بسم الله الرحمن الرحيم
المطلب الثاني : أمثلة معاصرة على اعتقاد الخلف أن مذهب السلف هو التفويض .
[1] - قال صاحب جوهرة التوحيد رحمه اللَّه :
وكل نص أوهم التشبيه : أوله أو فوِّض ورم تنزيها
ويذكر شارح الجوهرة تحت هذا البيت في قوله تعالى : } وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا { ([1]) وحديث الصحيحين :
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S قَالَ : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) ([2]) ، يقول : فالسلف يقولون : مجيء ونزول لا نعلمه ) ([3]) .
فادعى الناظم والشارح معا أن مذهب السلف الصالح هو تفويض المعنى ، وهذا باطل لأنه جعل كلام اللَّه بلا معنى ، وجعل السلف بمنزلة الجهلة الذين خاطبهم اللَّه بالألغاز والأحاجي وما لا يفهم معناه ، ولا يعقل أن نسمع رجلا أجنبيا يتحدث بلغة لا نفهمها ، ولا نعلم لسان أهلها ، ثم نقول بعد سماعنا له : كلامك جيد ، ووصفك سليم ، وكلامك ليس فيه باطل ، ونحن نصدق كل ما تقول !
وإذا كان هذا مستقبحا بين البشر فكيف نقبله في كلام اللَّه عز وجل ؟! فالسلف لم يقولوا : مجيء ونزول لا نعلمه ، كما ادعى شارح الجوهرة ، وإنما قالوا : مجيء ونزول لا نعلم كيفيته ، وفرق بينهما عظيم .
[2] - قال الشيخ أمين محمود خطاب عن نصوص الصفات : ( إن السلف فوضوا علم المراد منها إلى اللَّه تعالى . فقوله : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { ، يقول فيه السلف ، هو مصروف عن ظاهره ، ويفوضون علم المراد منه إلى اللَّه ) ([4]) .
والسلف الصالح ما قالوا هذا ، وإنما قالوا في الآية : هي على ظاهرها والمعنى معلوم واضح ، والمجهول هو الكيف فقط ، ولكن الأشعرية ظنوا أن الظاهر منها يتحتم أن يكون الظاهر من استواء بلقيس على عرشها ، ولو سئل أحدهم : هل رأيت استواء بلقيس ؟ فيقول : لا ، يقال له : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : نعم ، فيقال عند ذلك : معنى استواء بلقيس معلوم ، وكيفية استوائها معلومة أيضا من رؤيتك للمثيل ، لكن إذا سئل : هل رأيت استواء اللَّه ؟ فيقول : لا ، فيقال : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { ([5]) ، فيقال له : كيف حكمت أن الظاهر في استواء اللَّه يماثل الظاهر في استواء بلقيس ؟ أليس هذا قول على اللَّه بلا علم ؟ إنما يكفي أن القول إن معنى استواء اللَّه معلوم ، وهو العلو والارتفاع ، وكيفية استوائه معلومة لله مجهولة لنا .
[3] - ما ذكره الشيخ إبراهيم الدسوقي في مقالته عن قوله تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { وآراء العلماء في المتشابه إذ يقول : ( فذهب السلف إلى التفويض في المعنى الذي أراده اللَّه تعالى ، بعد الإيمان به والتنزيه عن الظاهر المستحيل ) ثم ينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة وأنهم يدينون لله بهذه العقيدة ([6]) .
فهؤلاء جميعا مع فضلهم وحسن ظننا بهم ، ظنوا أن اعتقاد السلف الصالح هو التفويض ، وعند التحقيق نجد الأمر يمكن في إثباتهم للصفة من عدمه ، فهل استواء الله علي عرشه حقيقة موجودة ولها كيفية ؟ أم أنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة الغيبية ؟ فلا خلاف بين السلف في وجود كيفية حقيقية للاستواء ، وإنما الخلاف بين السلف ومخالفيهم من الأشعرية وغيرهم ، في ادعائهم جهل السلف بمعنى الاستواء وتفويض العلم به إلى الله ، فالكيفية لها وجود حقيقي معلوم لله ومجهول لنا .
ومن ثم فالقول بأن الاستواء غير معلوم ، أو لا نعلمه ، أو نجهله ، قول باطل ، وكذلك القول بأن معنى الاستواء غير معلوم قول باطل أيضا ، أما القول بأن كيفية الاستواء فقط غير معلومة ، أو مجهولة لنا ، فهو الحق الذي دلت عليه الأدلة .
وهنا مسألة تتطلب الشرح والتفصيل ، وهي مسألة الظاهر ، هل هو مراد أو غير مراد ؟ فإذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد ، فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين ، أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه ، لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال ، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
1- تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ، ولا يكون كذلك .
2- وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ ، لاعتقادهم أنه باطل ([7]) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأعلم أن من المتأخرين من يقول مذهب السلف ، إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد ، وهذا اللفظ مجمل ، فان قوله ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلى أنه مستقر في الحائط الذي يصلى إليه ، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ، ونحو ذلك ، فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال من السلف إن هذا غير مراد ، فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ، فان هذا المحال ليس هو الظاهر ، إلا أن يكون هذا المعنى ممتنع ، وصار يظهر لبعض الناس ، فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار ، معذورا في هذا الإطلاق ) ([8]) .
أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في نصوص الصفات عند العوام :_
نظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف ، قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات ، لا سيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف ، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف ، أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك ، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب ، وهذه دعوة قديمة منذ أن ظهرت عقيدة التفويض ، ولم يدراك كثير من الناس ما عليه السلف ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول القائل : لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين ، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين ، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح ، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك ، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة ، هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين ، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون ، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي S شيئا من صفات الإثبات أو النفي ، فإن الله يوصف بالإثبات ، وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده ، ويوصف بالنفي ، وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا ، إقرارا أو تأويلا أو غير ذلك ، فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك ، أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء ، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ، ولا التأويل سائغ ، ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك ، إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير ، وإذا التزم هو ذلك ، وقال لغيره التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها فإن هذا عدل ، بخلاف ما إذا نهي غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع .
وكذلك قوله : ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها ، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم ، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها ، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ، ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية ، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا ، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا ، ويقول لأهل العلم والإيمان : أنتم لا تعارضوا ولا تكلموا فيها ، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته .
كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات ، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله .
وقد قيل : إن مالكا لما صنف الموطأ قال : جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس ، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل ([9]) .
(1) الفجر:22.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة برقم (1145) .
(3) شرح البيجورى على الجوهرة ، طبعة المعاهد الأزهرية ص109.
(4) الفتاوى الأمينية ص97.
(5) الشورى:11.
(6) انظر مجلة الأزهر عدد محرم سنة 1414 هـ ص28 ، وانظر أيضا مجموعة الرسائل للشيخ الفاضل حسن البنا ص330.
(7) ابن تيمية : مجموع الفتاوى 3/43 ، درء التعارض بين العقل والنقل 7/128.
(8) السابق 5/8.
(9) ابن تيمية : الفتاوى الكبرى 5/14 .
[1] - قال صاحب جوهرة التوحيد رحمه اللَّه :
وكل نص أوهم التشبيه : أوله أو فوِّض ورم تنزيها
ويذكر شارح الجوهرة تحت هذا البيت في قوله تعالى : } وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا { ([1]) وحديث الصحيحين :
( عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ S قَالَ : يَنْزِلُ رَبُّنَا تَبَارَكَ وَتَعَالَى كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا حِينَ يَبْقَى ثُلُثُ اللَّيْلِ الآخِرُ ، يَقُولُ : مَنْ يَدْعُونِي فَأَسْتَجِيبَ لَهُ مَنْ يَسْأَلُنِي فَأُعْطِيَهُ مَنْ يَسْتَغْفِرُنِي فَأَغْفِرَ لَهُ ) ([2]) ، يقول : فالسلف يقولون : مجيء ونزول لا نعلمه ) ([3]) .
فادعى الناظم والشارح معا أن مذهب السلف الصالح هو تفويض المعنى ، وهذا باطل لأنه جعل كلام اللَّه بلا معنى ، وجعل السلف بمنزلة الجهلة الذين خاطبهم اللَّه بالألغاز والأحاجي وما لا يفهم معناه ، ولا يعقل أن نسمع رجلا أجنبيا يتحدث بلغة لا نفهمها ، ولا نعلم لسان أهلها ، ثم نقول بعد سماعنا له : كلامك جيد ، ووصفك سليم ، وكلامك ليس فيه باطل ، ونحن نصدق كل ما تقول !
وإذا كان هذا مستقبحا بين البشر فكيف نقبله في كلام اللَّه عز وجل ؟! فالسلف لم يقولوا : مجيء ونزول لا نعلمه ، كما ادعى شارح الجوهرة ، وإنما قالوا : مجيء ونزول لا نعلم كيفيته ، وفرق بينهما عظيم .
[2] - قال الشيخ أمين محمود خطاب عن نصوص الصفات : ( إن السلف فوضوا علم المراد منها إلى اللَّه تعالى . فقوله : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { ، يقول فيه السلف ، هو مصروف عن ظاهره ، ويفوضون علم المراد منه إلى اللَّه ) ([4]) .
والسلف الصالح ما قالوا هذا ، وإنما قالوا في الآية : هي على ظاهرها والمعنى معلوم واضح ، والمجهول هو الكيف فقط ، ولكن الأشعرية ظنوا أن الظاهر منها يتحتم أن يكون الظاهر من استواء بلقيس على عرشها ، ولو سئل أحدهم : هل رأيت استواء بلقيس ؟ فيقول : لا ، يقال له : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول : نعم ، فيقال عند ذلك : معنى استواء بلقيس معلوم ، وكيفية استوائها معلومة أيضا من رؤيتك للمثيل ، لكن إذا سئل : هل رأيت استواء اللَّه ؟ فيقول : لا ، فيقال : وهل رأيت له مثيلا ؟ فيقول } لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ { ([5]) ، فيقال له : كيف حكمت أن الظاهر في استواء اللَّه يماثل الظاهر في استواء بلقيس ؟ أليس هذا قول على اللَّه بلا علم ؟ إنما يكفي أن القول إن معنى استواء اللَّه معلوم ، وهو العلو والارتفاع ، وكيفية استوائه معلومة لله مجهولة لنا .
[3] - ما ذكره الشيخ إبراهيم الدسوقي في مقالته عن قوله تعالى : } الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى { وآراء العلماء في المتشابه إذ يقول : ( فذهب السلف إلى التفويض في المعنى الذي أراده اللَّه تعالى ، بعد الإيمان به والتنزيه عن الظاهر المستحيل ) ثم ينسب ذلك إلى الأئمة الأربعة وأنهم يدينون لله بهذه العقيدة ([6]) .
فهؤلاء جميعا مع فضلهم وحسن ظننا بهم ، ظنوا أن اعتقاد السلف الصالح هو التفويض ، وعند التحقيق نجد الأمر يمكن في إثباتهم للصفة من عدمه ، فهل استواء الله علي عرشه حقيقة موجودة ولها كيفية ؟ أم أنهم لا يؤمنون بهذه الحقيقة الغيبية ؟ فلا خلاف بين السلف في وجود كيفية حقيقية للاستواء ، وإنما الخلاف بين السلف ومخالفيهم من الأشعرية وغيرهم ، في ادعائهم جهل السلف بمعنى الاستواء وتفويض العلم به إلى الله ، فالكيفية لها وجود حقيقي معلوم لله ومجهول لنا .
ومن ثم فالقول بأن الاستواء غير معلوم ، أو لا نعلمه ، أو نجهله ، قول باطل ، وكذلك القول بأن معنى الاستواء غير معلوم قول باطل أيضا ، أما القول بأن كيفية الاستواء فقط غير معلومة ، أو مجهولة لنا ، فهو الحق الذي دلت عليه الأدلة .
وهنا مسألة تتطلب الشرح والتفصيل ، وهي مسألة الظاهر ، هل هو مراد أو غير مراد ؟ فإذا قال القائل ظاهر النصوص مراد أو ظاهرها ليس بمراد ، فإنه يقال لفظ الظاهر فيه إجمال واشتراك ، فإن كان القائل يعتقد أن ظاهرها التمثيل بصفات المخلوقين ، أو ما هو من خصائصهم ، فلا ريب أن هذا غير مراد ، ولكن السلف والأئمة لم يكونوا يسمون هذا ظاهرها ، ولا يرتضون أن يكون ظاهر القرآن والحديث كفرا وباطلا ، والله سبحانه وتعالى أعلم وأحكم ، من أن يكون كلامه الذي وصف به نفسه ، لا يظهر منه إلا ما هو كفر أو ضلال ، والذين يجعلون ظاهرها ذلك يغلطون من وجهين:
1- تارة يجعلون المعنى الفاسد ظاهر اللفظ ، حتى يجعلوه محتاجا إلى تأويل يخالف الظاهر ، ولا يكون كذلك .
2- وتارة يردون المعنى الحق الذي هو ظاهر اللفظ ، لاعتقادهم أنه باطل ([7]) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية : ( وأعلم أن من المتأخرين من يقول مذهب السلف ، إقرارها على ما جاءت به مع اعتقاد أن ظاهرها غير مراد ، وهذا اللفظ مجمل ، فان قوله ظاهرها غير مراد يحتمل أنه أراد بالظاهر نعوت المخلوقين وصفات المحدثين ، مثل أن يراد بكون الله قبل وجه المصلى أنه مستقر في الحائط الذي يصلى إليه ، وأن الله معنا ظاهره أنه إلى جانبنا ، ونحو ذلك ، فلا شك أن هذا غير مراد ، ومن قال من السلف إن هذا غير مراد ، فقد أصاب في المعنى لكن أخطأ بإطلاق القول بأن هذا ظاهر الآيات والأحاديث ، فان هذا المحال ليس هو الظاهر ، إلا أن يكون هذا المعنى ممتنع ، وصار يظهر لبعض الناس ، فيكون القائل لذلك مصيبا بهذا الاعتبار ، معذورا في هذا الإطلاق ) ([8]) .
أثر عقيدة التفويض في الدعوة إلى عدم الكلام في نصوص الصفات عند العوام :_
نظرا لأن بعض المنتسبين لمذهب الخلف ، قد يواجهون بقوة عند قولهم بتأويل نصوص الصفات ، لا سيما إذا كان التأويل أقرب إلى التحريف ، فإنهم يتملصون من مواجهة الحق بدعوى السكوت وعدم الخوض في المتشابه كما هو حال السلف ، أو زعمهم أن مسائل الصفات لا يترتب عليها عمل ولا سلوك ، فيكفينا المحكم من القرآن والسنة وما يدعوا إلى تأليف القلوب ، وهذه دعوة قديمة منذ أن ظهرت عقيدة التفويض ، ولم يدراك كثير من الناس ما عليه السلف ، وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية أن قول القائل : لا يتعرض لأحاديث الصفات وآياتها عند العوام ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إما أن يريد بذلك أنه لا تتلى هذه الآيات وهذه الأحاديث عند عوام المؤمنين ، فهذا مما يعلم بطلانه بالاضطرار من دين المسلمين ، بل هذا القول إن أخذ على إطلاقه فهو كفر صريح ، فإن الأمة مجمعة على ما علموه بالاضطرار من تلاوة هذه الآيات في الصلوات فرضها ونفلها واستماع جميع المؤمنين لذلك ، وكذلك تلاوتها وإقرائها واستماعها خارج الصلاة ، هو من الدين الذي لا نزاع فيه بين المسلمين ، وكذلك تبليغ الأحاديث في الجملة هو مما اتفق عليه المسلمون ، وهو معلوم بالاضطرار من دين المسلمين ، إذ ما من طائفة من السلف والخلف إلا ولا بد أن تروي عن النبي S شيئا من صفات الإثبات أو النفي ، فإن الله يوصف بالإثبات ، وهو إثبات محامده بالثناء عليه وتمجيده ، ويوصف بالنفي ، وهو نفي العيوب والنقائص عنه سبحانه وتعالى عما يقولون علوا كبيرا.
وأما أن يريد أنه لا يقال حكمها كذا وكذا ، إقرارا أو تأويلا أو غير ذلك ، فإن أراد هذا فينبغي لقائل ذلك ، أن يلتزم ما ألزم به غيره ، فلا ينطق في حكم هذه الآيات والأحاديث بشيء ، ولا يقول الظاهر مراد أو غير مراد ، ولا التأويل سائغ ، ولا هذه النصوص لها معان أخر ونحو ذلك ، إذ هذا تعرض لآيات الصفات وأحاديثها على هذا التقدير ، وإذا التزم هو ذلك ، وقال لغيره التزم ما التزمته ولا تزد عليها ولا تنقص منها فإن هذا عدل ، بخلاف ما إذا نهي غيره عن الكلام عليها مع تكلمه هو عليها كما هو الواقع .
وكذلك قوله : ولا يكتب بها إلى البلاد ولا في الفتاوى المتعلقة بها ، إن أراد أنها أنفسها لا تكتب ولا يفتى بها ، فهذا مما يعلم فساده بالاضطرار من دين الإسلام كما تقدم ، وإن أراد لا يكتب بحكمها ولا يفتي المستفتي عن حكمها ، فيقال له فعليك أيضا أن تلتزم ذلك ، ولا تفتي أحدا فيها بشيء من الأمور النافية ، وحينئذ يكون أمرك لغيرك بمثل ما فعلته عدلا ، أما أن يجيء الرجل إلى هذه النصوص فيتصرف فيها بأنواع التحريفات والتأويلات جملة أو تفصيلا ، ويقول لأهل العلم والإيمان : أنتم لا تعارضوا ولا تكلموا فيها ، فهذا من أعظم الجهل والظلم والإلحاد في أسماء الله وآياته .
كما أن سلف الأمة وأئمتها ما زالوا يتكلمون ويفتون ويحدثون العامة والخاصة بما في الكتاب والسنة من الصفات ، وهذا في كتب التفسير والحديث والسنن أكثر من أن يحصيه إلا الله .
وقد قيل : إن مالكا لما صنف الموطأ قال : جمعت هذا خوفا من الجهمية أن يضلوا الناس ، لما ابتدعت الجهمية النفي والتعطيل ([9]) .
(1) الفجر:22.
(2) أخرجه البخاري في كتاب الجمعة برقم (1145) .
(3) شرح البيجورى على الجوهرة ، طبعة المعاهد الأزهرية ص109.
(4) الفتاوى الأمينية ص97.
(5) الشورى:11.
(6) انظر مجلة الأزهر عدد محرم سنة 1414 هـ ص28 ، وانظر أيضا مجموعة الرسائل للشيخ الفاضل حسن البنا ص330.
(7) ابن تيمية : مجموع الفتاوى 3/43 ، درء التعارض بين العقل والنقل 7/128.
(8) السابق 5/8.
(9) ابن تيمية : الفتاوى الكبرى 5/14 .
No comments:
Post a Comment