيان أن مستلمه ليس مصافحاً لله، وأنه ليس هو نفس يمينه، فكيف يجعل ظاهره كفراً وأنه محتاج إلى تأويل؟!".
[ التدمرية ص: 73،72 ، ط العبيكان، تحقيق د. السعوي]
وقوله: "ومَعاذ الله أن يكون لله جارحة":
انظر: تعليق رقم (2) .
14- قال الحافظ 4 / 105 - 106 حديث رقم ( 1894 ): قوله : " أطيب عند الله من ريح المسك " اختلف في كون الخلوف أطيب عند الله من ريح المسك – مع أنه سبحانه وتعالى منزه عن استطابة الروائح؛ إذ ذاك من صفات الحيوان، ومع أنه يعلم الشيء على ما هو عليه – على أوجه:
قال المازري : هو مجاز؛ لأنه جرت العادة بتقريب الروائح الطيبة منا، فاستعير ذلك للصوم لتقريبه من الله ، فالمعنى أنه أطيب عند الله من ريح المسك عندكم ، أي يقرب إليه أكثر من تقريب المسك إليكم، وإلى ذلك أشار ابن عبد البر، وقيل: المراد أن ذلك في حق الملائكة وأنهم يستطيبون ريح الخلوف أكثر مما يستطيبون ريح المسك .
وقيل: المعنى أن حكم الخلوف والمسك عند الله على ضد ما هو عندكم، وهو قريب من الأول، وقيل: المراد أن الله تعالى يجزيه في الآخرة، فتكون نكهته أطيب من ريح المسك كما يأتي المكلوم وريح جرحه تفوح مسكاً.
وقيل: المراد أن صاحبه ينال من الثواب ما هو أفضل من ريح المسك لا سيما بالإضافة إلى الخلوف، حكاهما عياض.
وقال الداودي وجماعة: المعنى أن الخلوف أكثر ثواباً من المسك المندوب إليه في الجمع ومجالس الذكر، ورجح النووي هذا الأخير، وحاصله حمل معنى الطيب على القبول والرضا، فحصلنا على ستة أوجه".
قال الشيخ البراك : قوله: "... مع أنه سبحانه تعالى منزه عن استطابة الروائح ... إلخ": هذا الجزم من الحافظ رحمه الله بنفي صفة الشم عن الله تعالى الذي هو إدراك المشمومات لم يذكر عليه دليلاً إلا قوله: "إذ ذاك من صفة الحيوان"، وهذه الشبهة هي بعينها شبهة كل من نفى صفة من صفات الله سبحانه من الجهمية والمعتزلة والأشاعرة. وهي شبهة باطلة؛ فما ثبت لله تعالى من الصفات يثبت له على ما يليق به ويختص به كما يقال ذلك في سمعه وبصره وعلمه وسائر صفاته. وصفة السمع ليس في العقل ما يقتضي نفيها فإذا قام الدليل السمعي على إثباتها وجب إثباتها على الوجه اللائق به سبحانه، وهذا الحديث - وهو قوله: "لخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك" - ليس نصاً في إثبات الشم، بل هو محتمل لذلك، فلا يجوز نفيه من غير حجة، وحينئذ فقد يقال: إن صفة الشم لله تعالى مما يجب التوقف فيه لعدم الدليل البين على النفي أو الإثبات فليتدبر، والله أعلم بمراده ومراد رسوله صلى الله عليه وسلم.
هذا وقد قال ابن القيم عند هذا الحديث: "بعد ذكر كلام الشراح في معنى طيبه وتأويلهم إياه بالثناء على الصائم والرضا بفعله، على عادة كثير منهم بالتأويل من غير ضرورة، حتى كأنه قد بورك فيه فهو موكل به. وأي ضرورة تدعو إلى تأويل كونه أطيب عند الله من ريح المسك بالثناء على فاعله والرضا بفعله، وإخراج اللفظ عن حقيقته؟ وكثير من هؤلاء ينشئ للفظ معنى ثم يدعي إرادة ذلك المعنى بلفظ النص من غير نظر منه إلى استعمال ذلك اللفظ في المعنى الذي عينه أو احتمال اللغة له. ومعلوم أن هذا يتضمن الشهادة على الله تعالى ورسوله بأن مراده من كلامه كيت وكيت، فإن لم يكن ذلك معلوماً بوضع اللفظ لذلك المعنى أو عرف الشارع وعادته المطردة أو الغالبة باستعمال ذلك اللفظ في هذا المعنى أو تفسيره له به، وإلا كانت شهادة باطلة، وأدنى أحوالها أن تكون شهادة بلا علم.
ومن المعلوم أن أطيب ما عند الناس من الرائحة رائحة المسك، فمثل النبي هذا الخلوف عند الله بطيب رائحة المسك عندنا وأعظم. ونسبة استطابة ذلك إليه سبحانه وتعالى كنسبة سائر صفاته وأفعاله إليه؛ فإنها استطابة لا تماثل استطابة المخلوقين، كما أن رضاه وغضبه وفرحه وكراهته وحبه وبغضه لا تماثل ما للمخلوق من ذلك، كما أن ذاته سبحانه وتعالى لا تشبه ذوات خلقه، وصفاته لا تشبه صفاتهم، وأفعاله لا تشبه أفعالهم، وهو سبحانه وتعالى يستطيب الكلم الطيب فيصعد إليه، والعمل الصالح فيرفعه، وليست هذه الاستطابة كاستطابتنا. ثم إن تأويله لا يرفع الإشكال؛ إذ ما استشكله هؤلاء من الاستطابة يلزم مثله في الرضا، فإن قال رضا ليس كرضا المخلوقين، فقولوا استطابة ليست كاستطابة المخلوقين، وعلى هذا جميع ما يجيء من هذا الباب. [ الوابل الصيب، ص 44 – 45 ط دار الصحابة للتراث، ت: مصطفى العدوي ]. ويلاحظ أن ابن القيم اقتصر على لفظ الاستطابة دون لفظ الشم وقوفاً مع لفظ الحديث.
15 – قال الحافظ ابن حجر 4 / 253 على حديث رقم ( 2010 ): " والتحقيق أنها إن كانت مما تندرج تحت مستحسن في الشــرع فهي حسنة، وإن كانت مما تندرج تحت مستقبح في الشرع فهي مستقبحة، وإلا فهي من قسم المباح، وقد تنقسم إلى الأحكام الخمسة".
قال الشيخ البراك : قوله: "والتحقيق أنها إن كانت – أي البدعة – مما تندرج تحت مستحسن في الشرع فهي حسنة .... إلخ": تقسيم البدعة في الشرع إلى حسنة محمودة وسيئة مذمومة مذهب لبعض العلماء، وهو راجع إلى التوسع في معنى البدعة؛ وذلك بالنظر إلى معناها اللغوي ، فإنه يشمل كل ما أحدث في الإسلام مما لم يكن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولو كانت أصول الشريعة تقتضيه . ويجري على ذلك قول عمر رضي الله عنه في جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد ، وقد أدى هذا المذهب إلى التذرع به في تسويغ كل ما استحسنه الناس بآرائهم ، وعَدُّوه من الدين.
والتحقيق أن كل بدعة في الدين فهي سيئة مذمومة لقوله صلى الله عليه وسلم: "وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة"، وقوله صلى الله عليه وسلم: "من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد"، وعلى هذا فما تقتضيه أصول الشريعة مما أحدث بعد موته صلى الله عليه وسلم ليس بدعة شرعية بل لغوية.
16 – قال الحافظ 5 / 183 على حديث رقم ( 2559 ): "وقد قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره، وقال: صورة لا كالصورة، انتهى.
وقد أخرج البخاري في الأدب المفرد، وأحمد من طريق ابن عجلان، عن سعيد، عن أبي هريرة مرفوعا: "لا تقولوا: قبح الله وجهك، ووجه من أشبه وجهك؛ فإن الله خلق آدم على صورته" وهو ظاهر في عود الضمير على المقول له ذلك ...".
قال الشيخ البراك : قوله: "قال المازري: غلط ابن قتيبة فأجرى هذا الحديث على ظاهره .. إلخ": ابن قتيبة يعرف بخطيب أهل السنة ، وله جهود في الرد على الزنادقة والمعتزلة كما في "تأويل مختلف الحديث" له.
وما ذهب إليه ابن قتيبة رحمه الله تعالى من إثبات الصورة لله عز وجل، وأنها ليست كصورة أحد من الخلق ـ فله سبحانه وتعالى صورة لا كالصور ـ هو مذهب جميع أهل السنة المثبتين لكل ما أثبته لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم؛ فكما يقولون: له وجه لا كوجوه المخلوقين، يقولون: له صورة لا كصور المخلوقين، وقد دل على إثبات الصورة لله عز وجل قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الطويل: "وتبقى هذه الأمة وفيها منافقوها، فيأتيهم الله في الصورة التي يعرفونها"، وهو نص صريح لا يحتمل التأويل، فلهذا لم يخالف أحد من أهل السنة في دلالته.
وأما حديث: "فإن الله خلق آدم على صورته" فقد استدل به أكثر أهل السنة على إثبات الصورة أيضاً، وردوا الضمير إلى الله تعالى، وأيدوا ذلك برواية من رواياته بلفظ: "على صورة الرحمن". ومن رد الضمير إلى آدم عليه السلام أو إلى المقاتل - وقصده نفي الصورة عن الله تعالى - فهو جهمي كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى.
ونفي الصورة هو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة والماتريدية ، ومنشأ ذلك هو توهم التشبيه في صفات الله تعالى ، فزعموا أن إثبات الصورة أو الوجه أو اليدين ونحو ذلك يستلزم التشبيه بالمخلوقات ، وهي حجة داحضة ، وطردها يستلزم نفي وجود الله سبحانه وتعالى .
ومن رد من أهل السنة الضمير إلى آدم عليه السلام وضعَّف رواية " على صورة الرحمن " فليس مقصوده التوصل إلى نفي الصورة عن الله عز وجل، وليس من مذهبه ذلك ، بل رأى لفظ هذا الحديث " خلق الله آدم على صورته " محتملا ، فترجح عنده عود الضمير إلى آدم أو إلى المقاتل. وهو منازع في تضعيفه لتلك الرواية وفي هذا الترجيح .
وبهذا يتبين أن إثبات الصورة لله عز وجل لا يتوقف على دلالة حديث " خلق الله آدم على صورته " ، ونقول : بل غلط المازري عفا الله عنه ، ولم يغلط ابن قتيبة.
17 – قال الحافظ 5 / 292 على حديث رقم ( 2685 ) : قوله : " أحدث الأخبار بالله " أي أقربها نزولا إليكم من عند الله عز وجل ، فالحديث بالنسبة إلى المنزول إليهم ، وهو في نفسه قديم " .
قال الشيخ البراك قوله: " فالحديث بالنسبة إلى المنزل إليهم ، وهو في نفسه قديم ": يريد أن وصف القرآن بأنه (حديث ) باعتبار نزوله إلى الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وأما نفس القرآن ، فهو قديم .
والقديم هو الذي لا بداية لوجوده ، وهذا جار على مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ فإن كلام الله عندهم هو معنى نفسي ليس هو حروف وأصوات، وهو معنى واحد لا تعدد فيه ، وهو قديم لا تتعلق به مشيئة الله سبحانه ، فعندهم أن هذا القرآن المسموع المتلو المكتوب ليس هو كلام الله حقيقة ، بل هو عبارة عن ذلك المعنى النفسي .
وهذا خلاف ما عليه سلف الأمة وأئمتها وجميع أهل السنة ؛ فعندهم أن الله لم يزل يتكلم بما شاء إذا شاء ، كيف شاء ، وأنه يُسمِع كلامه من يشاء؛ فموسى عليه السلام سمع كلام الله من الله سبحانه، فعندهم أن القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو كلام الله حقيقة حروفه ومعانيه ، ليس كلام الله الحروف دون المعاني ، ولا المعاني دون الحروف ، كما قال تعالى : " وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله " ، وهو منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود ، وعلى هذا فأهل السنة لا يقولون: القرآن قديم ، ولا يطلقون القول بأن كلام الله قديم ، بل يقولون : إن الله لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء ، أو يقولون : قديم النوع حادث الآحاد .
ومذهب الأشاعرة في كلام الله وفي القرآن هو أقرب إلى مذهب المعتزلة ، وهو يتضمن تشبيه الله سبحانه بالأخرس ، تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا .
18 – قال الحافظ 5 / 341 عـلى الحديثين رقم ( 2731 ، 2732)
: " وفيه طهارة النخامة والشعر المنفصل ، والتبرك بفضلات الصالحين الطاهرة ".
انظر : تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله في هامش 1 / 327 .
19 – قال الحافظ 5/ 351 على الحديثين رقم ( 2731 ، 2732)
" وفي رواية موسى بن عقبة ، عن الزهري : فكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي بصير ، فقدم كتابه وأبو بصير يموت ، فمات وكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في يده ، فدفنه أبو جندل مكانه ، وجعل عند قبره مسجدًا ... " .
قال الشيخ البراك قوله: " وجعل عند قبره مسجدًا ": هذه الرواية منكرة لا تصح سندًا ولامتنًا ؛ فإن بناء المساجد على القبور مما حذر منه النبي صلى الله عليه وسلم تحذيرًا بالغًا؛ فمن ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الذين يبنون المساجد على قبور الصالحين " أولئك شرار الخلق " ؛ وذلك أن اتخاذ القبور مساجد من أعظم وسـائل الشـرك ، فيمتنع مع هذا أن يبني أبو جندل مسـجـدًا عنـد قبر أبي بصير ، كيف وهو في عصر النبوة، والمعروف أن بناء المساجد على القبور لم يعرف في الإسلام إلا بعد القرون المفضلة؟! والذي يظهر أن قوله : " وجعل عند قبره مسجدًا " ليس في أصل رواية موسى بن عقبة ، وأن قوله " جُعل " مبني للمجهول ، فيكون الفاعل غير أبي جندل ، ولعلها من قول الحافظ أو غيره ، وأن أصل العبارة " وقد جعل " فليحرر من مغازي موسى بن عقبة.اهـ
أضاف الناشر: في رواية معمر عن الزهري: (...ورد كتاب النبي وأبو بصير في الموت يجود بنفسه، فأعطي الكتاب فجعل يقرأه ويُسرُّ به حتى قبض والكتاب على صدره، فبُني عليه هناك مسجد يرحمه الله) [الروض الأنف 7/79 ط.دار إحياء التراث العربي] فورد الفعل (بُني) بصيغة ما لم يسم فاعله، ووردت لفظة (مسجد) مرفوعة على أنها نائب فاعل، وهذا يعني أن بناء المسجد لم يكن من أبي جندل رضي الله عنه، ويحتمل أنه حدث بعد ذلك بزمن طويل.
وانظر "السيرة النبوية الصحيحة" للدكتور أكرم العمري 2/451،452 بالهامش حيث ذكر رواية الزهري من مخطوط، ولم يذكر فيها قصة بناء المسجد.
والذي في "الإصابة" في ترجمة أبي بصير (6/375): (وعند موسى بن عقبة في المغازي من الزيادة في قصته: ...ولما كتب النبي إلى أبي جندل وأبي بصير أن يقدما عليه، ورد الكتاب وأبو بصير يموت، فمات وكتاب النبي في يده، فدفنه أبو جندل مكانه وصلى عليه). فلعله التبس على بعض النقلة عن موسى بن عقبة جملة: (وصلى عليه) بجملة: (بُني عليه هناك مسجد) أو جملة: (جعل عند قبره مسجدًا).
وانظر تعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز هامش 1 / 525 .
20 – قال الحافظ 6 / 40 على حديث رقم ( 2826) قوله : " يضحك الله إلى رجلين " قال الخطابي : الضحك الذي يعتري البشر عندما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى ، وإنما هذه مثل ضرب لهذا الصنيع الذي يحل محل الإعجاب عند البشر فإذا رأوه أضحكهم ، ومعناه الإخبار عن رضا الله بفعل أحدهما وقبوله للآخر ومجازاتهما على صنيعهما بالجنة مع اختلاف حاليهما .
قال : وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة ، وهو قريب ، وتأويله على معنى الرضا أقرب ، فإن الضحك يدل على الرضا والقبول .
قال : والكرام يوصفون عندما يسألهم السائل بالبشر وحسن اللقاء ، فيكون المعنى في قوله : " يضحك الله " أي يجزل العطاء .
قال : وقد يكون معنى ذلك أن يعجب الله ملائكته ويضحكهم من صنيعهما ، وهذا يتخرج على المجاز ، ومثله في الكلام يكثر " .
قال الشيخ البراك: قول الخطابي: " الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب .... إلخ ":
مذهب أهل السنة في الضحك المضاف إلى الله تعالى في هذا الحديث وغيره إثباته لله عز وجل على ما يليق به ويختص به ، وأنه ضحك لا كضحك المخلوقين كما يقولون مثل ذلك في سائر ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله ؛ فعندهم أنه تعالى يضحك حقيقة، والضحك منه تعالى غير العجب، وغير الرحمة والرضا، لكنه يتضمن هذه المعاني أو يستلزمها.
ونفي حقيقة الضحك عن الله تعالى هو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة. وليس لهذا النفي من شبهة إلا من جنس ما تُنفى به سائر الصفات. ثم إن الذين نفوا الضحك عن الله عز وجل من الأشاعرة أو من وافقهم منهم من يسلك في النصوص طريقة التفويض فلا يفسرها، ولا يثبت ظاهرها إلا بلفظ دون معنى، ومنهم من يسلك فيها طريقة التأويل فيفسرها بما يخالف ظاهرها؛ وهذا هو الذي سلكه الخطابي فيما نقله عنه الحافظ رحمهما الله تعالى، وعفا عنهما.
ونقول: نعم، الضحك الذي يعتري البشر عند ما يستخفهم الفرح أو الطرب غير جائز على الله تعالى؛ فإن ذلك ضحك البشر وهو مختص بهم، وضحك الرب سبحانه مختص به. فليس الضحك كالضحك، كما يقال مثل ذلك في قدرته وإرادته وغير ذلك من صفاته سبحانه وتعالى.
وقول الخطابي: " وقد تأول البخاري الضحك في موضع آخر على معنى الرحمة " فيه نظر، والأشبه أن هذا لا يصح عن البخاري، ويؤيد ذلك قول الحافظ رحمه الله تعالى عندما نقل قول الخطابي عن البخاري في كتاب التفسير حديث ( 4889 ) حيث قال: "قال الخطابي: وقال أبو عبد الله : معنى الضحك هنا الرحمة" قلت: - أي الحافظ - ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري.
21 – قال الحافظ 6 / 40 على حديث رقم ( 2826): قال: " وقال ابن الجوزي: أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرونه كما جاء، وينبغي أن يراعى في مثل هذا الإمرار اعتقاد أنه لا تشبه صفات الله صفات الخلق، ومعنى الإمرار عدم العلم بالمراد منه مع اعتقاد التنزيه.
قلت: ويدل على أن المراد بالضحك الإقبال بالرضا تعديته بإلى، تقول: ضحك فلان إلى فلان، إذا توجه إليه طلق الوجه، مظهرا للرضا عنه " .
قال الشيخ البراك : قول ابن الجوزي: " أكثر السلف يمتنعون من تأويل مثل هذا ويمرون كما جاء .... إلخ ":
المعروف عن ابن الجوزي نفي حقائق الصفات الخبرية - مثل الضحك والفرح - كما هو مذهب جمهور الأشاعرة. ثم إن كثيرًا منهم يفسر النصوص الواردة في تلك الصفات بما يخالف ظاهرها، كما فسروا المحبة والرضا بإرادة الإنعام.
وقد يفسرون الفرح والضحك بمثل ذلك، أو يفسرونهما بالرحمة والرضا. وهذه طريقة أهل التأويل منهم فيجمعون بين التعطيل والتحريف.
ومنهم من يذهب في نصوص الضحك والفرح ونحو ذلك مذهب التفويض؛ وهو إمرار ألفاظ النصوص من غير فهم لمعناها؛ فعندهم أنها لا تدل على شيء من المعاني. وهذا يقتضي أنه لا يجوز تدبرها لأن المتدبر يطلب فهم المعنى المراد، ولا سبيل إليه عندهم.
وقد زعم ابن الجوزي فيما نقله عنه الحافظ هنا أن هذا – أي التفويض – هو مذهب أكثر السلف. وهو باطل وغلط عليهم، بل إن السلف يثبتون ما أثبته الله عز وجل لنفسه أو أثبته له رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصفات.
ومن قال من السلف في نصوص الصفات: أمروها كما جاءت أو أمروها بلا كيف لا يريدون أنه لا معنى لها كما يدَّعي المفوضة من النفاة، بل يريدون إثبات ما يدل عليه ظاهرها وعدم العدول بها عن ظاهرها، فلا يجوز حمل كلامهم ذلك على ما يخالف المعروف من مذهبهم في صفاته سبحانه وتعالى.
22 – قال الحافظ 6 / 136 على حديث رقم ( 2994 – 2995): قال: "وقيل: مناسبة التسبيح في الأماكن المنخفضة من جهة أن التسبيح هو التنزيه، فناسب تنزيه الله عن صفات الانخفاض كما ناسب تكبيره عند الأماكن المرتفعة، ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله ألا يوصف بالعلو من جهة المعنى، والمستحيل كون ذلك من جهة الحس، ولذلك ورد في صفته العالي والعلي والمتعالي، ولم يرد ضد ذلك، وإن كان قد أحاط بكل شيء علمًا جل وعز".
قال الشيخ البراك : قوله: "ولا يلزم من كون جهتي العلو والسفل محال على الله ألا يوصف بالعلو من جهة المعنى ... إلخ": مضمون هذا الكلام أن الله عز وجل كما يستحيل أن يكون في جهة السفل يستحيل أن يكون في جهة العلو، ولا يلزم من ذلك أن لا يوصف بالعلو المعنوي؛ فالمستحيل عليه هو العلو الحسي. ويراد بالعلو الحسي علو الذات، وبالمعنوي علو القدر والقهر. وهذا هو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن تبعهم من الأشاعرة؛ فإنهم جميعًا ينفون علو الله عز وجل بذاته فوق مخلوقاته، ولذا ينفون استواءه على عرشه، ثم إما أن يقولوا: إنه في كل مكان - وهذا هو القول بالحلول - وإما أن يقولوا: إنه لا داخل العالم ولا خارجه - وهذا يستلزم عدمه - وبهذا يعلم أن النزاع بين أهل السنة وبين أهل البدع إنما هو في علو الذات، وقد تضافرت كل أنواع الأدلة على إثبات أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه؛ فتطابق على ذلك الكتاب والسنة والعقل والفطرة، ومضى على ذلك سلف الأمة من الصحابة والتابعين، وقد أجمع على ذلك أهل السنة والجماعة، وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ من نفي علو الذات واستحالته قول باطل، والذي يظهر أنه يرتضيه ويقول به عفا الله عنه.
23 – قال الحافظ 6 /142على حديث رقم (3005): "هذا كله في تعليق التمائم وغيرها مما ليس فيه قرآن ونحوه، فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه؛ فإنـه إنمـا يجعـل للتبرك به، والتعـوذ بأسمائه وذكـره ... ".
قال الشيخ البراك : قوله: " فأما ما فيه ذكر الله فلا نهي فيه": التمائم من القرآن قد اختلف فيها السلف؛ فرخص فيها بعضهم، منهم عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما، ومنهم من لم يرخص فيها كعبد الله بن مسعود رضي الله عنه؛ قال إبراهيم النخعي رحمه الله: كانوا يكرهون التمائم من القرآن وغير القرآن - يريد أصحاب ابن مسعود رضي الله عنه - وهذا هو الراجح؛ وذلك لأمور:
منها: أن أحاديث النهي عن التمائم عامة فلا تخص إلا بدليل.
ومنها: أن تعليق التمائم من القرآن يفضي إلى امتهانه.
ومنها: أن ذلك وسيلة إلى تعليق غيرها؛ إذ يمكن أن يدَّعي كل من علق تميمة أنها من القرآن. والحافظ رحمه الله تعالى قد اختار هنا القول بالجواز.
24- قال الحافظ 6 / 145 على حديث رقم ( 3010) "وقد تقدم توجيه العجب في حق الله في أوائل الجهاد، وأن معناه الرضا، ونحو ذلك".
قال الشيخ البراك : قوله: " وأن معناه الرضا ": هذا يقتضي نفي حقيقة العجب، وقد ثبتت صفة العجب لله تعالى بالكتاب والسنة كما قُرئ: {بل عجبتُ ويسخرون}، وكما قال تعالى: {وإن تعجب فعجب قولهم}. وفي الحديث: " عجب ربك من قنوط عباده ". وأهل السنة والجماعة يثبتون العجب لله تعالى على ما يليق به، كما يثبتون الضحك، والفرح، والحب، والبغض. والنفاة ينفون حقائق هذه الصفات. ومعلوم أن العجب الذي يثبت لله تعالى ليس كعجب المخلوقين؛ لا في حقيقته، ولا في سببه؛ فإن عجب المخلوق يكون لخفاء السبب كما قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب، أما العجب من الله تعالى فإنه واقع مع كمال العلم، لكنه يقتضي أن الشيء الذي عجب الله منه قد تميز عن نظائره.
وتفسير العجب بالرضا لا يصح؛ فإن الله يعجب من بعض ما يحب ويرضى، ويعجب من بعض ما يبغض ويسخط كما في الآيتين والحديث. ومن يفسر من النفاة العجب بالرضا يفسر الرضا بالإرادة؛ فيؤول الأمر إلى تفسير العجب بالإرادة؛ وهذا كله من صرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها بغير حجة؛ وهذا هو التحريف الذي نهى الله عنه في كتابه وذم به اليهود في قوله تعالى: "يحرفون الكلم من بعد مواضعه".
25 – قال الحافظ 6 / 291 على حديث رقم ( 3194) قوله: ( كتب في كتابه ) أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ ... إلخ ".
قال الشيخ البراك قوله: " أي أمر القلم أن يكتب في اللوح المحفوظ ... إلخ ": هذا يقتضي أن الله تعالى لم يكتب بنفسه ، بل أمر القلم أن يكتب ، وأن هذه الكتابة هي الكتابة في اللوح المحفوظ ، وأنه المراد بالكتاب في هذا الحديث.
وفي هذا نظر؛ فإنه لا موجب لصرف اللفظ هنا عن ظاهره ، فإن الله تعالى يكتب بنفسه ، بيده ما شاء إذا شاء ، وهذا على مذهب أهل السنة المثبتين لقيام الأفعال الاختيارية به.
وأما نفاة الأفعال الاختيارية كالمعطلة من الجهمية والمعتزلة وكذا الأشاعرة، فإنهم ينفون قيام الكتابة به سبحانه ، فلذا يتأولون كل ما ورد فيه إضافة الكتابة إليه . وإن كان يصح حمله على الأمر بالكتابة في بعض المواضع ، فإن ذلك لا يصح في كل موضع ؛ فإن اللفظ المحتمل يجب حمله على الظاهر ما لم يمنع منه مانع ، أو يدل دليل يوجب صرفه عن ظاهره ، وحمله على المعنى الآخر، وكذلك لا يتعين أن يكون المراد بالكتاب في هذا الحديث هو اللوح المحفوظ ، بل يحتمل أن يكون كتابًا آخر كتب الله فيه ما شاء ، ومنه قوله تعالى: " إن رحمتي غلبت غضبي " ؛ فالواجب إمرار الحديث على ظاهره على مراد الله ومراد رسوله من غير تكييف ولا تحريف.
وأما قول الحافظ: " ويحتمل أن يكون الكتاب: اللفظ الذي قضاه .... إلخ " فهو أبعد من التأويل الذي قبله ، ولا حجة له في قوله تعالى: " كتب الله لأغلبن أنا ورسلي "؛ فإنه لا يمتنع أن يكون كتب الله هذا الحكم فيما شاء ، بل هذا هو الظاهر؛ فالآية نظير الحديث في نسبة الكتابة إلى الله عز وجل، ولا موجب لصرفهما عن ظاهرهما، إذ لم يدلا إلا على الحق.
26 – قال الحافظ 6 / 291 على حديث رقم ( 3194) قوله: ( فهو عنده فوق العرش ) ، قيل: معناه دون العرش، وهو كقوله تعالى: " بعوضة فما فوقها " والحامل على هذا التأويل استبعاد أن يكون شيء من المخلوقات فوق العرش، ولا محذور في إجراء ذلك على ظاهره؛ لأن العرش خلق من خلق الله. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: " فهو عنده " أي ذكره أو علمه، فلا تكون العندية مكانية، بل هي إشارة إلى كمال كونه مخفيًا عن الخلق مرفوعًا عن حيز إدراكهم ".
قال الشيخ البراك : ما نقله الحافظ في شرح هذا الحديث تخبط الحامل عليه نفي علو الله بذاته على خلقه واستوائه على عرشه؛ فإن من ذهب إلى ذلك من الأشاعرة وغيرهم ينفون عن الله عز وجل عندية المكان، فليس بعض المخلوقات عنده دون بعض لأنه تعالى بزعمهم في كل مكان فلا اختصاص لشيء بالقرب منه، فلذا يتأولون كل ما ورد مما يدل ظاهره على خلاف ذلك؛ كقوله تعالى: "إن الذين عند ربك"، وكقوله في هذا الحديث: " فهو عنده فوق العرش"، فجرهم الأصل الفاسد إلى مثل هذه التأويلات المستهجنة التي ذكرها الحافظ وتعقب بعضها، وأهل السنة المثبتون للعلو والاستواء يجرون هذا الحديث وأمثاله على ظاهره، وليس عندهم بمشكل، فهذا الكتاب عنده فوق العرش، والله فوق العرش كما أخبر به سبحانه عن نفسه، وأخبر به أعلم الخلق به .
27 – قال الحافظ 6 / 292 على حديث رقم ( 3194) : قال: " والمراد من الغضب لازمه، وهو إرادة إيصال العذاب إلى من يقع عليه الغضب، لأن السبق والغلبة باعتبار التعلق، أي تعلق الرحمة غالب سابق على تعلق الغضب، لأن الرحمة مقتضى ذاته المقدسة، وأما الغضب فإنه متوقف على سابق عمل من العبد الحادث ".
قال الشيخ البراك قوله: " المراد من الغضب لازمه .... إلخ ": صرف للفظ عن ظاهره من غير دليل يوجب ذلك، والموجب لذلك عند من تأوله هو امتناع حقيقة الغضب في حق الله تعالى؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه. وبهذه الشبهة نفى الأشاعرة كثيرًا من الصفات، ونفى الجهمية والمعتزلة جميع الصفات.
ومذهب أهل السنة والجماعة إثبات الغضب والرحمة وأنهما صفتان قائمتان بالله كسائر الصفات الذاتية والفعلية. ولا يستلزم شيء من ذلك مشابهته للمخلوق كما يقول الأشاعرة مثل ذلك في الصفات السبع التي يثبتونها. ولذلك يلزمهم أن يقولوا في سائر الصفات التي ينفونها نظير قولهم فيما أثبتوه.
والغضب الذي يفسر بأنه غليان دم القلب طلبًا للانتقام هو غضب المخلوق، وليس غضب الخالق كغضب المخلوق، وبهذا يتبين أنه لا موجب لتأويل الغضب بالإرادة أو العقوبة. ويلزم المتأول فيما تأوله نظير ما فر منه؛ إذ القول في الإرادة كالقول في الغضب.
28 – قال الحافظ 6 / 299 على حديث رقم ( 3199 ) قال: " قال ابن العربي: أنكر قوم سجودها وهو صحيح ممكن، وتأوله قوم على ما هي عليه من التسخير الدائم، ولا مانع أن تخرج عن مجراها فتسجد، ثم ترجع. قلت: إن أراد بالخروج الوقوف فواضح، وإلا فلا دليل على الخروج، ويحتمل أن يكون المراد بالسجود سجود من هو موكل بها من الملائكة، أو تسجد بصورة الحال، فيكون عبارة عن الزيادة في الانقياد والخضوع في ذلك الحين ".
قال الشيخ البراك : قوله: " قال ابن العربي : .... إلخ": دل القرآن على مثل ما دل عليه حديث أبي ذر من سجود الشمس؛ وذلك في قوله تعالى: "ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس وكثير حق عليه العذاب"، كما دلت الآية على أن سجود هذه المخلوقات غير دلالتها بلسان الحال وصورة الحال على ربوبيته تعالى؛ إذ لو كان سجودها هو دلالتها على الخالق سبحانه أو تسخيرها وانقيادها للقدرة لما خص ذلك بكثير من الناس ونفاه عن كثير- وهم الذين حق عليهم العذاب - فإن الدلالة على الخالق سبحانه والانقياد لقدرته حاصلتان في جميع الناس وجميع المخلوقات، فالواجب إثبات سجود الشمس وما ذكر معها في الآية، وأنه سجود حقيقي يناسب هذه المخلوقات ولا يعلم العباد كيفيته، فإنكاره رد لما أخبر الله به ورسوله، وصرفه عن ظاهره لا موجب له، ولا دليل عليه، فإن هذه المخلوقات لها شعور بالعبودية لله تعالى تسبح وتسجد وتؤوب وتخشى كما قال تعالى: "وإن منها لما يهبط من خشية الله"، وقال تعالى: "ألم تر أن الله يسبح له من في السماوات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه". وقال: "وإن من شيء إلا يسبح بحمده ولكن لا تفقهون تسبيحهم".
29 – قال الحافظ 6 / 353 على حديث رقم ( 3303) قال: "ويؤخذ منه استحباب الدعاء عند حضور الصالحين تبركا بهم .... إلخ".
قال الشيخ البراك : قوله: "ويؤخذ منه استحباب الدعاء ....": في هذا الاستنباط نظر؛ فإن مأخذه قياس الصالحين على الملائكة. ولا يخفى أن للملائكة شأنًا ليس كشأن الآدميين، وليس لهذا الاستنباط ما يعضده من هدي السلف الصالح، وطرد هذا القياس استحباب التعوذ عند حضور الأشرار، فالأظهر أن ما ذكر في الحديث من السؤال والتعوذ تعبدي لا يقاس عليه.
30 – قال الحافظ 6 / 366 على حديث رقم ( 3326) قال: " وهذه الرواية تؤيد قول من قال: إن الضمير لآدم، والمعنى أن الله تعالى أوجده على الهيئة التي خلقه عليها .... إلخ ".
انظر التعليق رقم (16) .
31– قال الحافظ 6 / 389 على باب 8 من كتاب أحاديث الأنبياء .
قال: " والخليل فعيل بمعنى فاعل .... وأما إطلاقه في حق الله تعالى فعلى سبيل المقابلة، وقيل: الخلة أصلها الاستصفاء، وسمي بذلك لأنه يوالي ويعادي في الله تعالى، وخلة الله له نصره، وجعله إماما .... إلخ".
قال الشيخ البراك : قوله: "والخليل: فعيل بمعنى فاعل .... إلخ": في هذا غلط على اللغة وعلى الشرع؛ فالخليل كالحبيب: فعيل بمعنى مفعول، وهذا هو الغالب في هذه الصيغة؛ فحبيب بمعنى محبوب، وخليل بمعنى محبوب غاية المحبة، ومن ذلك قول أبي هريرة رضي الله عنه: "أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم " يخبر بذلك عن حبه للرسول صلى الله عليه وسلم، لا عن حب الرسول له؛ فتفسير الخليل بمعنى المحب بناء على أن فعيل بمعنى فاعل مبني على نفي صفة المحبة عن الله عز وجل كما هو مذهب الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، فجمعوا بين التعطيل والتحريف.
وأقبح من هذا تفسير الخليل بالفقير على أن اللفظ مأخوذ من الخَلَّة بمعنى الحاجة.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن الله عز وجل: يُحِبُّ ويُحَبُّ، كما في قوله تعالى: "يحبهم ويحبونه"، ومحبة الله لأوليائه ليست كمحبة المخلوق، وقد أنكر السلف والأئمة على الجهمية نفيهم للصفات، وأفتوا بقتل إمامهم الجعد بن درهم حين زعم أن الله عز وجل لم يكلم موسى تكليمًا، ولم يتخذ إبراهيم خليلاً.
والحافظ رحمه الله تعالى وعفا عنه جرى فيما ذكره في معنى الخليل على مذهب الأشاعرة؛ فإنهم ينفون حقيقة المحبة عن الله عز وجل، وكثير منهم يؤولون النصوص الواردة فيها بأنواع التأويلات المخالفة لظاهرها كما ذُكر هنا.
32 – قال الحافظ 6 / 436 على حديث رقم ( 3402)
قال: " وكانوا يرون أنه الخضر ... إلخ ".
قال الشيخ البراك : الخضر عبد من عباد الله الصالحين، وهذا الذي ذكره الله خبره مع موسى عليه السلام في سورة الكهف في قوله تعالى: " فوجدا عبدا من عبدنا آتيناه رحمة من عندنا وعلمناه من لدنا علما ".
وصح في خبره حديث ابن عباس، عن أُبي رضي الله عنهما كما رواه البخاري وغيره.
وقد اختلف الناس فيه هل هو نبي أو غير نبي على قولين أصحهما أنه نبي كما أوضح ذلك الشيخ العلامة محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله تعالى في أضواء البيان ( 4 / 162 )، ولابن حجر نفسه رسالة في إثبات ذلك اسمها: "الزهر النضر في نبأ الخضر".
كما اختلف الناس في حياته ووجوده في حياة النبي صلى الله عليه وسلم وبعده، والذي رجحه الأئمة المتقدمون أنه قد مات، ولم يدرك عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وقال كثير من المتأخرين بأنه حي، ولم يذكروا على ذلك دليلا يعول عليه في معارضة أدلة أهل القول الأول، بل كل ما ذكروه آثار لم يصح منها شيء، كما أوضح ذلك الحافظ رحمه الله تعالى في هذا الموضع، فالصواب، والله اعلم هو قول الأئمة كالبخاري وغيره.
وانظر أيضا تعليق الشيخ عبد العزيز بن باز ..
33 – قال الحافظ 6 / 444 على حديث رقم ( 3408) قال: " لأن الأنبياء أحياء عند الله، وإن كانوا في صورة الأموات بالنسبة إلى أهل الدنيا .... إلخ ".
قال الشيخ البراك : قوله: " لأن الأنبياء أحياء عند الله ..... إلخ ": إن أراد أنهم أحياء حياة برزخية تخالف في حقيقتها وأحكامها حياتهم في الدنيا وحياتهم بعد البعث فهذا حق، ولا يخرجون بذلك عن الوصف بالموت الذي هو مفارقة هذه الحياة الدنيا، كما لا تثبت لهم بهذه الحياة البرزخية أحكام الحياة التي بعد البعث، كما لم نثبت لهم أحكام الحياة الدنيا.
وإن أراد أنهم أحياء في قبورهم كحياتهم في الدنيا إلا أنهم في صور الأموات بالنظر لأهل الدنيا فهذا باطل؛ فإن الشهداء تنكح نساؤهم، ويقسم ميراثهم، وينقطع تكليفهم، وهذه أحكام الميت.
34 – قال الحافظ 6 / 488 على حديث رقم ( 3441) وإذا ثبت أنهم أحياء ـ الأنبياء ـ من حيث النقل فإنه يقويه من حيث النظر كون الشهداء أحياء بنص القرآن، والأنبياء أفضل من الشهداء .... إلخ " .
انظر : التعليق (33)
35 – قال الحافظ 6 / 600 على حديث رقم ( 3581)
قال: " وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء .... إلخ ".
قال الشيخ البراك : قوله: " وفيه التبرك بطعام الأولياء والصلحاء ... ": ليس في القصة تبرك بطعام الأولياء؛ فإن الضيف لم يقصد بأكله التبرك بطعام أبي بكر، وأبو بكر لم يقصد بأكله التبرك بأثر ذلك الضيف، وإنما الذي في الحديث أن الله عز وجل بارك في طعام أبي بكر رضي الله عنه بأن كثَّره كرامة لأبي بكر رضي الله عنه حيث أضاف بعض أهل الصفة طاعة للرسول صلى الله عليه وسلم. وفيه معجزة للنبي صلى الله عليه وسلم كما جرى مثل ذلك وأعظم منه من تكثير الطعام والشراب على يده صلى الله عليه وسلم .
وانظر في حكم التبرك بآثار الصالحين تعليق الشيخ عبد العزيز ابن باز - رحمه الله - في هامش 1 / 525
36 – قال الحافظ 7 / 23 على حديث رقم ( 3658) قال :" ... أما خلة الله للعبد فبمعنى نصره له ومعاونته .... إلخ ".
قال الشيخ البراك : في هذا صرف للكلام عن ظاهره بغير دليل. وانظر التعليق (31)
37 – قال الحافظ 7 / 29 على حديث رقم ( 3667)
قال: " والأنبياء أحياء في قبورهم .... إلخ ".
انظر التعليق (33)
38 – قال الحافظ 7 / 124 على حديث رقم ( 3803) قال : " وليس العرش بموضع استقرار الله.. ".
قال الشيخ البراك: لا وجه لهذا النفي؛ فإن الله عز وجل مستو على عرشه كما أخبر سبحانه في سبعة مواضع من كتابه أنه استوى على العرش. ومن عبارات السلف في تفسير ( استوى ): استقر. ولكن نفي أن يكون العرش موضع استقرار الله مبني على نفي حقيقة الاستواء، وهو مذهب الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة؛ فعندهم أن الله في كل مكان، أو يقال: إنه لا خارج العالم ولا داخله، ثم الواجب عندهم في نصوص الاستواء إما التفويض وإما التأويل؛ مثل أن يقال في معنى ( استوى ): استولى. وهذا هو الغالب عليهم، فيجمعون بين التعطيل والتحريف. وكل هذا بلا حجة من عقل ولا سمع.
ومذهب أهل السنة إثبات الاستواء بمعناه المعلوم في اللغة مع نفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول".
ومعلوم أن استواء الله عز وجل على عرشه لا يستلزم حاجته سبحانه إليه؛ لأنه الغني عن كل ما سواه، وهو سبحانه الممسك للعرش وما دون العرش .
39 – قال الحافظ 7 / 156 على حديث رقم ( 3803) قال: " ومع ذلك فمعتقد سلف الأئمة وعلماء السنة من الخلف أن الله منزه عن الحركة والتحول والحلول ليس كمثله شيء ... " .
قال الشيخ البراك: قوله: " أن الله منزه عن الحركة والتحول .... ": لفظ الحركة والتحول مما لم يرد في كتاب ولا سنة، فلا يجوز الجزم بنفيه، ونسبة نفيه إلى السلف والأئمة من أهل السنة والجماعة لا تصح. بل منهم من يجوز ذلك ويثبت معناه ويمسك عن إطلاق لفظه، ومنهم من يثبت لفظ الحركة، ولا منافاة بين القولين؛ فإن أهل السنة متفقون على إثبات ما هو من جنس الحركة كالمجيء، والنزول، والدنو، والصعود، مما جاء في الكتاب والسنة . والأولى: الوقوف مع ألفاظ النصوص.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله تعالى -: " وكذلك لفظ الحركة: أثبته طوائف من أهل السنة ... وقال: والمنصوص عن الإمام أحمد إنكار نفي ذلك ، ولم يثبت عنه إثبات لفظ الحركة، وإن أثبت أنواعًا قد يدرجها المثبت في جنس الحركة" الاستقامة: 1 / 71 – 72 .
ثم ذكر قول الفضيل بن عياض: " إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكانه. فقل : أنا أومن برب يفعل ما يشاء " الاستقامة: 1 / 77 .
ونفي الحركة يتفق مع مذهب نفاة الأفعال الاختيارية من الأشاعرة وغيرهم، وهو الذي يقتضيه كلام الحافظ رحمه الله، وأما لفظ التحول فالقول فيه يشبه القول في لفظ الحركة.
40 – قال الحافظ 7 / 145 على حديث رقم ( 3827) قال: " والمراد بغضب الله إرادة إيصال العقاب ... ".
قال الشيخ البراك: الواجب إثبات حقيقة الغضب ، وحقيقة اللعن قولا وفعلا على ما يليق به سبحانه كسائر الصفات والأفعال، وتأويل الغضب بإرادة العقاب هي طريقة أهل التأويل من الأشاعرة وغيرهم ممن يثبت بعض الصفات وينفي بعضها، فيلزمهم القول فيما نفوه نظير قولهم فيما أثبتوه، وإلا كانوا متناقضين مفرقين بين المتماثلات.
وانظر : التعليق (27)
41 – قال الحافظ 7 / 412 على حديث رقم ( 4121) قال: "لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع أرقعة" وأرقعة بالقاف جمع رقيع، وهو من أسماء السماء، قيل: سميت بذلك لأنها رقعت بالنجوم، وهذا كله يدفع ما وقع عن الكرماني ( بحكم الملك ) بفتح اللام وفسّره بجبريل ؛ لأنه الذي ينزل بالأحكام.
قال السهيلي: قوله: "من فوق سبع سماوات" معناه أن الحكم نزل من فوق ، قال: ومثله قول زينب بنت جحش: "زوجني الله من نبيه من فوق سبع سماوات" أي نزل تزويجها من فوق، قال: ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق على المعنى الذي يليق بجلاله، لا على المعنى الذي يسبق إلى الوهم من التحديد الذي يفضي إلى التشبيه ... ".
قال الشيخ البراك: قول السهيلي: "ولا يستحيل وصفه تعالى بالفوق ..... ": هذا يتضمن أن الفوقية منها ما يستحيل على الرب سبحانه فيجب نفيه، ومنها ما لا يستحيل عليه فلا مانع من إثباته، وعليه يحمل ما جاء من وصف الله تعالى بالفوقية. وهذا التفصيل مبني على نفي علو الله تعالى بذاته على خلقه واستوائه على عرشه؛ فالفوقية ثلاثة أنواع: فوقية الذات، وفوقية القدر، وفوقية القهر؛ فنفاة العلو من الجهمية ومن تبعهم يثبتون فوقية القدر والقهر دون فوقية الذات، وأهل السنة والجماعة يثبتون له سبحانه الفوقية بكل معانيها؛ كما قال تعالى: "وهو القاهر فوق عباده"، كما يقولون مثل ذلك في العلو؛ فعندهم أن الله سبحانه فوق سماواته على عرشه.
42- قال الحافظ : 8 /155 في كلامه على مقدمة كتاب التفسير قوله: "الرحمن الرحيم: اسمان من الرحمة" أي: مشتقان من الرحمة ، والرحمة لغة: الرقة والانعطاف ، وعلى هذا فوصفه بها تعالى مجاز عن إنعامه على عباده، وهي صفة فعل لا صفة ذات ..
قال الشيخ البراك : مضمون هذا نفي حقيقة الرحمة عن الله تعالى، وحمل ما ورد في ذلك على المجاز، وتفسير الرحمة من الله عز وجل إما بإرادة الإنعام أو بالإنعام، وهذا جمع بين التعطيل والتحريف، وهو سبيل الجهمية ومن تبعهم.
والصواب أن الله عز وجل موصوف بالرحمة حقيقة كما دل على ذلك إسماه تعالى: الرحمن الرحيم.
والقول في الرحمة في حقه تعالى كالقول في سائر صفاته من علمه وسمعه وبصره تُثبت له على ما يليق به سبحانه من غير تكييف ولا تمثيل.
وتفسير الرحمة بالرقة يناسب رحمة المخلوق، ورحمة الخالق ليست كرحمة المخلوق، وهذا مذهب أهل السنة والجماعة، فالواجب اتباع سبيلهم، فإنه سبيل المؤمنين الذي قال الله عز وجل فيه: "ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيرا" .
43- قال الحافظ 8/336 على حديث 4670: (قال: إنه منافق فصلى عليه) أما جزم عمر بأنه منافق فجرى على ما كان يطلع عليه من أحواله وإنما لم يأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بقوله وصلى عليه إجراء له على ظاهر حكم الإسلام كما تقدم تقريره واستصحابا لظاهر الحكم ولما فيه من إكرام ولده الذي تحققت صلاحيته ومصلحة الاستئلاف لقومه ودفع المفسدة .. الخ
قال الشيخ البراك : الصواب أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد بالصلاة على ابن أبي بن سلول، بل وتكفينه بقميصه، الاستجابة لرغبة ولده، وتطييب قلبه، وتأليف عشيرته؛ إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم مخيرًا بين الاستغفار وتركه كما في قوله تعالى: "استغفر لهم أو لا تستغفر لهم" فلما جاءه النهي انتهى؛ قال الله تعالى: "ولاتصل على أحد منهم".
44 – قال الحافظ : 8 / 336 على حديث رقم 4670 قال: "وتعقبه ابن المنير بأن الإيمان لا يتبعض، وهو كما قال .. ".
قال الشيخ البراك : هذا مبني على أن الإيمان هو التصديق، وأن العمل ليس من مسمى الإيمان؛ وهو مذهب المرجئة، وهو باطل، بل الإيمان كما قال أئمة السنة: قول وعمل، أو هو: اعتقاد بالجنان، وقول باللسان، وعمل بالأركان.
وعلى هذا فالإيمان شعب كما قال صلى الله عليه وسلم: "الإيمان بضع وسبعون شعبة" وهذا يقتضي أنه يتبعض؛ فقد يترك العبد بعض تلك الشعب، أو كثيرا منها، وكذلك التصديق يتبعض باعتبار التفاوت في العلم بما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم.
وأما التصديق بما علم من خبر النبي صلى الله عليه وسلم فإنه لا يتبعض ضرورة أنه يجب الإيمان بكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن هذا التصديق يتفاوت في القوة والضعف.
وبهذا يتبين أن إطلاق القول بأن الإيمان لا يتبعض لفظ مجمل يحتاج إلى تفصيل واستفصال عن مراد المتكلم، ولكن إذا عرف مذهبه في الإيمان عرف مراده، والله الهادي إلى سواء السبيل.
45 – قال الحافظ : 8 / 340 على حديث رقم ( 4672) قال: "وفيه جواز سؤال الموسر من المال من ترجى بركته شيئا من ماله لضرورة دينية".
قال الشيخ البراك : في هذا الاستنباط نظر؛ فإن عبد الله رضي الله عنه لم يقصد مطلق المال، وإنما قصد ما فيه أثر بركة النبي صلى الله عليه وسلم - وهو القميص - رجاء أن ينتفع والده بذلك، فموضع الاستدلال أخص من الاستنباط الذي ذكره الحافظ رحمه الله تعالى، وهو جار على سنن ما قبله من الاستدلال بمثل ذلك على التبرك بآثار الصالحين، وتقدم أن ذلك من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم فلا يقاس عليه غيره.
وانظر التعليق (35) .
46 – قال الحافظ : 8 / 429 على حديث رقم ( 4731 ) قال: " وحكى ابن التين للداودي في هذا الموضع كلاما في استشكال نزول الوحي في القضايا الحادثة، مع أن القرآن قديم .... ".
قال الشيخ البراك : قوله: " فإن القرآن قديم ... ": هذا من إطلاقات الأشاعرة؛ فإن من مذهبهم أن كلام الله معنى نفسي واحد قديم، ومعنى ذلك أنه لا تتعلق به المشيئة، ولا بداية لشيء منه؛ فهذا القرآن المسموع المتلو عبارة عن ذلك المعنى النفسي، فإذا قالوا: القرآن قديم، فإنهم يريدون ذلك المعنى. وهذا مذهب باطل؛ لأن مقتضاه أن القرآن المحفوظ في الصدور المكتوب في المصاحف ليس كلام الله حقيقة. وهذا خلاف ما عليه أهل السنة من أن القرآن كلام الله حقيقة كيفما تصرف متلوًا ومحفوظًا ومكتوبًا ومسموعًا. والله عز وجل تكلم به بمشيئته، وكثير منه يتعلق بحوادث في عصر النبوة، فنزل في شأنها القرآن خبرًا وأمرًا كالسور والآيات المتعلقة بالغزوات كبدر وأحد والأحزاب.
وانظر : التعليق (17)
47 – قال الحافظ 8 /505 :والمراد بالوجه الذات، والعرب تعبر بالأشرف عن الجملة..".
قال الشيخ البراك: إن أراد بذلك التفسير نفي حقيقة الوجه الموصوف بالجلال والإكرام وبالأنوار فهو باطل، وهو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ووافقهم على ذلك متأخرو الأشاعرة، لذلك يتأولون كل ما ورد في الوجه لله عز وجل، ومن ذلك قولهم: المراد بالوجه الذات، وهذا هو الجاري على طريقة الحافظ في أكثر المواضع.
وإن أراد بهذا التفسير بيان أن المراد بالكلام إثبات وصف البقاء، وعدم الهلاك للرب سبحانه بذاته وصفاته، لا لخصوص الوجه، فتكون دالة على بقائه سبحانه، وعلى إثبات وجهه، فهذا هو الحق، وهو يستلزم بقاء ما أريد به وجهه، وسياق الآية يرشد إلى هذا المعنى، وذلك في قوله تعالى: "ولا تدع مع الله إلها آخر لا إله إلا هو كل شيء هالك إلا وجهه".
48 – قال الحافظ 8 /551 قال: "والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه". حديث ( 4811 )
قال الشيخ البراك قوله "والأولى في هذه الأشياء الكف عن التأويل ..": المراد بـ(ـهذه الأشياء): الصفات الخبرية كالإصبع واليد والعين.
وقوله: "الكف عن التأويل": يقال: بل الواجب في جميع صفات الله تعالى الكف عن تأويلها الذي هو صرف ألفاظ النصوص عن ظاهرها بغير دليل؛ فإن ذلك من تحريف الكلم عن مواضعه، فما ذهب إليه ابن فورك من تأويل الإصبع هو من ذلك، فهو باطل، بل هو من أقبح التحريف.
وقوله في العبارة: "مع اعتقاد التنزيه": إن أراد بالكف عن التأويل مع اعتقاد التنزيه إثبات هذه الصفات لله تعالى على ما يليق به فهو حق، وإن أراد نفي حقائقها مع تفويض معاني ما ورد في النصوص من ذلك فيكون مراده بهذا القول ترجيح طريقة التفويض على طريقة التأويل، وكلاهما باطل؛ لأن مبناهما على نفي حقائق هذه الصفات، وهو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة وغيرهم.
وهذا التقدير هو الغالب على طريقة الحافظ والنووي – رحمهما الله - وأهل السنة والجماعة يثبتون الأصابع لله تعالى على ما دل عليه هذا الحديث وأنها من صفة اليد، وقولهم في الأصابع كقولهم في سائر الصفات؛ وهو: الإثبات ونفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية.
49 – قال الحافظ 8 /580 قال: " قوله: ( فأخذت ) كذا للأكثر بحذف مفعول أخذت، وفي رواية ابن السكن: " فأخذت بحقو الرحمن "، وفي رواية الطبري : " بحقوي الرحمن " بالتثنية، قال القابسي: أبى أبو زيد المروزي أن يقرأ لنا هذا الحرف لإشكاله ... وقال عياض: الحقو معقد الإزار، وهو الموضع الذي يستجار به ويحتزم على عادة العرب، لأنه من أحق ما يحامى عنه ويدفع، كما قالوا: نمنعه مما نمنع منه أزرنا، فاستعير ذلك مجازا للرحم من استعاذتها بالله القطيعة. انتهى، وقد يطلق الحقو على الإزار نفسه ..
والمعنى على هذا صحيح مع اعتقاد تنزيه الله عن الجارحة، قال الطيبي: هذا القول مبني على الاستعارة التمثيلية؛ كأنه شبه حال الرحم وما هي عليه من الافتقار إلى الصلة والذب عنها بحال مستجير يأخذ بحقو المستجار به، ثم أسند على سبيل الاستعارة التخييلية ما هو لازم للمشبه به من القيام، فيكون قرينة مانعة من إرادة الحقيقة، ثم رشحت الاستعارة بالقول والأخذ وبلفظ الحقو، فهو استعارة أخرى، والتثنية فيه للتأكيد؛ لأن الأخذ باليدين آكد في الاستجارة من الأخذ بيد واحدة ". حديث (4830 )
قال الشيخ البراك : ومن خير ما يقال في هذا المقام: قول الشافعي رحمه الله تعالى: " آمنت بالله وبما جاء عن الله على مراد الله، وآمنت برسول الله، وبما جاء عن رسول الله على مراد رسول الله".
وقول شيخ الإسلام في نقض التأسيس ( 3 / 127 ) : "هذا الحديث في الجملة من أحاديث الصفات التي نص الأئمة على أنه يمر كما جاء ، وردوا على من نفى موجبه".
50 – قال الحافظ 8 / 596 قال: " واختلف في المراد في القدم .. ، وقيل: المراد بالقدم الفرط السابق..وقيل: المراد بالقدم قدم بعض المخلوقين. أو المراد بالقدم الأخير..حتى يضع الرب فيها موضعًا .. وأنه يجعل مكان كل واحد منهم واحدا من الكفار بأن يعظم حتى يسد مكانه ومكان الذي خرج، وحينئذ فالقدم سبب للعظم المذكور .. قال: المراد بالقدم قدم إبليس .. يكون المراد بالرجل إن كانت محفوظة الجماعة .... ".
على حديث ( 4848 )
قال الشيخ البراك : لم يختلف أهل السنة والجماعة في المراد بالقدم المذكور في الحديث؛ فالقدم عندهم هو قدم الرب سبحانه، والرجل كذلك؛ فالله تعالى موصوف بأن له قدمًا ورجلاً كما جاء في الحديث الصحيح، وكما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما في الكرسي أنه موضع قدمي الرب سبحانه. وقول أهل السنة في القدم لله تعالى كقولهم في العينين واليدين والوجه؛ وهو الإثبات لحقائقها اللائقة به سبحانه ، وأنها لا تماثل صفات المخلوقين، ولا يعلم العباد كنهها؛ فمعانيها معلومة وكيفياتها مجهولة. ويقولون في النصوص الواردة فيها: أمروها كما جاءت بلا كيف؛ ومرادهم الإيمان بها، وبما تدل عليه من إثبات الصفات من غير تفسير لها بما يخالف ظاهرها، وهو التأويل المذموم الذي حقيقته التحريف.
والحافظ عفا الله عنه أكثر من نقل أقوال الشراح في تأويل القدم والرجل، وكلها أقوال مخالفة لظاهر الحديث ولمذهب السلف. ومبناها كلها على أنه ليس لله قدم حقيقة، كما أنه ليس له يدان حقيقة، ولا عينان حقيقة، ولا وجه، وهو مذهب المعطلة من الجهمية ومن تبعهم في تعطيل الصفات كلها أو بعضها، وليت الحافظ رحمه الله تعالى ضرب عن هذه الأقوال صفحًا؛ لأنها مخالفة كلها لظاهر الحديث، والمقصود منها دفع ظاهر الحديث - وهو إثبات القدم لله حقيقة - وهو مستحيل على الله عند النفاة؛ لأن ذلك بزعمهم يستلزم التشبيه، ولكن الحافظ ذكر أن مذهب السلف هو إمرار الحديث على ظاهره دون التعرض لتأويله.
ويظهر من سياق كلامه ترجيح هذه الطريقة. والغالب أن الحافظ يريد بطريقة السلف: التفويض في معاني النصوص لا إثبات ما تدل عليه من الصفات، فترجيحه لطريقة السلف لا يدل على أنه يثبت القدم لله حقيقة؛ يدل على ذلك قوله: (بل نعتقد استحالة ما يوهم النقص على الله).
وعند النفاة إثبات كل هذه الصفات نقص، فإضافتها إلى الله تعالى في هذه النصوص يوهم النقص عندهم، فيوجبون نفي ظاهرها، ثم يوجبون فيها:
إما التفويض، وإما التأويل مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد. وهو مخالف لمذهب السلف كما أسلفنا.
51– قال الحافظ 8 / 632-633: قال: "قال الخطابي": إطلاق العجب على الله محال، ومعناه الرضا؛ فكأنه قال: إن ذلك الصنيع حل من الرضا عند الله حلول العجب عندكم، قال: وقد يكون المراد بالعجب هنا أن الله يعجب ملائكته من صنيعهما لندور ما وقع منهما في العادة، قال: وقال أبو عبد الله: معنى الضحك هنا الرحمة.
قلت: ولم أر ذلك في النسخ التي وقعت لنا من البخاري.
قال الخطابي: وتأويل الضحك بالرضا أقرب من تأويله بالرحمة؛ لأن الضحك من الكرام يدل على الرضا؛ فإنهم يوصفون بالبشر عند السؤال ... " .
حديث رقم 4889
قال الشيخ البراك : القول في العجب والرضا والضحك كالقول في سائر الصفات، والواجب إثباتها لله حقيقة على ما يليق به سبحانه.
وقول الخطابي: "إطلاق العجب على الله محال" يقتضي نفي صفة العجب عن الله تعالى، وصفة العجب ثابتة في الكتاب والسنة كما قال تعالى: " بل عجبتُ " بضم التاء على إحدى القراءتين ، ومن السنة هذا الحديث، والعجب المثبت لله تعالى ليس كعجب المخلوق الذي منشأه أحيانا خفاء السبب؛ كما قيل: إذا ظهر السبب بطل العجب، وهذا النوع من العجب ممتنع على الله تعالى؛ لأنه لا تخفى عليه خافية، ولكن العجب من الله تعالى يدل على عظم الشيء وتميزه على أمثاله فيما يوجب مدحًا أو ذمًا.
وانظر التعليق (20) و(24) .
52 – قال الحافظ 8 / 664: قال: " لا يظن أن الله ذو أعضاء وجوارح لما في ذلك من مشابهة المخلوقين تعالى الله عن ذلك، ليس كمثله شيء ".
حديث رقم 4919
قال الشيخ البراك : لفظ الأعضاء والجوارح من الألفاظ المحدثة في صفات الله تعالى، ولم يأت في الكتاب ولا في السنة إطلاق نفيها ولا إثباتها، ونفيها من الألفاظ المجملة؛ فمن أراد بذلك نفي التجزؤ عن الله تعالى فهو حق، ولكن اللفظ محدث، ومن أراد نفي حقيقة اليدين والعينين والساق والقدم فهو مبطل، وهذه الصفات لله تعالى لا يقال لها أعضاء ولا جوارح؛ لما في هذا اللفظ من الاحتمال الذي يتوصل به المعطل إلى مراده.
وقوله في هذا الحديث: "يكشف ربنا عن ساقه" نص في إثبات الساق لله تعالى، والقول فيه كالقول في سائر صفاته تعالى، والآية وإن لم تكن نصا في إثبات صفة الساق لأنها جاءت بلفظ التنكير فالحديث مفسر لها .
وإن صح أن يُختلف في دلالة الآية، فلا يصح أن يختلف في دلالة الحديث. وتأويل الساق في الحديث بالقدرة هو من سبيل أهل التأويل من النفاة لتلك الصفات، وهم بهذا التأويل يجمعون بين التعطيل والتحريف. وأهل السنة يمرون هذه الصفات على ظاهرها مؤمنين بما دلت عليه، ولا يكيفون ولا يمثلون صفاته سبحانه بصفات خلقه.
53 – قال الحافظ 8 / 703: قال: "وإسناد الاطمئنان إلى الله من مجاز المشاكلة، والمراد به لازمه من إيصال الخير ونحو ذلك ...".
وذلك في كلامه في كتاب التفسير، سورة والفجر، باب 89.
قال الشيخ البراك : يقال: إسناد الاطمئنان إلى الله تعالى هو من لفظ الحسن البصري رحمه الله تعالى، والبخاري رحمه الله تعالى مقرر له، وخير ما يحمل عليه هذا اللفظ ما جاء في الحديث الصحيح: "من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه"؛ وذلك عند الموت كما بينه النبي صلى الله عليه وسلم في جوابه لعائشة رضي الله عنها، وعلى هذا فلا وجه لدعوى المجاز.
54 – قال الحافظ 9 / 69: قال: " وقال القرطبي: أصل الأذن بفتحتين أن المستمتع يميل بأذنه إلى جهة من يسمعه، وهذا المعنى في حق الله لا يراد به ظاهره، وإنما هو على سبيل التوسع على ما جرى به عرف المخاطب، والمراد به في حق الله تعالى إكرام القارئ وإجزال ثوابه؛ لأن ذلك ثمرة الإصغاء ...".
حديث رقم 5023
قال الشيخ البراك : الأذن في معناه ثلاثة وجوه : منها ما هو حق، ومنها ما هو باطل ؛ لأنه صرف للكلام عن ظاهره بغير دليل، ومنها ما لا يصح الجزم بإثباته و لا نفيه.
فالأول: هو الاستماع؛ وهو ثابت بالقرآن لقوله تعالى: "إنّا معكم مستمعون" وهذا هو الصواب في تفسير الأذن؛ فمعنى: "ما أذن الله " أي: ما استمع .
والثاني: تفسير الأذَن بإكرام القارئ؛ فإنه يتضمن نفي حقيقة الاستماع إلى الله عز وجل، مع مخالفته لمعنى الأذن في اللغة.
والثالث: تفسير الأذَن بالإصغاء بالأذُن؛ فإن الأذُن لم يقم دليل على إثباتها ولا نفيها، فيجب الإمساك عن إضافتها إلى الله تعالى نفيًا وإثباتًا.
واقتصار القرطبي - والحافظ تبعًا له - على ذكر الثاني والثالث مع الجزم بإثبات الثاني ونفي الثالث غلط ظاهر، ولعل الحامل لهما على ذلك نفيهما للصفات الفعلية كما هو مذهب الأشاعرة؛ فإن الاستماع وفي معناه الأذن من الصفات الفعلية.
55 – قال الحافظ 9 / 320: قال: " قال عياض: ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك، وقيل: الغيرة في الأصل الحمية والأنفة، وهو تفسير بلازم التغير فيرجع إلى الغضب، وقد نسب سبحانه وتعالى إلى نفسه في كتابه الغضب والرضا.
وقال ابن العربي: التغير محال على الله بالدلالة القطعية، فيجب تأويله بلازمه، كالوعيد أو إيقاع العقوبة بالفاعل، ونحو ذلك".
وذلك في كلامه على كتاب النكاح ، باب 107 .
قال الشيخ البراك : دل حديث ابن مسعود على إثبات صفة الغيرة لله تعالى، وأن غيرته أكمل وأعظم من غيرة كل أحد، فيجب أن يكون القول فيها كالقول في سائر الصفات؛ وهو الإيمان بأن الله تعالى يغار حقيقة، وأن غيرته ليست كغيرة المخلوقين، بل غيرة الله تليق به سبحانه. ويدل على أن الغيرة من الله حقيقة قوله في حديث سعد المذكور مع ترجمة الباب: "أتعجبون من غيرة سعد؟ لأنا أغير منه، والله أغير مني" والغيرة في مثل هذا السياق تتضمن الغضب لانتهاك الحرمة.
والله سبحانه يبغض ما حرم، ويغضب إذا انتهكت حرماته، وقول عياض: "ويحتمل أن تكون الغيرة في حق الله الإشارة إلى تغير حال فاعل ذلك" هو من التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة، والحامل عليه الحذر من إضافة التغير إلى الله تعالى الذي يُشعِر به لفظ الغيرة، وهو ممتنع عنده وعند ابن العربي؛ ولهذا قال فيما نقله الحافظ ابن حجر: "التغير محال على الله بالدلالة القطعية". والحق أن التغير من الألفاظ المجملة المبتدعة في باب صفات الله تعالى؛ إذ لم يرد إطلاقه على الله تعالى نفيًا ولا إثباتًا، والواجب في مثل هذا التفصيل والاستفصال؛ فمن أراد بالإثبات أو النفي حقاً قُبل، وإن أراد باطلا رد؛ فالتغير إن أريد به النقص بعد الكمال، أو الكمال بعد النقص فهو ممتنع على الله عز وجل؛ لأنه منزه عن النقص أزلا وأبداً، وإن أريد به التغير في أفعاله تبعاً لمشيئته وحكمته - مثل أنه يحب ويبغض ، ويغضب ويرضى - فذلك من كماله، وتسمية هذا تغيراً في ذاته ممنوع وباطل، والأسماء لا تغير الحقائق، والمعول في الأحكام على الحقائق والمعاني لا على الألفاظ والعبارات.
56 – قال الحافظ 10 / 100: قال: "والتبرك بآثار الصالحين ....".
حديث رقم 5637
ينظر التعليق رقم (35)
57 – قال الحافظ 10 / 198: قال: "... وفي الحديث التبرك بالرجل الصالح وسائر أعضائه، وخصوصا اليد اليمنى".
حديث 5735
قال الشيخ البراك : تقدم في مواضع أن ما جعل الله عز وجل في بدنه صلى الله عليه وسلم وآثاره من البركة، وما يتعلق بذلك من التبرك به هو من خصائصه، فلا يقاس عليه غيره من الصالحين مهما بلغ صلاحًا وتقوى؛ يدل على ذلك أن الصحابة رضي الله عنهم لم يكونوا يفعلون مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه وغيره من الصحابة والقرابة ما كانوا يفعلونه مع النبي صلى الله عليه وسلم من التبرك بآثاره المباركة.
وقول الحافظ: "وخصوصا اليد اليمنى" بأن المسح منه كان باليد اليمنى خاصة، وليس في لفظ الحديث ما يدل على هذا.
58 – قال الحافظ (10 / 207) على حديث رقم 5742
" قوله " أنت الشافي " يؤخذ منه جواز تسمية الله بما ليس في القرآن بشرطين : أحدهما: ألا يكون في ذلك ما يوهم نقصًا ، والثاني: أن يكون له أصل في القرآن . وهذا من ذاك ، فإن في القرآن " وإذا مرضت فهو يشفين " .
قال الشيخ البراك: يريد ـ رحمه الله ـ أن أسماء الله تثبت بالسنة كما تثبت بالقرآن، وهذا حق، ولكن لا وجه للشرطين الذين ذكرهما؛ فكل ما سمى الرسول به ربه وجب أن نؤمن به ونثبته، ونسمي الله به ولو لم يكن للفظه أصل في القرآن؛ كالجميل والرفيق . وتوهم النقص لا يصلح أن يكون ضابطًا في ما ينفى عن الله تعالى؛ فقد يتوهم بعض الناس ما ليس بنقص نقصًا لقصور في إدراكه، أو لمذهب باطل بنى اعتقاده عليه.
59 – قال الحافظ (10 / 233) على حديث رقم 5765 : وأخرجه الطبري في التهذيب من طريق يزيد بن زريع، عن قتادة، عن سعيد بن المسيب" أنه كان لا يرى بأسا إذا كان بالرجل سحر أن يمشي إلى من يطلق عنه، فقال: هو صلاح" .. الخ
قال الشيخ البراك: تمسك بعض الناس بقول سعيد هذا: حل السحر بسحر مثله؛ وذلك بذهاب المسحور إلى ساحر يحل السحر عنه.
وقول سعيد ـ رحمه الله ـ تعالى ليس صريحا في هذا، بل هو مجمل؛ فإن النشرة، وهي حل السحر عن المسحور، نوعان كما قال ابن القيم رحمه الله تعالى :
الأول: حل بسحر مثله، وعليه يحمل قول الحسن: لا يحل السحر إلا ساحر؛ فيتقرَّب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب، فيبطل عمله عن المسحور، وهذا النوع من النشرة حرام، وهي من عمل الشيطان كما في الحديث.
والثاني: حل السحر بالأدعية والتعويذات والأدوية المباحة؛ فهذا جائز بلا خلاف، وينبغي أن يحمل قول سعيد على هذا النوع. ومما يدل على تحريم الذهاب إلى الساحر لحل السحر قوله : "من أتى كاهنا أو عرافا، فسأله عن شيء، فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد " [رواه الإمام أحمد، والأربعة]، والساحر من جنس الكاهن والعراف.
60 – قال الحافظ (10 / 258) على حديث رقم 5788
"قوله: (لا ينظر الله) أي لا يرحمه؛ فالنظر إذا أضيف إلى الله كان مجازًا، وإذا أضيف إلى المخلوق كان كناية، ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة .. الخ
قال الشيخ البراك: النظر إلى الشيء يدل في اللغة على مجرد الرؤية عن إرادة، وقد يدل مع ذلك على العناية والمحبة والإكرام. وقد جاء مضافًا إلى الله تعالى على الوجه الأول في سياق الإثبات كما في قوله : "إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب".
ويشبه هذا النوع قوله سبحانه: "ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون" [يونس14]، كما يوضح ذلك قوله تعالى: "فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون" [التوبة105].
وجاء مضافًا إلى الله تعالى على الوجه الثاني في سياق النفي؛ كما في قوله تعالى: "ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم" [آل عمران77]، وفي السنة من هذا النوع كثير، ومن ذلك هذا الحديث، ويشبه هذا النوع قوله : "إن الله لا ينظر إلى صوركم وأجسامكم، ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم".
والواجب في ذلك كله: إثباته لله تعالى على ما يليق به كسائر صفاته؛ كعلمه وسمعه وبصره وإرادته وحياته، وكل صفاته؛ فهو تعالى ينظر إلى ما شاء ومن شاء كيف شاء .
وما ذكره الحافظ أو نقله عن الشراح في معنى النظر من الله كله من التأويل الباطل الذي حقيقته صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة، والحامل لهم على ذلك أن من مذهبهم نفي حقيقة العينين عن الله تعالى، ونفي الأفعال الاختيارية التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى ومنها النظر.
ومما تقدم يتبين أن معنى : "لا ينظر الله" أي نظر محبة وإكرام. وقريب من هذا ما جعله الحافظ احتمالا، وهو أقرب إلى الصواب؛ حيث قال: "ويحتمل أن يكون المراد لا ينظر الله إليه نظر رحمة"، والله أعلم.
61 – قال الحافظ (10 / 330) على حديث رقم 5879 "وفيه استعمال آثار الصالحين ولباس ملابسهم على جهة التبرك والتيمن بها".
تقدم في مواضع التنبيه على أن مثل هذا من خصائصه .
التعليق رقم (18) و (35) و(57)
62 – قال الحافظ (10 / 394) على حديث رقم 5963
" واستدل به على أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، للحوق الوعيد بمن تشبه بالخالق ... ". واستدل به على جواز التكليف بما لا يطاق. والجواب ما تقدم، وأيضا فنفخ الروح في الجماد قد ورد معجزة للنبي ؛ فهو يمكن وإن كان في وقوعه خرق عادة، والحق أنه خطاب تعجيز لا تكليف كما تقدم والله أعلم ".
قوله: "واستدل به على جواز التكليف بما لا يطاق" : في هذا الاستدلال نظر؛ فإن الأمر بنفخ الروح المذكور في الحديث أمر تعجيز لا تكليف كما ذكر الحافظ رحمه الله ، وهو كما قال . وما لا يطاق قد يراد به: الممتنع لذاته؛ كالجمع بين النقيضين والضدين، فهذا لا يجوز التكليف به؛ لأنه لا يتصور.
وقد يراد به: الممتنع لغيره، وإن كان في ذاته ممكنا؛ كإيمان الكافر الذي علم الله أنه لا يؤمن، واعتبار هذا مما لا يطاق هو مذهب الجبرية. وقد يراد به: ما يشق مشقة عظيمة فوق الوسع؛ فالتكليـف بهذين جائز وواقع كما قال تعالى: "ربنا ولا تحمــل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به .... الآية" [البقرة286] .
وقد يراد بما لا يطاق: ما لا قدرة للعبد عليه أصلا؛ كالمشي من المقعد، والكتابة من أقطع اليد، وهذا جائز عقلاً غير واقع شرعًا.
63 – قال الحافظ (10 / 417) على حديث رقم 5987
"إن المراد بالحجزة هنا قائمة العرش ....".
انظر التعليق رقم (49)
64 – قال الحافظ (10 / 418) على حديث رقم 5987
"قال ابن أبي جمرة: الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه، وإنما خاطب الناس بما يفهمون، ولما كان أعظم ما يعطيه المحبوب لمحبه الوصال، وهو القرب منه، وإسعافه بما يريد، ومساعدته على ما يرضيه، وكانت حقيقة ذلك مستحيلة في حق الله تعالى، عرف أن ذلك كناية عن عظيم إحسانه لعبده.
قال : وكذا القول في القطع هو كناية عن حرمان الإحسان ...".
قال الشيخ البراك: قوله : "أن أصل من وصلك .." الوصل من الله عز وجل لمن يصل رحمه يدل على أن الجزاء من جنس العمل، وهذه سنة الله عز وجل في جزائه ثوابًا وعقابًا. والوصل من الله تعالى يكون بما شاء سبحانه وتعالى مما يدخل في معنى الوصل اللائق به سبحانه، وكلها تدخل في الإحسان، وهو سبحانه يحسن إلى المحسنين بمحبته وتقربه، وبأنواع المنافع والمحبوبات؛ قال تعالى: "وأحسنوا إن الله يحب المحسنين" [البقرة195] ، وقال في الحديث القدسي: "ومن تقرب إلي شبرًا تقربت إليه ذراعًا" ، وقال تعالى: "هل جزاء الإحسان إلا الإحسان" [الرحمن60].
وقصر معنى الوصل من الله تعالى على بعض أنواعه تقييد وتخصيص بغير حجة.
وقول ابن أبي جمرة: "الوصل من الله كناية عن عظيم إحسانه ... إلخ" هذا كلام متناقض؛ فقد أثبت أن الوصل كناية عن الإحسان، ونفى أن يكون منه قرب الله من عبده، وإسعافه بما يريد، ومساعدته على ما يرضيه. وزعم أن ذلك مستحيل في حق الله تعالى، وهذه الأنواع من أعظم أنواع الإحسان التي يكرم الله بها أولياءه كما في حديث الولي؛ يقول الله تعالى: "ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه".
65 – قال الحافظ (10 / 432) على حديث رقم 6000
"قلت: وحاصل كلامه أن الرحمة رحمتان، رحمة من صفة الذات وهي لا تتعدد، ورحمة من صفة الفعل وهي المشار إليه هنا ....".
قال الشيخ البراك: دلت النصوص من الكتاب والسنة على أن الرحمة المضافة إلى الله تعالى رحمتان :
1 - رحمة هي صفته؛ وصفاته غير مخلوقة، وإضافتها إلى الله هي من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ كما قال تعالى عن نبي الله سليمان عليه السلام: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين" [النمل19] ، وقال تعالى: "وربك الغفور ذو الرحمة" [الكهف58] ، وقال تعالى: "الرحمن الرحيم"؛ فهذان الاسمان متضمنان صفة الرحمة، فاسمه الرحمن يدل على الرحمة الذاتية التي لم يزل ولا يزال موصوفًا بها، واسمه الرحيم يدل على الرحمة الفعلية التابعة لمشيئته سبحانه وتعالى؛ كما قال تعالى: "إن يشأ يرحمكم" [الإسراء54]، وقال تعالى: "ويرحم من يشاء" [العنكبوت21].
وأهل السنة والجماعة يثبتون الرحمة لله تعالى صفة قائمة به سبحانه، والمعطلة ومن تبعهم ينفون حقيقة الرحمة عن الله تعالى - ومنهم الأشاعرة - ويؤولونها بالإرادة أو النعمة .
2 - والرحمة الأخرى مما يضاف إليه تعالى: رحمة مخلوقة، وإضافتها إليه هي من إضافة المخلوق إلى خالقه، ومن شواهدها قوله تعالى: "فانظر إلى آثار رحمة الله" [الروم50] ، وقوله تعالى: "وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون" [آل عمران107] ، وقوله سبحانه للجنة كما في الحديث القدسي: " أنت رحمتي أرحم بك من أشاء".
والرحمة المذكورة في الحديث هي الرحمة المخلوقة، وهي التي جعلها الله عز وجل في مائة جزء. والرحمة
المخلوقة في الدنيا والآخرة هي أثر الرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى ومقتضاها.
66 – قال الحافظ (10 / 462) على حديث رقم 6040
" والمراد بالقبول في حديث الباب قبول القلوب له بالمحبة والميل والرضا عنه ..، والمراد بمحبة الله إرادة الخير ....".
قال الشيخ البراك: قوله"والمراد بمحبة الله إرادة الخير..": هذا صرف للفظ عن ظاهره بغير حجة صحيحة، وهذا هو التأويل المذموم الذي يسلكه نفاة الصفات، أو بعضهم كالأشاعرة ؛ فإن مذهبهم نفي حقيقة المحبة عن الله تعالى زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه. لكن الأشاعرة لما كانوا يثبتون الإرادة لله تعالى صار كثير منهم يَرُدُّ بعض الصفات إليها ويؤولها بها، مع أنه يلزمهم في الإرادة نظير ما فروا منه في المحبة، فلم يستفيدوا بهذا التأويل إلا التناقض والجمع بين التعطيل والتحريف.
والواجب إثبات كل ما أثبته الله تعالى لنفسه وأن الله سبحانه موصوف به حقيقة على الوجه الذي لا يماثل فيه أحدًا من خلقه. وهذا مذهب أهل السنة والجماعة؛ فيمرون النصوص مؤمنين بها، بلا تكييف ولا تمثيل لمعانيها.
67 – قال الحافظ (10 / 488) على حديث رقم 6070
"ويدنو المؤمن من ربه أي يقرب منه قرب كرامة، وعلو منزلة".
قال الشيخ البراك: يريد بقوله: "قرب كرامة وعلو منزلة" أن دنو المؤمن من ربه المذكور في الحديث دنو معنوي ، لا أنه دنو بقرب المكان، بحيث يكون في مكان هو فيه أقرب إلى ربه. والأصل في القرب والدنو قرب المكان، وهذا هو المعنى المتبادر من لفظ الحديث وسياقه.
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على أن الله سبحانه بذاته في العلو فوق كل شيء، وأنه سبحانه يقرب من بعض خلقه إذا شاء، كيف شاء، ويدني ويقرب من عباده من شاء، وأن من الملائكة ملائكة مقربين، فهم عنده.
وأهل السنة والجماعة يؤمنون بهذا كله لا يتأولون شيئا منه على خلاف ظاهره. وأما نفاة العلو القائلون بالحلول من الجهمية ومن وافقهم - ومنهم الأشاعرة - فعندهم أنه تعالى لا يقرب من شيء، ولا يقرب منه شيء، وأن نسبة جميع المخلوقات إليه نسبة واحدة. لذلك يلجأون إلى تأويل النصوص المخالفة لأصولهم، ومن ذلك دنو المؤمن من ربه أو إدناؤه له؛ فيؤولونه بقرب المكانة والمنزلة. وهذا هو الذي ذكره الحافظ، ومشى عليه في هذا الحديث ونحوه.
68 – (11 / 3) قال: "والمراد بالصورة: الصفة....". على حديث رقم 6227
قال الشيخ البراك : قوله: " وقيل: الضمير لله…": هذا هو الذي عليه أئمة السنة، ومن مذهبهم إثبات الصورة لله حقيقة، وأنها لا تماثل صورة أحد من المخلوقات.
وانظر التعليق (16)
69 – (11 / 101) على حديث رقم 6307
قال الحافظ : "وقد استشكل وقوع الاستغفار من النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معصوم، والاستغفار يستدعي وقوع معصية.
وأجيب بعدة أجوبة: منها ما تقدم في تفسير الغين، ومنها قول ابن الجوزي: هفوات الطباع البشرية لا يسلم منها أحد، والأنبياء وإن عصموا من الكبائر، فلم يعصموا من الصغائر، كذا قال، وهو مفرع على خلاف المختار، والراجح عصمتهم من الصغائر أيضا....".
قال الشيخ البراك : قوله: "والراجح عصمتهم من الصغائر أيضاً": في هذا الترجيح نظر، بل الراجح جواز بل وقوع الصغائر منهم، والسهو والنسيان من باب أولى؛ فهذا آدم عليه السلام نسي وعصى، فقال تعالى: "ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما" [طه115] ، وقال تعالى: "وعصى آدم ربه فغوى ثم اجتباه ربه فتاب عليه وهدى" [طه121] ، وهذا نوح عليه السلام سأله ربه ما ليس له أن يسأله كما قال تعالى: "فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين قال ربي إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين" [هود46،47] ، وهذا موسى عليه السلام قتل نفسًا لم يؤمر بقتلها فندم وقال: "رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي فغفر له إنه هو الغفور الرحيم" [القصص16] .
وإن كان هذا قبل الإرسال فهو وارد على القائلين بالعصمة مطلقًا، وقد عاتب الله عز وجل نبيه في مواضع من القرآن فقال: "عفا الله عنك لم أذنت لهم" [التوبة43] ، وقال: "ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض" [الأنفال67] ، وقال: "عبس وتولى" [عبس1] .
والمقطوع به أنهم صلوات الله وسلامه عليهم معصومون فيما يبلغونه عن الله تعالى، ومن الإقرار على شيء من الذنوب أو الخطأ، ومعصومون من الذنوب التي تنفر عن دعوتهم. والمقتضي للاستغفار أعم من أن يكون ذنبًا، بل قد يكون تقصيرًا عما يطلب من الكمال، وقد يكون شعورًا بالتقصير وإن لم يكن، وهذا من الكمال، وبهذا يتحقق لهم كمال العبودية في سائر مقامات الدين والله أعلم.
70 – (11 / 106) قال الحافظ: ".. وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه".
على حديث رقم 6308
قال الشيخ البراك : قوله: "وإطلاق الفرح في حق الله مجاز عن رضاه..." إلى آخر ما ذكره وأورده من النقول في تأويل الفرح: كل ما ذكره الحافظ ونقله في هذا الموضع جار على مذهب النفاة، وأهل التأويل منهم، وفي هذا كله صرف للفظ ( الفرح ) عن ظاهره؛ فمن المعلوم أن الفرح غير الرضا، والرضا غير المحبة، وكلها غير الإرادة؛ فإن الفرح ضده الحزن، والرضا ضده السخط، والمحبة ضدها البغض، وكل هذه الصفات التي وردت في النصوص إضافتها إلى الله تعالى تنفيها الأشاعرة، وأهل التأويل منهم يفسرونها بالإرادة.
وأهل السنة والجماعة لا يفرقون بين الصفات الواردة في الكتاب والسنة، بل يثبتونها لله عز وجل على ما يليق به سبحانه من غير تكييف ولا تمثيل، ويردون على الأشاعرة بأن حكم الصفات واحد، والتفريق بينها تفريق بين المتماثلات، ولهذا يلزمهم فيما أثبتوه نظير ما فروا منه فيما نفوه.
* وقول ابن العربي: "كل صفة تقتضي التغير لا يجوز أن يوصف الله بحقيقتها"
تقدم التعليق عليه ، وبيان ما يحتمله لفظ التغير . انظر : التعلـيق (55) .
71 – (11 / 106) قال الحافظ : "وقال ابن أبي جمرة: كنى عن إحسان الله للتائب وتجاوزه عنه بالفرح؛ لأن عادة الملك إذا فرح بفعل أحد أن يبالغ في الإحسان إليه....".
على حديث رقم 6308
انظر التعليق (70) .
72 – (11 / 106) قال الحافظ: "وهذا القانون جار في جميع ما أطلقه الله تعالى على صفة من الصفات التي لا تليق به....". على حديث رقم 6308
تقدم التعليق على مثل ذلك؛ ينظر التعليق (70)
73 – (11 / 129) قال الحافظ: "وقال الكرماني: ...النزول محال على الله؛ لأن حقيقة الحركة من جهة العلو إلى السفل، وقد دلت البراهين القاطعة على تنزيهه عن ذلك، فليتـأول ذلك بأن المراد نزول ملك الرحمة ونحوه، أو يفوض مع اعتقاد التنزيه....".
على حديث رقم 6321
قال الشيخ البراك : "وقال الكرماني : ... النزول محال على الله....": هذا قول منكر، وردٌّ لخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو أعلم الخلق بربه، وقد تواتر عنه صلى الله عليه وسلم الخبر بنزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة؛ فقد نقل ذلك الجم الغفير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتلقى ذلك أهل السنة والجماعة بالقبول فأثبتوا أنه سبحانه ينزل حقيقة كيف شاء، كما قالوا: إنه استوى على العرش وإنه يجيء يوم القيامة كما أخبر عن نفسه سبحانه وتعالى، فقول أهل السنة في النزول كقولهم في سائر أفعاله وصفاته سبحانه؛ وهو إثباتها مع نفي التمثيل ونفي العلم بالكيفية.
وقول الكرماني: (النزول محال على الله) هو مذهب المعطلة من الجهمية ومن تبعهم من المعتزلة والأشاعرة، ومن مذهبهم نفي علوه سبحانه بذاته واستوائه على عرشه، ونفي قيام الأفعال الاختيارية به.
ومن لا يثبت العلو يمتنع عليه أن يثبت النزول، والحامل لهم على هذا الباطل هو توهم التشبيه وقياس الخالق على المخلوق. وهو سبحانه وتعالى لا يقاس بخلقه، وما يثبت له من الصفات هو على ما يليق به لا يماثل صفات المخلوقين؛ فنزوله ليس كنزول المخلوق، كما أن علمه وسمعه وبصره ليس كعلم المخلوق وسمعه وبصره. وتأويل النفاة لنزوله سبحانه بنزول ملك، أو نزول الرحمة هو من تحريف الكلم عن مواضعه؛ فهل يجوز أن يقول الملك: "من يدعوني فاستجيب له، من يسألني فأعطيه"، فلفظ الحديث نص بأن الذي ينزل هو الله نفسه، وهو الذي يقول ذلك، فالذين تأولوا النزول بنزول ملك قد جمعوا بين التحريف والتعطيل فضلوا عن سواء السبيل.
وانظر التعليق ( 39)
74 – (11 / 208) قال الحافظ: "وقوله: "حبيتان إلى الرحمن" تثنية حبيبة وهي المحبوبة، والمراد أن قائلها محبوب لله، ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم ...".
على حديث رقم 6406
قال الشيخ البراك :قوله: "والمراد أن قائلها محبوب لله تعالى ... إلخ": هذا عدول عن ظاهر الحديث بلا موجب؛ فالحديث ظاهر في تعلق محبة الله تعالى بالكلمتين، فهو يفيد أن الله يحبهما، وفي هذا حث وترغيب في الاستكثار منهما، وأن ذلك من أسباب محبة الرب لعبده.
وقول الحافظ: "ومحبة الله للعبد إرادة إيصال الخير له والتكريم": تأويل يقتضي نفي حقيقة المحبة عن الله تعالى، وهو مذهب الأشاعرة وهو باطل؛ فإنه سبحانه يُحِبُّ ويُحَبُّ كما أخبر بذلك عن نفسه في كتابه، ومحبته لما شاء ولمن شاء لا تماثل محبة المخلوق؛ كما هو الشأن في سائر صفاته تعالى، فلا موجب لصرف الكلام عن ظاهره، وأهل السنة يثبتون المحبة له حقيقة على ما يليق به، وأنه تعالى كما أخبر عن نفسه يحب المتقين والتوابين والمتطهرين، ويحب هذه الخصال والأفعال.
75 – (11 / 223) قال الحافظ: "واختلف في الأسماء الحسنى هل هي توقيفية بمعنى أنه لا يجوز لأحد أن يشتق من الأفعال الثابتة لله أسماء إلا إذا ورد نص إما في الكتاب أو السنة؟ فقال الفخر: المشهور عن أصحابنا أنها توقيفية. وقالت المعتزلة والكرامية: إذا دل العقل على أن معنى اللفظ ثابت في حق الله جاز إطلاقه على الله. وقال القاضي أبو بكر والغزالي: الأسماء توقيفية دون الصفات، قال : وهذا هو المختار ...." .
على حديث رقم 6410
قال الشيخ البراك : الصواب أن أسماء الله عز وجل وصفاته توقيفية، ومعنى ذلك أنها مبنية على توقيف من الله تعالى أو رسوله r ؛ فلا يثبت له من الأسماء والصفات إلا ما جاء في الكتاب والسنة، فلا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سمّاه به رسوله r ، ولا يوصف إلا بما وصف به نفسه أو وصفه به رسول الله r كما قال الإمام أحمد رحمه الله تعالى: "لا يوصف الله إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله؛ لا يتجاوز القرآن والحديث".
76 – (11 / 227) قال الحافظ: "ومعنى محبته له أنه أمر به وأثاب عليه ...".
حديث رقم 6410
قال الشيخ البراك : هذا تأويل ، وانظر : التعليق (74 ) .
77 – (11 / 301) قال الحافظ: "قلت: المراد بالرحمة هنا ما يقع من صفات الفعل كما سأقرره فلا حاجة للتأويل ....".
على حديث رقم 6469
قال الشيخ البراك : يريد الحافظ ـ رحمه الله ـ أن الرحمة في هذه الأحاديث هي الرحمة المخلوقة ، وهي أمور منفصلة ليست قائمة بذات الرب سبحانه وتعالى، وهذا الذي قاله حق، ولكن إطلاقه الصفات على هذه المفعولات هو من الاضطراب في الفهم والتصور عند النفاة ؛ إذ كيف يكون المفعول صفة للفاعل وهو لا يقوم به ؟!
وبناء على الفهم الفاسد يؤول كثير منهم الصفات الفعلية كالمحبة والرضا والرحمة والغضب والسخط بما يخلقه الله من النعم والعقوبات.
وقوله: "فلا حاجة للتأويل": يريد به الرد على ابن الجوزي فيما نقله عنه هنا ؛ فابن الجوزي فهم أن الرحمة المذكورة في الحديث هي صفة الرب سبحانه وتعالى القائمة بذاته ، وأن ذكر الأجزاء تمثيل للتقريب ، وهذا غلط منه رحمه الله تعالى ؛ فالرحمة المذكورة في الحديث هي الرحمة المخلوقة لا الرحمة التي هي صفته سبحانه وتعالى، والحديث نص في هذا لا يحتمل غيره؛ فهو يدل على الرحمة المخلوقة بالنص وعلى الصفة بطريق اللزوم ؛ لأن الأولى أثر الثانية.
وأهل السنة يثبتون الرحمة صفة لله تعالى حقيقة كما يثبتون سائر الصفات، وأنها لا تماثل رحمة المخلوقين و لا يعلم العباد كنهها.
وانظر التعليق (65)
78 – (11 / 343) قال الحافظ : "قوله: (يتقرب إليَّ): التقرب طلب القرب؛ قال أبوالقاسم القشيري: قرب العبد من ربه يقع أولا بإيمانه، ثم بإحسانه. وقرب الرب من عبده ما يخصه به في الدنيا من عرفانه، وفي الآخرة من رضوانه، وفيما بين ذلك من وجوه لطفه وامتنانه. ولا يتم قرب العبد من الحق إلا ببعده من الخلق. قال: وقرب الرب بالعلم والقدرة عام للناس، وباللطف والنصرة خاص بالخواص، وبالتأنيس خاص بالأولياء....".
على حديث رقم 6502
انظر التعليق (67)
79 – (11 / 358) قال: "قال العلماء: محبة الله لعبده إرادته الخير له وهدايته إليه وإنعامه عليه، وكراهته له على الضد من ذلك".
وذلك في كلامه على كتاب الرقاق ، باب 41 ( من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه).
هذا تأويل وصرف للكلام عن ظاهره بغير دليل .
انظر : التعليق (66) و(74)
80 – (11 / 404) قال الحافظ : "ومعنى قوله: (لا يرضى) أي لا يشكره لهم، ولا يثيبهم عليه، فعلى هذا فهي صفة فعل، وقيل: معنى الرضا أنه لا يرضاه دينا مشروعا لهم، وقيل: الرضا صفة وراء الإرادة، وقيل: الإرادة تطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا، والثانية أخص من الأولى، والله أعلم، وقيل: الرضا من الله إرادة الخير، كما أن السخط إرادة الشر...". على حديث رقم 6538
قال الشيخ البراك: الصواب أن الرضا ضده السخط كما قال تعالى: "ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه فأحبط أعمالهم" [محمد28] والرضا يتضمن المحبة، والسخط يتضمن البغض؛ فمعنى قوله: "ولا يرضى لعباده الكفر" [الزمر7] أنه لا يرضاه و لا يحبه بل يسخطه ويبغضه ، وتفسير نفي الرضا بعدم الشكر غير لائق؛ فإن ذلك لا يدل على قبح الكفر ولا يقتضي عقابًا بخلاف نفي المحبة والرضا، والله سبحانه قد وصف نفسه بالمحبة والرضا، وأنه يمقت الكافرين ويسخط عليهم، وأهل السنة والجماعة يثبتون هذه الصفات لله تعالى على الحقيقة اللائقة به سبحانه، وتأويلها بالإرادة أو ببعض المخلوقات هو طريقة أهل التأويل من الأشاعرة وغيرهم ؛ لأن مذهبهم نفي هذه الصفات عن الله تعالى .
وقول من قال: "الرضا صفة وراء الإرادة": يعني أنها غيرها، وهو قول صحيح.
وقول من قال: "الإرادة تطلق بإزاء شيئين: إرادة تقدير، وإرادة رضا" هو معنى قول أهل السنة: الإرادة من الله نوعان: إرادة كونية؛ وهي المتعلقة بجميع الكائنات، وهي بمعنى المشيئة؛ كقوله تعالى: "فعال لما يريد" [البروج16] ، وإرادة شرعية؛ وهي المتعلقة بما يحبه ويرضاه؛ كقوله تعالى: "يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر" [البقرة185] .
81 – (11 / 434) قال الحافظ: وقال عياض: استدل بهذا الحديث من جوز الخطايا على الأنبياء..... واختلفوا فيما عدا ذلك كله من الصغائر، فذهب جماعة من أهل النظر إلى عصمتهم منها مطلقا....".على حديث رقم 6565
قال الشيخ البراك : أجمع العلماء على عصمة الأنبياء فيما يبلغونه عن الله تعالى، وأنهم معصومون من الإقرار على الخطأ، أو الإصرار على شيء من الذنوب. وجمهور العلماء على أنه تجوز عليهم الصغائر، وهذا التفصيل هو الصواب .
وانظر التعليق (69)
82 – (11 / 441) قال الحافظ: "وفيه جواز إطلاق الغضب على الله، والمراد به ما يظهر من انتقامه ممن عصاه، وما يشاهده أهل الموقف من الأهوال التي لم يكن مثالها ولا يكون، كذا قرره النووي، وقال غيره: المراد بالغضب لازمه، وهو إرادة إيصال السوء للبعض..".
على حديث رقم 6565
قال الشيخ البراك : الحق أن الله سبحانه موصوف بالغضب حقيقة كما وصف به نفسه، ووصفه به رسوله r ، والقول فيه كالقول في سائر الصفات؛ وهو وجوب الإثبات ونفي التمثيل، ونفي العلم بالكيفية. وتأويله بإرادة إيصال السوء عدول عن ظاهر هذا اللفظ بغير موجب، وهذه طريقة كثير من الأشاعرة فيما ينفونه عن الله من الصفات زاعمين أن إثباتها يستلزم التشبيه مع إثباتهم للصفات السبع، فكانوا لذلك متناقضين ومفرقين بين المتماثلات؛ إذ القول في بعض الصفات كالقول في بعض.
83 – (11 / 444) قال الحافظ: "وقوله: (الله يستهزئ بهم) أي ينزل بهم جزاء سخريتهم واستهزائهم.." على حديث رقم 6571 .
قال الشيخ البراك : معنى هذا أن الله سبحانه لا يستهزئ بالمنافقين حقيقة، وإنما سمى جزاءه لهم استهزاء مشاكلة لفظية، والصواب أن الله تعالى يستهزئ بالمنافقين حقيقة، وتلك سنته في الجزاء؛ وهي أنه من جنس العمل.
ومثل الاستهزاء من الله تعالى الخداع والمكر؛ فقد أخبر سبحانه أنه يخدع المنافقين ويمكر بالكافرين؛ قال الله تعالى: "إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم" [النساء142] ، وقال سبحانه: "ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين" [الأنفال30] . وكل هذه الأفعال من الله تعالى ذكرت جزاءً على خداع المنافقين واستهزائهم ومكر الكافرين، وهي من الله سبحانه عدل وكمال؛ لأنها من المجازاة بالمثل، وما قبوله تعالى لعلانية المنافقين وإعطائهم النور لهم يوم القيامة مع المؤمنين ثم إطفائه عليهم، وما استدراجه للكافرين والمنافقين إلا من ذلك المكر والاستهزاء جزاء وفاقًا.
84 – (11 / 444) قال الحافظ: قال البيضاوي: نسبة الضحك إلى الله تعالى مجاز بمعنى الرضا...". على حديث رقم 6571 .
قال الشيخ البراك : الصواب أن الله تعالى يضحك حقيقـة ضحكًا يليـق بجلالـه، والقـول فيـه كالقول في سائر الصفات.
وانظر التعليق (20) و(21)
85 – قال الحافظ (11 / 447) "يقول(تضامون) بضم أوله وتشديد الميم يريد: لا تجتمعون لرؤيته في جهة ولا ينضم بعضكم إلى بعض؛ فإنه لا يرى في جهة، ومعناه بفتح أوله: "لا تتضامون في رؤيته بالاجتماع في جهة، وهو بغير تشديد من الضيم معناه: لا تظلمون فيه برؤية بعضكم دون بعض؛ فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق ، باب 52 .
قال الشيخ البراك : قوله: "فإنه لا يرى في جهة...": معنى ذلك أنه لا يرى في العلو؛ فلا يرى من فوق و لا من تحت و لا أمام و لا خلف و لا يمين و لا شمال، وهذا قول باطل في العقل والشرع؛ فالمرئي رؤية بصرية لا بد أن يكون في جهة من الرائي، وهذا القول في الرؤية هو حقيقة قول الأشاعرة، وهو مبني على باطل، وهو نفي علو الله تعالى على خلقه واستوائه على عرشه، فكانوا في الرؤية متذبذبين بين النفاة والمثبتين، بل هم أقرب إلى نفاة الرؤية كالمعتزلة.
وقوله: "فإنكم ترونه في جهاتكم كلها": يناقض القول بأنه تعالى لا يرى في جهة، فتبين أن قول الأشاعرة في الرؤية متناقض ومناقض للعقل والشرع، وهذا شأن الباطل، وفي هذا الحديث دلالة على أنه سبحانه يراه المؤمنون في جهة العلو؛ لقوله: (فإنكم ترونه كذلك)، أي كما ترون الشمس والقمر، وهما يريان في العلو؛ فرؤيتهما بصرية ومن غير إحاطة والله تعالى يرى كذلك، كما أخبر بذلك أعلم الخلق به صلى الله عليه وسلم.
86 – (11 / 450) قال الحافظ : "وأما نسبة الإتيان إلى الله تعالى فقيل: هو عبارة عن رؤيتهم إياه؛ لأن العادة أن كل من غاب عن غيره لا يمكنه رؤيته إلا بالمجيء إليه، فعبر عن الرؤية بالإتيان مجازا، وقيل الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه سبحانه وتعالى عن سمات الحدوث . وقيل: فيه حذف، وتقديره: يأتيهم بعض ملائكة الله، ورجحه عياض، قال: ولعل هذا الملك جاءهم في صورة أنكروها لما رأوا فيها من سمة الحدوث الظاهرة على الملك؛ لأنه مخلوق".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق، باب 52 .
قال الشيخ البراك : الإتيان من الله تعالى والمجيء فعل من أفعاله سبحانه التي تكون بمشيئته كما قال تعالى: "فعال لما يريد" [البروج16] ، وقال: "ويفعل الله ما يشاء" [إبراهيم27]. وقد أخبر سبحانه في كتابه الكريم أنه يجيء ويأتي، وتأتي ملائكته؛ وذلك للفصل بين عباده يوم القيامة؛ قال تعالى: "وجاء ربك والملك صفًا صفًا" [الفجر22]، وقال: "هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك...الآية" [الأنعام158] .
وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث أن هذه الأمة تبقى فيأتيهم الله في غير الصورة التي يعرفون، ثم يأتيهم في الصورة التي يعرفون. وهذا كله حق على حقيقته ليس هناك ما يوجب صرفه عن ظاهره، فلذلك كان من مذهب أهل السنة إثبات المجيء لله عز وجل والإتيان، وإثبات الصورة له سبحانه، كما أثبتوا له سائر الصفات والأفعال؛ إثباتًا بلا تشبيه ولا تكييف. وأما نفي حقيقة المجيء والإتيان ونفي الصورة عن الله تعالى فهو مذهب الجهمية، وتبعهم على ذلك المعتزلة والأشاعرة؛ ولذلك احتاجوا إلى تأويل هذه النصوص بما ذكره الحافظ، وهي تأويلات حقيقتها تحريف الكلم عن مواضعه؛ إذ ليس لهم من دليل عقلي ولا نقلي يوجب صرف هذه النصوص عن ظاهرها إلا ما هو من جنس حجة الجهمية في نفي جميع الأسماء والصفات، وهي حجة داحضة، ومذهب ظاهر الفساد .
وأما قوله: "وقيل: الإتيان فعل من أفعال الله تعالى يجب الإيمان به مع تنزيهه...إلخ": فيحتمل أنه حكاية لمذهب أهل السنة المثبتين لحقيقة الإتيان كما تقدم، ويحتمل أنه حكاية لمذهب أهل التفويض من النفاة؛ وهم الذين يثبتون اللفظ ويفوضون المعنى، وهو مذهب باطل كمذهب أهل التأويل؛ فإنهما يقومان على النفي والتعطيل.
87 – (11 / 450) قــال الحافظ : "وعبر عن الصفة بالصورة....بقوله: يكشف عن ساق: أي عن شدة...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق، باب 52 .
انظر التعليق : (16) (52) .
88 – (11 / 451) قال الحافظ : "ومعنى كشف الساق زوال الخوف والهول...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6573 ، كتاب الرقاق، باب 52 .
قال الشيخ البراك : تفسير الكشف عن الساق بزوال الخوف والهول فيه نظر؛ فإن المشهور في معنى يكشف عن ساق أنه كناية عن شدة الأمر والهول كما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما، ويبدو أن الذي فسره بزوال الشدة توهمه من لفظ الكشف. والذي جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما محتمل في الآية، ولكن جاء في السنة ما يبين أن المراد كشف الله تعالى عن ساقه بلفظ الإضافة، فيدل على إثبات الساق لله سبحانه، وهو أولى ما تفسر به الآية؛ فإن سياق الحديث موافق لسياق الآية لفظًا ومعنى.
وانظر التعليق (52)
89 – (11 / 490) قال الحافظ: "إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء" فمن لم يشرك فهو داخل في المشيئة. واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق، لأنه دل على أن الله كلف العباد كلهم بالإيمان مع أنه قدر على بعضهم أن يموت على الكفر ..".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6594 ، كتاب القدر ، باب 1 .
قال الشيخ البراك : قوله: "واستدل به الأشعري في تجويزه تكليف ما لا يطاق...إلخ": تقدم أن ما لا يطاق يطلق على معان؛ ومنها: ما علم الله عز وجل أنه لا يكون وهو ممكن في ذاته ومما تعلق به القدرة؛ فالتكليف به من التكليف بما لا يطاق عند الجبرية. وما ذكر عن الأشعري من تجويز التكليف بما لا يطاق هو جار على هذا الأصل.
وانظر التعليق (62) .
90 – (11 / 490) قال الحافظ: " وللعبد قدرة غير مؤثرة في المقدور، وأثبت بعضهم أن لها تأثيرًا لكنه يسمى كسبا، وبسط أدلتهم يطول....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6594 ، كتاب القدر، باب 1 .
قال الشيخ البراك : معناه أن قدرة العبد غير مؤثرة في فعله، وما العلاقة بينهما إلا الاقتران. وهذا تحقيق قول الأشاعرة في أفعال العباد، وهذا يرجع إلى أصل كبير عندهم وهو نفي تأثير الأسباب في المسببات، وأن الأسباب محض أمارات على مسبباتها، وهذا مذهب الجبرية في الأسباب، وقول الأشاعرة في أفعال العباد راجع عند التحقيق إلى قول الجبرية؛ فإن إثبات قدرة ومشيئة لا تأثير لها لا معنى له. وأما أهل السنة والجماعة فيثبتون للعبد قدره ومشيئة مؤثرة في فعله، ولكن مشيئته موقوفة على مشيئة الله تعالى؛ كما قال عز وجل: "لمن شاء منكم أن يستقيم وما تشاءون إلا أن يشاء الله رب العالمين" [التكوير28، 29]. فالعبد فاعل حقيقة، والله خالقه وخالق أفعاله؛ فهي أفعال للعبد حقيقة ومفعولة لله تعالى؛ فالعبد هو المصلي والصائم والبر والفاجر والمؤمن والكافر؛ كل ذلك حقيقة. وما ذكره الحافظ رحمه الله تعالى عن بعضهم أنه أثبت أن لها تأثيرًا لكنه يسمى كسبًا يشبه أن يقول: هو قول أهل السنة الذي تقدم ذكره، وهم يسمون أفعال البعاد كسبًا كما سماه الله سبحانه وتعالى؛ فهي أفعالهم وأعمالهم وأكسابهم كما قال تعالى: "لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت" [البقرة286]، وقوله سبحانه: "جزاء بما كانوا يعملون" [السجدة17] ، وقوله عز وجل: "ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون" [الزمر70] .
91 – (11 / 507) قال الحافظ : "... وإضافة الله خلق آدم إلى يده في الآية إضافة تشريف.".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6614 ، كتاب القدر، باب 11 .
قال الشيخ البراك : أما إضافة الروح التي نفخت في آدم إلى الله فهي من إضافة المخلوق إلى خالقه، لا من إضافة الصفة إلى الموصوف؛ إذن فإضافتها إلى الله تعالى إضافة تشريف كما ذكر الحافظ رحمه الله تعالى.
وأما إضافة خلق آدم إلى يديه سبحانه فلأن خلقه كان باليدين، وفي هذا تشريف لآدم على سائر المخلوقات. وقد دل على هذه الفضيلة لآدم عليه السلام الكتاب والسنة المتواتر؛ قال تعالى: "ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي" [ص75]، وهذا التركيب لا يحتمل إلا الخلق باليدين، وهذا بينٌ على منهج أهل السنة والجماعة المثبتين لليدين وسائر صفات الله تعالى، وأما الذين ينفون حقيقة اليدين عن الله تعالى ويتأولونها في الآية بالقدرة أو النعمة، فعلى قولهم لا يكون لآدم خصوصية ومزية على غيره، فلا تكون إضافة الخلق إلى اليدين تشريف حقيقي بل تشريف لفظي.
وقول الحافظ في هذه الإضافة: "إضافة تشريف" لفظه يحتمل التشريف الحقيقي والتشريف اللفظي، وحمله على الثاني هو الموافق لطريقته رحمه الله تعالى، ولذلك لم يفرق بين إضافة خلق آدم ليده، وإضافة الروح إليه سبحانه.
92 – (11 / 527) قال الحافظ: "وفيه جواز تسمية الله تعالى بما ثبت من صفاته على الوجه الذي يليق به..".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6628 ، كتاب الأيمان والنذور، باب 3 .
قال الشيخ البراك : في هذا الإطلاق نظر، والقاعدة الصحيحة أن الله عز وجل لا يسمى إلا بما سمى به نفسه أو سماه به الرسول r ، وأن كل اسم ثبت لله تعالى فهو متضمن لصفة؛ فأسماؤه تعالى أعلام وصفات، ليست أعلامًا محضة كما تقول المعتزلة؛ فالعزيز دال على ذات الرب سبحانه وصفة العزة، والقدير دال على الذات وصفة القدرة، وهكذا سائر الأسماء، وأما الصفات فلا يشتق له تعالى من كل صفة اسم، بل يقتصر في ذلك على ما ورد؛ فلا يسمى سبحانه بالغاضب والراضي والمدمر والمهلك والماكر لورود هذه الأفعال في صفاته، والحديث إنما يدل على إثبات هذا الاسم: ( مقلب القلوب ) لا يدل على القاعدة التي أطلقها الحافظ رحمه الله تعالى، والحافظ نفسه قد منع ذلك .
وانظر التعليق (75).
93 – (11 / 562) قال الحافظ : "ولا ينظر الله إليه" قال في الكشاف: هو كناية عن عدم الإحسان إليه عند من يجوز عليه النظر، مجاز عند من لا يجوزه، والمراد بترك التزكية ترك الثناء عليه، وبالغضب إيصال الشر إليه ...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 6676 ، كتاب الأيمان والنذور، باب 17 .
قال الشيخ البراك : الصواب أن الله تعالى ينظر إلى من يشاء حقيقة، ويغضب على من يشاء حقيقة، وما ذكره الحافظ عن صاحب الكشاف تأويل مخالف لظاهر اللفظ، وهو مناسب لمذهبه الاعتزالي، وهو نفي الصفات عن الله تعالى، ويوافقهم الأشاعرة على نفي حقيقة النظر، وحقيقة الغضب، وأكثر الصفات .
وانظر التعليق رقم (60)
94 – (12 / 428) قال الحافظ : " وقال المهلب في قوله : " كلف أن يعقد بين شعيرتين ، حجة للأشعرية في تجويزهم تكليف ما لا يطاق ، ومثله في قوله تعالى : " يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون " وأجاب من منع ذلك بقوله تعالى : " لا يكلف الله نفسا إلا وسعها " أو حملوه على أمور الدنيا ، وحملوا الآية والحديث المذكورين على أمور الآخرة ، انتهى ملخصا . والمسألة مشهورة فلا نطيل بها " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7042 ، كتاب التعبير ، باب 45 .
انظر تفصيل القول في تكليف ما لا يطاق في التعليق (62) (89).
95 – (13 / 203) قال الحافظ : " ومعنى لا ينظر إليهم : يعرض عنهم ، ومعنى نظره لعباده : رحمته لهم ولطفه بهم ... " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7212 ، كتاب الأحكام ، باب 48 .
انظر التعليق (60) (93).
96 – (13 / 254) قال الحافظ : " وقال ابن عبد السلام في أواخر القواعد : البدعة خمسة أقسام : " فالواجبة " كالاشتغال بالنحو الذي يفهم به كلام الله ورسوله ، لأن حفظ الشريعة واجب ، ولا يتأتى إلا بذلك ، فيكون من مقدمة الواجب ، وكذا شرح الغريب ، وتدوين أصول الفقه ، والتوصل إلى تمييز الصحيح والسقيم . " والمحرمة " : ما رتبه من خالف السنة من القدرية والمرجئة والمشبهة . " والمندوبة " : كل إحسان لم يعهد عينه في العهد النبوي كالاجتماع عند التراويح ، وبناء المدارس والربط ، والكلام في التصوف المحمود ، وعقد مجالس المناظرة إن أريد بذلك وجه الله . " والمباحة " كالمصافحة عقب صلاة الصبح والعصر ، والتوسع في المستلذات من أكل وشرب وملبس ومسكن ، وقد يكون بعض ذلك مكروها أو خلاف الأولى ، والله أعلم " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7277 ، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة ، باب 2 .
قال الشيخ البراك : هذا التقسيم يصح باعتبار البدعة اللغوية، وأما البدعة في الشرع فكلها ضلالة كما قال صلى الله عليه وسلم : "وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة" ومع هذا العموم لا يجوز أن يقال: من البدع ما هو واجب، أو مستحب أو مباح، بل البدعة في الدين إما محرمة أو مكروهة، ومن المكروه مما قال عنها إنها بدعة مباحة: تخصيص الصبح والعصر بالمصافحة بعدهما.
وانظر التعليق (15)
97 – (13 / 344) قال الحافظ : "وأما أهل السنة، ففسروا التوحيد بنفي التشبيه والتعطيل. قال الجنيد فيما حكاه أبوالقاسم القشيري: (والتوحيد إفراد القديم من المحدث..)". وذلك في كلامه على مقدمة كتاب التوحيد .
قال الشيخ البراك : يريد بأهل السنة في مقابل الجهمية والمعتزلة: الأشاعرة، ولا ريب أن الأشاعرة أقرب في باب الصفات إلى أهل السنة والجماعة؛ إذ يثبتون بعض الصفات كالحياة والسمع والبصر، لذلك لم يكونوا من المعطلة مطلقًا، وهم الذين ينفون جميع الصفات أو الصفات والأسماء؛ فالتحقيق أن الأشاعرة من المنتسبين للسنة لا من أهل السنة المحضة؛ لأنهم يخالفون أهل السنة في بعض أصول الاعتقاد: كنفيهم لأكثر الصفات، وأن الإيمان هو التصديق، وأن القرآن عبارة عن كلام الله تعالى.
وتفسير التوحيد الذي ذكره الحافظ عنهم قاصر ومجمل؛ إذ لم يتعرض فيه لتوحيد العبادة الذي هو المقصود الأعظم من شهادة "لا إله إلا الله" وكانت الخصومة فيه بين الرسل وأممهم.
وأما الإجمال؛ فإن نفي التشبيه تدَّعيه الجهمية والمعتزلة، ويريدون به نفي الصفات، ويسمون ذلك توحيدًا، ويسمون إثبات الصفات تشبيهًا، وقد شاركهم الأشاعرة هذا المعنى في أكثر الصفات. والصواب أن توحيد الأسماء والصفات هو إثبات ما أثبته الله لنفسه وأثبته له رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تحريف ولا تعطيل ولا تكييف ولا تمثيل، والله الهادي إلى سواء السبيل.
98 – (13 / 345) قال الحافظ : "وقال ابن بطال: تضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم، لأن الجسم مركب من أشياء مؤلفة....".
وذلك في كلامه على مقدمة كتاب التوحيد.
قال الشيخ البراك : إطلاق نفي الجسم عن الله تعالى هو من مذهب نفاة الصفات من الجهمية والمعتزلة وكذلك الأشاعرة، وأما أهل السنة والجماعة فلا يطلقون لفظ الجسم على الله تعالى لا نفيًا ولا إثباتًا؛ وذلك أنه لفظ مجمل لأن له عدة معانٍ منها: ما يجب إثباته لله تعالى كالموجود والقائم بنفسه، ومنها: ما يجب نفيه كالمركب من الجواهر المفردة. ولهذا كان الواجب في مثل هذا هو الاستفصال ممن تكلم به عن مراده؛ فإن أراد حقًا قبل، وإن أراد باطلاً ردّ. هذا ولفظ الجسم مما لم يرد في كتاب ولا سنة، وعلى هذا فإطلاق نفيه أو إثباته في صفات الله تعالى من المحدثات في باب الأسماء والصفات.
وقول ابن بطال: "وتضمنت ترجمة الباب أن الله ليس بجسم" يريد أن التوحيد الذي يجب لله تعالى يتضمن نفي أن يكون الله جسمًا؛ لأن الجسم عنده هو المركب من أشياء مؤلفة. وهذا هو معنى من قال: إن الجسم هو المركب من الجواهر المفردة، وهذا هو أحد معاني الجسم الاصطلاحية كما سبق.
وعند الجهمية والمعتزلة: الجسم: ما تقوم به الصفات، والأجسام عندهم متماثلة؛ فلذلك نفوا الصفات عن الله تعالى حذرًا من التجسيم والتشبيه، وسموا نفي الصفات توحيدًا، وسموا إثباتها تشبيهًا وتجسيمًا وتركيبًا. وكل ذلك من تشويه الحق وتزويق الباطل تمويهًا وتضليلاً.
99 – (13 / 357) قال الحافظ: "وقال المازري ومن تبعه: محبة الله لعباده إرادة ثوابهم وتنعيمهم، ـ إلى قوله ـ وفاعلها يرجع إلى إرادته إهانته " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7375 ، كتاب التوحيد ، باب 1 .
قال الشيخ البراك : تقدم في تعليقات سابقة أن من مذهب أهل السنة والجماعة أن الله يُحِبُّ ويُحَبُّ حقيقة، كما قال سبحانه وتعالى في القوم الذين أثنى عليهم: "فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه" [المائدة 54]، وقال: "قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله" [آل عمران 31]. وما ذكره الحافظ من الأقاويل في تفسير محبة الله لعباده أو محبتهم له هو من التأويل المذموم الذي هو صرف اللفظ عن ظاهره بغير حجة توجب ذلك. وهذه التأويلات مبنية على أن الله تعالى لا يُحِبُّ ولا يُحَبُّ حقيقة، وهذا عين ما تقوله الجهمية. وأما الأشاعرة فينفون المحبة من جهة الله تعالى، وأهل التأويل منهم يفسرونها بالإرادة أو الإثابة كما ذكر هنا. وأما المحبة من جهة العبد، فمنهم من يثبتها كما ذكر عن المازري، ومنهم من يتأولها كما ذكر عن ابن التين.
وانظر التعليقات (66) و (74)
100 – (13 / 358) قال الحافظ : " قال ابن بطال : .... والمراد برحمته إرادته نفع من سبق في علمه أنه ينفعه .... وقيل : يرجعان إلى معنى الإرادة ، فرحمته إرادته تنعيم من يرحمه ، وقيل : راجعان إلى تركه عقاب من يستحق العقوبة " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7377 ، كتاب التوحيد ، باب 2 .
قال الشيخ البراك : تفسير الرحمة بالإرادة يتضمن نفي حقيقة الرحمة عن الله تعالى، وهذا مصادم لما أخبر الله به ورسوله من اتصافه بالرحمة كما قال تعالى: "وربك الغفور ذو الرحمة" [الكهف 58]، وكما دل على ذلك الاسمان الكريمان: الرحمن الرحيم .
ونفي حقيقة الرحمة وتفسير ما ورد بالإرادة أو الإثابة جمع بين التعطيل والتحريف. وهذا منهج أهل التأويل من الأشاعرة ونحوهم في كل الصفات التي ينفونها كما سبق التنبيه على ذلك في مواضع سابقة، والواجب إثبات صفة الرحمة لله حقيقة على ما يليق به كما هو الواجب في إثبات ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم دون تفريق بين الصفات. وهذا هو ما مضى عليه السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
وانظر التعليق (65) (77) .
101 – (13 / 359) قال الحافظ : "ولو قال من ينسب إلى التجسيم من اليهود: لا إله إلا الذي في السماء لم يكن مؤمنا كذلك، إلا إن كان عاميًا لا يفقه معنى التجسيم فيكتفى منه بذلك، كما في قصة الجارية التي سألها النبي صلى الله عليه وسلم: "أنت مؤمنة؟" قالت: نعم، قال: "فأين الله؟" قالت: في السماء، فقال: "أعتقها فإنها مؤمنة" ، وهو حديث صحيح أخرجه مسلم.... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7377 ، كتاب التوحيد، باب 2.
قال الشيخ البراك : معناه أن اليهود يقرون بأن الله في السماء - يعني في العلو- وهذا عند المعطلة نفاة العلو تجسيم؛ أي أن الله لو كان في السماء لزم أن يكون جسمًا، ومن مذهبهم أن الله تعالى ليس بجسم، فوجب نفي ما يستلزم الجسمية، ومن ذلك العلو على المخلوقات؛ فلذلك نسبوا اليهود إلى التجسيم والتشبيه. ونسبوا كذلك إلى التجسيم أهل السنة المثبتين للعلو وسائر الصفات، لذلك هم يشَبِّهون أهل السنة باليهود.
وإثبات اليهود للعلو هو من الحق الذي جاءهم به موسى عليه السلام، كما جاءت به سائر الرسل، وجاء به خاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم ، وتنوعت أدلته في الكتاب والسنة، ودلت عليه الفطر والعقول السليمة. وكفر اليهود لا يقدح فيما يقرون به من الحق، وأما إطلاق لفظ الجسم على الله تعالى نفيًا أو إثباتًا فقد تقدم قريبًا القول فيه، وبينَّا هناك مذهب أهل السنة والجماعة في ذلك.
انظر التعليق (98) .
102 – (13 / 368) قال الحافظ: "وفي الحديث إثبات اليمين صفة لله تعالى من صفات ذاته وليست جارحة، خلافًا للمجسمة.انتهى ملخصا ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7382، كتاب التوحيد، باب 6.
قال الشيخ البراك : لفظ الجارحة في صفات الله تعالى لفظ محدث؛ فلم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، ولهذا أهل السنة يثبتون اليدين والعينين ونحوهما من الصفات لله تعالى، ويقولون: إن ذلك حقيقة، ولا تماثل صفات المخلوقين، ولا يقولون في هذه الصفات إنها ليست جارحة؛ لأنه لفظ محدث ومجمل، والغالب على من يقول عن هذه الصفات أنها ليست جارحة نفي حقائقها، ثم إما أن يثبت ألفاظها ويفوض معانيها، وإما أن يتأولها بخلاف ظاهرها كتأويل اليدين بالقدرة، والعينين بالرؤية، ومن أثبت هذه الصفات لله تعالى على حقيقتها اللائقة به سبحانه وقال: إنها ليست بجارحة، وأراد بالجارحة ما يماثل صفات المخلوقين فقد أصاب فيما أراد من النفي، ولكنه أخطأ في التعبير عن ذلك بلفظ محدث مجمل يحتمل حقاً وباطلاً.
وانظر التعليقات (2) و(6) و(13)و (53)
103 – (13 / 374-375) قال الحافظ: "وليس المراد قرب المسافة؛ لأنه منزه عن الحلول كما لا يخفى، ومناسبة الغائب ظاهرة من أجل النهي عن رفع الصوت...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7386، كتاب التوحيد، باب 9.
قال الشيخ البراك: القرب في هذا الحديث هو القرب الخاص؛ وهو قربه سبحانه من عابديه وداعيه، ولا يلزم من هذا القرب حلول الرب سبحانه في شيء من المخلوقات، كما لا يلزم من نزوله سبحانه إلى السماء الدنيا كل ليلة علو سائر السماوات عليه؛ بل هو العلي الأعلى، وهو الظاهر الذي ليس فوقه شيء؛ فعلوه سبحانه فوق المخلوقات من لوازم ذاته، فنزوله وقربه لا ينافي علوه، بل هو سبحانه عال في دنوه قريب في علوه، فلا يقاس بخلقه، ولا يلزم من صفاته سبحانه ما يلزم في صفات المخلوقين، وعلى هذا فقوله: "وليس المراد قرب المسافة" احتراز لا حاجة إليه، وتقييد لا موجب له؛ لأنه مبني على أن قربه يستلزم الحلول، وهو ممنوع كما تقدم .
104 – (13 / 377) قال الحافظ: "وجواز اشتقاق الاسم له تعالى من الفعل الثابت".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7391، كتاب التوحيد، باب 11.
قال الشيخ البراك: هذا لا يصح على الإطلاق ؛ فالقاعدة الصحيحة أن كل اسم من أسماء الله تعالى الثابتة في الكتاب والسنة متضمن لصفة من الصفات خلافاً للمعتزلة، وأما الصفات الفعلية فلا يشتق لله تعالى من كل صفة اسم؛ فلا يطلق على الله تعالى المدمر والمدمدم، والغاضب، والراضي لثبوت هذه الأفعال في حقه سبحانه تعالى، لكن ما ورد من الأسماء مشتق من بعض أفعاله وجب إثباته والاقتصار عليه؛ مثل: الخلاق، والرزاق، ومقلب القلوب .
وقد يسهل فيما مطلقه مدح من الأفعال؛ كالمنعم والمحسن من الإنعام والإحسان، وقد ورد لفظ المحسن في بعض الأحاديث.
105 – (13 / 379) قال الحافظ: "قوله: (باب السؤال بأسماء الله والاستعاذة بها) قال ابن بطال: مقصوده بهذه الترجمة تصحيح القول بأن الاسم هو المسمى ...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 13 .
قال الشيخ البراك: الجزم بأن هذا هو مقصود البخاري فيه نظر، ولم يذكر ابن بطال دليلاً على ما قال. نعم المراد بالأسماء في قول البخاري: السؤال بأسماء الله المسمى بها؛ فالمراد بقول الداعي: يا الله، يا رحمن، يا حي، يا قيوم: المسمى بهذه الأسماء، وهو رب العالمين، ولا يلزم من ذلك تصحيح البخاري للقول بأن الاسم هو المسمى مطلقاً؛ فإن الصواب في هذه المسألة أن الاسم قد يراد به المسمى، وقد يراد به غير المسمى، وهو اللفظ كقولك: الله مشتق، وأصله الإله، والرحمن عربي.
فأسماء الله تعالى إذا وردت في سياق الدعاء والاستعاذة فالمراد بها المسمى، وإذا وردت في مقام التعداد واختلاف الدلالات فالمراد بها الأسماء الدالة على المسمى؛ كما قال صلى الله عليه وسلم : "إن لله تسعًا وتسعين اسمًا" .
وقول ابن بطال: "فلذلك صحت الاستعاذة بالاسم كما تصح بالذات" هذا يقتضي أن الأصل في الاستعاذة الاستعاذة بذات الله تعالى؛ كأن يقول: أعوذ بذات الله. وهذا اللفظ لم يرد، نعم ورد معناه في قوله صلى الله عليه وسلم : "وأعوذ بك منك"، وأما غالب ما ورد من ألفاظ الاستعاذة فبأسماء الله وصفاته.
وقوله: "ويطلق الاسم ويراد به التسمية …إلخ" فيه نظر كذلك؛ فإن التسمية هي فعل المسمِّي، وهو وضع الاسم للمسمى، أو إطلاق الاسم على من سمي به. إذن فالأمور ثلاثة: 1- الاسم: وهو اللفظ الدال.
2- والمسمى: وهو المدلول.
3- والتسمية: هي وضع الاسم للمسمى أو إطلاقه عليه كما تقدم.
وبهذا يعلم أنه ليس المراد بالاسم في حديث الأسماء: التسمية، خلافاً لما قال ابن بطال، بل المراد اللفظ الدال على ذات الرب، وصفته سبحانه كالعزيز، والحكيم، والسميع، والبصير.
فأسماء الله كلها دالة على ذاته، وكل اسم دال على صفة من صفاته؛ فهي متحدة في دلالتها على الذات متعددة متباينة في دلالتها على الصفات.
106 – (13 / 382) قال: "قال ابن بطال: أسماء الله تعالى على ثلاثة أضرب.... والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل أن صفات الذات قائمة به، وصفات الفعل ثابتة له بالقدرة، ووجود المفعول بإرادته جل وعلا ... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7402، كتاب التوحيد، باب 14 .
قال الشيخ البراك: في هذا الكلام عدة مآخذ:
الأول: قوله:"أحدها يرجع إلى ذاته وهو الله": فإنه يقتضي أن هذا الاسم (الله) لا يدل إلا على ذات الرب سبحانه، ولا يدل على صفة؛ لأنه اسم جامد غير مشتق.
والصواب أنه مشتق من (أله) بمعنى: عبد، وأن أصل (الله): الإله، فحذفت الهمزة، وأدغمت اللام في اللام مفخمة، فمعناه: الإله أي المعبود، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: الله ذو الألوهية، وعلى هذا فهو دال على ذات الرب سبحانه وصفة الألوهية. ومع ذلك فهو عَلَم على الرب تعالى لا يطلق على سواه .
الثاني: قوله: "والفرق بين صفات الذات وصفات الفعل... إلخ": هذا الفرق مضمونه: أن الصفات الفعلية لا تقوم به سبحانه، وهذا هو المعروف من مذهب الأشاعرة الذين لا يثبتون إلا سبعًا من الصفات، وما عداها يفسرونه ببعض الصفات السبع كالقدرة والإرادة، أو يفسرونه ببعض المفعولات أي المخلوقات؛ مثل المحبة، والرضا، والغضب، فإنهم يفسرونها إما بالإرادة أو ببعض المفعولات من النعم والعقوبات، فعندهم أنه تعالى لا يقوم به ما تتعلق به مشيئته.
ومذهب أهل السنة والجماعة أن صفات الله الفعلية قائمة به كالصفات الذاتية، والفرق بينهما أن الصفات الذاتية لا تتعلق بها المشيئة، فلا تنفك عنه سبحانه؛ مثل حياته وقدرته، ومثل وجهه ويديه سبحانه وتعالى .
وأما الصفات الفعلية: فهي التي تتعلق بها المشيئة؛ مثل استوائه على عرشه ونزوله إلى السماء الدنيا، ومثل محبته ورضاه .
ومن صفاته تعالى ما هو ذاتي وفعلي كالخلق والكلام؛ فإنه لم يزل خالقًا، ويخلق ما شاء إذا شاء، ولم يزل متكلمًا إذا شاء بما شاء، كيف شاء.
الثالث: قول ابن بطال: "وصفات الفعل ثابتة بالقدرة...إلخ": تقدم أنه هذا يقتضي أن صفات الفعل غير قائمة به، وإذا لم تقم به فكيف يقال: إنها صفات له؟ إذ لا يعقل أن تقوم الصفة بغير الموصوف، وأن يوصف الشيء بغير ما قام به، والحقيقة أنهم لا يثبتون الصفات الفعلية لله تعالى؛ فإطلاقهم صفات الفعل لا حقيقة له، فهم لا يثبتون إلا الفاعل والمفعول؛ كالخالق والمخلوق، ولا يثبتون (الخلق) الذي هو فعل الرب سبحانه. والصواب: إثبات الفعل والفاعل والمفعول.
107 – (13 / 383) قال الحافظ: "والصواب الإمساك عن أمثال هذه المباحث والتفويض إلى الله في جميعها، والاكتفاء بالإيمان بكل ما أوجب الله في كتابه أو على لسان نبيه إثباته له أو تنزيهه عنه على الإجمال، وبالله التوفيق".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7402 ، كتاب التوحيد ، باب 12 .
قال الشيخ البراك: مقصوده ـ رحمه الله تعالى ـ الإمساك عن تأويل نصوص الصفات، وهو تفسيرها بما يخالف ظاهرها، وهذا في حد ذاته سديد؛ لأنه ترك للتأويل الباطل، ولكنه في مقابل ذلك رجح التفويض، وحقيقته: الإعراض عن فهم النصوص، والإيمان بلفظها وتفويض علم معانيها إلى الله تعالى؛ فالإثبات الذي يجب الإيمان به عند المفوضة هو إثبات ألفاظ النصوص دون إثبات ما يدل عليه ظاهرها من الصفات، بل ينفون ما يدل عليه ظاهرها، ومع ذلك يقولون: يجب إجراء النصوص على ظاهرها فيتناقضون، وبذلك يتبين أنه لا فرق بين أهل التأويل وأهل التفويض من حيث نفيهم للصفات التي دلت عليها النصوص من الكتاب والسنة. لكن أهل التأويل يفسرون النصوص بخلاف ظاهرها، وأهل التفويض يمسكون عن ذلك، ولا يثبتون ما تدل عليه. فالمذهبان باطلان، والحق ما عليه أهل السنة والجماعة؛ وهو إثبات ما تدل عليه هذه النصوص من صفات الله تعالى مع نفي مماثلة المخلوقات، وتفويض علم كيفيتها إلى الله تعالى.
108 – (13 / 384) قال الحافظ: قال الراغب: نفسه: ذاته ... وقيل: إن إضافة النفس هنا إضافة ملك، والمراد بالنفس نفوس عباده. انتهى ملخصًا، ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه".
قال الشيخ البراك: ما قاله الراغب في تفسير النفس هو الصواب، والقول الثاني، وهو:"إن إضافة النفس هنا إضافة ملك...إلخ" هو قول باطل؛ لأنه خلاف الآيات التي ورد فيها ذكر النفس، وقد أحسن الحافظ في قوله: "ولا يخفى بعد الأخير وتكلفه".
وقول الراغب: "سبحانه وتعالى عن الاثنينية من كل وجه": هذه من عبارات المعطلة لجميع الصفات كالمعتزلة؛ يقصدون بها أن الله تعالى ليس إلا ذاتًا مجردة عن جميع الصفات؛ لأن إثبات الصفات عندهم يلزم منه التعدد في ذاته. وهذه تنافي حقيقة التوحيد عندهم. وقولهم هذا مخالف للعقل والشرع؛ فقيام الصفات بالموصوف وتعددها لا ينافي أنه واحد؛ فالله تعالى بصفاته إله واحد.
109 - (13/ 384 – 385) قال الحافظ: "وقيل: غيرة الله كراهة إتيان الفواحش؛ أي عدم رضاه بها لا التقدير، وقيل: الغضب لازم الغيرة، ولازم الغضب إرادة إيصال العقوبة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7403 ، كتاب التوحيد ، باب 15 .
قال الشيخ البراك: لا ريب أن غيرة الله سبحانه من الفعل تتضمن كراهته له، والغضب على فاعله، وهذا يدل على قبح الفعل عنده سبحانه، ولذلك يحرمه على عباده. يدل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم : "من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن". والغيرة والكراهة والغضب صفات ثابتة لله تعالى على ما يليق به، وتأويلها بإرادة إيصال العقوبة هي طريقة الأشاعرة الذين لا يثبتون إلا الصفات السبع - ومنها الإرادة - ومعنى ذلك أنه لا يوصف عندهم بهذه الصفات على حقيقتها.
وقوله: "لا التقدير": يظهر أن في هذه اللفظة تصحيف، وأن أصلها: "لا التغير"؛ فإن ذلك هو المناسب لمادة الغيرة.
وانظر التعليق (55)
110 – (13 / 385) قال الحافظ: "والله منزه عن الحلول في المواضع؛ لأن الحلول عرض يفنى وهو حادث، والحادث لا يليق بالله...." .
وقال ابن التين: "معنى العندية في هذا الحديث العلم بأنه موضوع على العرش ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7405 ، كتاب التوحيد ، باب 15 .
قوله صلى الله عليه وسلم "وهو وَضْعٌ عنده على العرش": هذا عند أهل السنة المثبتين لعلو الله على خلقه واستوائه على عرشه ليس بمشكل، بل هذا من أدلتهم على أن الله عز وجل بذاته فوق العرش، وأن هذا الكتاب عنده سبحانه فوق العرش، ولا يلزم من ذلك محذور في حقه سبحانه؛ لا حلول ولا حصر في شيء من مخلوقاته.
وإنما يُشْكِل هذا الحديث وأمثاله مِنْ وصْفِ بعض المخلوقات بأنها عنده على نفاة العلو والاستواء كالأشاعرة؛ فمن قال منهم بأنه سبحانه في كل مكان فقد تناقض أعظم تناقض، ومن قال منهم إنه لا داخل العالم ولا خارجه فقد وصف الله بالعدم؛ فإنه لا يوصف بذلك إلا المعدوم.
وقول ابن بطال وابن التين في تفسير الكتاب والعندية بالعلم في هذا الحديث هو من التأويل المذموم الذي حقيقته صرف الكلام عن ظاهره بغير حجة صحيحة؛ فقد جريا في ذلك على مذهب أهل التعطيل من نفاة العلو، وهو مذهب باطل تضمن التعطيل والتحريف؛ تعطيل الله عز وجل عن ما يجب إثباته له من علوه على خلقه، وتحريف النصوص الدالة على ذلك. ومذهب أهل السنة بريء من هذا وهذا.
111 – (13 / 386) قال الحافظ: "قوله: فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، أي إن ذكرني بالتنزيه والتقديس سرًا ذكرته بالثواب والرحمة سرًا، وقال ابن أبي جمرة: يحتمل أن يكون مثل قوله تعالى: "فاذكروني أذكركم" ومعناه: اذكروني بالتعظيم أذكركم بالإنعام".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7405 ، كتاب التوحيد ، باب 15.
قال الشيخ البراك: هو من الأدلة على أن الجزاء من جنس العمل. والذكر من حيث هو يكون بالقول والفعل، وهو في مثل هذا السياق أظهر في القول، بل حمله على القول في هذا الحديث متعين، لقوله :"في نفسه... في نفسي" وقوله: "في ملأ... في ملأ خير منهم"، فبان بذلك أن الله تعالى يذكر عبده بكلام في نفسه، أي بدون أن يُعلم بذلك أحدًا من ملائكته، وقد يذكره بشهود من شاء من ملائكته مثل ثنائه عليه، والإخبار بأنه يحبه كما في الحديث المشهور: "إذا أحب الله عبدًا نادى جبريلَ إن الله يحب فلانًا فأحبه..." وبهذا يتبين أن تأويل ذكر الله لعبده بالرحمة والثواب، أو الإنعام صرف للكلام عن ظاهره بلا حجة، وكأن الذي قال ذلك يذهب إلى أن الله تعالى لا يتكلم بكلام حقيقي يُسمِعه إذا شاء لمن شاء من عباده، وهذا موجب مذهب الأشاعرة في كلام الله سبحانه، وهو أن معنى كلام الله: معنى نفسي، ليس بحرف ولا صوت فلا يتصور سماعه منه، وهو ظاهر الفساد.
112 – (13/388 - 389) قال الحافظ: "وليس بجارحة ولا كالوجوه التي نشاهدها من المخلوقين.... ولو كانت صفة من صفات الفعل لشملها الهلاك كما شمل غيرها من الصفات وهو محال" .
وذلك في كلامه في كتاب التوحيد ، باب 16 .
قال الشيخ البراك: دلّت الآية والحديث في هذا الباب على أن لله تعالى وجهًا، وأهل السنة والجماعة يثبتون ذلك ويقولون: لله تعالى وجه حقيقة لا كوجوه العباد موصوف بالجلال والإكرام وبالنور، وعلى هذا فما نقله الحافظ عن ابن بطال ظاهره جيد لولا قوله: "ليس بجارحة" فإن أهل السنة لا يطلقون لفظ الجارحة لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأن ذلك لم يرد، ولما فيه من الاحتمال والإجمال.
وأما تفسير الوجه بالذات؛ فإن أريد به أنه عبَّر بالوجه عن الذات مع إثبات حقيقة الوجه، وأنه من صفات الذات فلا مانع من ذلك، وإن أريد به نفي حقيقة الوجه، فهذا مذهب المعطلة نفاة الصفات. وصفة الوجه لله هي من الصفات التي يتفق على نفيها الجهمية والمعتزلة والأشاعرة، وأهل التأويل منهم يفسرون الوجه بالذات كما تقدم أو الثواب، وهذا من التأويل المذموم الذي حقيقته تحريف الكلم عن مواضعه؛ إذ ليس لهذا التعطيل والتأويل من حجة صحيحة.
وانظر التعليق (47)
113 – (13/390) قال الحافظ: " قال ابن المنير: وجه الاستدلال على إثبات العين لله تعالى ... وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم، لا على معنى إثبات الجارحة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7407 ، و 7408 ، كتاب التوحيد ، باب 17 .
قال الشيخ البراك: استدل البخاري بالآيتين والحديث على إثبات العين لله تعالى، وأهل السنة والجماعة يثبتون عينين لا تشبهان أعين المخلوقين، كقولهم في سائر الصفات، ويستدلون لذلك بمثل قوله تعالى:"تجري بأعيننا" وبحديث الدجال .
ووجه الاستدلال أن تنزيه الله تعالى عن العور في قوله صلى الله عليه وسلم : "إن ربكم ليس بأعور" يدل على إثبات العينين لله تعالى وسلامتهما؛ فإن العور هو عمى إحدى العينين، لا عدم العين، خلافًا لما قاله ابن المنير في بيانه لوجه الاستدلال؛ حيث قال: "العور عرفًا عدم العين، وضد العور ثبوت العين".
وأما قوله: "وهو على سبيل التمثيل والتقريب للفهم لا على معنى إثبات الجارحة": فمعناه نفي حقيقة العين عن الله تعالى، وهذا هو مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة.
ولفظ الجارحة لا يطلقه أهل السنة لا نفيًا ولا إثباتًا؛ لأنه من الألفاظ المجملة المبتدعة، فلا يقولون: إن عينه جارحة، أو ليست جارحة. والنافون لحقيقة العين منهم من يفسرها بالبصر كأهل التأويل، ومنهم من لا يتعرض لها بتأويل بل يثبت اللفظ من غير فهم لمعناه، وهم أهل التفويض.
114 – (13/390) قال الحافظ: " قال : ولأهل الكلام في هذه الصفات – كالعين والوجه واليد – ثلاثة أقوال، أحدها: أنها صفات ذات أثبتها السمع و لا يهتدي إليها العقل" .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7407 ، و 7408، كتاب التوحيد، باب 17 .
قال الشيخ البراك: الصواب من الأقوال الثلاثة التي حكاها ابن المنير هو القول الأول، ويتفق معه ما نقله الحافظ عن السهروردي، ومن بعده.
وأما القول الثاني والثالث فهما مذهب التأويل وأهل التفويض - كما تقدمت الإشارة إليهما- وأنهما مذهبان للنفاة.
115 – (13/390) قال الحافظ: "قال ابن بطال: احتجت المجسمة بهذا الحديث، وقالوا في قوله: (وأشار بيده إلى عينه) دلالة على أن عينه كسائر الأعين، وتعقب باستحالة الجسمية عليه؛ لأن الجسم حادث وهو قديم؛ فدل على أن المراد نفي النقص عنه" انتهى .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7408، كتاب التوحيد، باب 17.
قال الشيخ البراك: قوله: "وأشار بيده إلى عينه": أي الرسول صلى الله عليه وسلم ، بعد قوله صلى الله عليه وسلم : "إن الله لا يخفى عليكم؛ إن الله ليس بأعور" هو نظير لما جاء في سنن أبي داود من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أنه قرأ هذه الآية: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها...[إلى قوله تعالى] إن الله كان سميعًا بصيرًا} قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يضع إبهامه على أذنه، والتي تليها على عينه..." [أخرجه أبو داود في سننه، كتاب السنة، باب (19) في الجهمية، ح 4728]، وهذه الإشارة من الرسول صلى الله عليه وسلم عند أهل السنة المثبتين للعين، والسمع، والبصر، لبيان إرادة الحقيقة؛ فهو يسمع حقيقة ويبصر حقيقة، وكذلك له عين حقيقة، وكل ذلك على ما يليق به ويختص به سبحانه، لا يماثل في شيء من ذلك صفات المخلوق، وهذا هو الواجب في جميع ما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم . ومثل هذه الإشارة ما جاء في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل يقبض يديه ويبسطهما لما ذكر أن الله تعالى يأخذ السماوات بيديه، وأن الله تعالى يقبض يديه ويبسطهما ويقول: "أنا الملك..." الحديث، ومعلوم بالضرورة أن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد أن القبض والبسط من الله تعالى مثل قبضه صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم وبسطه ليديه، وإنما أراد بيان أن الله يقبض يديه ويبسطهما حقيقة، وأما من لم يثبت العينين، ولا اليدين لله تعالى، فلا بد أن يتأول هذه النصوص بتأويلات تخرجها عن ظاهرها، أو يمسك عن تدبرها معتقدًا أنه لا سبيل إلى فهمها. وهي طريقة أهل التفويض من النفاة.
116 – (13/390) قال: " وقد سئلت هل يجوز لقارئ هذا الحديث أن يصنع كما يصنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأجبت وبالله التوفيق...إلخ .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7408، كتاب التوحيد، باب 17.
قال الشيخ البراك: حاصل جواب الحافظ عما سئل عنه أنه يجوز بشرطين:
الأول: أن يكون من بحضرته يعتقد التنزيه.
الثاني: أن يقصد بالإشارة محض التأسي.
وفي هذا الجواب نظر من وجهين:
أولاً: أن الإشارة إذا كان المراد بها محض التأسي لم يكن لها معنى بالنسبة للمخاطبين، ولا بالنسبة لمضمون الكلام .
ثانيًا: أن لفظ تنزيه الله عن صفات الحدوث يريد به المعطلة ومن وافقهم نفي الصفات عن الله؛ لأن الصفات عندهم تستلزم الحدوث.
وأما التنزيه الذي يقول به أهل السنة فهو تنزيهه سبحانه عن مماثلة المخلوقات مع إثبات الصفات إثباتًا بلا تشبيه وتنزيهًا بلا تعطيل .
والأشبه بطريقة الحافظ أنه أراد بالتنزيه المعنى الأول، ولو اقتصر رحمه الله تعالى على قوله: "والأولى به الترك" لكان أسلم له. وأما المعنى الذي ذكر أنه خطر له في معنى الإشارة في الحديث، ولم يره من شراح الحديث، وهو: "أن الإشارة إلى عينه صلى الله عليه وسلم إنما هي بالنسبة إلى عين الدجال" فهو معنى باطل يرده أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما أشار بيده إلى عينه عند قوله: "إن الله ليس بأعور" لا عند قوله: "وإن المسيح الدجال أعور العين اليمنى". وكل هذا هروب من الاستدلال بالحديث على إثبات العين لله تعالى، وهو المعنى الذي قصده البخاري رحمه الله تعالى؛ فالبخاري في واد والحافظ في واد آخر؛ فهو في مثل هذه المواضع يخالف منهج البخاري وأهل السنة والجماعة. والأظهر في الجواب عن ذلك السؤال أن يقال: تجوز الإشارة عند ذكر هذه الأحاديث لنفس المعنى الذي أراده الرسول صلى الله عليه وسلم بإشارته - وهو إرادة تأكيد الحقيقة كما تقدم - يدل لذلك عموم قوله تعالى: "لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة" فيدخل في ذلك طرق البيان التي بين فيها الرسول صلى الله عليه وسلم ، وبلغ بها رسالة ربه، ويمكن إذا خشي أن يتوهم أحد من الإشارة التشبيه أن يقصد المتحدث بإشارته حكاية فعل النبي صلى الله عليه وسلم ، كأن يقول: وأشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى عينه، فيشير إلى عينه ونحو ذلك، ويمكن رفع التوهم أيضًا ببيان مراد الرسول صلى الله عليه وسلم بإشارته. وما كان السلف الصالح يستوحشون من ذكر آيات وأحاديث الأسماء والصفات لأنهم يؤمنون بما دلت عليه على الوجه اللائق به سبحانه، ويقولون: أمروها كما جاءت بلا كيف. وأما الذين دخل عليهم مذهب التعطيل فإنهم يقفون من تلك النصوص موقف الرد إن أمكنهم، أو موقف التأويل أو التفويض؛ فهم لا يؤمنون بحقائقها، بل يرون أنه لا يجوز اعتقاد ظاهرها؛ فإن ظاهرها عندهم هو التشبيه ، ومن عوفي فليحمد الله.
117 – (13/394) قال الحافظ: "باب قول الله تعالى: لما خلقت بيدي ، قال ابن بطال : في هذه الآيات إثبات اليدين لله، وهما صفتان من صفات ذاته، وليستا بجارحتين، خلافًا للمشبهة من المثبتة، وللجهمية من المعطلة...." .
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 19 .
قال الشيخ البراك: قول ابن بطال رحمه الله تعالى: "في هذه الآيات إثبات اليدين لله تعالى...إلخ" فيه خطأ وصواب؛ فأصاب في أول كلامه بقوله: "في هذه الآيات إثبات اليدين لله تعالى وهما صفتان من صفات ذاته"، وأصاب في آخر كلامه في الرد على الجهمية في نفيهم للقدرة، وفي رده على من يتأول اليدين بالقدرة.
ولكن قوله: "وليستا بجارحتين" من النفي المبتدع، ولفظ الجارحة لفظ مجمل؛ فإن أريد بنفي الجارحة نفي حقيقة اليدين التي يكون بهما الفعل، ومن شأنهما القبض والبسط فباطل، وإن أريد به نفي أن تكون يداه سبحانه مثل أيدينا كما يقول المشبه: له سمع كسمعي، وبصر كبصري، ويد كيدي، فهذا النفي حق. فالواجب إثبات اليدين لله تعالى مع نفي مماثلتهما للخلق، ونفي العلم بكيفيتهما مع إثبات ما ورد في صفاتهما كالقبض والبسط والأخذ والأصابع، والله أعلم.
118 – (13/394) قال الحافظ: "وقال غيره: هذا يساق مساق التمثيل للتقريب؛ لأنه عهد أن من اعتنى بشيء واهتم به باشره بيديه، فيستفاد من ذلك أن العناية بخلق آدم كانت أتم من العناية بخلق غيره".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 19.
قال الشيخ البراك: معناه أن الله تعالى لم يخلق آدم عليه السلام بيديه حقيقة من بين سائر المخلوقات، وهذا يقوله من ينفي حقيقة اليدين عن الله عز وجل، وهم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشاعرة وغيرهم. فمن هؤلاء من يجعل هذه الآية من قبيل المجاز التمثيلي الذي لا يقصد ظاهره، وإنما عبر به عن معنى آخر للمبالغة في تقريبه، وهذا أحد تأويلات أهل التأويل لهذه الآية، وذِكرُ الحافظ عفا الله عنه لمعاني اليدين والمبالغة في جمعها لا وجه له؛ فإن ذلك من طريقة النفاة لتشويش الفهم لنصوص الصفات بدعوى كثرة الاحتمالات، ونصوص الصفات بحمد الله تعالى هي نصوص لا تحتمل إلا ما أراده الله منها، وهي المعاني الثابتة له سبحانه، وهذه المعاني هي المعاني القريبة المتبادرة للأفهام السليمة التي لم تتكدر بشبه أهل التعطيل أو أهل التشبيه؛ فاليدان في الآية لا تحتمل إلا معنى واحدًا، وهي اليدان اللتان بهما الفعل والأخذ، ومن شأنهما القبض والبسط كما دلت على ذلك الآيات والأحاديث عن النبي صلى الله عليه وسلم.
119 – (13/398) قال الحافظ: "قال ابن بطال: لا يحمل ذكر الإصبع على الجارحة، بل يحمل أنه صفة من صفات الذات.... وعن ابن فورك: يجوز أن يكون الإصبع خلقا يخلقه الله فيحمله الله ما يحمل الإصبع، ويحتمل أن يراد به القدرة والسلطان... " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7414 ، كتاب التوحيد ، بآب 19 .
قال الشيخ البراك: هذا الحديث يستدل به أهل السنة على إثبات الأصابع لله عز وجل، وأنها من صفة يديه؛ لأن هذا هو المفهوم من لفظ الإصبع في هذا السياق، وقد أقر النبي صلى الله عليه وسلم اليهودي على قوله كما فهم ابن مسعود رضي الله عنه بقوله: "فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم تعجبًا وتصديقًا له"، ويؤيد ذلك قراءة النبي صلى الله عليه وسلم لقوله تعالى: "وما قدروا الله حق قدره". وقول أهل السنة في الأصابع لله تعالى كقولهم في اليدين والوجه وغير ذلك من الصفات؛ وهو الإثبات مع نفي مماثلة المخلوقات، ونفي العلم بالكيفية على حد قول الأئمة في الاستواء: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب". إذا ثبت هذا فما نقله الحافظ عن ابن بطال وابن فورك وابن التين دائر بين التفويض كما هو ظاهر قول ابن بطال، والتأويل كما هو ظاهر قول ابن فورك وابن التين.
وأهل التفويض والتأويل لا يثبتون المعاني الظاهرة من نصوص الصفات بل ينفونها. ثم منهم من يوجب في تلك النصوص التفويض، ومنهم من يوجب التأويل المخالف لظاهر اللفظ بغير حجة توجب ذلك، وهذه حقيقة التحريف كما هو ظاهر في تأويلات ابن فورك للإصبع المذكور في هذا الحديث، فنعوذ بالله من الضلال.
120 – (13/398) قال الحافظ : " وقد تقرر أن اليد ليست بجارحة .... " .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7414 ، كتاب التوحيد ، باب 19 .
انظر التعليقين (2) (102)
121 – (13/398) قال الحافظ : قال الخطابي " ولعل ذكر الأصابع من تخليط اليهودي؛ فإن اليهود مشبهة وفيما يدعونه من التوراة ألفاظ تدخل في باب التشبيه ولا تدخل في مذاهب المسلمين الخ
وقول القرطبي: هذا كله قول اليهودي ، وهم يعتقدون التجسيم وأن الله شخص ذو جوارح كما يعتقده غلاة المشبهة من هذه الأمة ، وضحك النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو للتعجب من جهل اليهودي ..الخ
وذلك في كلامه على حديث رقم 7414 ، كتاب التوحيد ، باب 19 .
قال الشيخ البراك: من العجب إفراط الحافظ عفا الله عنا وعنه في نقل أقوال المتأولين من النفاة لحقائق كثير من الصفات مع ما فيها من التمحلات والتكلفات في صرف الكلام عن وجهه بشبهات واهية؛ مثل التشكيك في تفسير ابن مسعود رضي الله عنه لضحك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "تصديقًا له"، وتخطئة ابن مسعود رضي الله عنه في خبره ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو المشاهد للقصة والأعلم بدلالة حال النبي صلى الله عليه وسلم ومقاله. هذا، ولو لم يرد هذا التفسير من ابن مسعود رضي الله عنه لكان ضحك النبي صلى الله عليه وسلم وتلاوته للآية كافيًا في تقرير ما قاله اليهودي من ذكر الأصابع، وجعل المخلوقات عليها. وأما الحمل في ذلك على اليهود، وأن اليهود مشبهة، فنعم اليهود مشبهة فيما نسبوه إلى الله تعالى من النقائص؛ كالفقر والإعياء والبكاء. وأما ما وصفوا الله به مما دل عليه القرآن والسنة فلا يجوز رده لوروده على بعض ألسنتهم؛ فلو لم يقرّ الرسول صلى الله عليه وسلم اليهودي بما قال لما صح الاستدلال بقول اليهودي على إثبات الأصابع، بل كان الواجب التوقف فيه كما هو الواجب في كل ما يحدث به بنو إسرائيل فيما لم يرد به دليل على ثبوته ولا نفيه.
وفي كلام الخطابي والقرطبي عفا الله عنهما تخبطٌ حملهما عليه أصلهما الفاسد الذي استقر في عقليهما وعقول كثير ممن لم يفهم حقيقة مذهب السلف الصالح.
وذلك الأصل الفاسد هو نفي حقائق هذه الصفات كالوجه واليدين والأصابع والعينين، وكالمحبة والرضا والغضب، والضحك والفرح إلى غير ذلك؛ بشبهة أن إثباتها يستلزم التشبيه، وهي عين الشبهة التي نفت بها الجهمية أسماء الله وصفاته. فما يرد به الأشاعرة - ونحوهم ممن يفرق بين الصفات - على الجهمية والمعتزلة هو ما يرد به أهل السنة عليهم فيما وافقوا فيه المعتزلة والجهمية.
فلا بد للأشاعرة ونحوهم من الرجوع إلى المذهب الحق البريء من التناقض - وهو مذهب أهل السنة والجماعة - أو الخروج إلى مذهب المعطلة من الجهمية والمعتزلة، فلا مخلص لهم من تناقضهم إلا بأحد الأمرين، فالواجب الاعتصام بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم على فهم السلف الصالح الذين مذهبهم هو الأسلم والأعلم والأحكم خلافًا لما زعمه بعض الخلف، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
وبعد فقد أحسن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى في تعقبه على من خطَّأ ابن مسعود في فهمه من ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديق قول اليهودي، وأحسن كذلك في إيراده تعقب ابن خزيمة لمن منع صفة الأصابع لله تعالى؛ ونص كلام ابن خزيمة كما ورد في كتاب التوحيد له: «وقد أجَلَّ الله قدر نبيه صلى الله عليه وسلم عن أن يوصف الخالق بحضرته بما ليس من صفاته فيسمعه فيضحك عنده، ويجعل بدل وجوب النكير والغضب على المتكلم به ضحكًا تبدو نواجزه تصديقًا وتعجبًا لقائله. لا يصف النبي صلى الله عليه وسلم بهذه الصفة مؤمن مصدق برسالته» [كتاب التوحيد 1/178 ط. الرشد] ويريد ابن خزيمة – رحمه الله – بذلك أنه يلزم من ينفي صفة الأصابع لله عز وجل مع ثبوت ضحك النبي صلى الله عليه وسلم تصديقًا لوصف اليهود لله تعالى بذلك؛ يلزم هذا النافي أن يصف النبي صلى الله عليه وسلم بالضحك وإقرار الباطل بدلاً من إنكار ذلك والغضب منه؛ فيصف النبي صلى الله عليه وسلم بترك الواجب وقد أجلَّه الله عن ذلك.
122- (13/399) قال الحافظ : " قال ابن دقيق العيد : المنزهون لله إما ساكت عن التأويل وإما مؤول ، والثاني يقول : المراد بالغيرة المنع من الشيء والحماية ، وهما من لوازم الغيرة فأطلقت على سبيل المجاز كالملازمة ، وغيرها من الأوجه الشائعة في لسان العرب " .
وذلك في كلامه على باب قول النبي r لا شخص أغير من الله، كتاب التوحيد ، باب 20 .
قال الشيخ البراك: يريد ابن دقيق العيد بالمنزهين نفاة حقائق كثير من الصفات؛ كالمحبة والرضا، والضحك والفرح، والغضب والكراهة، والغيرة، وأنهم في نصوص هذه الصفات طائفتان: إما مفوضة، وإما مؤولة. وهذا يصدق على الأشاعرة ونحوهم؛ فإنهم ينفون هذه الصفات ويوجبون فيما نفوه إما التفويض وإما التأويل المخالف لظاهر اللفظ. وإطلاق لفظ المنزهة عليهم يستلزم أن من يثبت هذه الصفات مشبه. وكذلك يسمون المثبتين لسائر الصفات - وهم أهل السنة - مشبهة، كما أن الجهمية والمعتزلة يسمون المثبتين لبعض الصفات كالأشاعرة مشبهة. والحق أن المنزهة على الحقيقة هم أهل السنة والجماعة الذين أثبتوا لله جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة، ونزهوه عن مماثلة المخلوقات؛ فتسمية النفاة: منزهة، والمثبتين للصفات: مشبهة من المغالطات. وأما الكلام في الغيرة فقد سبق التعليق عليه.
وانظر التعليقين (55) و(109) .
123- (13/401) قال الحافظ: "قال ابن بطال: أجمعت الأمة على أن الله تعالى لا يجوز أن يوصف بأنه شخص؛ لأن التوقيف لم يرد به... وأما الخطابي فقال: إطلاق الشخص في صفات الله تعالى غير جائز؛ لأن الشخص لا يكون إلا جسمًا مؤلفًا، فخليق أن لا تكون هذه اللفظة صحيحة وأن تكون تصحيفًا من الراوي...".
وذلك في كلامه على باب (20) قول النبي r «لا شخص أغير من الله» ، كتاب التوحيد.
قال الشيخ البراك: المنكرون لإطلاق لفظ الشخص على الله تعالى - كابن بطال والخطابي وابن فورك- لم يذكروا لهذا الإنكار دليلاً إلا أن إثبات ذلك عندهم يستلزم أن يكون الله تعالى جسمًا. وهذه عين الشبهة التي نفت بها المعتزلة جميع الصفات، ونفى بها الأشاعرة ما نفوا من الصفات. ومعلوم أن لفظ الجسم لم يرد في الكتاب والسنة نفيه ولا إثباته، وهو لفظ مجمل يحتمل حقًا وباطلاً، فلا يجوز إطلاقه على الله تعالى في النفي ولا في الإثبات. فعلم أن المنع من إطلاق الشخص على الله تعالى مبني على هذه الشبهة الباطلة التي نفيت بها كثير من الصفات، وهي باطلة وما بني عليها باطل.
ودعوى الإجماع على منع إطلاق الشخص على الله تعالى، ودعوى التصحيف كل ذلك ممنوع؛ فلا إجماع ولا تصحيف، ولفظ الشخص يدل على الظهور والارتفاع، والقيام بالنفس، فلو لم يرد في الحديث لما صحّ نفيه لعدم الموجب لذلك، بل لو قيل: يصح الإخبار به لصحةِ معناه لكان له وجه، فكيف وقد ورد في الحديث، ونقله الأئمة ولم يَرَوه مشكلاً. فنقول: إن الله شخص لا كالأشخاص كما نقول مثل ذلك فيما ورد من الأسماء والصفات، والله أعلم.
124 – (13/401) قال الحافظ : "ثم قال ابن فورك: وإنما منعنا من إطلاق لفظ الشخص أمور، أحدها: أن اللفظ لم يثبت من طريق السمع، والثاني: الإجماع على المنع منه، والثالث: أن معناه الجسم المؤلف المركب، ثم قال: ومعنى الغيرة الزجر والتحريم".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7416 ، كتاب التوحيد ، باب 20 .
انظر التعليق السابق (123) .
وأما قوله: "ومعنى الغيرة: الزجر والتحريم"
فانظر للرد على ذلك التعليـقين (55) و(109)
125- (13/402) قال الحافظ: "والمراد بالوجه الذات، وتوجيهه أنه عبر عن الجملة بأشهر ما فيها... ".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7416 ، كتاب التوحيد ، باب 21 .
قال الشيخ البراك: تقدم أن مذهب أهل السنة والجماعة إثبات الوجه لله تعالى كما صرحت بذلك الآيات والأحاديث، وأنه موصوف بالجلال والإكرام، وبالأنوار، وأن القول فيه كالقول في سائر الصفات.
وأما تأويل الوجه بالذات، وأنه في الآية مجاز، فهذا سبيل أهل التأويل من النفاة لحقائق الصفات من الجهمية والمعتزلة، ومن وافقهم من الأشاعرة ونحوهم، ومذهبهم باطل ومخالف لمذهب السلف الصالح ومن تبعهم بإحسان.
انظر التعليق (47) و(112)
126 – (13/405 - 406) قال الحافظ: قال ابن بطال .. وقالت الجسمية: معناه الاستقرار وقال بعض أهل السنة معناه ارتفع وبعضهم معناه علا ..
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 22 .
قال الشيخ البراك: مقصود البخاري رحمه الله بترجمة الباب تقرير علو الله بذاته على مخلوقاته واستوائه على عرشه، واكتفى بالإشارة إلى الاستواء بذكر العرش في الآية والأحاديث التي أوردها في الباب، لأن العرش متعلَّق الاستواء، وإن كان قد جاء التصريح بالاستواء على العرش في سبع آيات، وأشار إليها في نقل تفسير السلف للاستواء كأبي العالية، ومجاهد ، واكتفى من أدلة العلو خاصة بحديث أنس رضي الله عنه في شأن زينب رضي الله عنها، وقولها: "وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات" مع أن أدلة العلو في الكتاب والسنة لا تحصى كثرة، وأهل السنة يثبتون ما دلت عليه هذه النصوص ويمرونها كما جاءت بلا كيف، كما قال الإمام مالك: "الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب".
وأما المعطلة والجهمية ومن وافقهم، فإنهم ينفون علو الله على خلقه واستوائه على عرشه، ثم منهم من يقول بالحلول العام، أو أنه - تعالى الله عن قولهم - لا داخل العالم ولا خارجه، وفي هذا غاية التنقص لله تعالى، أو ما يتضمن وصفه بالعدم. ثم يضطربون في جوابهم عن هذه النصوص؛ فأكثرهم يذهب إلى التأويل المخالف لظاهر اللفظ كتأويل الاستواء بالاستيلاء، أو الملك والقدرة، أو التمام كما ذكر ذلك الحافظ فيما حكاه عن ابن بطال. وهؤلاء يجمعون بين التعطيل والتحريف. ومن نفاة العلو والاستواء من الأشاعرة من يذهب إلى التفويض؛ وهو الإمساك عن تدبر هذه النصوص لأنه لا سبيل إلى فهم معناها، مع نفي أن يكون ظاهرها مرادًا، ويزعم بعض أولئك أن هذا هو مذهب السلف في نصوص الصفات كالعلو والاستواء كما نقله الحـافظ عن إمام الحرمين بعد ذلك، وهو خطأ ظاهر وجهل بحقيـقة مذهب السلف.
ومما يدل على فساد مذهب المفوضة أن الله عز وجل أمر بتدبر الكتاب كله، وما لا يفهم معناه لا يؤمر بتدبره ولا معنى لتدبره.
وقد وصف الله كتابه بأنه هدى وشفاء وبيان، وما لا يفهم معناه لا يوصف بشيء من ذلك. فالمخرج من هذا الاضطراب هو الاعتصام بما دل عليه كتاب الله عز وجل، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم وبما كان عليه السلف الصالح والتابعون لهم بإحسان، والله الهادي إلى الصواب.
127 – (13/408) قال الحافظ : " وقسم بعضهم أقوال الناس في هذا الباب إلى ستة أقوال..."
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 22.
قال الشيخ البراك: الصواب من هذه الأقوال هو القول الثاني من القولين الأولين، وهو: إجراء نصوص الصفات على ظاهرها - أي إثبات ما تدل عليه من الصفات - مع نفي مماثلة المخلوقات، وأن القول في الصفات كالقول في الذات، وهذا قول أهل السنة والجماعة المثبتين لجميع الصفات، والقول الأول من القولين الأولين هو قول المشبهة كما ذكر المصنف.
وأما الثالث فقول أهل التفويض، والرابع قول أهل التأويل. وكل منهما ينفي أن يكون ظاهر النصوص مرادًا، وهؤلاء هم الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشاعرة.
وأما القولان الأخيران - الخامس والسادس - فهما مذهبان للواقفة وهم الشاكون الذين لا يجزمون بإثبات الصفات ولا بنفيها، وحكمهم حكم من يصرح بنفي الصفات؛ لأن حكم الشاك في الحق والمكذب واحد.
128 – (13/410) قال الحافظ: "قوله: ( كان الله ولم يكن شيء قبله) تقدم في بدء الخلق بلفظ: "ولم يكن شيء غيره" وفي رواية أبي معاوية: "كان الله قبل كل شيء" وهو بمعنى: "كان الله ولا شيء معه"، وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها من رواية الباب، وهي من مستشنع المسائل المنسوبة لابن تيمية، ووقفت على كلام له على هذا الحديث يرجح الرواية التي في هذا الباب على غيرها...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7418 ، كتاب التوحيد ، باب 22.
قال الشيخ البراك: قوله: "وفي رواية أبي معاوية: ( كان الله قبل كل شيء) وهو بمعنى: ( كان الله ولا شيء معه)... إلخ": يرجح الحافظ هاتين الروايتين على رواية الباب: (كان الله ولم يكن شيء قبله)؛ وذلك من جهة المعنى الذي يرى أنهما تدلان عليه؛ وهو أن الله تعالى كان منفردًا لم يخلق شيئًا في الأزل ثم ابتدأ الخلق، وعليه فجنس المخلوقات له بداية لم يكن قبلها شيء من المخلوقات. وهذا قول من يقول بامتناع حوادث لا أول لها، وهم أكثر المتكلمين، وهو الذي يختاره المؤلف، ولهذا رجح الروايتين المشار إليهما آنفًا بناء على أنهما تدلان على مطلوبه، ولهذا قال: "وفي رواية أبي معاوية... وهي أصرح في الرد على من أثبت حوادث لا أول لها" واستشنع من ابن تيمية القول بذلك، ولهذا ضعف ترجيح ابن تيمية لرواية: "كان الله ولم يكن شيء قبله"، وزعم أن الجمع بين هذه الروايات مقدم على الترجيح. وهذا ممنوع في الحديث الواحد الذي قصته واحدة كما في هذا الحديث؛ فإنه جاء بأربع روايات، ومعلوم أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل إلا أحد هذه الألفاظ، والأخريات رويت بالمعنى، فتعيَّن الترجيح. وكل هذه الروايات لا تدل على مطلوب المتكلمين وهو امتناع حوادث لا أول لها. ولكن بعض هذه الروايات فيه شبهة لهم مثل رواية: "ولم يكن شيء معه"، ولهذا رجحها الحافظ على رواية الباب، ورواية الباب أرجح منها؛ لأن لها شاهدًا عند مسلم، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "أنت الأول فليس قبلك شيء" كما أشار إلى ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى مع وجوه أخرى من الترجيح.
ومسألة تسلسل الحوادث - أي المخلوقات في الماضي وهو معنى حوادث لا أول لها - فيها للناس قولان:
أحدهما: أن دوام الحوادث ممتنع؛ وهو قول أكثر المتكلمين. وشبهه هذا القول هي اعتقاد أن ذلك يستلزم قدم العالم الذي تقول به الفلاسفة، وهو باطل عقلاً وشرعًا. وهذا الاعتقاد خطأ؛ فإن معنى تسلسل الحوادث في الماضي أنه ما من مخلوق إلا وقبله مخلوق إلى ما لا نهاية، ومعنى ذلك أن كل مخلوق فهو محدث بعد أن لم يكن، فهو مسبوق بعدم نفسه ، والله تعالى مقدم على كل مخلوق تقدم لا أول له، وليس هذا بقول الفلاسفة؛ فإن حقيقة قولهم أن هذا العالم قديم بقدم علته الأولى لأنه صادر عنها صدور المعلول عن علته التامة، لا صدور المفعول عن فاعله؛ فإن المفعول لا بد أن يتأخر عن الفاعل.
القول الثاني: أن تسلسل الحوادث في الماضي ممكن، وهو موجب دوام قدرة الرب تعالى وفاعليته؛ فكل من يثبت أن الله لم يزل فعالاً لما يريد وهو على كل شيء قدير، لا بد أن يقول بأن الخلق لم يزل ممكنًا. وهذا الحد لا يمكن النزول عنه؛ فإن من قال بامتناع حوادث لا أول لها منهم من يقول: إن الله لم يكن قادرًا ثم صار قادرًا، ومن قال منهم: إن الله لم يزل قادرًا كان متناقضًا؛ فإن المقدور لا يكون ممتنعًا لذاته.
أما كون تسلسل المخلوقات واقعًا أو غير واقع فهذا يُبنى على الدليل؛ فمن قام عنده الدليل على أحدها فعليه القول بموجبه. فالقول المنكر الذي لا شك في بطلانه هو القول بامتناع حوادث لا أول لها؛ لما يستلزمه من تعجيز الرب سبحانه في الأزل تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا.
وقد حرر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله هذه المسألة فأجاد وأفاد، فأتى بالفرقان بين الحق والباطل في هذا المقام، وقد رماه خصومه والغالطون عليه بأنه يقول بقول الفلاسفة، وهو الذي يفند قول الفلاسفة بما لم يستطعه المنازعون له. ومن رد قول الفلاسفة بالقول بامتناع حوادث لا أول لها فقد رد باطلاً بباطل، والحق في خلافهما، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.
انظر: مجموع الفتاوى 18/210- 244 ، ودرء تعارض العقل والنقل 1/121-127، 303-305، 2/344-399.
129 – (13/412) قال الحافظ: "قال الكرماني: قوله: "في السماء" ظاهره غير مراد؛ إذ الله منزه عن الحلول في المكان، لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها أضافها إليه إشارة إلى علو الذات والصفات".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7420 ، كتاب التوحيد ، باب 22 .
قال الشيخ البراك: وصفُ اللهِ تعالى بأنه في السماء جاء في القرآن في قوله: "أأمنتم من في السماء"، وفي السنة: قال صلى الله عليه وسلم : "وأنا أمين من في السماء"، ومن هذا قول زينب رضي الله عنها: "إن الله أنكحني في السماء". ومعنى هذا كله أن الله تعالى في السماء أي في العلو فوق جميع المخلوقات، وليس ظاهره أن الله تعالى في داخل السماوات كما ظنه الكرماني، ولهذا قال: "ظاهره غير مراد".
وقوله: "إذ الله منزه عن الحلول في المكان": إن أراد أنه تعالى لا يحويه شيء من مخلوقاته ويحيط به فهو حق؛ فإن الله تعالى أعظم من أن يحيط به شيء من مخلوقاته.
وإن أراد أنه ليس في العلو الذي وراء العالم، ولا هو فوق العرش بذاته فهذا باطل؛ فإن هذا هو قول الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من نفاة العلو، وأكثرهم يقول بالحلول العام؛ أي أن - الله تعالى عن قولهم - في كل مكان.
وقول الكرماني: "لكن لما كانت جهة العلو أشرف من غيرها...": هذا يقتضي أن الله تعالى ليس بذاته في العلو، وإنما وصف بذلك للتشريف؛ لأن السماء أشرف الجهات وفي ذلك إشارة إلى علو قدره في ذاته وصفاته. وليس هذا محل النزاع مع المبتدعة نفاة العلو، وإنما النزاع معهم في علوه سبحانه بذاته فوق مخلوقاته، وهو سبحانه العلي بكل معاني العلو، وله الفوقية بكل معانيها ذاتًا وقدرًا وقهرًا. وما ذكره الحافظ عن الراغب في مفردات القرآن إنما هو استعراض لمعاني الفوقية بحسب ما أضيفت إليه في القرآن، ولم يذكر من معاني الفوقية المضافة إلى الله تعالى إلا فوقية القهر، وأهمل الإشارة إلى فوقية ذاته سبحانه كما يدل عليها نصًا قوله تعالى:"يخافون ربهم من فوقهم".
والحافظ عفا الله عنه يكثر من النقول في هذه المسائل ولا يحررها.
130 – (13/413) قال الحافظ: "ويكون معنى: "فهو عنده فوق العرش" أي ذكره وعلمه، وكل ذلك جائز في التخريج.... "الرحمن على العرش استوى" أي ما شاءه من قدرته، وهو كتابه الذي وضعه فوق العرش".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7422، كتاب التوحيد، باب 22 .
قال الشيخ البراك: هذا الحديث من أدلة أهل السنة على علو الله فوق خلقه واستوائه على عرشه، وهو يدل كذلك على أن الكتاب الذي كتبه كتب فيه على نفسه أن رحمته تغلب غضبه عنده فوق العرش، وهذه العندية عندية مكان لقوله: "فوق العرش"، وهذا الكتاب يحتمل أن يكون هو اللوح المحفوظ الذي هو أم الكتاب - وهو كتاب المقادير- ويحتمل أنه غيره فهو كتاب خاص، والله أعلم.
وعلى كل فلا يمتنع أن يكون الكتاب المذكور عند الله تعالى فوق العرش كما هو ظاهر الحديث، ولا موجب لتأويله بصرفه عن ظاهره كما صنع ذلك الخطابي عندما قال: "المراد بالكتاب أحد الشيئين... إلخ"، فنفى على كل من التقديرين أن يكون فوق العرش كتاب؛ إذ تأول الكتاب بعلم الله تعالى بما كتب على نفسه، أو أن الذي عنده ذكر الكتاب وعلمه، والحامل له على هذا التأويل إما اعتقاد أن الله ليس بذاته فوق العرش، فلا يكون شيء من المخلوقات عنده فوق العرش، وإما اعتقاد امتناع أن يكون شيء غير الله فوق العرش. والأول باطل بأدلة العلو والاستواء، والثاني لا دليل عليه. بل هذا الحديث بمجموع ألفاظه يدل على بطلانه؛ فقد دلّ الحديث على أن هذا الكتاب عند الله فوق العرش، والله تعالى أعلم بنفسه، والرسول الذي أخبر بذلك أعلم بربه، فليس لأحد أن يعارض خبره صلى الله عليه وسلم . وأما ما نقله الحافظ عن ابن أبي جمرة فهو على النقيض من قول الخطابي؛ فإنه يثبت أن فوق العرش كتابًا وهو مما اقتضته حكمته وقدرته، ولكن من المنكر في كلامه قوله: "وقد يكون تفسيرًا لقوله: "الرحمن على العرش استوى"... إلخ"؛ فإن ذلك يقتضي أن إضافة الاستواء إلى الله عز وجل مجاز، وأن المراد به كون ذلك الكتاب فوق العرش، فيؤول معنى قوله: "الرحمن على العرش استوى" إلى معنى: " كتابه على العرش استوى" وهذا ظاهر الفساد؛ فإنه تحريف للكلم عن مواضعه.
131- 13/416 قال الحافظ:" قال البيهقي: صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول، وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء، وأما ما وقع من التعبير في ذلك بقوله: "إلى الله" فهو على ما تقدم عن السلف في التفويض، وعن الأئمة بعدهم في التأويل، وقال ابن بطال: غرض البخاري في هذا الباب..." .
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 23 .
قال الشيخ البراك: فيما نقله الحافظ ابن حجر في شرح هذا الباب عن البيهقي وابن بطال تخبط وحيرة في فهم النصوص والآثار الدالة على علو الله تعالى على خلقه؛ فإن كلامهما يقتضي نفي علو الله على خلقه، فعلى هذا يجب عندهم في هذه النصوص: إما التفويض؛ وهو الإعراض عن فهمها مع اعتقاد بأن الأمر بخلاف ظاهرها، وإما التأويل. ويزعمون أن التفويض هو طريقة السلف. وهذا باطل؛ فالسلف من الصحابة والتابعين يتدبرون القرآن كله ويفهمونه كما أمرهم الله، ويؤمنون بما دلت عليه الآيات والأحاديث من صفاته تعالى.
وحقيقة التأويل - وهو طريقة أكثر النفاة - صرف الكلام عن ظاهره إلى غيره بغير حجة توجب ذلك، وهذه حقيقة التحريف، ومن ذلك قول البيهقي: "صعود الكلام الطيب والصدقة الطيبة عبارة عن القبول"، ومعنى ذلك أنه لا يصعد إلى الله شيء، وكذا قوله: "وعروج الملائكة هو إلى منازلهم في السماء"، ومعنى ذلك أنهم لا يعرجون إلى الله .
وكذا قول ابن بطال: "وإنما أضاف المعارج إليه إضافة تشريف"، ومعناه أن الملائكة لا تعرج إليه حقيقة؛ لأن الله – عنده – ليس في السماء، وعبر عن ذلك بقوله: "وقد تقرر أن الله ليس بجسم فلا يحتاج إلى مكان يستقر فيه؛ فقد كان ولا مكان"، وهو يريد بذلك نفي أن يكون الله بذاته فوق المخلوقات ومستويًا على العرش، ولكن هذه الألفاظ الواردة في عبارته ألفاظ مبتدعة مجملة لا بد فيها من التفصيل والاستفصال؛ لأنها تحتمل حقًا وباطلاً. نعم الله سبحانه لا يحتاج إلى شيء من مخلوقاته: لا مكان ولا غيره. وإذا كان سبحانه فوق مخلوقاته على عرشه فلا يلزم من ذلك أن يكون مفتقرًا إلى العرش، ولا أنه يحيط به شيء من الموجودات، بل هو سبحانه فوق جميع الموجودات، وهو الممسك بالعرش وما دون العرش.
وقول ابن بطال: "ومعنى الارتفاع إليه: اعتلاؤه مع تنزيهه عن المكان" كلام فيه قلق؛ فإنه فسر ارتفاع بعض المخلوقات إليه باعتلائه فأضاف إليه ما هو مضاف إلى المخلوق.
وقوله: "مع تنزيهه عن المكان" فيه ما تقدم من الإجمال، وإرادة نفي علو الله تعالى بذاته فوق خلقه، وهذا هو المعنى الباطل المنافي لدلالة الكتاب والسنة والعقل والفطرة، والله أعلم.
132 – 13/419 قال الحافظ: " قال ابن المنير: جميع الأحاديث في هذه الترجمة مطابقة لها إلا حديث ابن عباس" إلى أن قال: "وقِدَمُه يحيل وصفه بالتحيز فيها، والله أعلم" .
وذلك في كلامه على حديث رقم 7433، كتاب التوحيد، باب 23.
قال الشيخ البراك: قول ابن المنير في حديث ابن عباس: "ومطابقته والله أعلم من جهة أنه نبه على بطلان قول من أثبت الجهة....إلخ": يريد مطابقة الحديث للترجمة ومناسبته لها، ويزعم أن البخاري قصد بإيراد الحديث التنبيه على بطلان قول من أثبت الجهة. ويريد بمن أثبت الجهة من أثبت علو الله تعالى بذاته فوق عرشه وجميع مخلوقاته، وفي هذا غلط قبيح على البخاري؛ فإن البخاري من أئمة السنة المثبتين لعلو الله تعالى واستوائه على عرشه، وقد عقد عددًا من التراجم لتقرير هذا الأصل، فزعم ابن المنير أن قصد البخاري الرد على من أثبت العلو والاستواء على العرش قلبٌ لمقصود البخاري، بل أراد البخاري بذكر هذا الحديث إثبات علو الله تعالى واستوائه على العرش استنباطًا من ذكر العرش حيث إنه متعلق الاستواء.
وقول ابن المنير: "فبين – أي البخاري – أن الجهة التي يصدق عليها أنها سماء، والجهة التي يصدق عليها أنها عرش كل منهما مخلوق مربوب محدث": فيه دعوى باطلة على البخاري أنه أراد ما ذكر، وفيه دعوى أن الجهة سواء أريد بها السماء أو العرش فإنها مخلوقة، وهذه الدعوى لا تصح في السماء على الإطلاق؛ فإن السماء يراد بها السماء المبنية - وهي السماوات السبع، وهذه مخلوقة - ويراد بها العلو مطلقًا، فتتناول ما فوق المخلوقات؛ وليس فوق المخلوقات شيء موجود إلا الله تعالى. فلا يلزم من كونه في السماء الذي وراء العالم أن يكون في ظرف وجودي يحيط به تعالى؛ لأنه ليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى. بل المخلوق إذا قيل إنه في السماء بمعنى العلو لا يلزم أن يكون في ظرف وجودي؛ كما إذا قيل العرش في السماء، ومن المعلوم أن العرش فوق السماوات فالله تعالى أولى أن لا يلزم فيه ذلك. وعلى هذا فلفظ الجهة لفظ مجمل قد يراد به شيء موجود مخلوق كما إذا أريد به نفس العرش، وقد يراد به ما ليس بموجود كما إذا أريد به ما وراء العالم؛ فإنه ليس وراء العالم شيء موجود إلا الله تعالى.
وقول ابن المنير: "وقِدَمُه سبحانه وتعالى يحيل وصفه بالتحيز فيها": إن أراد أنه مستغن عن هذه المخلوقات من العرش وغيره فهذا حق، وإن أراد أن قدمه يحيل كونه بذاته فوق مخلوقاته مستو على عرشه فهذا باطل. بل هذا عين الكمال؛ فإن له سبحانه العلو بكل معانيه ذاتًا وقدرًا وقهرًا.
ولفظ التحيز لفظ مجمل مبتدع لا يجوز إطلاقه نفيًا ولا إثباتًا، ولا يجوز الحكم على قائله إلا بعد معرفة مراده، فإن أراد حقًا قُبِل، وإن أراد باطلاً رُدّ، وإن أراد حقًا وباطلاً لم يقبل مطلقًا، ولم يرد جميع معناه.
133- 13/426 قال الحافظ: "ومنع جمهور المعتزلة من الرؤية، متمسكين بأن من شرط المرئي أن يكون في جهة، والله منزه عن الجهة، واتفقوا على أنه يرى عباده؛ فهو راء لا من جهة، واختلف من أثبت الرؤية في معناها؛ فقال قوم: يحصل للرائي العلم بالله تعالى برؤية العين كما في غيره من المرئيات، وهو على وفق قوله في حديث الباب: "كما ترون القمر" إلا أنه منزه عن الجهة والكيفية".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 24 .
قال الشيخ البراك: قوله تعالى: "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة": هي أصرح آية في الدلالة على رؤية المؤمنين لربهم يوم القيامة بأبصارهم؛ فإن النظر إذا عدي بإلى اختص بنظر العين، وقد اختلف الناس في مسألة الرؤية: فذهب أهل السنة إلى أن المؤمنين يرون ربهم يوم القيامة بأبصارهم عيانًا من فوقهم من غير إحاطة، كما دل على ذلك الكتاب والسنة الصحيحة الصريحة كهذه الأحاديث التي ذكرها البخاري في الباب. وذهبت المعتزلة إلى نفي الرؤية وتأولوا الآيات والأحاديث بصرفها عن ظاهرها، وردّ ما أمكنهم ردّه من السنة على أصولهم. وذهب الأشاعرة إلى إثبات الرؤية بالأبصار، لكن قالوا: إن الله تعالى يُرى لا في جهة بناء على مذهبهم في نفي العلو؛ فأثبتوا رؤية غير معقولة، فخالفوا بذلك العقل والشرع، وكانوا بذلك متذبذبين بين النفاة والمثبتين، بل كانوا أقرب إلى مذهب النفاة كالمعتزلة وغيرهم.
وكل ما ذكر الحافظ في هذا المقام ونقله عن الشراح يدور حول مذهب المعتزلة ومذهب الأشاعرة، وفيه من الحق ردّ مذهب المعتزلة، ومن الباطل نفي علو الله تعالى، ونفي أن يرى في جهة العلو بل يرى لا في جهة؛ مما أوجب لهم الحيرة والاضطراب، وظهور حجة المعتزلة عليهم. وليس لمذهب أهل السنة المحضة ذكر صريح.
وقول ابن بطال: "وذهب أهل السنة وجمهور الأمة إلى جواز رؤية الله تعالى في الآخرة...إلخ" كلام مجمل، والظاهر أن مراده بأهل السنة: الأشاعرة.
134- 13/427: قال: "وقال البيهقي: سمعت الشيخ الإمام أبا الطيب سهل بن محمد الصعلوكي يقول في إملائه في قوله: "لا تضامون في رؤيته" بالضم والتشديد، معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة، ولا يضم بعضكم إلى بعض، ومعناه بفتح التاء كذلك، والأصل: لا تتضامون في رؤيته باجتماع في جهة. وبالتخفيف من الضيم، ومعناه: لا تظلمون فيه برؤيتكم بعضكم دون بعض؛ فإنكم ترونه في جهاتكم كلها، وهو متعال عن الجهة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7436 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك: قول الصعلوكي الذي نقله البيهقي ونقله عنه الحافظ جارٍ على مذهب الأشاعرة؛ وهو إثبات الرؤية مع نفي الجهة أي نفي العلو، ومعنى ذلك أن المؤمنين يرونه سبحانه لا من فوق ولا من أسفل، ولا من أمام ولا من خلف، ولا من يمين ولا من شمال، وتقدم قريبًا أن هذه الرؤية لا حقيقة لها في الواقع[انظر التعليق السابق]؛ فهي مع مخالفتها لنص السنة المتواترة مخالفة للعقل. وبناء على نفي الصعلوكي لعلو الله تعالى نفى أن يكون في جهة من العباد، ونفى أن يكونوا في جهة منه سبحانه حيث قال في: "تضامون" معناه: لا تجتمعون لرؤيته في جهة. وأما قوله: "فإنكم ترونه في جهاتكم كلها" فيقتضي أنهم يرونه من فوقهم ومن تحتهم ومن الجهات الأربع، وهذا يتناقض مع نفيه الجهة عن الله بقوله بعده: "وهو متعال عن الجهة"، بل يناقض المعروف من قول الأشاعرة: إن الله تعالى يرى لا في جهة؛ فإنهم ينفون الجهة عن الله مطلقًا، وما يرى من جميع الجهات هو موجود في جميع الجهات، وتقدم في التعليق قريبًا[ص314،هامش1] ما في لفظ الجهة من الإجمال، وما يجب فيه من الاستفصال.
135 – 13/427 قال الحافظ: "وقال ابن بطال: تمسك به المجسمة فأثبتوا لله صورة....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7439 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك: قوله صلى الله عليه وسلم : "فيأتيهم الله في صورته التي تعرفون....إلخ": يستدل أهل السنة به وبغيره على أن لله تعالى صورة هي أحسن الصور، وأنها لا تماثل صورة أحد من المخلوقين؛ فالقول فيها كالقول في الوجه وسائر الصفات، وما نقله الحافظ عن ابن قتيبة هو الصواب؛ فإنه جارٍ على مذهب أهل السنة، وأما ما نقله عن ابن بطال من نسبة إثبات الصورة إلى المجسمة فهو على طريقة الجهمية ومن تبعهم من وصف المثبتين للصفات بالتجسيم وهم برآء من التشبيه ومن إطلاق الجسم على الله نفيًا أو إثباتًا.
وكذلك تفسيره الصورة في الحديث بالعلامة هو تحريف للكلم عن مواضعه، ومثله ما نقله الحافظ عن ابن التين من تفسير الصورة بالاعتقاد، وما نقله عن الخطابي من حمل الصورة على المشاكلة. وكل هذا التخبط حملهم عليه اعتقادهم امتناع أن يكون لله تعالى صورة، وليس لهم حجة على هذا الاعتقاد إلا ما هو من جنس حجة الجهمية على نفي جميع الصفات، وهم لا يوافقونهم على هذا، فأفضى بهم ذلك إلى التناقض والاضطراب، والله يغفر لمن كان مراده الحق، وهذا هو الظن في هؤلاء العلماء رحمهم الله تعالى.
وانظر التعليق (16)
136 – (13/428) قال الحافظ: "وقال الخطابي: تهيب كثير من الشيوخ الخوض في معنى الساق، ومعنى قول ابن عباس: إن الله يكشف عن قدرته التي تظهر بها الشدة، وأسند البيهقي الأثر المذكور عن ابن عباس بسندين كل منهما حسن، وزاد: إذا خفي علكم شيء من القرآن فأتبعوه من الشعر، وذكر الرجز المشار إليه، وأنشد الخطابي في إطلاق الساق على الأمر الشديد: "في سنة قد كشفت عن ساقها....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7439 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "فيكشف عن ساقه" يدل على أن لله تعالى ساقًا كما أن له قدمًا، والقول فيهما كالقول في الوجه واليدين؛ وهو الإيمان بذلك على ما يليق به سبحانه وأن صفاته لا تماثل صفات خلقه، وأن كيفية هذه الصفات غير معقول لنا، وهذا الحديث أولى ما تفسر به الآية، وهي قوله تعالى: "يوم يكشف عن ساق ويدعون إلى السجود فلا يستطيعون" ولولا هذا الحديث لما أمكن الاستدلال بالآية على إثبات الساق لأنها محتملة؛ وذلك أن ذكر الساق فيها غير مضاف، ولهذا جاء تفسير الآية عن ابن عباس رضي الله عنهما بشدة الأمر، والكشف عن أمر عظيم من أهوال يوم القيامة. والآية محتملة لذلك، ولا مانع من تفسير الآية بذلك وبما جاء في الحديث؛ فإنه لا منافاة بينهما، ولعل ابن عباس رضي الله عنهما لم يبلغه الحديث، وعلى هذا فلا موجب للعدول عن ظاهر الحديث بتأويل الساق بالقدرة أو النفس كما صنع الخطابي رحمه الله تعالى، وهذه طريقته في مثل هذه الصفات: لا يثبت حقائقها بل يتأولها على معانٍ تخالف ظواهر النصوص. والواجب إجراء النصوص على ظاهرها كما قال الأئمة: "أمروها كما جاءت بلا كيف"؛ أي آمنوا بما دلت عليه ولا تعدلوا بها عنه، كما قال الإمام مالك وغيره: "الاستواء معلوم والكيف مجهول، والإيمان به واجب".
137 = 157 – (13/429) قال الحافظ: "ومثله من التبكيت ما يقال لهم بعد ذلك: "ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا"، وليس في هذا تكليف ما لا يطاق، بل إظهار خزيهم، ومثله: "كلف أن يعقد شعيرة"؛ فإنها للزيادة في التوبيخ والعقوبة. انتهى.
ولم يجب عن قصة أبي لهب. وقد ادعى بعضهم أن مسألة تكليف ما لا يطاق لم تقع إلا بالإيمان فقط، وهي مسألة طويلة الذيل ليس هذا موضع ذكرها".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7439 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
انظر التعليق على هذه المسألة (62) و(89)
قال الشيخ البراك : وأما احتجاج من قال به بتكليف أبي لهب بالإيمان مع أن الله أخبر أنه سيصلي نارًا ذات لهب، وأن ذلك يستلزم الجمع بين النقيضين وهما: أمره بالإيمان مع إخباره بأنه لا يؤمن؛ فالجواب: أنه بعد نزول السورة أصبح بمنزلة من عاين العذاب؛ فإنه لا ينفعهم إيمانهم لأنهم غير مأمورين به تلك الساعة؛ لأن التكليف والامتثال إنما ينفع قبل المعاينة كما قال تعالى: "فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا...."الآية ومعنى هذا أن أبا لهب بعد نزول السورة لا يؤمر بالإيمان لانكشاف عاقبته كما قال الله تعالى لنوح في قومه: "إنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن". وعلى هذا فيعلم بعد نزول السورة أن أبا لهب لن يؤمن كما أن قوم نوح بعد خبر الله له لن يؤمن أحد منهم، فانقضى بذلك وقت الدعوة والإنذار، وحق القول عليهم بأنهم من أصحاب النار.
138 = (13/429) قال الحافظ: "وقوله: فأستأذن على ربي في داره فيؤذن لي عليه، قال الخطابي: هذا يوهم المكان، والله منزه عن ذلك، وإنما معناه في داره التي اتخذها لأوليائه، وهي الجنة، وهي دار السلام، وأضيفت إليه إضافة تشريف مثل: بيت الله وحرم الله".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7440 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قول الخطابي: "هذا يوهم المكان والله منزه عن ذلك": يقال في لفظ المكان ما يقال في لفظ الجهة بأنه لفظ مجمل؛ فإن أريد به أن الله تعالى في مكان موجود من المخلوقات يحيط به فالله منزه عن ذلك،
وإن أريد به ما فوق جميع المخلوقات - وليس فوق المخلوقات شيء موجود إلا الله تعالى - فلا يلزم بإثبات المكان بهذا المعنى محذور.
وقوله في الحديث: "في داره": لا ريب أن إضافة الدار إليه إضافة تشريف، ولا يلزم من ذلك أن يكون حالاً في هذه الدار؛ فإنه تعالى منزه عن الحلول في شيء من مخلوقاته. وأما المراد بهذه الدار فالله أعلم به، وإن كان المتبادر أنها الجنة.
وانظر التعليقات (129) و (130) و(131)
139– (13/431) قال الحافظ: "قال ابن بطال: معنى رفع الحجاب .... إلى قوله: فإن ظاهره ليس مردًا قطعا، فهي استعارة جزمًا، وقد يكون المراد بالحجاب في بعض الأحاديث الحجاب الحسي، لكنه بالنسبة للمخلوقين، والعلم عند الله تعالى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7443 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم : "ولا حجاب يحجبه": يدل على أن الله تعالى يكلم عباده يوم القيامة كفاحًا بلا واسطة فيجتمع لهم التكليم والرؤية، والحجاب المنفي في هذا الحديث هو المثبت في قوله تعالى: "وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيًا أو من وراء حجاب". والحجاب إذا ذكر في مقام نفي الرؤية لا بد أن يكون خارجًا عن ذات الرائي ليكون مانعًا من الرؤية مع سلامة الحاسة. والحجاب الذي يمنع رؤية العباد لربهم قد يكون مخلوقًا، وقد يكون صفة لله تعالى كما في الحديث الذي بعد هذا؛ وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن" فالله يحتجب من عباده بما شاء وكيف شاء. وما يكون حاجبًا لعباده عن رؤيته لا يحجبه سبحانه وتعالى عن رؤيته لخلقه، ويشهد لهذا قوله صلى الله عليه وسلم : "حجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" والحديثان في صحيح مسلم .
ومما تقدم يتبين خطأ ابن بطال في قوله: "معنى رفع حجاب: إزالة الآفة من أبصار المؤمنين ... إلخ"؛ فإن معناه أنه ليس هناك حجاب يرفع بين المؤمنين وربهم فينظرون إليه، بل المانع لهم من الرؤية أولاً قصور أبصارهم عن رؤيته فمتى منحهم الله القدرة على ذلك رأوه. وهذا المعنى يرتبط بقول الأشاعرة في الرؤية وأنه يُرى تعالى لا في جهة، وبقولهم: إنه حال في كل مكان.
وما نقله الحافظ في شرح هذا الحديث عن العلائي من قوله: "ويتخرج كثير من أحاديث الصفات على الاستعارة التخييلية...إلى قوله: وبالحمل على هذه الاستعارة التخييلية يحصل التخلص من مهاوي التجسم": هذا الكلام جارٍ على مذهب من ينفي كثيرًا من الصفات كالأشاعرة، ويحمل نصوصها على المجاز إما بالاستعارة أو بالمجاز المرسل، أو العقلي؛ فهذه النصوص عندهم محمولة على خلاف ظاهرها لأن ظاهرها عندهم تجسيم وتشبيه، فمن أثبت هذا فهو عندهم مشبه مجسم، وأهل السنة يثبتون ما دلّت عليه هذه النصوص مع نفي مماثلة المخلوقات، ويقولون: القول في الصفات كالقول في الذات، والقول في بعض الصفات كالقول في بعض.
وقول العلائي: "والله سبحانه وتعالى منزه عما يحجبه؛ إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس": إن أراد أنه تعالى منزه عما يحجبه عن خلقه فلا يراهم ولا يسمعهم، أو أراد أنه منزه عن حجاب مخلوق يحيط به فهذا حق، وإن أراد أنه تعالى منزه عن حجاب محسوس يحجب الخلق عن رؤيته مثل النور الذي ورد ذكره في الحديث فهذا ما دلت عليه النصوص الواردة في ذكر الحجاب، فنفيه باطل.
وقوله: "إذ الحجاب إنما يحيط بمقدر محسوس": كلام مخالف للواقع ومبني على باطل؛ فإنه لا يلزم أن يكون الحجاب محيطًا بالمحتجب عن غيره.
وقوله: "بمقدر محسوس": يرجع عندهم إلى نفي العلو فوق المخلوقات والقول بالحلول، ونفي الرؤية الحقيقية، وكل ذلك باطل.
140 – (13/432) قال الحافظ : "قال المازري: .... ومن لم يفهم ذلك تاه، فمن أجرى الكلام على ظاهره أفضى به الأمر إلى التجسيم، ومن لم يتضح له وعلم أن الله منزه عن الذي يقتضيه ظاهرها إما أن يكذب نقلتها وإما أن يؤولها.... وقال الكرماني: هذا الحديث من المتشابهات فإما مفوض، وإما متأول بأن المراد بالوجه الذات....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7444 ، كتاب التوحيد ، باب 24 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم : "إلا رداء الكبرياء على وجهه": يدل على أن الحجاب قد يكون صفة كما تقدم تقرير ذلك في التعليق الذي قبل هذا [رقم139]، وما نقله الحافظ هنا عن المازري وعياض يقتضي نفي حقيقة الحجاب، وأن المانع من الرؤية ضعف أبصار العباد فقط، لا أن هناك حجابًا بينهم وبين الله تعالى، وهذا جارٍ على أصل الأشاعرة في الرؤية وأنه يُرى لا في جهة بناء على نفيهم للعلو. وكذا ما نقله بعد ذلك عن القرطبي وابن بطال هو جارٍ على هذا السَنَن، وكلام الرسول صلى الله عليه وسلم أظهر من أن يحتاج إلى هذا التمحل الذي حمل عليه رعاية الأصول الفاسدة والمحافظة عليها.
141 – (13/435) قال الحافظ: "قوله: ( باب ما جاء في قول الله تعالى: إن رحمت الله قريب من المحسنين، قال ابن بطال: الرحمة تنقسم إلى صفة ذات، وإلى صفة فعل، وهنا يحتمل أن تكون صفة ذات، فيكون معناها إرادة إثابة الطائعين، ويحتمل أن تكون صفة فعل فيكون معناها أن فضل الله بسوق السحاب وإنزال المطر قريب من المحسنين، فكان ذلك رحمة لهم لكونه بقدرته وإرادته...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 25 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "الرحمة تنقسم إلى صفة ذات وإلى صفة فعل": هذا صحيح؛ فإنه سبحانه ذو الرحمة التي لم يزل متصفًا بها وهي لازمة لذاته، وهو ذو رحمة يرحم بها من يشاء؛ فالأولى هي الصفة الذاتية، والثانية هي الصفة الفعلية، وكلاهما قائم بذاته سبحانه وتعالى. ولولا ذلك لم تكن صفة. ولكن ابن بطال فسر الرحمة الذاتية بالإرادة على طريقة الأشاعرة، وفسر الرحمة الفعلية بالمفعول المخلوق كسوق السحاب، وكلا التفسيرين خطأ؛ فإن الرحمة غير الإرادة، والفعل القائم بالفاعل غير المفعول، والأشاعرة لا يثبتون حقيقة الرحمة، فلذا يؤولونها بالإرادة ولا يثبتون فعلاً يقوم بالرب بمشيئته سبحانه، فلذا يجعلون الفعل هو المفعول، ومعلوم أن المفعول ليس صفة للفاعل، بل هو أثر فعله. وبهذا تبين أن تسمية المفعول - وهو الرحمة المخلوقة كالمطر - صفة فعلية مخالفة للعقل. وتحرير المقام أن الرحمة المضافة لله تعالى إما أن تكون صفة ذاتية أو فعلية كما تقدم، وإما أن تكون مخلوقة؛ فمن الأول قوله تعالى: "وأدخلني برحمتك في عبادك الصالحين"، ومن الثاني قوله تعالى: "فانظر إلى آثار رحمة الله"؛ فإن المراد بالرحمة هنا: المطر. وكقوله تعالى: "وهو الذي يرسل الرياح بشرًا بين يدي رحمته"، وكما في حديث الباب من قوله تعالى للجنة: "أنت رحمتي أرحم بك من أشاء".
وانظر التعليقين (65) و (77).
142 – (13/436) قال الحافظ: "قال ابن بطال عن المهلب: يجوز أن يكون هذا الخصام حقيقة بأن يخلق الله فيهما حياة وفهمًا وكلامًا، والله قادر على كل شيء، ويجوز أن يكون هذا مجازًا كقولهم: امتلأ الحوض وقال قطني، والحوض لا يتكلم وإنما ذلك عبارة عن امتلائه وأنه لو كان ممن ينطق لقال ذلك، وكذا في قول النار: "هل من مزيد".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7449، كتاب التوحيد، باب 25 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم : "اختصمت الجنة والنار....إلخ": قيل إن هذا الاختصام حقيقة بلسان المقال، وأن الله عز وجل أنطق الجنة والنار، وقيل: إن الخصومة بلسان الحال، ومعناه أنه لم يكن نطق ولا كلام؛ فذكر الخصومة مجاز. وقد ذكر ابن بطال هذين الوجهين عن المهلب احتمالاً دون ترجيح، والواجب حمل الكلام على الحقيقة ما لم يمنع من ذلك مانع، ولا مانع هنا، ولا دليل يدل على صرف الكلام عن ظاهره، فالصواب أن الله تعالى أنطق الجنة والنار فاختصمتا كما ذكر في الحديث. والله تعالى ينطق الجلود بالشهادة على أهلها وليس في العادة أن تنطق؛ كما قال تعالى: "وقالوا لجلودهم لم شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء".
143 – (13/440) قال الحافظ: "وتصرف البخاري في هذا الموضع يقتضي موافقة القول الأول، والصائر إليه يسلم من الوقوع في مسألة حوادث لا أول لها، وبالله التوفيق"*.
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 27 .
قال الشيخ البراك : مقصود البخاري بترجمته لهذا الباب بيان الفرق بين الفعل والمفعول، وأن الفعل القائم بالرب - وهو تخليقه وتكوينه وأمره - غير مخلوق؛ لأن ذلك من صفته سبحانه، والله بصفاته غير مخلوق، والمفعول مخلوق، وهو المكوَّن بفعله وأمره وتكوينه.
فالمفعول أثر الفعل، والفعل صفة الفاعل، والمفعول ليس صفة له، وما قرره البخاري هنا من الفرق بين الفعل والمفعول هو الذي قرره في ( باب خلق أفعال العباد) كما أشار إليه الحافظ، وهذا هو الحق الموافق للعقل والشرع، وعلى هذا فنوع الفعل والكلام من الله قديم، وآحاد ذلك حادثة تبعًا لمشيئته سبحانه وتعالى؛ فإنه لم يزل فعالاً لما يريد، فلا بداية لفاعليته، ولم يزل متكلمًا بما شاء إذا شاء. وأما جنس المفعول فلا ريب في إمكان قدمه؛ لأن ذلك لازم دوام فاعلية الرب وقدرته سبحانه، وبهذا التقرير يتبين الصواب والخطأ من الأقوال التي نقلها الحافظ في هذا المقام، وبيان ذلك فيما يلي:
1- قوله: "وأصلها أنهم اختلفوا هل صفة الفعل قديمة أو حادثة...إلخ": الصواب أن جنس الفعل القائم بالرب سبحانه قديم وآحاده حادثة، وهذا مذهب أهل السنة، وهو المراد مما حكاه الحافظ عن أبي حنيفة وجماعة من السلف، وأما قول ابن كلاب والأشعري ومن وافقهما بأن صفة الفعل حادثة فالأظهر أن مرادهم بالفعل: المفعول؛ أي المخلوق، وعندهم أنه يمتنع دوام الحوادث في الماضي، فيجب أن يكون جنس المخلوقات حادثًا، وإذا كان المراد من الفعل في قولهم هو المفعول فلا معنى للتعبير عنه بالصفة؛ لأن المفعول ليس صفة للفاعل، ويبعد أن يريدوا بالفعل ما يقوم بالرب سبحانه لأنه لا يجوز عندهم أن يقوم به ما هو حادث بمشيئته. وبهذا يعلم أن الفعل الذي قال أبو حنيفة بقدمه ليس هو الذي قال ابن كلاب والأشعري بحدوثه، فمتعلق المذهبين مختلف، فلا وجه للمعارضة بينهما .
2- قوله: "فأجاب الأول أنه يوجد في الأزل صفة الخلق ولا مخلوق....إلخ": المراد بالأول: أبو حنيفة ومن قال بقوله. وقوله: "أنه يوجد في الأزل صفة الخلق" بمعنى أن الله تعالى لم يزل موصوفًا بالخلق أي مسمى بالخالق هو الصواب؛ إذ لم يزل الرب سبحانه قادرًا على الخلق مستحقًا لهذا الاسم. وقول الأشعري بأنه لا يكون خلق ولا مخلوق كما لا يكون ضارب ولا مضروب: إن أراد أن فعل الخلق يستلزم المخلوق فصحيح، وإن أراد أن صفة الخالقية تستلزم مخلوقًا فممنوع؛ فإن القادر على الخلق خالق ولو لم يخلق، وهكذا يقال إن فعل الضرب يستلزم مضروبًا، والقادر على الضرب قد يسمى ضاربًا ولو لم يكن منه ضرب بالفعل.
3- قوله: "فألزموه بحدوث صفات، فيلزم حلول الحوادث بالله": حلول الحوادث في ذات الله تعالى من الألفاظ المجملة المبتدعة؛ فإن أريد بنفيه نفي حلول شيء من المخلوقات في ذاته فهو حق، وإن أريد به نفي قيام الأفعال الاختيارية به فهو باطل؛ فإن الله تعالى لم يزل فعالاً لما يريد، ولا يزال يفعل ما يشاء إذا شاء، فبطل الإلزام. ولكن الأشعري يوافق على نفي قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، ولهذا أجاب بقوله: "إن هذه الصفات لا تحدث في الذات شيئًا جديدًا". وهو كلام ليس بسديد؛ فإذا كانت هذه الصفات حادثة، وكانت قائمة بذات الله، فقد حدث في الذات شيء جديد، وإن لم تكن قائمة بالذات فليست بصفات؛ لأن الصفة لا بد أن تقوم بالموصوف.
4- قوله: "فتعقبوه بأنه يلزم أن لا يسمى في الأزل خالقًا ولا رازقًا": الصواب أن هذا ليس بلازم؛ لأن القادر على الخلق والرزق يسمى خالقًا ورازقًا ولو قدر أنه لم يقع منه الفعل. وقولهم: "إن كلام الله قديم" معناه عندهم أنه لا يكون بمشيئته، وهذا لا يصح على الإطلاق، بل إنه سبحانه لم يزل يتكلم إذا شاء بما شاء كيف شاء، فكلامه قديم النوع حادث الآحاد. وقدم أسمائه سبحانه معلوم من قدم كماله. وقول بعض الأشعرية: "إن إطلاق اسم الخالق الرازق على الله قبل أن يخلق ويرزق بطريق المجاز": هذا القول باطل؛ فإن القادر على الخلق والرزق هو خالق حقيقة رازق حقيقة، كما أن القادر على الكلام متكلم وإن كان في الحال لا يتكلم. وقول الأشعري: "إن الأسامي- أي أسامي الله- جارية مجرى الأعلام...إلخ" يقتضي أن أسماء الله تعالى لا تدل على معاني بل هي أعلام محضة، وهذا كقول المعتزلة. والصواب أن أسماء الله تعالى أعلام وصفات؛ فتتحد في دلالتها على الذات وتختلف في دلالتها على الصفات، وبهذا يعلم أن أسماء الله تعالى دالة على معانيها بالحقيقة اللغوية والشرعية، واسم الفاعل والفعال يصدق على من كان قادرًا على الفعل وإن قُدِّر أنه لم يفعل كما تقدم والله أعلم.
144 – (13/441) قوله: (باب قوله تعالى:(ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين") قال: "وأشار به إلى ترجيح القول بان الرحمة من صفات الذات .... من قال: المراد بالرحمة إرادة إيصال الثواب، وبالغضب إرادة إيصال العقوبة...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 28 .
قال الشيخ البراك : السبق يراد به التقدم في الزمان، ويراد به الغلبة. والسبق في الآية الأظهر فيه: المعنى الأول؛ فيكون المراد به سبق القدر بأن النصر والغلبة لرسله وجنده، كما يشهد لذلك قوله تعالى: "كتب الله لأغلبن أنا ورسلي".
كما أن السبق في الآية يتضمن المعنى الثاني. والأظهر في سبق الرحمة المعنى الثاني، ويؤيده أن الحديث ورد بلفظ : "إن رحمتي تغلب غضبي".
والرحمة المضافة إلى الله تعالى نوعان: صفة ذاتية، وصفة فعلية، ولا ريب أن الرحمة الذاتية سابقة للغضب في الزمان؛ لأنه سبحانه موصوف بها في الأزل، فيصح أن يقال: لم يزل رحيمًا.
وأما الغضب فهو صفة فعلية، فهو تابع لمشيئته، والأظهر أن الرحمة التي تسبق وتغلب الغضب هي الرحمة الفعلية التي تكون بمشيئته سبحانه .
وأما سبق الكتاب في حديث ابن مسعود رضي الله عنه فالأظهر فيه هو المعنى الثاني، وإن كان المعنى الأول ثابتًا للكتاب لأن المراد به كتاب القدر. والظاهر أن مراد البخاري بالترجمة هو الاستدلال على أن كلام الله تعالى ورحمته من أفعاله التابعة لمشيئته، وما هذا شأنه لا بد أن يسبق بعضه بعضًا، فوصف بعض كلامه بالسبق يدل على ذلك. وأمره الكوني والشرعي من كلامه سبحانه، وبهذا يتبين الخطأ في قول الحافظ عن البخاري: "وأشار به – أي حديث إن رحمتي سبقت غضبي- إلى أن الرحمة صفة ذاتية".
وقوله: "وقد غفل عن مراده من قال: دل وصف الرحمة بالسبق على أنها من صفات الفعل": فالصواب مع هذا القائل خلافًا للحافظ؛ فهذه الرحمة الموصوفة بالسبق صفة فعلية كما تقدم .
وقد تقدم في غير موضع أن الأشاعرة ينفون حقيقة الرحمة والغضب، وأهل التأويل منهم يفسرونهما بالإرادة - وهو المعنى الذي أشار إليه الحافظ هنا - كما ينفون قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه؛ فلذلك قالوا: إن الرحمة صفة ذاتية وهي الإرادة، وإن كلام الله قديم لا يكون شيء منه بمشيئته ولا يسبق بعضه بعضًا، ولذلك استشكلوا وصف الرحمة والكلمة بالسبق كما أشار الحافظ. ومذهب أهل السنة أن جنس كلام الله تعالى لم يزل، وآحاده تحدث تبعًا لمشيئته؛ فلم يزل سبحانه يتكلم بما شاء إذا شاء.
145- (13/449) قال الحافظ: "... فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالعقاب إلا أن يشاء أن يغفر له من غير المشركين، ومن قدر عليه بالطاعة كان ذلك علامة على أنه قدر عليه بالثواب، وحرف المسألة أن المعتزلة قاسوا الخالق على المخلوق، وهو باطل...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 31 .
قال الشيخ البراك : قوله: "فمن قدر عليه بالمعصية كان ذلك علامة.... إلخ": جعل المعصية علامة على العقاب والطاعة علامة على الثواب معناه: أنه لا أثر لهما في الجزاء وإنما مرد الجزاء محض المشيئة من الله تعالى، وهذا قول القدرية الجبرية الجهمية؛ فإن من مذهبهم نفي الأسباب وأنها محض أمارات على ما يحدثه الله سبحانه، ومعنى ذلك أن الله يخلق عندها لا بها؛ فليس عندهم في أفعال الله تعالى باء سبب بل باء المصاحبة، وقد تبعهم الأشاعرة في ذلك، فما ذكره الحافظ من أن الطاعة والمعصية علامة هو من قولهم، وهو راجع إلى قولهم في نفي الأسباب، ومن فروع قولهم في الأسباب: قولهم في أفعال العباد أنها كسب من العباد، والكسب عندهم ما يحدث عند القدرة الحادثة؛ ومعنى ذلك أن فعل العبد يحدث عند قدرته لا بقدرته.
146 – (13/453) قال الحافظ: "قال ابن بطال: استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم لذاته قائم بصفاته لم يزل موجودًا به..... وملخص ذلك، قال البيهقي في كتاب "الاعتقاد": القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفات ذاته...".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 32 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "استدل البخاري بهذا على أن قول الله قديم....إلخ": تحريف لكلام البخاري عن وجهه، بل استدل البخاري بالآية على أن ما سمعه الملائكة وفزعوا منه كلام الله، وأنه ليس بمخلوق؛ ولهذا قال في وجه الاستدلال: "ولم يقل ماذا خلق ربكم" وفي ذلك رد على من قال: إن كلام الله مخلوق، ولكن ابن بطال وهو من الأشاعرة كما يظهر من سائر كلامه حمل كلام البخاري على مذهبه؛ وهو أن كلام الله قديم مطلقًا، لا يكون شيء منه بمشيئته، وأنه ليس بحرف ولا صوت، وفي هذه الآية وما ورد من الحديث في معناها أبلغ رد على هذا المذهب؛ ففزع الملائكة كان لسماع كلام الله تعالى الذي تكلم به في ذلك الوقت، فإذا زال الفزع عن قلوبهم قالوا: ماذا قال ربكم؟ فعلم أنهم سمعوا قول الله تعالى ولم يسمعوا مخلوقًا؛ ولهذا قال البخاري: " ولم يقل: ما ذا خلق ربكم؟".
147- (13/458) قال الحافظ: "قال البيهقي: الكلام ما ينطق به المتكلم ...إلى قوله: فسماه كلامًا قبل التكلم به، قال: فإن كان المتكلم ذا مخارج سُمِعَ كلامُه ذا حروف وأصوات، وإن كان غير ذي مخارج فهو بخلاف ذلك، والباري عز وجل ليس بذي مخارج، فلا يكون كلامه بحروف وأصوات....".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 32، حديث جابر .
قال الشيخ البراك : قوله: "قال البيهقي: الكلام ما ينطق به المتكلم... إلخ": هذا من البيهقي من عجيب القول، وهو يدل على أن الذكي والعالم قد ينبو فهمه فيقع في خطأ فادح. وقد تضمن كلامه - رحمه الله تعالى- أخطاء عدة، أولها وأصلها: نفي أن يكون كلام الله تعالى بحرف وصوت؛ وهذا هو مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ فإن كلام الله عندهم معنى نفسي، وهو مذهب باطل مخالف للكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة؛ فقد أخبر سبحانه أنه ناجى موسى عليه السلام وناداه، وهذا يدل على أنه كلمه بصوت، وأن موسى سمع كلام الله عز وجل من الله تعالى.
الثاني: دعواه أن الكلام ما يستقر في نفس المتكلم مستدلاً على ذلك بقول عمر رضي الله عنه، والصواب أن الكلام مطلقًا ما يتكلم به المتكلم، وإذا أريد به ما في النفس وجب تقييده كما قال سبحانه: "ويقولون في أنفسهم ... الآية".
الثالث: دعواه أن الكلام لا يسمع إلا من ذي المخارج، ومعناه: أن من ليس كذلك فلا يكون كلامه بصوت، فلذلك لا يسمع منه، وهذا باطل؛ فإن الملائكة يتكلمون بكلام مسموع، ولا يلزم من ذلك أن يكون لهم مخارج. وأيضًا فإن الله تعالى قادر على أن يُنْطِق الجماد، ولا يلزم أن يكون نطقه بمخارج، وقد أخبر سبحانه أنه يُنْطِق الجلود والأسماع والأبصار والأيدي والأرجل، ولا يلزم من ذلك أن يكون بمخارج، وهذا يبطل دعوى أن إثبات الحرف والصوت لكلام الله تعالى يستلزم أن يكون له مخارج مع أن إضافة المخارج إلى الله تعالى مما يجب الإمساك عنه نفيًا أو إثباتًا.
148- (13/458) قال الحافظ: "وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به، ثم إما التفويض، وإما التأويل، وبالله التوفيق".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 32، حديث جابر.
قال الشيخ البراك : قد أحسن الحافظ ابن حجر رحمه الله تعالى تعقبه للبيهقي بقوله: "إذ الصوت قد يكون من غير مخارج" وقوله: "وإذا ثبت ذكر الصوت بهذه الأحاديث الصحيحة وجب الإيمان به".
ولكن يعكر على قوله ذلك قوله بعده: "ثم إما التفويض وإما التأويل". وقد تقدم في أكثر من تعليق أن التفويض والتأويل طريقان للأشاعرة في نصوص ما ينفونه من الصفات.
149- (13/460) قال الحافظ: "قوله: (فينادي بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثًا إلى النار) هذا آخر ما أورد منه من هذه الطريق، وقد أخرجه بتمامه في تفسير سورة الحج بالسند المذكور هنا، ووقع "فينادي" مضبوطا للأكثر بكسر الدال، وفي رواية أبي ذر بفتحها على البناء للمجهول، ولا محذور في رواية الجمهور؛ فإن قرينة قوله: "إن الله يأمرك" تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك يأمره الله بأن ينادي بذلك...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7483، كتاب التوحيد، باب 32.
قال الشيخ البراك : قوله: "فإن قرينة قوله: إن الله يأمرك، تدل ظاهرًا على أن المنادي ملك...إلخ": خطأ ظاهر؛ فإن دعوى أن المنادي ملك دعوى لا دليل عليها، فهي من تحريف الكلم عن مواضعه، وهذا مبني على أصل باطل، وهو أن الله تعالى لا يوصف بالنداء لأن النداء يدل على الصوت، وكلام الله ليس بصوت، وهذا مذهب الأشاعرة، واستدلال الحافظ على هذا التأويل بقوله في الحديث: "إن الله يأمرك" وجهه: أنه ذكر الاسم الظاهر لا ضمير المتكلم، فلم يقل: إني آمرك. وهذا غفلة منه - عفا الله عنه - عما جاء في القرآن في قوله: "إن الله يأمركم"، وقوله: "إن الله يأمر بالعدل". ومَن أوّل النداء في هذا الحديث بنداء ملك كيف يستطيع أن يؤول مثل قوله تعالى: "ويوم يناديهم"، وقوله سبحانه: "وناداهما ربهما"، وقوله تعالى: "وناديناه من جانب الطور الأيمن".
150 – (13/460) قال الحافظ: "وأثبتت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7483، كتاب التوحيد، باب 32 .
قال الشيخ البراك : قوله: "وأثبت الحنابلة أن الله متكلم بحرف وصوت": تخصيص الحنابلة بذلك لا وجه له؛ بل إثبات الحرف والصوت هو مذهب أهل السنة والجماعة من الحنابلة وغيرهم، ونفي ذلك هو مذهب الأشاعرة من أتباع المذاهب الأربعة وغيرهم؛ فإن أتباع المذاهب الأربعة منهم من هو على مذهب السلف، وهذا هو الغالب على متقدميهم، ومنهم من هو على مذهب الخلف، وهم كثير من متأخريهم.
151- (13/462) قال الحافظ: "قال الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة: في تعبيره عن كثرة الإحسان بالحب تأنيس العباد وإدخال المسرة عليهم....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7485، كتاب التوحيد، باب 33 .
قال الشيخ البراك : قول ابن أبي جمرة: "في تعبيره عن كثرة الإحسان بالحب... إلخ": تأويل مبني عنده على نفي حقيقة المحبة عن الله تعالى، ولا موجب لهذا النفي والتأويل؛ فالواجب إثبات المحبة لله تعالى على ما يليق به كسائر الصفات من علمه وسمعه وبصره سبحانه وتعالى. ونفي جميع الصفات هو مذهب الجهمية والمعتزلة، والتفريق بين الصفات مذهب الأشاعرة؛ وكلاهما منحرف عن الصراط المستقيم، ومخالف لمذهب السلف الصالح والتابعين.
152- (13/467) قال الحافظ: "قوله: (باب قول الله تعالى: يريدون أن يبدلوا كلام الله) كذا للجميع، زاد أبو ذر: الآية، قال ابن بطال: أراد بهذه الترجمة وأحاديثها ما أراد في الأبواب قبلها أن كلام الله تعالى صفة قائمة به، وأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 35 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "أراد بهذه الترجمة وأحاديثها...إلخ": تقصير في مراد البخاري؛ فمراده رحمه الله تعالى بهذه الترجمة وأحاديثها تقرير أن كلام الله صفة قائمة به خلافًا للمعتزلة، وأنه لم يزل متكلمًا ولا يزال إذا شاء بما شاء خلافًا للكلابية والأشاعرة القائلين بأن كلام الله تعالى قديم لا تتعلق به المشيئة، ولهذا اقتصر ابن بطال في مراد البخاري على إثبات القدم، فالصواب أن كلام الله تعالى صفة ذاتية فعلية، فالآيات والأحاديث دالة على أن الله تعالى قال ويقول، ونادى وينادي، فكلامه تعالى قديم النوع، حادث الآحاد بمشيئته سبحانه وتعالى.
153 – (13/468) قال الحافظ: "وهو ظاهر في المراد سواء كان المنادي به ملكا بأمره أو لا؛ لأن المراد إثبات نسبة القول إليه، وهي حاصلة على كل من الحالتين، وقد نبهت على من أخرج الزيادة المصرحة بأن الله يأمر ملكًا فينادي".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35 .
قال الشيخ البراك : لقد شرق المعطلة من الجهمية والمعتزلة ومن تبعهم من الأشاعرة بهذا الحديث لمخالفته لأصولهم؛ فإن الجهمية والمعتزلة ينفون عن الله تعالى جميع الصفات الذاتية والفعلية، وتبعهم متأخرة الأشاعرة في نفي الصفات الفعلية.
وقد دل هذا الحديث على أنه تعالى ينزل إلى السماء الدنيا في آخر الليل فيقول: "من يدعوني .... إلخ"، فهذا النزول وهذا القول فعل من الرب سبحانه بمشيئته في ذلك الوقت. وأهل السنة والجماعة يثبتون ذلك على حقيقته مع نفي التمثيل والتكييف، وأما النفاة للصفات والأفعال الاختيارية فذلك عندهم ممتنع؛ فمنهم من يرد هذا الحديث زاعمًا أنه خبر آحاد، ومنهم من يوجب فيه التفويض أو التأويل. والحديث نص في معناه؛ فكل تأويل أولوه به فهو تحريف للكلم عن مواضعه، فالله تعالى هو الذي ينزل كيف شاء لا غيره، وهو الذي يقول: من يدعوني، ولا يجوز أن يقول الملك: من يدعوني، ومن بديع الرد على من ينفي النزول الإلهي قول الفضيل بن عياض رحمه الله تعالى: إذا قال لك الجهمي: أنا أكفر برب يزول عن مكان، فقل: أنا أومن برب يفعل ما يشاء.
154– (13/468) قال الحافظ: "وتأول ابن حزم النزول بأنه فعل يفعله الله في سماء الدنيا ...".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35 .
قال الشيخ البراك : قول ابن حزم بأن: "النزول فعل يفعله الله في سماء الدنيا...إلخ": معناه أن النزول ليس فعلاً قائمًا بالرب، وهذا جار على مذهب نفاة الصفات، ونفاة قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، وهو باطل.
وتنظير النزول في الحديث بقول القائل: نزل لي فلان عن حقه غفلة أو مغالطة؛ لأن الذي في الحديث معدّى ( بإلى ) ونوع المتعلق مختلف.
155- (13/468) قال الحافظ: "فكما قَبِلَ النزولُ التأويلَ لا يمنع قَبولُ الصعودِ التأويلَ، والتسليم أسلم كما تقدم، والله أعلم".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7494، كتاب التوحيد، باب 35.
قال الشيخ البراك : الحق إمرار نصوص النزول والصعود وسائر الصفات على ظاهرها اللائق به سبحانه، ولا موجب لعقل ولا شرع لصرفها عن ذلك.
156- (13/477) قال الحافظ: "ثم قال الخطابي: والظاهر أن هذا من تخليط اليهود وتحريفهم، وأن ضحكه عليه الصلاة والسلام إنما كان على معنى التعجب والنكير له، والعلم عند الله تعالى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7513، كتاب التوحيد، باب 36.
قال الشيخ البراك : تقدم التعليق على كلام الخطابي في موضعه الذي أشار إليه الحافظ، وبُيِّن أن كل ما قاله الخطابي في هذا الحديث من التأويل والتعليل باطل مبني على باطل وهو: نفي حقيقة اليدين، وحقيقة الأصابع. ومذهب أهل السنة إثبات ذلك على حقيقته اللائقة بالرب سبحانه؛ فله تعالى وجه، وله يدان، وله أصابع لا تشبه ما للمخلوق من ذلك، ولا يعقل العباد كيفية ذلك.
وانظر التعليق (121)
157 – (13/477) قال الحافظ: "قوله: (يدنو أحدكم من ربه): قال ابن التين: يعني يقرب من رحمته، وهو سائغ في اللغة؛ يقال: فلان قريب من فلان ويراد الرتبة".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7514، كتاب التوحيد، باب 36 .
قال الشيخ البراك: قوله: "يعني: يقرب من رحمته... ": تأويل لا موجب له، والصواب أن الله تعالى يقرب من خلقه إذا شاء كيف شاء، ويُقرّب من شاء من خلقه ويدنيه كيف شاء، فقوله في الحديث: "يدنو أحدكم من ربه" هو على ظاهره، وأن العبد يقرب من ربه؛ يؤكد ذلك قوله: "فيضع عليه كنفه". والذين أولوا ذلك بالدنو من الرحمة حملهم على ذلك قولهم: إن الله في كل مكان، فليس بعض الخلق أقرب إليه من بعض، ولا الملائكة المقربون الذين هم عنده لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون. والذي دل عليه العقل والسمع أن الله تعالى بذاته في العلو ليس حالاً في المخلوقات، ولا في شيء من المخلوقات تعالى الله عما يقول الظالمون والجاهلون علوًا كبيرًا.
158- (13/484) قال الحافظ: "وقد أزال العلماء إشكاله؛ فقال القاضي عياض في الشفاء: إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان، وإنما هو بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم إبانة لعظيم منزلته وشريف رتبته، وبالنسبة إلى الله عز وجل تأنيس لنبيه وإكرام له، ويتأول فيه ما قالوه في حديث: "ينزل ربنا إلى السماء" وكذا في حديث: "من تقرب مني شبرًًا تقربت منه ذراعًا" وقال غيره: الدنو مجاز عن القرب المعنوي لإظهار عظيم منزلته عند ربه تعالى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7516، كتاب التوحيد، باب 37 .
قال الشيخ البراك : قول القاضي عياض: "إضافة الدنو والقرب إلى الله تعالى أو من الله ليس دنو مكان ولا قرب زمان... إلخ":
انظر في دنو الرب سبحانه وقربه من عبده، وفي دنو العبد وقربه من ربه التعليق السابق رقم (157) و(67)
159 – (13/491) قال الحافظ: "والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 40 .
قال الشيخ البراك: قوله: "والمذهب الحق أن لا جبر ولا قدر": المراد بهذا نفي مذهب الجبرية ومذهب القدرية في أفعال العباد. ولا ريب أن في كلا المذهبين حقًا وباطلاً؛ فقول الجبرية إن أفعال العباد مخلوقة لله حق، ونفيهم لقدرة العبد ومشيئته وإضافة أفعاله إليه حقيقةً باطل، وقول القدرية: إن أفعال العباد هي أفعالهم حقيقة، وإنها واقعة منهم بقدرة منهم ومشيئة حق، ونفيهم أن تكون مخلوقة لله تعالى ولا واقعة بمشيئته، بل بمحض مشيئة العبد باطل.
وكذلك قول الأشاعرة: إن أفعال العباد خلق لله، وكسب من العباد. ومعنى أنها كسب: أن الله تعالى يخلقها عند قدرتهم لا بقدرتهم؛ فلا أثر لقدرتهم في أفعالهم وما العلاقة بينهما إلا الاقتران. وهذا راجع إلى مذهبهم في الأسباب، وهو نفي تأثيرها في مسبباتها. وفيما قالوه في أفعال العباد حق وباطل؛ فإثباتهم خلق الله لأفعال العباد وإثباتهم لقدرة العبد حق، ونفي أن تكون أفعالاً لهم حقيقة، ونفي تأثير قدرتهم فيها وتعبيرهم عن حدوثها عند قدرتهم بالكسب باطل.
وبهذا يتبين أن ما ذكره الحافظ عن الكرماني أو غيره هو مذهب الأشاعرة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن أفعال العباد مخلوقة لله تعالى، وهي أفعال لهم حقيقة واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، والله خالقهم، وخالق مشيئتهم وقدرتهم وأفعالهم، وأنه لا مشيئة لهم إلا بعد مشيئته سبحانه كما قال تعالى: "وما تشاءون إلا أن يشاء الله".
160- (13/493- 494) قال الحافظ: "ومن شدة اللبس في هذه المسألة كثر النهي عن الخوض فيها، واكتفوا باعتقاد أن القرآن كلام الله غير مخلوق، ولم يزيدوا على ذلك شيئًا، وهو أسلم الأقوال، والله المستعان".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 40 .
قال الشيخ البراك :
أولاً: لا يسلم للحافظ دعوى شدة اللبس في مسألة كلام الله تعالى عند السلف ونهيهم عن الخوض فيها، بل هي عند السلف والأئمة مشرقة بينة لا لبس فيها ولا خفاء، ولم ينهوا عن الخوض فيها، بل خاضوا فيها صدعًا بالحق وردًا للباطل، وإنما اللبس في هذه المسألة عند طوائف المتكلمين المبتدعين، ولهذا فرقوا دينهم شيعًا كما ذكر الحافظ هنا أقاويلهم.
ثانياً: قوله إن السلف اكتفوا بأن القرآن كلام الله غير مخلوق كلام حق، لكنه كلام مجمل لا يحرر مذهب السلف، ولا يميزه عن غيره؛ فالصواب أنهم لم يكتفوا بهذا الإجمال بل قالوا في القرآن إنه كلام الله منزل غير مخلوق منه بدأ وإليه يعود، وقالوا: إن الله لم يزل متكلمًا إذا شاء بما شاء كيف شاء، وقالوا: إن كلام الله صفة قائمة به كسائر صفاته، وإنه حروف وأصوات يكون بمشيئته، وإن موسى عليه السلام سمع كلام الله من الله. فتحرير المذهب الحق في كلام الله تعالى أنه: صفة قائمة به خلافًا للجهمية والمعتزلة، وأنه لم يزل متكلمًا خلافًا للكرامية، وأنه يتكلم بمشيئته خلافًا للكلابية والأشاعرة والسالمية، وأن كلامه بحرف وصوت وأن معانيها لا حصر لها، خلافًَا للكلابية والأشاعرة؛ قال تعالى: "قل لو كان البحر مدادًا لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددًا". والحاصل أن مذهب السلف في القرآن وفي كلام الله حق محض، وكل قول خالفه ففيه حق وباطل.
161 – (13/496) قال الحافظ: "إن غرضه في هذا الباب ما ذهب إليه أن الله يتكلم متى شاء، وهذا الحديث من أمثلة إنزال الآية بعد الآية على السبب الذي يقع في الأرض، وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7521، كتاب التوحيد، باب 41 .
قال الشيخ البراك : لا ريب أن ما قاله الحافظ عن غرض البخاري في هذه الترجمة أظهر من قول ابن بطال للوجه الذي ذكره الحافظ، ولا ريب أن مذهب البخاري أن الله تعالى يتكلم متى شاء. ووجه استدلال البخاري على هذا بالحديث أن الآية نزلت بعد تحاور أولئك النفر، وهذا يتضمن أن الله تكلم بها حينئذ.
وقول الحافظ: "وهذا ينفصل عنه من ذهب إلى أن الكلام صفة قائمة بذاته": معناه أن المخالف للبخاري في مذهبه يجيب عن استدلاله بأن الآية نزل بها الملك من اللوح المحفوظ أو من بيت العزة، لا أنه سمعها من الله تعالى. وهذا الجواب أصله الأثر المروي عن ابن عباس رضي الله عنهما: "إن القرآن نزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا، ثم أنزل إلى الأرض نجومًا"، ولكن الذي عليه أهل السنة أن الروح الأمين جبريل عليه السلام ينزل بالقرآن من الله تعالى، وأن الله يكلمه به؛ كما قال تعالى: "قل نزَّله روح القدس من ربك" وقال سبحانه: "تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم" ولا منافاة بين هذا وبين كون القرآن مكتوبًا في أم الكتاب. وفي تعبير الحافظ عن مذهب المخالف للبخاري ما يوهم أن مذهب البخاري يقتضي أن كلام الله ليس قائمًا به، وهذا خطأ، بل يقول إنه قائم به بمشيئته؛ فهو فعل من أفعاله سبحانه. والمذهب المناقض لمذهب البخاري هو قول من يقول: إن كلام الله تعالى قديم لا تتعلق به المشيئة؛ كما هو قول الكلابية والأشاعرة.
162- (13/497) قال الحافظ: "قال ابن بطال: غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه محدث...إلى أن قال: فإذا لم يجز وصف كلامه القائم بذاته تعالى بأنه مخلوق لم يجز وصفه بأنه محدث ...
قلت: والاحتمال الأخير أقرب إلى مراد البخاري؛ لما قدَّمت قبل أن مبنى هذه التراجم عنده على إثبات أن أفعال العباد مخلوقة، ومراده هنا الحدث بالنسبة للإنزال".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 42 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "غرض البخاري الفرق بين وصف كلام الله تعالى بأنه مخلوق وبين وصفه بأنه محدث... ": لا شك أنه أقرب مما رجحه الحافظ في آخر الكلام بقوله: "ومراده هنا الحدث بالنسبة للإنزال" ؛ أي أن المحدث هو الإنزال لا كلام الله تعالى. بل هذا بعيد عن مراد البخاري في الترجمة وما اشتملت عليه. والصواب أن مراد البخاري هو إثبات قيام الأفعال الاختيارية به سبحانه، وأن كلامه من أفعاله التي يحدثها بمشيئته سبحانه؛ ولهذا قال رحمه الله تعالى: "وأن حدثه لا يشبه حدث المخلوقين"؛ أي إحداثه لما شاء لا يشبه إحداث المخلوقين لأفعالهم لأن إحداثه فعل قائم به فهو من صفاته الفعلية. وتعقُّبْ ابن بطال البخاري في وصف القرآن بأنه محدث وتأويلاته للآية مبني على مذهب الأشاعرة في كلام الله تعالى؛ وهو أنه معنى نفسي قديم لا يكون بمشيئته؛ فهو صفة ذاتية له كحياته، وهو خلاف مذهب أهل السنة والجماعة في كلام الله تعالى.
انظر التعليق السابق في تفصيل مذهب أهل السنة في ذلك (161).
ودعوى ابن بطال أن المحدث والمخترع والمنشأ والمخلوق مترادفة ممنوعة.
163 – (13/498) قال الحافظ: "فقال ابن التين أيضا: هذا من الداودي عظيم؛ لأنه يلزم منه أن يكون الله تعالى متكلمًا بكلام حادث فتحل فيه".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 42 .
قال الشيخ البراك : قول الداودي: "الذكر في هذه الآية هو القرآن وهو محدث عندنا... إلخ": ظاهره موافق لظاهر مراد البخاري بالاستشهاد بالآية. واستعظام ابن التين لكلام الداودي، وتعقب الحافظ له متأولاً كلام الداودي مبني على مذهبهما في كلام الله تعالى؛ وهو أنه قديم فلا يكون بمشيئته. وفهم كلام الداودي على حقيقته يتوقف على معرفة مذهبه في كلام الله تعالى، ومن أي الطوائف هو.
164- (13/500): قال الحافظ: " قوله تعالى: (فإذا قرأناه فاتبع قرآنه) فيه إضافة الفعل إلى الله تعالى والفاعل له من يأمره بفعله... إلى قوله: ففيه بيان لكل ما أشكل من كل فعل ينسب إلى الله تعالى مما لا يليق به فعله من المجيء والنزول ونحو ذلك، انتهى".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7524، كتاب التوحيد، باب 43 .
قال الشيخ البراك : قوله تعالى: "فإذا قرأناه فاتبع قرآنه": المعروف في التفسير أن المراد قراءة جبريل عليه السلام على النبي صلى الله عليه وسلم ، وذلك بأمره سبحانه، فأضاف القراءة إلى نفسه سبحانه لأنها مما تفعله الملائكة بأمره، وما فعلته الملائكة بأمره يضيفه الله تعالى لنفسه لأنه مما فعله بواسطة ملائكته. ويشهد لهذا ما جاء عن السلف في تفسير قوله تعالى: "ونحن أقرب إليه منكم": قالوا: المراد قرب ملائكته سبحانه، ومثل هذا لا يجري ولا يصح إلا فيما ذكر الله سبحانه فيه نفسه بصيغة الجمع، وبهذا يبطل تشبيه هذه الآية بقوله تعالى: "وجاء ربك"، وقوله صلى الله عليه وسلم : "ينزل ربنا"؛ فالآية والحديث نص في إضافة المجيء والنزول إليه سبحانه، وليس هذا بمشكل عند أهل السنة لأنهم يثبتون قيام الأفعال الاختيارية به، وإنما يستشكل مثل هذا من ينفي أن يقوم بذاته سبحانه ما هو بمشيئته، وهي صفاته الفعلية كاستوائه على العرش وتكلمه بما شاء وضحكه وفرحه سبحانه.
165- (13/501 ) قال الحافظ: "قوله: (باب قول الله تعالى: وأسروا قولكم) أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره؛ فإن كان بالقرآن فالقرآن كلام الله، وهو من صفات ذاته".
وذلك في كتاب التوحيد، باب 44.
قال الشيخ البراك : قوله: "وأشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن....إلخ": فيه نظر من وجهين:
أولاً: دعوى أن القول في الآية يشمل القرآن؛ وهذا لا يصح لأن القول في الآية مضاف للمخاطبين، والقرآن ليس قولاً لهم وإن أدّوه بأصواتهم وأفعالهم؛ ولهذا يقال: الكلام كلام الباري، والصوت صوت القارئ. وإضافة القرآن للرسول من الملائكة والرسول من البشر إضافة تبليغ كما يشعر بذلك لفظ الرسول.
ثانيًا: دعوى أن البخاري أشار بهذه الآية إلى أن القول أعم من أن يكون بالقرآن أو بغيره لا تصح؛ لما تقدم من أن القرآن لا تصح إضافته قولاً لكل قارئ، والأظهر أن البخاري أشار بالآية إلى أن أفعال العباد مخلوقة لأن أقوالهم من أفعالهم، وقد قال الله سبحانه وتعالى: "ألا يعلم من خلق"، ففي الآية رد على القدرية القائلين بأن أفعال العباد مخلوقة لهم.
وقوله: "فالقرآن كلام الله وهو من صفات ذاته... إلخ": ظاهره حق، ولكن المعروف من مذهب الأشاعرة أن كلام الله معنى نفسي؛ فالقرآن الذي هو كلام الله حقيقة هو ذلك المعنى النفسي، وهذا عندهم ليس بمخلوق قطعًا، كعلمه وقدرته، وأما القرآن المكتوب المسموع والمحفوظ فهو عبارة عن ذلك المعنى النفسي، وعلى هذا فتسميته كلام الله مجاز. والحق أن القرآن كلام الله حقيقة - حروفه ومعانيه - وهو المحفوظ في الصدور والمكتوب في المصاحف المحفوظ المسموع، وعلى هذا فالقول في الآية هو المعنى المصدري بمعنى التلفظ والتكلم والنطق؛ وهذه كلها من أفعال العباد، وهي مخلوقة، وأما القول بمعنى المقول فإن كان من كلام الله فليس بمخلوق، وإن أدّاه العبد بفعله عند تلاوته، وإن كان كلامًا لبعض العباد فهو مخلوق، وهذا هو الذي قصد إليه البخاري في هذه التراجم المتتالية، وهو الفرق بين اللفظ الذي هو فعل العبد، والملفوظ الذي هو القرآن كما نبه على ذلك ابن المنير في كلامه بعد هذا.
166 – (13/513) قال الحافظ: "قوله: (ذراعًا تقربت منه باعًا، وإذا أتاني يمشي هرولته) لم يقع: (وإذا أتاني....) إلخ في رواية الطيالسي، قال ابن بطال: وصف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده، ووصف العبد بالتقرب إليه، ووصفه بالإتيان والهرولة كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز؛ فحملها على الحقيقة يقتضي قطع المسافات وتداني الأجسام وذلك في حقه تعالى محال، فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز لشهرته في كلام العرب، فيكون وصف العبد بالتقرب إليه شبرا وذراعا وإتيانه ومشيه معناه التقرب إليه بطاعته وأداء مفترضاته ونوافله، ويكون تقربه سبحانه من عبده وإتيانه والمشي عبارة عن إثابته على طاعته وتقربه من رحمته، ويكون قوله: أتيته هرولة أي أتاه ثوابي مسرعا.... فإن المراد به قرب الرتبة وتوفير الكرامة. والهرولة كناية عن سرعة الرحمة إليه ورضا الله عن العبد وتضعيف الأجر، قال: والهرولة ضرب من المشي السريع وهي دون العدو، وقال صاحب المشارق: المراد بما جاء في هذا الحديث سرعة قبول توبة الله للعبد أو تيسير طاعته وتقويته عليها وتمام هدايته وتوفيقه، والله أعلم بمراده".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7536، 7537، كتاب التوحيد، باب 50 .
قال الشيخ البراك : قول ابن بطال: "وصف سبحانه نفسه بأنه يتقرب إلى عبده... كل ذلك يحتمل الحقيقة والمجاز... فلما استحالت الحقيقة تعين المجاز": الصواب أن ما تضمنه الحديث من ذكر التقرب والمشي والهرولة على ظاهره حسبما يقتضيه سياق الكلام، ومعلوم أن المشي المضاف للعبد والهرولة المضافة لله تعالى ليس المراد به قطع المسافة بل مزيد التقرب كما يدل عليه ما قبله.
وأما التقرب المضاف للعبد، والتقرب المضاف إليه سبحانه فإنه يتضمن ما ذكره ابن بطال، ولكن ذلك لا ينفي دلالة الحديث على أن الله عز وجل يتقرب من عبده متى شاء كيف شاء، وذلك مما يدل عليه اسمه: (القريب)؛ فهو سبحانه قريب من داعيه وعابديه، وهو سبحانه وتعالى يقرِّب إليه من شاء من عبيده، وهذا لا يشكل على مذهب أهل السنة والجماعة القائلين بمباينة الله تعالى لخلقه، وأن بعض خلقه أقرب إليه من بعض، وإنما ينكر ذلك ويستشكله نفاة العلو كالأشاعرة وغيرهم.
167- (13/517) قال الحافظ: "المراد منه كما قال البيهقي فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم بالعربية كان ذلك مما أنزل إليهم على طريق التعبير عما أنزل، وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات؛ فبأي لسان قرئ فهو كلام الله".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7542، كتاب التوحيد، باب 51 .
قال الشيخ البراك : قول البيهقي: "فيه دليل على أن أهل الكتاب إن صدقوا فيما فسروا من كتابهم....إلخ": فيه خطأ من وجوه:
الأول: قوله: "إن صدقوا فيما فسروا... " يقتضي أن تفسيرهم لما أنزل عليهم بالعربية يقال له كلام الله، وهذا باطل؛ فإن ما فسروا به كتابهم ليس كلامًا لله بل هو من كلامهم بينوا به المراد من كلام الله تعالى، وهذا يقتضي أن أي تفسير صحيح للقرآن وأي ترجمة له يصح أن يقال إنها كلام الله تعالى، وهذا ظاهر الفساد.
الثاني: قوله: "وكلام الله واحد لا يختلف باختلاف اللغات": يجري على مذهب الأشاعرة في كلام الله سبحانه؛ وهو أنه معنى نفسي واحد لا يتعدد وليس بحرف ولا صوت، وما أنزل من الحروف والكلمات في التوراة والإنجيل والقرآن عبارة عن ذلك المعنى النفسي، فليس هو كلام الله حقيقة. ومذهب أهل السنة والجماعة أن القرآن كلام الله عز وجل حروفه ومعانيه، ليس كلام الله الحروف دون المعاني، ولا المعاني دون الحروف.
الثالث: قوله: "فبأي لسان قرئ فهو كلام الله": صريح بأن ألفاظ القرآن الدالة على معانيه ليست كلامًا لله تعالى على الحقيقة؛ فلو قرئ القرآن بالإنجليزية أو الأوردية أو غيرهما من اللغات لكان المقروء كلام الله. وهذا ينافي ما وصف الله به كتابه من أنه بلسان عربي مبين كما قال تعالى: "فإنما يسرناه بلسانك"، وقال عز وجل: "نزل به الروح الأمين...بلسان عربي مبين". وأصل هذا الخطأ هو القول بأن كلام الله معنى نفسي، وأن القرآن المتلو والمكتوب المحفوظ عبارة عن الكلام النفسي، ولو أنه قال: " فبأي لسان نزل" لكان ذلك أهون؛ فإنه على هذا لا يسمى كلام الله إلا إذا كان باللسان الذي نزل به الكتاب، والله الهادي إلى الصواب.
168- (13/528) قال الحافظ: " قال الكرماني: ... ويسند إلى الله تعالى من حيث إن وجوده إنما هو بتأثير قدرته، وله وجهتان: جهة تنفي القدر، وجهة تنفي الجبر؛ فهو مسند إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة، وهي صفة يترتب عليها الأمر والنهي والفعل والترك، فكل ما أسند من أفعال العباد إلى الله تعالى فهو بالنظر إلى تأثير القدرة، ويقال له: الخلق. وما أسند إلى العبد يحصل بتقدير الله تعالى، ويقال له: الكسب".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد ، باب 56 .
قال الشيخ البراك : قول الكرماني في فعل العبد: "فهو مسند إلى الله حقيقة وإلى العبد عادة...إلخ": هو تقرير قول الأشاعرة في أفعال العباد؛ وهو أن أفعال العباد خلق لله وكسب لهم؛ ومعنى ذلك أنها لا تضاف إليهم حقيقة بل مجازًا وعادةً؛ لأنهم لا تأثير لقدرتهم فيها، وإنما توجد أفعالهم عند قدرتهم لا بقدرتهم، وهذا هو الذي عبروا عنه بالكسب. وعلى هذا فمذهبهم راجع إلى مذهب الجبرية. والصواب أن أفعال العباد هي أفعالهم حقيقة واقعة بقدرتهم ومشيئتهم، وهم وصفاتهم وأفعالهم خلق لله تعالى.
وانظر التعليق (159) .
169 – (13/532) قال الحافظ: "وقال تعالى: (أأنتم تزرعونه) فسلب عنهم هذه الأفعال وأثبتها لنفسه ليدل بذلك على أن المؤثر فيها حتى صارت موجودة بعد العدم هو خلقه، وأن الذي يقع من الناس إنما هو مباشرة تلك الأفعال بقدرة حادثة أحدثها على ما أراد، فهي من الله تعالى خلق بمعنى الاختراع بقدرته القديمة، ومن العباد كسب على معنى تعلق قدرة حادثة بمباشرتهم التي هي كسبهم".
وذلك في كلامه على كتاب التوحيد، باب 56 .
قال الشيخ البراك : قوله: "فسلب عنهم هذه الأفعال وأثبتها لنفسه....إلخ": يريد الأفعال التي في هذه الآية وما بعدها وما قبلها؛ وهي الخلق والزرع والإنزال والإنشاء. ولا ريب أن الله تعالى هو المتفرد بخلق الإنسان، وإخراج النبات، وإنزال الماء، وإنشاء ما تقدح به النار أو توقد به. وهذا لا ينافي ما للإنسان من تأثير في بعض ذلك، ولا يمنع نسبة فعل الزرع إلى الحارث باعتبار تسببه كما قال صلى الله عليه وسلم : "ما من مسلم يغرس غرسًا أو يزرع زرعًا" [أخرجه البخاري، ح2320، ومسلم ح1553]، وقال: "من كانت له أرض فليزرعها أو ليُزرعها أخاه" [أخرجه مسلم ح1536]؛ فالزرع المنفي عن المخلوق غير المثبت؛ كما قال تعالى: "وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى".
وقوله: "من العباد كسب...إلخ": انظر التعليق السابق (168) .
170 – (13/535) قال الحافظ: "وقال الكرماني: أسند الخلق إليهم صريحا، وهو خلاف الترجمة، لكن المراد كسبهم....ثم قال الكرماني: هذه الأحاديث تدل على أن العمل منسوب إلى العبد؛ لأن معنى الكسب اعتبار الجهتين فيستفاد المطلوب منها....".
وذلك في كلامه على حديث رقم 7557، 7558، 7559، كتاب التوحيد، باب 56.
انظر التعليقين السابقين (168) و (169) .
171 – (13/538) قال الحافظ: "وتعقب أنه مجاز عن حقارة قدره، ولا يلزم منه عدم الوزن، وحكى القرطبي في صفة وزن عمل الكافر وجهين أحدهما: أن كفره يوضع في الكفة ولا يجد له حسنة يضعها في الأخرى فتطيش التي لا شيء فيها، قال: وهذا ظاهر الآية؛ لأنه وصف الميزان بالخفة لا الموزون... والصحيح أن الأعمال هي التي توزن".
وذلك في كتاب التوحيد، باب 58 .
قال الشيخ البراك : قوله صلى الله عليه وسلم في الكافر: "فلا يزن عند الله جناح بعوضة": يحتمل أنه إخبار عن وزنه وخفته، ويحتمل أنه إخبار عن حقارة قدره؛ فكلا المعنيين يعبر عنهما بهذا اللفظ، فلا يكون نصًا في أن العامل يوزن، لكن الدليل على ذلك قوله صلى الله عليه وسلم عن ابن مسعود رضي الله عنه: "أتعجبون من دقة ساقيه، إنهما في الميزان أثقل من جبل أحد"، ومجموع النصوص يفيد أن الوزن يكون للعامل وعمله وصحائف عمله، والله على كل شيء قدير، والله أعلم. وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه. اهـ
No comments:
Post a Comment