بسم الله الرحمن الرحيم
الفصل الثاني
أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها
ويشتمل هذا الفصل على هذه المطالب :
المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة .
المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية .
المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات .
المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .
المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ، في الاستواء وكلام الله تعالى ورؤيته جل وعلا .
قائمة المحتويات
- الفصل الثاني : أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها ..................... ص 2
- المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة ..................................... ص 3
- مقدمة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة ............... ص 3
- الركن الأول ............................................................ ص 3
- الركن الثاني ............................................................ ص 5
- المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية ......... ص 8
- المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات ........................ ص 9
- أهم أدلة نفاة الصفات الفعلية ............................................. ص 9
- أهم أدلة نفاة صفة العلو ................................................ ص 10
- أهم أدلة نفاة صفات الذات .............................................. ص 11
- ملاحظات على هذه الأدلة ............................................... ص 12
- المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .. .................................................................................. ص 14
- الشق الأول : الرد العام ................................................. ص 14
- القسم الأول .......................................................... ص 14
- القسم الثاني ......................................................... ص 18
- الشق الثاني : الرد التفصيلي ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة المعتزلة ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات ..................... ص 21
- الجواب على أدلة تأويل نفي العلو وتأويل النصوص الدالة عليه ..... ص 21
- الجواب على أدلة نفي صفات الذات .................................. ص 22
- الجواب على ما ذكروه في نفي المحبة ............................... ص 23
- خلاصة مهمة جدا .................................................... ص 25
- المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ........ ص 27
- المثال الأول : آيات الاستواء ............................................ ص 27
- المثال الثاني : آيات الكلام ............................................... ص 29
- أهم أقوال المنتسبين إلى القبلة في توجيه نسبة الكلام إلى الله ....... ص 29
- القول الأول : قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث ............. ص 29
- القول الثاني : قول المعتزلة ...................................... ص 31
- القول الثالث : قول الأشاعرة ..................................... ص 31
- الأدلة على بطلان قولهم في كلام الله ................................. ص 32
- المثال الثالث : آيات الرؤية .............................................. ص 39
المطلب الأول
إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة
قد يستدل القائلون بتأويل الصفات ومن يجعل منهم نصوصها من المتشابه الذي لا يراد ظاهره بأدلة كثيرة ، وقد ينزعون في بعض الأحيان إلى الاستدلال بالسمع ، لكن تعويلهم الأعظم على الأدلة العقلية[1] وهي متنوعة .
وفي تفصيل القول فيها تطويل يخرجنا عن مقصود هذا الكتاب ، غير أن لهم في هذا الباب أدلة تجري مجرى الأصول لغيرها ، ومنها تفرع كثير من الاستدلال العقلي عندهم ، فإذا ذكرت وبين وجه الجواب عنها اتضح بذلك السبيل الذي اتبعوه في الحكم على هذه النصوص بالتشابه بالمعنى الذي أرادوه .
ويتضح بذلك أيضاً طريق الجواب عن غيرها من الأدلة العقلية بما ينقض زعم من زعم ، أن الأدلة العقلية قد تناقض الوحي الإلهي ، وإن الواجب في هذه الحال التصرف فيه ليلائمها ويتفق معها ، فإن لم يستطع ذلك قدمت الأدلة العقلية على نصوص الوحي ، وأحسن الظن فيها ـ أي نصوص الوحي ـ : بأنها مما يراد به الابتلاء ، لا اعتقاد ما دلت عليه.
* ولابد من تقديم جملة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة فيقال :
أما الركن الأول :
فهو أن هؤلاء المتكلمين - وهم القائلون بتأويل نصوص الصفات - قد اعتقدوا مسائل رأوها قاطعة ، دل عليها براهين محكمة ، وبنوا عليها أموراً عظيمة كإثبات وجود الله ، وأنه صانع العالم ، ورأوا أنها إذا ابتنى عليها هذا الذي هو أصل الدين ، فلا يجوز تقديم ما جاء في السمع عليها ، لأن في ذلك تقديم الفرع على أصله .
وبيان هذا أنهم قسموا ما في العالم من الموجودات إلى قسمين :
جواهر وأعراض ، ولتكون القسمة حاصرة ، جعلوا الجوهر هو المتحيز ، وهو ما يشار إليه بالذات الإشارة الحسية .
والعرض موجوداً قائما بمتحيز ثم جعلوا الجواهر قسمان : ما يقبل القسمة ، وهو الجسم ، وما لا يقبلها لا وهماً ، ولا فعلاً ن ولا فرضا ، ً وهو الجوهر الفرد .
واعتقد أكثرهم أن الأجسام متركبة في الحقيقة من هذه الجواهر الصغيرة التي هي في غاية الحقارة ، وهي في حقيقة الأمر متماثلة تتجمع لتكون الأجسام .
والأجسام كلها في هذا العالم متكونة منها[2] ، لا فرق بين جسم وآخر في أن أصله هذه الجواهر ، والاختلاف الظاهر فيها راجع إلى اختلاف الأعراض القائمة بها .
فجسم النار وجسم الثلج متماثلان إلا أن أعراضاً قامت بالجسم الناري كالحرارة والطافة جعلته بهذه الصفة ، والبرودة والرطوبة جعلت الثلج بهذا الشكل ، واختلاف أحجام الأجسام راجع إلى كثرة هذه الجواهر فيها وقلتها وهذه الجواهر متماثلة[3] .
وطائفة قليلة لم تعتقد قسمة الأجسام إلى هذه الجواهر الصغيرة ، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن الجسم هو ما يمكن الإشارة إليه مما ينقسم ، ويعنون بانقسامه أن يتميز فيه شيء عن شيء ، فيكون فيه يمين ويسار أو فوق وتحت ، وإن كان انقسامه بمعنى انفصاله إلى أجزاء مما لا يقع .
وأما الأعراض فهي كالألوان ، والطعوم ، والروائح ، والأصوات ، وما يسمونه الكيفيات النفسية كالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل ما لايمكن الإشارة إليه من الموجودات ، ولا يقوم بنفسه كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وزعم أكثرهم أن الأجسام لا تخلوا من الأعراض ، أما من قال بالجواهر الفردة فلأنها متركبة منها فلا تخلوا من عرض الاجتماع ، وقال بعضهم لاتخلوا من الحركة ، والسكون ، أو الاجتماع ، والافتراق ، وقال بعضهم : لا تخلوا من جميع أنواع الأعراض[4] .
واشتهر عند الأشعرية أن العرض لا يبقى زمانين ، بل هي ـ أي الأعراض ـ تتجدد حالاً فحالاً ولما أورد عليهم بأن المشاهدة قاضية ببقاء الأعراض قالوا : لا دلالة لها كالماء الدافق من الأنبوب يجري مستمراً وهو أمثال تتوارد[5] .
هذا و لهم في هذه المباحث تفاصيل ، وجدال طويل ومعارضات ، وأدلة يسودون بها الصفحات في الجوهر والعرض ، فكم تناظروا في الجوهر الفرد ، وهل السكون عرض ، وأن الأجسام متماثلة في الأصل ، وينقض بعضهم قول بعض في تفاصيل تتعلق بالجواهر والأعراض ، مما لا يخفى على المطلع على طائفة من كتبهم ولو كانت قليلة.
لكن هذه الجملة المتقدمة أظهرت أعظم مسائل جواهرهم وأعراضهم ، بما فيهم المعتزلة وهي مادة غالب كلامهم في باب الصفات ، وإنما قدمت لتتضح دلائلهم فيما يأتي.
وأما الركن الثاني :
فهو أن المتكلمين أحدثوا طرقاً في إثبات حدوث العالم وصانعه ، بنوا عليها صحة الدين ، ورأوا اطرادها ، وقد بنوها على ما تقدم في الركن الأول .
ورؤوسها ثلاث طرق ، وهي :
الطريقة الأولى :
يقولون فيها ما مثاله[6] العلم أما جوهر أو عرض ، فإذا ثبت حدوثهما فالعالم حادث ، ونحن نثبت حدوث الأعراض ونبني عليه حدوث الجواهر ، فنقول : إن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض البتة ، فأما إن صح وجود الجوهر الفرد ، فلا تنفك الجواهر عن عرض الاجتماع ، أو الافتراق ، وأما إن لم يصحّ فالحركة والسكون ، أو غيرها من الأعراض .
والأعراض حادثة لأنها تتعاقب على محالها التي هي الجواهر ، فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ونعلم حدوث السابق من حيث عدمت ، لأن وجود الشيء بعد عدمه أو عدمه بعد وجوده دليل على حدوثه ، والحوادث لابد لها من مبدأ ، إذ لا يصحّ حوادث متسلسلة لا أول لها ، ويعنون بالحادث ما سبقه عدم .
فينتج من هذه المقدمات حدوث الجواهر إذ ما لا ينفك عن الحوادث التي لها مبدأ ، حادث مثله ضرورة ، فينتج حدوث العالم ، إذ هو بأسره ، جوهر أو عرض ، والحادث لابد له من محدث أحدثه وهو الله تعالى .
وقد عد بعضهم هذه الطريقة ، العمدة في إثبات وجود الله ، وجعل الدين مبنيا عليها[7] .
الطريقة الثانية :
وهي مبنية على القول بتماثل الأجسام ، وأشهر من قال بها أبو المعالي رحمه الله ، فإنه استدل بأن الأجسام في الأصل متماثلة ، وإنما يحصل الاختلاف بينها لاختصاص كل جسم بأعراض تخصه ، كما تقدم بيانه ، واختصاص كل جسم بما له من الصفات دون غيرها - كالحيز الذي هو فيه دون غيره ، والحد والنهاية الذي هو عليها دون غيرها - مفتقر إلى مخصص خصصه على هذه الصفات ، والمفتقر إلى غيره حادث والحادث لابد له من محدث وهو الله جل وعز.
وقد يسمون هذه الطريقة ، طريقة إمكان الأعراض ، والممكن عندهم هو ما لايجب وجوده ولا عدمه ، والواجب يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه وظاهر أن الممكن محدث والمحدث بحاجة إلى محدث[8] .
الطريقة الثالثة :
وهي مبنية على تركيب الأجسام من الجواهر المفردة ، ويقال فيها : إن الأجسام مركبة ، والمركب مفتقر إلى أجزائه ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، والممكن محدث ، وإذا كانت الأجسام ممكنة محدثة فالأعراض التي لا تقوم إلاّ بها أولى بالإمكان والحدوث ، فالعالم محدث والمحدث لابد له من محدث[9] .
استنباط مما مضى :
ويستنبط من هذه الطرق ، أنها كلها ، مبنية على الجسم ، بالاصطلاح الذي وضعوه ، ومضمونها أن الشيء إذا كان في جهة ، ويشار إليه فهو جسم حادث ، وإن دليل حدوثه من ثلاث جهات:
الجهة الأولى : عدم انفكاكه عما يطرأ ويزول فهذا يدل على الحدوث.
الجهة الثانية : اعتوار الصفات الجائزة إياه - أي التي يجوز ألا تكون كما هـي - كوجوده في حيز معين أو مقدار معين وحد معينين ، دون غيرها - فهذا يدل على افتقاره إلى مخصص وهو دليل على الإمكان ، والممكن لابد له من مؤثر يرجح جانب وجوده على عدمه فهو محدث.
الجهة الثالثة: تركيبه دليل على افتقاره إلى ما تركب منه والافتقار دليل الإمكان .
ملحوظة :
يلاحظ أن الطرق السابقة هي استدلال بحدوث الجواهر ، وإمكانها كما هي الأولى والثالثة ، وإمكان الصفات - وهي الأعراض - كما هي الثانية ، وبقي الاستدلال بحدوث الصفات ، وقد يذكر مع الطرق السابقة أيضاً ، لكن الطريقة الأولى والثانية أشهر ، والأولى من الثانية وهي في الأصل للمعتزلة[10]
( والاستدلال بحدوث الصفات ، هو جزء من طريقة القرآن فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدث في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان ، وغير ذلك من الحوادث ، لكن القائلين بالجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا إستدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها لكن تغير صفاتها)[11] .
ولهذا يقول الرازي في التمثيل لهذه الطريقة ( مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء انساناً )[12] وليس في هذا دليل على حدوث الجواهر الحاملة لهذه الأعراض - كما لا يخفى - ولهذا عاد الأشعري رحمه الله بعد ذكر هذه الطريقة إلى الاستدلال على حدوث النطفة - التي مثل بها لهذه الطريقة - بعدم انفكاكها عن الأعراض كما ذكر في الطريقة الأولى السابقة[13] .
كما أن هذه الطريقة ليس فيها ما يقتضي إلاّ يكون صانع العالم جسماً ، بالمعني الكلامي ، كما قال الرازي ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها ، أن الأول يقتضي ألا يكون الفاعل جسماً ، والثاني لا يقتضي ذلك )[14] ، واقتضاء طريقة الإمكان لما ذكر بسبب بناؤها على تماثل الأجسام .
وسيأتي الكلام على هذه الطريقة القرآنية ، وأنها ليست في حدوث الصفات فحسب ، بل الله تعالى أشهدنا حدوث الذوات ، والصفات ، ليجعل ذلك دليلاً على نفسه تبارك وتعالى .
وهكذا ، استعمل أهل الكلام ، الجواهر والأعراض ، وأحكامهما لاثبات حدوث العالم ثم إثبات صانعه ، وهو الله عز وجل ، فرأوا أن الاستدلال بالسمع مبني على هذه الأدلة العقلية ، التي اثبت بها وجود الله منزل الوحي - سبحانه وتعالى - ، فقدموها ، وحكموا بها على الوحي كما سيأتي عند ذكر أدلتهم على أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب حمله على خلاف ظاهره .
فإن هذه الطرق أنتجت لهم الأدلة التي سيستدلون بها على معارضة السمع وصرفه عن ظاهره .
المطلب الثاني
ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية
الدليل الأول :
أن إثبات الصفات لله ، على أنها معاني زائدة على ذاته لا يخلو الأمر فيها ، إما أن تكون حادثة فيلزم حلول الحوادث بذاته ، أو تكون قديمة فيلزم أن يكون لله تعالى مماثلا في أخص وصفه وهو القدم ، فيتعدد القدماء ، وما لا يلزم منه إلاّ الباطل فهو باطل[15] .
وفيما تقدم ما يبين معنى قولهم (يلزم حلول الحوادث) وأنهم استدلوا بهذا على حدوث ما تحل به الحوادث ، ولذلك منعوا هذا هنا .
الدليل الثاني :
أن إثبات الصفات ، نسبة للأعراض إليه سبحانه وتعالى ، والأعراض لا يجوز أن يوصف الله بها إذ هي دليل على أن ما قامت به فهو جسم حادث[16].
الدليل الثالث :
أن إثبات الصفات يلزم منه نسبة التركيب إلى الله ، وانه مركب من الذات والصفات والمركب مفتقر إلى غيره فهو ممكن ، والله تعالى واجب الوجود بنفسه[17].
وقد تقدم كيف جعل التركيب دليلاً على الإمكان والحدوث ،وأنه من البراهين المستعملة في إثبات حدوث العالم الذي يعتمد عليه إثبات الصانع منزل المحكم والمتشابه .
وهذه الأدلة هي أهم ما يستدلون به على نفي الصفات ، ومن هنا جاء القول بأن نصوص الصفات من المتشابه عندهم ، لأنها تدل على خلاف ما قررته هذه البراهين المحكمة عندهم ، كما قال القاضي عبد الجبار (فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول )[18] ، فمثل هذه الأدلة حملته على جعل نصوص الصفات من المتشابه الذي عرفه بأنه (ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد)[19] ، فهذه هي أهم أدلة المعتزلة .
المطلب الثالث
ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات
وأما أدلة غيرهم من أهل التأويل ، فما هي ببعيد عن هذه الأدلة ، بل هي نابعة من عين واحدة ، وهذا بيان أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية ، ثم صفة العلو ، ثم الصفات الذاتية ، كالوجه واليدين.
النوع الأول : أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية :
استدلوا على تأويل آيات ، وأحاديث صفات الأفعال ، التي تدل على أن الله يقوم به من الصفات ما يتعلق بالمشيئة ، كالمجيء يوم القيامة والنزول في ثلث الليل الأخير واستوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً ونداؤه لموسى لما جاء عند شاطئ الوادي الأيمن وغير هذه النصوص التي تدل على أفعال الله في وقت دون وقت .
بأنها يلزم من ظاهرها قيام الحوادث بذات الله ، والحوادث هي ما سبقه العدم ، ولهذا السبب قالوا ليس لله صفة تقوم به إلاّ أن تكون قديمة غير متعلقة بالمشيئة ، ولهذا قالوا بالكلام النفسي ، وإن الله (يخلق لمن يشاء من عباده علما ضرورياً بكلامه ، من غير توسط حروف وصوت ودلالة )[20] ، وقال من قال منهم إن كلامه لا يسمع[21] ، خشية القول بأن الله يتكلم في دون وقت ، فيكون وجود بعض أفراد الكلام سبقه عدمه وهو معنى الحدوث الذي إذا قام بالشيء دل على حدوثه .
وبه استدل على حدوث العالم واثبات الصانع ، ولهذا جعل أبو المعالي القول بظاهر حديث النزول يؤدي إلى (طرفي نقيض إحداهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في دليل حدوث العالم )[22]
وجعل الرازي أول البراهين الدالة على تأويل المجيء قوله (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب فإنه لا ينفك عن المحدث ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم ان كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب وجب أن يكون محدثاً مخلوقاً فالإله القديم يستحيل أن يكون كذلك[23] .
قال ابن تيمية ( وبهذه الطريقة ، نفوا أن يقوم به فعل من الأفعال ، فنفوا أن يكون الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً)[24] .
وهكذا استدل هؤلاء على تأويل نصوص هذا النوع من الصفات بالدليل الذي اخترعه المعتزلة واثبتوا به وجود الصانع سبحانه.
النوع الثاني: أهم أدلة تأويل صفة العلو :
الدليل الأول :
إن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون منقسماً أو غير منقسم ، فإن كان منقسماً كان مركباً ، وقد تقدم ما يلزم من التركيب ، وأن لم يكن منقسماً كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ ، وذلك باطل باتفاق العقلاء ، هذا على القول بوجود الجوهر الفرد ، ومن ينفي الجوهر الفرد يقول كل ما كان مشاراً إليه ، فإنه لابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسماً فثبت أن القول بأنه مشار إليه يفضي إلى الباطل فهو باطل[25].
الدليل الثاني :
قال أبو المعالي (والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة ، شاغل لها ، متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها ، وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلوا عنها وما لا يخلوا عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر ) .
وقد اقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة[26] ، وهي مبنية على الدليل الذي استدل به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الجواهر بحدوث الأعراض فقبول الاجتماع والافتراق دليل على حلول الحوادث الدال على حدوث ما حلت به ، إذا الاجتماع والافتراق ، أعراض وما قامت به الأعراض لا يخلوا منها وهي حادثة .
وما قامت به الحوادث حادث كما تقدم بيانه في أدلة حدوث العالم ، وقد صرح هذا الإمام بأن طرد دليل حدوث الجواهر يوجب القول بنفي العلو ، قال في الإرشاد ( إذ سبيل الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحرث ما اثبتوا متحيزاً ، وإن تفضوا الدليل فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجوهر)[27] .
الدليل الثالث :
أن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون غير متناه وهو باطل ،وإما أن يكون متناهيا فيلزم أن يكون مفتقراً إلى من خصصه بهذا المقدار دون غيره ، وإما أن يكون متناهيا من بعض الجوانب دون بعض ، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الآخر وذلك يوجب القسمة والتجزئة[28] .
النوع الثالث : أهم ما استدلوا به على نفي صفات الذات .
وأهم ما استدلوا به على نفيها ، أنها توجب التجسيم ، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى : أنها لا تطلق إلاّ على الأجسام في الشاهد .
الجهة الثانية : أنها تدل على التركيب وهو من صفات الأجسام .
ثم يقولون بعد هذا أن القول بالجسم يلزم منه الحدوث من جهة الأعراض أو التركيب أو الانقسام ويلزم التماثل مع سائل الأجسام عند من يقول به فيجوز عليه ما يجوز عليها من النقص والحدوث ، ولهذا قد يقولون اختصاراً أنها توجب التشبيه ، والمقصود عندهم أن الأجسام متماثلة ، وهو قول عامة المتكلمين[29] .
أما الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر:
كالمحبة ، والرحمة ، والرضا ، والغضب ، والحياء .
فقد سلكوا في نفيها مسلكين :
الأول : من جهة كونها صفات فعلية ، يلزم منها حلول الحوادث ، وهذا في مثل ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حديث الشفاعة من أن الله يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله[30] ، ومثل قول الله تعالى {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: من الآية31] ، فإن ظاهره أن المحبة تكون بعد الاتباع ، ولهذا يقولون ظاهره التغير[31] .
الثاني : من جهة أنها تدل على النقص والحدوث.
أما المحبة ، فقد قيل في دليل نفيها أن الله تعالى يتقدس أن يميل أو يمال إليه ، حكاه الجويني عن طائفة من الأصحاب[32] ، ويظهر أن المراد ما ذكره ابن تيمية عمن ينفيها أنه احتج بأن المحبة تقتضي مناسبة بين المحب والمحبوب ، توجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ، وهذا يقتضي الحاجة ، إذا ما لا يحتاج إليه الحي لا يحبّه ، والله غني لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه[33] .
أما الرحمة والغضب والرضا والحياء وأمثالها : فلأن الرحمة خور في الطبيعة ، والغضب غليان الدم في القلب لطلب الانتقام ، والرضى رقة وسكون في الطبع والحياء انكسار ، وهذه أمارات النقص ولا يجوز أن يتصف الله بها[34] .
ملاحظات على هذه الأدلة :
ويلاحظ على هذه الأدلة التي هي عمدتهم في حكمهم على نصوص الصفات أنها من المتشابه الذي لا يراد به الظاهر مما دل عليه ، أمور :
الأول : أن ينبوعها واحد ، وهو ما أحدث من القول في الجواهر والأعراض ، ثم بناء إثبات وجود الله على ذلك ، ومعلوم أن مصدر هذه البدع من كتب الفلسفة .
الثاني: أن الألفاظ المستعملة عندهم ، لا سيما التي ينفون بها عن الله ما ينفون ، كالجسم والجوهر والعرض والتركيب والانقسام والحيز ، اصطلاحات خاصة بهم ، يريدون بها معاني خاصة لا يعرفها أكثر الناس من لغتهم ولا من عرفهم ، وقد يتوهم السامع انهم ينفون بها ما يعلمه من معناها اللغوي وليس الأمر كذلك كما سيأتي بيانه .
الثالث: انهم يستعملون فيما يبحثون فيه في المطالب الإلهية ، قياس الخالق على المخلوق قياساً شمولياً أو تمثيلياً .
يوضح ذلك مثال ، وهو أن :
حقيقة دليلهم في نفي العلو هو انهم يقولون :
ظاهر الشرع أن الله في جهة ،وكل ما كان في جهة فهو جسم ، حادث فظاهر الشرع أن الله جسم حادث ، وهذا هو قياس الشمول بعينه .
وأما قياس التمثيل فمثل أن يقال : المجودات في جهة أجسام حادثة في الشاهد ، والله تعالى في ظاهر النصوص في جهة ، فالله تعالى في ظاهر النصوص جسم حادث قياساً للغائب على الشاهد ، ثم ينتج من القياسين وجوب صرف الظاهر.
وهذا لا يستطاع الانفصال عنه ، وذلك أن الذي يريد أن لا يعول إلاّ على العقل في هذه الأمور الغيبية لابد له من استعمال القياس ، ولازم قياس التمثيل أن الله تعالى يدخل هو وغيره تحت قضية كلية واحدة تستوي أفرادها ، ولازم قياس التمثيل أن لله تعالى مماثل لا يقاس عليه وسيأتي الكلام على هذا وبطلانه .
فهذا إجمال لأهم أدلة أهل التأويل لصفات الله تعالى .
المطلب الرابع
الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى
ويتجه في تنظيم الرد أن ينفصم إلى شقين :
الأول عام .
والثاني أجوبة تفصيلية على أفراد الأدلة .
* أما الشق الأول العام في الرد على القائلين بتأويل نصوص الصفات :
فينشطر إلى قسمين أيضا :
أما القسم الأول فيقال فيه :
ما بنيت عليه هذه المقالة ، وهي أن نصوص الصفات من المتشابه المؤول ، من الأدلة العقلية ، التي اعتبرت محكمة لاستكمالها ما ينبغي اشتراطه لافضاء النظر العقلي إلى العلم ، قد تنازع فيها أرباب النظر والكلام أنفسهم ، وبعض القائلين ببعض هذه الأدلة في وقت رجع عنها في وقت آخر وأبطلها .
ويوضح هذا أمور :
الأول : إن قولهم في الدليل الأول ، الجواهر لا تتعري عن الأعراض ، والأعراض حادثة فالجواهر كذلك ، قد تنازع فيها أرباب الكلام أنفسهم ، فخالف في المقدمة الأولى بعض المعتزلة ، وأورد أبو المعالي في الرد عليهم ما هو من جنس ما يردون به عليه[35] .
وأما المقدمة الثانية ، فقد قال ابن رشد ( وذلك إن الجسم السماوي وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد ، الشك في حدوث أعراضه ، كالشك في حدوث نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه)[36]، يريد أن الأجسام السماوية لا يمكن الاستدلال على حدوثها بحدوث الأعراض القائمة بها لأنها لم يشاهد حدوث أعراضها .
فهذا يوضح أن ما بنوا عليه قاعدتهم الكلية وهي إن ما يقوم به ( ما يأتي ويزول هو حادث ) ، أمور مشكوك فيها ، ولا يصح إن يصرف الشرع عن ظاهره لأدلة عقلية متنازع فيها ، لا يقوم عليها دليل عقلي قاطع .
ولهذا فقد صرح كبرائهم أنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ما سموه (حلول الحوادث بذات الله ) ، ذكر ابن تيمية ذلك عن الرازي في كتابه المطالب العالية ، وذكر أنه آخر كتبه الكلامية ، وعن الآمدي في كتابه أبكار الأفكار[37] .
وهذا يبين أنه لا يجوز معارضة الوحي بأدلة عقلية قد تنازع فيها العقلاء ، وليس المقصود هنا إثبات قدم الجواهر ، والأعراض ، فإن المسلمين بل وأرباب الملل متفقون على أن الله خالق كل شيء ، وموجده من العدم .
وليس إثبات هذا مقصوراً على طرق المتكلمين ، وإنما المقصود هنا ، أنهم جعلوا ما ليس مسلما صارفا للنصوص السمعية القطعية عن ظاهرها وهذا لا يجوز قطعا.
الثاني: إن دليلهم الثاني في إثبات حدوث العالم مبني على تماثل الأجسام وعلى أنها مركبة من الجواهر الفردة ومعلوم إن هذا لا يمكن إثباته ، ولهذا توقف فيه الأذكياء منهم ، كماعزي ابن تيمية التوقف فيه إلى أبي المعالي ، والرازي من الأشعرية ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة[38] .
ولهذا قال ابن رشد ( وان عنوا بالجوهر الجزء الذي لا ينقسم ، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ، ففيه شك ليس باليسير وذلك إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه ، وفي وجوده ، أقاويل متضادة شديدة التعاند)[39]
وبهذا يعلم إن ما يستدل به على نفي العلو من أنه يلزم منه أن يكون ما هو في جهة جسماً مركباً من الجواهر ، و يكون جوهراً فرداً ، مبني على تخيلات لا أدلة عقلية.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن العجب أن كلامه - الآمدي - وكلام مثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام ، وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وان القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة ، ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها ، فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاماً بلا علم ، بل بخلاف الحق ، مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] )[40] .
الثالث : أن قولهم في الدليل الثالث على حودث العالم ، المركب ممكن لأنه مفتقر لأجزائه وهي غيره ، قد ضعفه بعضهم أيضاً ، وذكر أن العقل لا يوجب أن المركب حادث ما لم يجب حدوث أجزائه[41] .
فهذا أيضاً يدل على أن ما توهم أنه دلالات محكمة ، لا أحكام فيها ، بل إذا نشط مخترعوها لإبطالها فما أسهل ذلك ، ولهذا فان هؤلاء الجدليين يثبتون أموراً تارة ، وينفون ما أثبتوه تارة أخرى ، كما دل على ذلك ما تقدم[42] .
وهو مما يدل على صدق مقالة الآلوسي التي نقلها عنه رشيد رضا في المنار قال ( وقد صرح السيد الآلوسي تبعاً لغيره من المحققين العارفين بما حققناه هنا فيعلم الكلام والمتكلمين على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق فقال ما نصه ( وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا )) ، ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلاّ قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالعقل بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال ))[43] .
ومن المعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بإثبات الصانع بهذه الطرق التي يلزم منها نفي الصفات ، ولو كان أصل الدين متوقفاً عليها - كما يقوله بعضهم - لما قبل صلى الله عليه وسلم إيمان متبعيه حتى يلقنهم أحكام هذه الجواهر والأعراض وكيف تدل على حدوث العالم واثبات صانع.
ولهذا صرح العلماء بذم هذه الطرق وذم الكلام فيما هذا سبيله مما ليس فيه فائدة في الحياة الدنيا بله أن يكون فيه نفع ديني بوجه[44]
والعلم بافتقار المحدث إلى محدث وبأن العالم محدث ،أبين في العقل من يتكلف له هذه التنطعات .
وإلا ما سمّي الله ما في الكون مما يدل على وجوده آيات ، والآية هي العلامة الواضحة التي تدل على الشيء بلا حاجة إلى توسط أمور أخرى كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ، وقال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: من الآية53] ، وقد تنوعت آيات الذكر الحكيم وبهرت العقول في الاستدلال على الربوبية بما هو أوضح وأقرب إلى الفطرة من كلام المتكلمين .
مثل ذكر خلق السموات وبروجها والشمس والقمر والليل والنهار ، وما في الأرض من جبال وأنهار ، وجنات وأشجار ، والفلك التي تجري في البحار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وتصريف الرياح وإنزال الأمطار ، فإذا أخذت هذه الآيات بمجامع قلب الشاك ، التفت إلى قلبه فوجد فيه العلم بأن لهذه الحوادث محدثاً علماً ضرورياً فطرياً ، (فهذه الطريق هي الصراط المستقيم الذي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى)[45] فإن الإنسان مركوز في فطرته أن الحوادث التي يشهدها لابد لها من محدث ، وان لهذا العالم مبدعاً أبدعه ، فإذا نبه على ما في الكون من آيات تدل على خالقه اشتاقت فطرته إليه [46].
ويدل على هذا أن الأمم التي بعث إليها الأنبياء كانوا مقرين بوجود الله وأنه خالقهم ، وإنما بعثت الرسل ليعبدوا الله وحده ،وأما فرعون فلم ينكر الرب بجهل ولكن جحوداً ، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: من الآية14] .
وإذا علم أن معرفة الخالق لا تحتاج إلى هذه الطرق الملتوية التي التزم أصحابها من أجلها نفي الصفات ، علم أن هؤلاء المتكلمين أضاعوا أوقاتهم فيما أقر به غالب بني آدم بما فطروا عليه ، ومن طرأ عليه الشك فإن طريقة القرآن كافيه في إزالته ، ومن أنكر فلجحود وهوى ولا تنفع الحجة حينئذ.
ولما كانت هذه الطرق التي سلكوها مبتدعة ، أفضت إلى ما هو بدعة في الشرع وجناية على القرآن والسعة واتهامهما بإظهار خلاف الحق في هذا الباب العظيم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً السبب في مخالفة أهل التأويل للكتاب والسنة : (وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة مثل (متحيز ) ، (ومحدود) ، (وجسم) ، (ومركب) ،ونحو ذلك ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث ولإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليه من جهة النصوص فصاروا أحزابا ...)[47]
وأما القسم الثاني فيقال فيه:
إن هذه الأدلة المتقدمة ترجع إلى استعمال القياس في المطالب الإلهية كما تقدم التنبيه عليه ،وأنه يلزم منه أن يكون الله وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها في قياس الشمول ، أو يكون هو سبحانه والمقيس عليه مستويان في قياس التمثيل .
وبطلان هذا أوضح من أن يتكلف الرد عليه ، وهو يدل على بطلان أدلتهم ، فإن الله تعالى لا يستدل عليه بالشاهد من جهة هذين القياسين ، ولكن يصح أن يستدل عليه بالشاهد من جهة قياس الأولى الذي ليس فيه المحذور من القياسين المتقدمين ، فإذا دخل في قضية كلية مع غيره لا يجعل مستوياً مع أفرادها في حكم لكن يجعل له المثل الأعلى ، ومثاله أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً ، والله تعالى أحق بالغني عن كل محل من كل قائم بنفسه.
وإذا استدل عليه بالشاهد يقال مثلاً : كل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده ، فالله تعالى أحق به إذ هو واجب الوجود ، وكل نقص يتنزه عن موجود لكمال وجوده فالموجود الواجب أحق بالتنزه عنه[48] .
وبهذا يمكن الاستدلال العقلي على بعض الصفات فإن السمع والبصر والعلم كمال في المخلوق فواهب الكمال أحق به ، وكذلك الرحمة والكلام فإن الذي يقدر على الكلام أكمل من الذي لا يقدر عليه ، والذي يرحم أكمل من الذي لا يرحم ، وكذلك الذي يغضب في موضع الغضب أكمل من الذي لا يغضب ، فالله تعالى أولى بهذه الكمالات من المخلوقات .
وقد استعمل في القرآن هذه الطريقة في التنبيه على الاقيسة العقلية التي تسمى في القرآن (ضرب الأمثال) كما قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] ، فبين أن الذي ينزهون أنفسهم عنه ، الله تعالى أولى بالتنزه عنه .
وكما استدل بالنشأة الأولى على الآخرة ،وبخلق السموات والأرض على خلق الناس ، إذ القادر على الإبداع قادر على الإعادة ، والقادر على خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى من باب أولى[49] .
وكقول الله تعالى : {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28] .
يقول الله تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك للمالك يشرك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم ، فكيف ترضون ذلك لي ، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟ وهذا يبين أن الله تعالى أحق بكل كمال من كل أحد[50] .
ولو إن أهل التأويل استعملوا هذا القياس فحسب لما أوقعهم في التأويل ، وذلك انهم لما قاسوا الله على خلقه ، جعلوا ما يلزم من إطلاق الصفات عليه هو بعينه اللازم من إطلاقها على مخلوقاته ، ولذلك يقولون النزول تفريغ مكان وشغل آخر، والاستواء يقتضي الحاجة إلى العرش والرحمة ضعف ورقة ، ومثل هذه العبارات التي تدل على أنهم يقيسون الله على خلقه تعالى عن ذلك .
وإذا كان بعض المخلوقات لا يصح قياسه على غيره في لوازم ما يطلق عليه من الصفات ، فالروح لها نزول ، وصعود ، وأفعال ، ولا يلزم من ذلك ما يلزم من أفعال البشر للاختلاف بينهما فكيف بالله تعالى .
* أما الشق الثاني ، وهو الرد التفصيلي :
1ـ : الجواب عن أدلة المعتزلة :
الجواب عن الدليل الأول:
وهو قولهم ، إثبات الصفات يلزم منه مشاركة الله في صفة القدم أو حلول الحوادث ، ويقال في الجواب: (أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال ، صفات الذات وصفات الفعل)[51] (ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن ، تعالى عن ذلك)[52] ، ولكن إثبات الصفات وان الله لم يزل متصفا بها لا يلزم منه أن يكون الإله أكثر من واحد.
فليس يجب إن تكون صفة الإله إلها ، ووصف الصفة بالقدم ليس المراد أنها توصف بها على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكنها تكون قديمة بقدم موصوفها ، فإن الصفة تابعة للموصوف ، قديمة بقدمه وباقية ببقائه ونحن إذا ذكرنا الله بلفظ مظهر أو مضمر ، دخل في مسمى اسمه صفاته ، فمن قال دعوت الله أو عبدته لم يرد بذلك انه دعا ، أو عبد ذاتا مجرده عن الصفات ، فإن وجود مثل هذه الذات في الأعيان ممتنع ، وإنما المراد أنه دعا أو عبد الله الحي القيوم القدير السميع البصير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال[53] .
وأما أفراد بعض صفات الله مما يحدث في وقت دون وقت ، فليس فيه تجدد صفة لله تعالى قال شارح الطحاوية (أن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم ، وكان متكلماً بالأمس لا يقال أنه حدث له الكلم ، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة بمعنى أنه يتكلم إذا شاء وفي حال فعله يسمى متكلماً بالفعل)[54]
وإطلاقهم على هذا حلول الحوادث لا يصيره ممنوعاً ما لم يمنع من ذلك الكتاب والسنة .
الجواب عن الدليل الثاني :
وهو قولهم إثبات الصفات يلزم منه الأعراض الدال الجسمية ، وهو باطل إذ لا يلزم من إثبات الصفات إن تكون كصفات المخلوقين أعراضاً دالة على حدوثهم ، كما لا يلزم من إثباتكم أسماء الله فتقولون هو حي عليم قدير أن يكون حادثاً لأن ما يسمى بهذه من المخلوقات حادث ، وإثبات صفات الله فرع عن إثبات ذاته فكما إن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ليست أعراضاً تدل على الحدوث كصفات المخلوقين[55] .
الجواب عن الدليل الثالث :
وأما قولهم بالتركيب فهو من تأثرهم بالمنطق اليوناني الذي هو أصل هذا البلاء ، فإنهم يعنون بالتركيب في إثبات الصفات ، وأنها زائدة على ذاته وما يفهم من كل صفة يختلف عما يفهم من الأخرى ، يعنون به مثل تركيب الأنواع من الجنس والفصل ، كما يقال الإنسان حيوان ناطق ، فالحيوانية مشتركة بينه وبين سائر الأنواع ، والناطقية يمتاز بها عن غيره ، وجعلوا الإنسان مركب من هذين الأمرين ، ثم جعلوا هذا المعنى هو التركيب الذي يلزم من إثبات الصفات وقالوا هو ممتنع يلزم منه الافتقار ، واستعملوا كلمة التركيب يوهمون بها نفي النقص عن الله وهم إنما أرادوا هذا المعنى الخاص بهم .
فيقال لهم ( هذا التركيب أمر اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج كما أن ذات النوع من حيث هي عامة ليس لها ثبوت في الخارج ، فإن الإنسان الموجود في الخارج ليس فيه ذوات متميزة بعضها حيوانية وبعضها ناطقية وبعضها ضاحكية وبعضها حاسية ، بل العقل يدرك منه معنى ونظير ذلك المعنى ثابت لنوع آخر فيقول : فيه معنى مشترك ، ويدرك فيه معنى مختصاً ثم يجمع بين المعنيين فيقول هو مؤلف بينهما)[56] .
فهل يجوز أن يجعل هذا التخيل الذهني حقيقة واقعة ، ثم يقال إن إثبات الصفات ظاهرة التركيب؟ بل الذات الحية العالمة لا يتصور انفكاكها عن صفة الحياة والعلم .
فهذا ما شغبت له المعتزلة على ظاهر نصوص الوحي ، غاية ما فيه تخيلات أخذوها من ملاحدة الفلاسفة.
2ـ : الرد على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات:
الجواب عن أدلة تأويل صفات الأفعال كالمجيء والاستواء
وهو ما يسمونه حلول الحوادث ، وهو فرع عن قياس أفعال الله تعالى وصفاته بأفعال المخلوقين وصفاتهم وإن ما يلزم إذا أطلقت عليهم هو ما يلزم الباري سبحانه إذا أطلقت عليه ، وفيما تقدم كفاية في الجواب عن هذه الشبهة ، وقال شارح الطحاوية (وحلول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام ، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب أو سنة ، وفيه إجمال : فإن أريد بالنفي انه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن فهذا نفي صحيح ، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ولا يتكلم بما شاء ، إذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان ، كما يلي بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل ).[57]
الجواب عن أدلة نفي العلو ، وتأويل النصوص الدالة عليه :
أما قولهم إن إثبات العلو يقتضي التجسيم ، ثم يلزم بعد ذلك ما يلزم الأجسام من التماثل عند من يقول به أو الافتقار إلى المخصص أو الانقسام والتركيب فالجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الألفاظ المجملة ، يريدون بها تعظيم ما يزعمون أنه يعارض الوحي ، وإلاّ فإذا بين ما يريدون بها ظهر بطلانها لكل من لم تنحرف فطرته.
فإن التجسيم ، تفعيل من الجسم ، والجسم المعقول في اللغة ، وعرف الناس الجسد وهو البدن ، فإذا نفوه توهم السامع أنهم ينفون عن الله البدن الذي هو من جنس أبدان المخلوقات .
وإنما يريدون به المنقسم مما يشار ، والذي لا ينقسم هو الجوهر الفرد ، هذا عند عامتهم ، وقد يريد به بعضهم ماله عمق وأبعاد وتميز لجهاته ، ثم يقولون إذا أشير إليه لزم أن يكون منقسماً أو مركباً أو جوهراً فرداً وكله باطل ، فإذا أريد بنفي الجسم أي ليس من جنس أبدان المخلوقات فهو حق ، بل هو سبحانه ليس من جنس ما هو ليس بجسم بالمعنى اللغوي ، من مخلوقاته كالروح والهواء والملائكة فإنه سبحانه لا مثله ولا كفؤ له[58] .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس مركباً من الأجزاء ، المفردة فيقال :
أولاً : تركب الأجسام من ذلك لا يعلمه جمهور العقلاء ، وليس عليه برهان صحيح
وثانياً : لا ريب أن الله تعالى ليس مركباً من أجزاء كتركب المخلوقات من أجزائها تعالى عن ذلك .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس منقسماً فيقال :
ما تعنون بالانقسام : إن عنيتم أن ذاته لا تقبل التفريق والتجزئة والانفصال فهو حق وإن عنيتم انه لا تتميز ذاته عن غيره بحيث يشار إليه وينظر إليه يوم القيامة فهو باطل.
ومثل هذا يقال في جميع ما اصطلحوا عليه وجعلوه قانونا يحكم على نصوص الكتاب والسنة ، بأن المراد منها خلاف الظاهر .
مثل لفظ الافتقار ، فإن عني به أن الله مفتقر إلى غيره مما هو خارج عن ذاته فباطل وليس في إثبات صفاته هذا المعنى ، ولا في إثبات علوه على خلقه .
ومثل لفظ الجهة ، وقولهم لو كان فوق العالم للزم أن تحويه الجهة وللزم أن تكون قديمة معه وللزم أن لا يكون عاليا عليها ، ونحو ذلك من الكلام المشتبه ، فإن الجهة إما يراد بها أمر وجودي فإن كان كذلك فهو مخلوق ومن يقول بالعلو على المخلوقات لا يقال له : يلزمك أن يكون ليس عاليا على بعضها فإن هذا لا معنى له
وإن كانت أمراً عدمياً - وهو الصحيح - بمنزلة الأشياء الإضافية ، فلا يلزم من الأمر العدمي كل هذه اللوازم إذ هو لا شيء ، ومثل هذا يقال في الحيز والمكان.
وبمثل هذا التفصيل يجاب عن سائر ما يشغبون به على نصوص الوحي من الألفاظ المجملة المشتبه ، ويبين أنها مباحث عقلية محضة متنازع فيها وأكثرها باطل ، والصحيح منها لا يخالف الكتاب والسنة[59] .
الجواب عن أدلة نفي صفات الذات :
أما قولهم يلزم التجسيم لأنها في الشاهد لا تكون إلاّ للأجسام ، فالجواب عنه ، أن صفات المعاني كذلك لا تكون في الشاهد إلاّ للأجسام ، هذا على سبيل المعارضة وقد تقدم ما يريدون بلفظ الجسم والرد عليهم .
وأما قولهم تدل على التركيب ، كما فعل المعتزلة في سائر الصفات ، فإن عنوا بذلك ما عناه المعتزلة فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أنه قد ركبه مركب ، أو كان متفرقاً فاجتمع ، أو ما يمكن تفريقه ، فهذا لا يقوله مؤمن بالله تعالى ، وإن عنوا تركيب الجواهر المفردة ، فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أن هذه الصفات متمايزه والمفهوم من بعضها ليس هو المفهوم من الآخر فليس في هذا محذور ، ولا هو ممتنع على الله تعالى عما يقولون[60] .
الجواب عما ذكروه في نفي المحبة ، وسائر ما ذكر:
أما المحبة فيقال : ما المراد بقولكم مناسبة بين الخالق والمخلوق أهو التوالد أو القرابة أو المماثلة فكله باطل ، أم المراد هو الموافقة في معنى من المعاني ، فهذا حق ، فإن الله وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم ، محسن يحب المحسنين ، مقسط يحب المقسطين وليس في هذا إلاّ إثبات صفات الكمال لله ، ليس فيه نقص بوجه من الوجوه .
وأما قولهم يقتضي الحاجة فيلزمهم مثله في الإرادة ، فإنها لا تكون إلاّ لمناسبة بين المريد والمراد ، وملائمة بينهما في ذلك تقتضي الحاجة ، وإلاّ فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده فهل يقال فيها ظاهرها غير مراد ، أم يقال إرادة الله تعالى لائقة به لا يلزمها ما يلزم من إرادة المخلوقات من النقص ، فكذلك المحبة[61] .
وأما ما جعل ظاهره النقص والتغير كالرحمة والغضب والرضا والحياء ، فيجاب عنه بعدم تسليم أن الرحمة خور في الطبيعة لأنه مذموم والرحمة محمودة ، وكذلك الحياء محمود ، وليس هو انكسار كما قيل ، والغضب ليس هو غليان الدم لطلب الانتقام ، وقد يقارنه ذلك ، وقد لا يكون للانتقام ، ويقال أيضاً إن كل ما يلزم من رحمة المخلوق وغضبه ورضاه وحياءه فليس بلازم لله تعالى إذ هو ليس كمثله شيء في صفاته ، كما أنه لا يلزم من إثبات السمع لله ، ما يلزم من صفة السمع للمخلوق من الاعتماد على الهواء في نقل الصوت وغير ذلك .
قال ابن عابدين في حاشيته، : (وهل وصفه سبحانه بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام ، أو إرادته لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة على الله ، فيراد غايتها ؟ ، المشهور الثاني والتحقيق الأول ، لأن الرحمة التي هي من الأعراض هي القائمة بنا ، ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض ، ولم يقل أحد : أنها في حقه تعالى مجاز )[62] .
قال العلامة الألوسي المفسر (كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا ، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى ، لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين ، وأين التراب من رب الأرباب ، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة لله لاستحالة اتصافه بما نتصف به .
فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ، ما نعلمه منها فينا ، ارتكاب المجاز أيضاً فيها إذا أثبتت لله تعالى ، وما سمعنا أحداً قال بذلك ، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك ، وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها ، فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبته إليه عز شأنه ، أو بتركه كذلك ، واثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه ، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته )[63] .
وما قاله هذان الإمامان في صفة الرحمة ، يقال مثله في سائر الصفات التي فينا أعراض نفسانية كالغضب والرضى والحياء ، يوصف الله بها كما يوصف بسائر صفاته وتجهل حقائقها كما تجهل حقيقة ذاته جل عز .
وبهذا الجواب يتبين قيمة الأدلة العقلية التي زعم أنها تصرف نصوص الصفات عن ظاهرها ، وتلقى بها في حظيرة المتشابه بالمعنى الذي أراده أهل التأويل.
وهذه الأجوبة تعضد ما ذكر في البراهين المحكمة الدالة على صحة مذهب السلف ، من أنه يستحيل أن يظهر الله سبحانه وتعالى غير الحق في الكتاب المهيمن على سائر كتبه ، ثم يحيل الناس في معرفة الحق على أدلة عقلية في غاية الخفاء ، ولا يفهمها إلاّ من هو حاد الذهن ، ذكي العقل ، بله أن يعرف نسبتها إلى الحق أو الباطل .
مثال هذا لازم قولهم إن هذه الظواهر الكثيرة في إثبات العلو لا يراد ظاهرها ، أن يكون الله سبحانه وتعالى عما يقولون ، قد أظهر خلاف الحق الذي أراد من المؤمنين أن يعتقدوه ، ثم أحالها في معرفة ما يعتقدونه على معرفة أن العلو يلزم منه الجسمية وذلك بطريقة الجواهر والأعراض .
وأن المشار إليه لا يكون إلاّ جسماً والجسم إما منقسم ، وإما جوهر فرد ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، أما الأول فلأنه يلزم منه الافتقار ، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه أو يلزم منه الافتقار إلى مخصص خصصه بهذا القدر دون غيره ، إلى آخر ما يماثل هذا الكلام .
مثل ما ذكره إمام المتأخرين من أهل التأويل ، أبو المعالي ، قال : (كل مختص بجهة شاغل لها متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر)،[64] واقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة ، ثم قال بعد هذا الدليل ( فإذا سألنا عن قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى } قلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قوله استوى فلان على المملكة أي استولى عليها واطردت له )[65] .
وهذا كالتصريح بأن القعدة التي صرفت هذا الظاهر هي هذا الكلام الشبيه بالألغاز ، فهل يلزم من هذا إلاّ أن الله أظهر في آياته الباطل ، وأحال الناس في أعظم مسائل الدين على ما هو شبيه بالألغاز .
* خلاصة مهمة جدا :
وبما تقدم نستخلص النتائج التالية :
الأولى :
أن القول الصحيح في باب الصفات ، هو مذهب السلف ، وهو إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، بعد النظر الصحيح في النص ، ومعرفة معناه حسب اللغة والسياق وسائر ما يستعان به على تفسير النصوص الشرعية ، فإذا تبين دلالته على صفة لله تعالى أثبتت ولم تصرف عن ذلك لتوهم تشبيه أو تجسيم أو دعوى مخالفة العقل .
الثانية :
أن جميع الصفات تثبت على هذه الطريقة ، ولا يفرق بين ما ذكر في القرآن والحديث ، وما دل عليه العقل وما لا يدل عليه .
الثالثة :
أن دعوى مخالفة نصوص الصفات ، لأدلة عقلية لا يتطرق إليها الشك ساقطة ، فإن هذه الأدلة المتقدمة هي أعظم ما عول عليه المؤولة ، فإذا كانت بهذه المثابة فكيف بغيرها.
الرابعة :
أن بعض نصوص الصفات يصحّ أن تكون من المتشابه بالمعنى الذي رجح في هذا البحث ، وذلك من جهتين :
الأولى : الاشتباه الحاصل للقاصر في العلم لغموض أو تعدد في معان اللفظ ، الذي يكون له أكثر من معنى ، أو تعارض متوهم بين معان نصوص القرآن كما ظنه بعض الناس بين نصوص العلو والمعية ، وهذا التشابه نسبي إضافي يزول بعد رده إلى المحكم ، ويرجع إلى الوضوح ، وهذا عام في هذا الباب وغيره.
الثانية : تشابه خاص يكون في مثل هذا الباب ، وهو أن من صفات الله ما يلق أيضاً على المخلوقات فيشتبه أيضاً على غير الراسخين في العلم ، ويظنون في هذه النصوص الظنون الباطلة ، وهذا التشابه المنسوب إلى هذه الآيات ، يزول بعد رده إلى المحكم أيضاً ، وإن كان قد يبقى على من لم يرسخ في العلم ، ويحاول طلب حقيقته فيؤدي إلى الفتنة ، إذ هو طالب لما لا سبيل إلى الدنو منه ، بله الوقوف على حقيقته ، وفتنته إما إنكار الصفات ، صفات الله ، أو تشبيهها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك ، وأما الراسخون فعلموا أن هذه من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلاّ الله فلا يزالون يسألون الله العصمة من الوقوع في الفتنة قائلين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] .
والذي يدل على صحة إطلاق المتشابه على بعض الصفات ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه[66] .
وكذلك فعل الأئمة فالإمام أحمد سمى ما نمسك به الجهمية متشابها ، قال (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بشراً كثيراً )[67].
والفتنة التي وقعت في هذا الباب هي أعظم فتنة وقعت بين المسلمين ، فأحرى ما ينطبق عليه قوله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: من الآية7] ، هو هذا الباب .
لكن لا يخفي أن أكثر نصوص الصفات ، لا يتطرق إليها التشابه بوجه ، وهي محكمة غاية الإحكام كاتصاف الله تعالى بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والرضوان ومحبته للطيب ومقته للخبيث ، وأنه فوق كل شيء ولا يخفي عليه شيء ، ولا يعجزه شيء ، وليس كمثله شيء وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى .
المطلب الخامس
تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم
وتتمة لهذا البحث ، نتناول ثلاثة أمثلة ، لصفات وصف الله تعالى بها نفسه في الكتاب ، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة ، ثم شن الغارة عليها أهل الكلام والتأويل الباطل ، وصرفوها عن ظاهرها ، اتباعا لأدلة زعموها عقلة قطعية ، وقد تقدم أنها
شبه تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وهذه الأمثلة هي : في صفة الاستواء ، و الكلام ، والرؤية .
* المثال الأول : آيات الاستواء :
فإن الله تعالى قد تمدح ومدح نفسه في سبع آيات من كتابه باستوائه على العرش ، ولم يذكر صفة الاستواء إلاّ مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله ، جل وعلا:
قال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] .
وقال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3] . وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2] .
وقال تعالى { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } (طه:4-6).
وقال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] .
وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4] .
وقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] .
وقد فسر السلف الاستواء بالعلو على العرش ، كما تقدم عن مجاهد[68] ، وهو معناه في اللغة كما روى اللالكائي عن أبي العباس ثعلب أنه قال {(ستوى على العرش : علا)[69] ، وروى أيضاً عن داود بن علي الإصبهاني الظاهري قال : كنا عند ابن الأعرابي - اللغوي المشهور - فأتاه رجل فقال له : ما معنى قول الله عز وجل {الرحمن على العرش استوى} فقال هو على العرش كما أخبر ، فقال يا أبا عبد الله : ليس هذا معناه ، إنما معناه استولى ، قال أسكت ما أنت ولهذا ، لا يقال : استولى على الشيء إلاّ أن يكون له مضاد)[70] .
وقال الحافظ في الفتح (ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع ، وقال أبو عبيد والفراء بنحوه)[71] .
فهذه نصوص محكمة لا شك في دلالتها على أن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق به ، وقد أجمع على هذا السلف وقال بقولهم كثير من العلماء في مختلف العصور إلاّ من ظن أن ذلك يعارض دليل إثبات الصانع ، من أهل الكلام وقد تقدم الكلام عليه.
ومع هذا كله فقد ادعي بعض من لا يثبت هذه الصفة أن اللفظ من الألفاظ المتشابهه التي تحتمل عدة معاني يريد بذلك إبطال دلالته على ما أجمع عليه السلف، قال ابن القيم (ومن هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه { الرحمن على العرش استوى } فقل له : العرش له عندنا له ستة معان ، والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول ويكفيك مؤونته .
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت واصحابك مشبها ، وقد قال لك نفس ما قال الله ، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك ، لأنه لم يتعد النص .
وأما قولك للعرش سبعة معان أو نحوها ، وللاستواء خمسة معان فتلبيس منك ، وتمويه على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلاّ معنى واحد ، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معيناً وهو عرش الرب ، جل جلاله الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلاّ من نابذ الرسل.
وقولك: الاستواء له عدة معان ، تلبيس آخر ، فإن الاستواء المعدي بأداة (على) ليس له إلاّ معنى واحد ، وأما الاستواء المطلق فله عدة معان ، فإن العرب تقول (استوى كذا) إذا انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى (ولما بلغ أشده واستوى) ، وتقول : (استوى وكذا) إذا ساواه ، نحو قولهم استوى الماء والخشبة واستوى الليل والنهار ، وتقول (استوى إلى كذا) ، إذا قصد إليه علوا وارتفاعا ، نحو استوى إلى السطح والجبل ، و(استوى على كذا ) أي إذا ارتفع عليه وعلا عليه ، لا تعرف العرب غير هذا فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه ، كما هو نص في قوله (ولما بلغ أشده واستوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه لا يحتمل غيره)[72] .
ولا ريب أن الاستواء في الآيات السابقة يدل على معنى العلو ، لا غيره فهو محكم ، وقد دخل الاشتباه على من دخل عليه من أهل التأويل ، لا من تعدد ما يراد باللفظ لكن من وجه آخر وهو كون الاستواء يطلق على الخالق والمخلوق فيشتبه على غير الراسخين في العلم من هذه الجهة ، وإن كان قد حاول كثير ممن اشتبهت عليهم هذه الآيات أن يدعوا أن معنى الاستواء فيها ليس هو العلو، والذي حملهم على ذلك ظنهم أن جعله بهذا المعنى يقتضي التجسيم .
وبهذا يعلم أن ما ذكره السيوطي في الإتقان من التأولات في معنى الاستواء كله خلاف الحق[73] والحق أن الاستواء هو العلو ، والله أعلم.
* المثال الثاني : آيات الكلام :
وهذه المسألة ، مسألة الكلام لها طرفان ، أحدهما صفة الكلام لله تعالى ، والثاني تكلم العبد بكلام الله .
وقد اتفق المنتسبون إلى القبلة على نسبة الكلام إلى الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في وجه ذلك وأهم الأقوال هي :
القول الأول :
وهو قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث وهو أن الكلام صفة من صفات الله تعالى يتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء ، والقرآن كلامه تكلم به على الحقيقة ، قال شارح الطحاوية ( تاسعها : انه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة)[74] .
واتفق أصحاب هذا لقول على أن القرآن تكلم به رب العزة على الحقيقة ، فسمعه جبريل وبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه ، وعلى الإنكار على من يقول إن القرآن مخلوق ، وجاء عن كثير منهم تكفير قائل هذه المقالة.
روى اللالكائي عن عمرو بن دينار أنه قال (سمعت مشيختنا من سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق)[75] ، ثم ذكر اللالكائي من مشيخته من الصحابة والتابعين خلقا[76] .
ثم روي عن خمسمائة رجلا من التابعين واتباعهم ومن بعدهم كلهم يقول القرآن كلام الله غير مخلوق.[77]
ثم قال (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين ، على إختلاف الأعشار ومضي السنين والأعوام)[78] .
ثم روى عن مالك وابن أبي ليلى وابن عيينه وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك ، وابن الماجشون وغيرهم تكفير من يقول القرآن مخلوق[79] .
وقيام الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن المقام الذي صيره إماما لأهل السنة معلوم مشهور (( ومواجهته للخلفاء والقضاة وأهل البدع بكلمة الحق وصبره الذي يضرب به المثل في غالب كتب التراجم والتاريخ مسطور ، وما كان إنكاره وإنكار علماء السنة في وقته إلاّ على قولين ، قول من يقول إن الله لا يوصف بالكلام ، وقول من يقول إن القرآن المنزل مخلوق .
والأدلة على صحة هذا القول وموافقته للوحي المنزل كثيرة جداً ، فإنهم قالوا بمقتضى ما دلت عليه أي الكتاب وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، التي تنص على أن الله يتكلم وينادي ويناجي ويقول ، وأنه يتكلم بكلام في وقت ويتكلم بغير عين هذا الكلام في وقت آخر ، كما نادي موسى لما بلغ الوادي المقدس وينادي ويتكلم يوم القيامة بكلام ، لم يتكلم بعينه قبل يوم القيامة وهو كثير جداً لا يستطاع حصره إلاّ بكلفة شديدة ولكن يذكر بعض ذلك ، فمن ذلك :
قال ابن تيمية (هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع ، فقال تعالى {ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون} ، {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة واقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } وقال {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} ، وذكر سبحانه ندائه لموسى في سورة (طه) و (مريم) و(الطس) الثلاث ، وفي سورة النازعات ، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى }فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } وقال تعالى {هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } وقال { وما كنت بجانب الغربي إذ نادينا} ، واستفاضت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت : نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : أن الله يتكلم بلا صوت وبلا حرف ، ولا أنه انكر أن يتكلم بصوت أو حرف)[80] .
القول الثاني:
قول المعتزلة، القائلين إن كلام الله خلق من خلق الله وهو حرف وأصوات يخلقها الله تعالى بائناً عنه، ولا يوصف بصفة الكلام كما لا يوصف بشيء من الصفات أصلاً، ولهذا ذكر القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة، مسألة القرآن في قسم أفعال الله [81] . وهم بهذا القول ينسبون إلى الله تعالى ما يقوم بغيره من الصفات وهو مما يعلم بطلانه قطعاً ، وليس المقصود هنا الكلام على هذا القول ، لكن ذكر ما تبين الفرق بينه وببين القول الثالث .
القول الثالث:
هو قول الأشعرية وقولهم في الكلام والقرآن يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنهم قالوا كلام الله صفة قائمة به لازمة لذات الله ، أزلا وأبداً كلزوم صفة الحياة والعلم ، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ليس بحرف ولا صوت وانقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والنداء والاستفهام بحسب التعلق ، أي صفة واحدة متعلقة بمتعدد ، كتعلق العلم الواحد بجميع المعلومات عندهم ، ويسمون هذا ( الكلام النفساني ) ، أما القرآن المؤلف من السور والآيات فمخلوق عندهم خلق إما في اللوح المحفوظ أو في جبريل أو في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، قال الأيجي في المواقف (قالت المعتزلة - أصوات وحروف يخلقها الله في غيره - يعني كلام الله - كاللوح المحفوظ أو جبريل ، أو النبيّ ، وهو حادث ، وهذا لا ننكره لكن نثبت أمراً وراء ذلك هو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات.[82]
فالقرآن عبارات مخلوقة دالة على الكلام النفسي عندهم ، ويسمى القرآن كلام الله مجازاً عند بعضهم، وعند البعض الآخر يطلق ( كلام الله ) بالاشتراك اللفظي على المعنى القائم بالذات وعلى المخلوق المؤلف من السور والآيات الدالة على المعنى القائم بذات الله الذي هو صفة من صفاته وهو المسمي بالكلام النفسي.
قال السعد في شرح العقائد ( فإن قيل لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه بأن يقال ليس النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى والإجماع على خلافه وأيضا المعجز المتحدى به، هو كلام الله حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور والآيات، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة .
قلنا : التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، ومعنى الإضافة كونه صفة لله تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ) [83]
فالقرآن كما هو واضح من كلام السعد هذا - عند أصحاب هذا القول - مخلوق، دال على المعنى الواحد القائم بذات الله اللازم له لزوم الحياة والعلم والصفات الغير متعلقة بمشيئته وقدرته، وكذلك التوراة، والعبرانية والإنجيل السرياني، عبارات دالة على ذلك المعنى الواحد، فكلام الله معنى ، إن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وكل هذه العبارات مخلوقة[84] .
وهذا المصنف المنقول كلامه في أول المثال، يبدوا أنه ممن يوافق أصحاب هذا المذهب، في أصل مذهبهم وإن خالفهم في تأويل النصوص الناقضة لهذا المذهب كما سيأتي.
والذي دعاهم إلى اختراع هذا القول الغريب [85] ، الذي دعاهم إلى هذا الاختراع ، هو إنكارهم قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمون هذه المسألة (حلول الحوادث )[86] ، مع إرادتهم موافقة السلف الذين يثبتون صفة الكلام لله تعالى ويعظمون الإنكار على من قال كلام الله مخلوق بل ويكفرونه مع أن أئمة الدين المتقدمين في عصور السلف لم يفرقوا في إنكارهم بين من ادعى أن الكلام مخلوق أو ادعى أن القرآن مخلوق .
ومسألة قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى والكلام التي يسميها هؤلاء حلول الحوادث ، ويجعلون نصوصها من المتشابه المراد به خلاف الظاهر قد مضى الكلام عليها ، وابطال قولهم فيها جملة وتفصيلاً ، والمقصود هنا الكلام على هذا المثال خاصة بما يبين أثر معرفة المحكم والمتشابه في تفسير آيات هذا النوع ، والتي تقدم بعضها .
وينبغي تقديم ما يدل على بطلان هذا القول في كلام الله ثم الرد على تأويلاتهم بما ، وبه يتبين أن هذه الآيات محكمة لا اشتباه فيها عند الراسخين في العلم ، وإنما اشتبهت على من تعلق بشبه من الكلام ، قدمها على نصوص الوحي .
ويدل على بطلان قولهم في كلام الله أدلة أهمها :
الدليل الأول :
أن قوله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164] وقوله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [لأعراف: من الآية143] ، وقوله { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:11-13] ، دليل على أنه تكليم سمعه موسى ، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ، ومن قال إنه يسمع فهو مكابرة ، ودليل على أنه نادى والنداء لا يكون إلاّ صوتاً مسموعاً ولا يعقل لفظ النداء بغير صوت مسموع[87] .
الدليل الثاني :
أن الله تعالى قال { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ، وهؤلاء المشركون إنما كانوا يقولون إنما يعلم محمداً هذا القرآن العربي بشر ، لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط ، بدليل قوله { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه لسان أعجمي ، وهذا القرآن ألفاظ عربية ، فدل هذا على أن القرآن لفظه ومعناه من الله لا من غيره[88] .
الدليل الثالث :
أن قوله تعالى {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ، وقوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ، دليل على وقوع النداء بظرف محدود وهو ذلك اليوم ، يوم القيامة ، وكذلك قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [البقرة: من الآية34] وقوله {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: من الآية30] وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين ، فإن أصحاب هذا القول يقولون إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته لزوم الحياة لذاته[89] .
الدليل الرابع :
أن القول بأن الكلام معنى واحد يلزم منه التناقض فإن موسى مثلاً إن كان سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه ، فقد تبعض ، وكلاهما ينقض قولهم فإنهم يقولون إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض[90] .
الدليل الخامس :
إن قولهم معنى واحد هو أمر بكل مأمور وخبر عن كل مخبر به وسائر ما ذكروه غير متصور ، ولهذا كان أبو محمد ابن كلاب رأس هذه الطائفة ومخترع هذه المقالة ، لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول هو معنى يناقض السكوت والخرس[91] .
الدليل السادس :
أنه معلوم بالاضطرار أنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك هو معنى القرآن ، بل معاني هذا ليست معان هذا ، وكذلك معنى {قل هو الله أحد} ليس هو معنى {تبت يدا أبي لهب} ، ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين وإذا جوز ان تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً ، فليجوز أن يكون العلم والكلام والسمع والبصر صفة واحدة[92] .
فهذا أهم ما يدل على بطلان قولهم ، وهم قد جعلوا الكلام اسماً للمعنى فقط ، واطلاقه على اللفظ من قبيل مجاز ، لأنه دال عليه ، وقالوا بناء على هذا أن القرآن ليس كلام الله حقيقة لأن الكلام هو المعنى أما الألفاظ فتسمى كلاماً من باب المجاز .
والصحيح المعلوم من اللغة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً كما يتناول اسم الإنسان الروح والبدن جميعاً ، ومما يدل قطعا على هذا الحديث المتفق عليه (أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت له أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )[93] ، والحديث الذي رواه النسائي وأبو داود وعلقه البخاري بصيغة الجزم (إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنما أحدث إلاّ تكلموا في الصلاة )[94] .
وقد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب أثناء الصلاة من معاني تتعلق بغير الصلاة من أمور الدنيا أنها لا تبطل الصلاة وإنما يبطل الصلاة التكلم بذلك ، فعلم باتفاق المسلمين أن هذا ليس بكلام[95] .
وقد استدلوا على قولهم ببيت من الشعر ، قال شارح الطحاوية (وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فاستدلال فاسد ، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا : هذا خبر واحد ، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه ، وتلقيه بالقبول والعمل به ، فكيف وهذا البيت قد قيل انه موضوع ، منسوب إلى الأخطل ، وليس في ديوانيه ؟ وقيل إنما قال (إن البيان ففي الفؤاد ) ، وهذا أقرب إلى الصحة[96].
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت والناسوت ، أي شيء من الإله بشيء من الناس . أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه)[97] .
ويدل على أن اسم الكلام يتناول اللفظ والمعنى أنه إذا أريد استعماله في حديث النفس خاصة فإنه يقيد بما يدل عليه ، فيقال : قلت في نفسي ، وحدث نفسه ، ونحوه فإن أطلق دل على اللفظ والمعنى معاً ، فهذا ما يدل على بطلان هذا القول .
وقد سلكوا في تأويل النصوص الكثيرة الدالة على ضد قولهم مسلكين مشهورين ، إبطال تأويل النصوص المؤيدة لمذهب السلف :
أما المسلكان : فالأول :
وهو مسلك غريب وقول عجيب ، ما ذكره في حاشية على شرح أم البراهين قال (ليس معنى كلم الله موسى تكليما أنه ابتداء الكلام بعد أن كان ساكتا ، ولا أنه بعد ما كلمه سكت ، وانما المعنى أنه أزال الحجاب عن موسى وخلق له سمعاً وقواه حتى أدرك كلامه القديم ثم منعه بعد ذلك ورده لما كان عليه قبل سماع كلامه)[98] .
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم أنهم يقولون (إن التكليم والنداء ليس إلاّ مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ، ولا تكليم بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته ... فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي)[99] .
ولا ريب أن هذا التأويل المتكلف لم يخطر على بال أحد سمع آيات القرآن الواردة في هذا الصدد من نزولها إلى يومنا هذا ، ما لم يتلقنه من أصحاب هذا المذهب ، ثم عليه بعد ذلك أن يرغم نفسه على تصوره إن استطاع ذلك ، نعم ، لا سيما إذا فسر له سماع هذا الكلام النفسي بأن مصحح السماع هو الوجود كما أن مصحح الرؤية كذلك ، كما يقولون ، وقد التزم من أجل هذا جواز رؤية الروائح والملموسات والطعوم[100] .
ويكفي في نقض هذا التأويل المتكلف ، مصادمته الواضحة لنصوص الكتاب والسنة ، التي تنص على أن الله كلم موسى ، وناداه ، وناجاه ، وسأله فأجاب ، ورد عليه ، فهل هذا كله كان أزلاً ، وسيبقى أبداً ملازما لذات الله ، كلزوم الحياة ، وكيف يعقل أنه لم يزل ربنا تعالى ، ينادي موسى ويكلمه ، قبل أن يخلق السموات والأرض، ويجيب على قوله {رب أرني أنظر إليك } بقوله {لن تراني} قبل وجود الكائنات ، والتأويل إذا بلغ إلى هذا الحد ، فلا يلام من يسميه تلاعبا بكتاب الله .
والمسلك الثاني :
هو أن الله خلق صوتا في الشجرة ، أو في الهواء فسمعه جبريل أو غيره ، فالذي سمعه موسى ، وتسمعه الملائكة ، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، ليلة المعراج من كلام الله ، أصوات وحروف مخلوقة خلقها الله فدلت على المعنى الواحد اللازم لذات الله ، ومع أنها متعددة ، متبعضة ، إلاّ أنها دالة على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، وهذا المسلك هو الذي تقدم عن الايجي أنه حكاه وقال لا ننكره ، وحكاه الرازي عن أهل السنة من أهل ما وراء النهر ، ويقصد بهم أصحاب الكلام النفساني[101] .
وبهذا المسلك - وكذلك الذي قبله - صرح أصحاب هذا القول بخلق القرآن ، فأما الأولون فقالوا إن الله تعالى خلق في جبريل إدراكا أدرك به المعنى النفسي ، فعبر عنه بألفاظه فكان القرآن ، أو أن جبريل ألقى المعنى إلى محمد فأنشأه بلفظه[102] .
وهذا تصريح بخلق القرآن ، فإن المخلوقات وأفعالها كلها مخلوقة .
وأما هؤلاء فيقولون : خلق في جبريل ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الهواء حروفاً ، هي القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغ جبريل هذا المخلوق للنبي صلى الله عليه وسلم[103] .
فإذن أوّل ما يدل على بطلان هذا المسلك - وكذلك الذي قبله - أنه تصريح بخلق القرآن ، الذي اتفقت الأمة وكلمة أهل العلم في عصور السلف على إنكاره والبراءة من قائله ، وهو مع ذلك تناقض بين من قائله - أن كان من أصحاب هذا المذهب - فإنه إنما يحتج على المعتزلة الذين ينسبون الكلام إلى الله مع قيامه بغيره - لأنهم يقولون حروف وأصوات يخلقها في غيره - بأن الموصوف بالشيء هو ما قام به ذلك الشيء ، ولا يوصف الشيء بما قام في غيره ، كما قال السعد في شرح العقائد ( والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه تعالى متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محالها ، وإيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وإلاّ لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً )[104] .
فمن ينكر على المعتزلة نسبة الكلام إلى الله مع القول بأنه أوجده في غيره ، كيف ينسب إلى الله الكلام الذي أوجده في غيره ، فيقول القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق خلقه الله في غيره ، كاللوح المحفوظ أو جبريل أو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو مع ذلك كلام الله.
فإن قال : إنما هذا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، لزمه أن كل كلام خلقه الله فهو كلامه ، وهذا يشمل كل كلام في الوجود وهذا من أبطل الباطل ، وما قال به إلاّ أهل وحدة الوجود من الزنادقة المنتسبين إلى التصوف .
فهذا أهم ما يدل على بطلان هذين التأويلين ، والحق الذي لا ريب فيه أن الآيات التي نصت على اتصاف الله بالكلام هي على ظاهرها اللائق بالله تعالى ، وأن الله تعالى موصوف بصفة الكلام ، وهو متكلم بما شاء متى شاء ، كيف شاء ، بكلام سمعه موسى ويسمعه جبريل وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، بصوت لا يماثل صوت المخلوقين كما أن سائر صفاته لا تماثل صفات المخلوقين .
ولينظر إلى هذا الاعتقاد ما أحسنه وأسهله وأوفقه لنصوص الوحي ، وذلك القول مع ما جر إليه من تأويلات ، ما أشد تكلفة ، وأبعد تصوره ، وأصعبه على النفوس السليمة ، يتجرعه المؤمن ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الباطل من كل مكان ، فالحمد لله الذي جعل عقيدة الإسلام سهلة ميسورة قريبة إلى النفوس والفطرة واضحة في التصور والعلم .
فليس في آيات الكلام اشتباه ، ولا هي من المتشابه عند أهل الرسوخ في العلم ، ولكنها إنما اشتبهت على من عارضها بعقله الضعيف ، واصطلاحهم على أن المتشابه هو ما يراد به خلاف ظاهره هو الذي أدى إلى تأويل آلاف النصوص وجعلها من المتشابه وإدعاء أنها من المراد به خلاف الظاهر قال ابن القيم (ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاثة آلاف ، فكل آية ، وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول وكل أثر فيه ذلك إذا استقرئت زادت على هذا العدد)[105] .
وبما مضى يتبين أن الآيات الواردة في مسألة كلام الله تعالى وأنه يكلم ملائكته وجبريل ومن شاء من أصفيائه ، ويكلم من شاء يوم القيامة وأهل الجنة وهي كثيرة جداً في القرآن كلها محكمة لا اشتباه فيها عند أهل العلم الراسخين فيه من أهل السنة ، وتفسيرها تلاوتها واعتقاد ظاهر ما دلت عليه مع تنزيه الله عن مماثلة خلقه .
ويبقى الكلام في قوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: من الآية6] ، وهو الطرف الثاني من مسألة الكلام ، وهو قراءة العباد كلام الله وتسمى مسألة اللفظ وهذه المسألة من المسائل الدقيقة وقد اشتبهت على كثير ممن ينتسب إلى السنة والحديث .
وسبب اشتباه هذه المسألة أن الكلام ، وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي ، فالذي يبلغ بلفظه الكلام الذي تكلم به غيره يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت له في الأول .
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب ، مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها كالشمس مثلاً ، فوجودها الخارجي شيء ، ووجودها الذهني شيء ، ووجودها اللساني شيء ، ووجودها في الكتاب شيء ، أما العلم مثلاً فتتحد فيه المرتبتان الذهنية والخارجية ، والكلام تتحد فيه المرتبتان اللفظية والخارجية ، فلا جرم حصل الاشتباه العظيم في مسألة تكلم العباد بالقرآن[106] .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانا واضحا لهذا الإشكال ويحسن إيراده بألفاظه قال رحمه الله (ومما ينبغي أن يعرف ، أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم ، به ، فإذا أنشد المنشد ، قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه ، مع أن أصوات المنشدين له تختلف ، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد ، وكذلك من روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) فإن هذا الكلام كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لفظه ومعناه ويقال لمن رواه أدي الحديث بلفظه ، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه ، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم )[107] .
وقال ( ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلهم كلام محدث يحدث بحديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كقوله ( إنما الأعمال بالنيات ) قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، أو هذا كلامه بعينه ، لأنهم قد علموا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه وتكلم بصوته ، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه ، فالكلام كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته والمبلغ له بلغة بفعل نفسه وصوت نفسه ، فإذا قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه ، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته ، بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون صوت حسن ، وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلغ له ، ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء كتجويد الحروف وتحسين الصوت ولهذا قال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله }[108] .
وقال رحمه الله ( كما في الاسم والمسمى ، فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ، ودعا به أناس متعددون ، فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد ، فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال ذلك هذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وقاله غير المؤذن ، فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله ، كما أن المسمى هو الله ورسوله )[109] .
فقوله تعالى {فأجره حتى يسمع كلام الله} المقصود الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما سمع بواسطة التالي وصوته.
والمشار إليه عند قراءة القارئ للقرآن ، (بهذا كلام الله ) ليس هو ما يمتاز به قارئ عن قارئ إذ كان من المعلوم ، أن ما يسمع من كل قارئ فهو كلام الله وأن صوت هذا القارئ ليس هو صوت ذلك ، بل المشار إليه ، هو الحقيقة المتحدة ، وهو كونه كلام الله بقراءة جميع القراء .[110]
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الاشتباه لا ينحل إلاّ لمن يتيقن أمرين :
الأول : أن الله تكلم بالقرآن بكلام سمعه جبريل منه سماعاً حقيقياً وأنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاه عليه وعرضه عليه فسمعه -صلى الله عليه وسلم- وبلغه للأمة كما سمعه ولم يزل ينقل بالتواتر كما تكلم الله به أول مرة كلاماً حقيقياً بصوت نفسه سبحانه وتعالى .
الثاني : أن الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ، فلا يقال عمن روى حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا كلامك ، وقولك ، بل يقال كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله .
ولا تشتبه هذه المسألة إلاّ على من ينكر أحد هذين الأمرين أو يجهله ، وبهذا فقوله تعالى {حتى يسمع كلام الله} هو كلام الله بأصوات القارئين فلا إشكال ولا إشتباه فيه إذا رد إلى المحكم.
فهذا ما يتعلق بهذا المثال .
* المثال الثالث : آيات الرؤية :
وهي من المسائل الكبار التي خالف فيها أهل البدع السنة ، واتبعوا ما تشابه عليهم من القرآن كما قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ، عند قوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } .
قال (يدل على أن الله تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار والعيون ، على وجه ، في كل وقت من غير تخصيص)[111] .
وقد أثبتها أهل السنة واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة .
وأما الكتاب فقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
وقد صرح ابن كثير رحمه الله بتواتر أحاديث الرؤية .
ومما يدل على ذلك من كتاب الله أيضاً قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال ابن كثير ( قال الإمام الشافعي رحمه الله : هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي - رحمه الله - في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دل منطوق قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم - عز وجل - في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنات الفاخرة)[112] .
ومما يدل على الرؤية من كتاب الله أيضاً قوله تعالى { قال رب أرني انظر إليك ...} ، قال شارح الطحاوية رحمه الله ( الاستدلال منها على ثبوت الرؤية من وجوه :
الأول : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال (إني أعظك أن تكون من الجاهلين ).
الثالث : أنه تعالى قال {لن تراني} ولم يقل (إني لأرى ) أو ( لا تجوز رؤيتي ) أو ( لست بمرئي ) ، والفرق بين الجوابين ظاهر ، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعام ، فقال أطعمنيه ، فالجواب الصحيح أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال إنك لن تأكله ، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى ثم ذكر وجوها أخرى ، هذه أهمها.[113]
وقد تقدم ما يدل على ذلك من السنة ويدل على ذلك أيضاً إجماع المسلمين قبل حدوث بدعة إنكار الرؤية .
وقد استدل المعتزلة بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار} كما تقدم عن القاضي عبد الجبار ، وجعل الزمخشري قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } محكما ، وقوله تعالى { إلى ربها ناظرة } متشابها[114] .
وحاول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه القرآن ، تأويل ما استدل على الرؤية من آية الأعراف ، وحاول الزمخشري تأويل قوله تعالى { إلى ربها ناظرة } بما يقطع ببطلانه .
أما قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] .
قال القاضي عبد الجبار (قالوا : ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز إن يرى ،وما يدل على أنه يجوز أن يظهر ويتجلى ويحتجب ، فقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك } فلو لم تجز الرؤية عليه لم يكن ليسأل ذلك ، كما لا يجوز أن يسأل ربه اتخاذ الصاحبة والولد ، إلى ما شاكله من الأمور المستحيلة عليه )[115] .
ثم قال ( وقد اختلف أجوبة شيوخنا رحمهم الله في ذلك ، فمنهم من قال إنما سأل ذلك عن لسان قومه ، لأنهم سألوه ذلك فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه ، فلم يقنعوا بجوابه ، وأرادوا أن يرد ذلك من الله تعالى ، ولذلك قال تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: من الآية153] ، ولذلك قال الله تعالى {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} ولو كانت المسألة صدرت عنه لأمر يخصه لم يجز أن يقول ذلك ، وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب)[116] .
وهذا أحسن ما حكى عن شيوخه من تأويلات وهو كما لا يخفى من ابعد التأويل ولا يدل عليه الخطاب من قريب ولا من بعيد .
فإن قوله تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:153] .
مع قوله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55-56] ، يدل على أنهم سألوا رؤية الله عن عناد وتعنت ، كما يفسره قوله تعالى { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فادعوا أنهم لن يؤمنوا إلاّ إذا رأوا الله جهرة ، فعاقبهم الله بالصاعقة ، فماتوا ثم بعثهم ،وفي تعقيب أخذه لهم على سؤالهم (بالفاء ) دلالة على وقوع صعقهم عقيب سؤالهم ، وقوله تعالى ثم اتخذوا العجل دليل على أن اتخاذهم العجل قد وقع لما انطلق موسى إلى ميقات ربه وكلمه ، فأخبره سبحانه {فإنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } ، وفي هذا دلالة على أن سؤال موسى رؤية ربه كان بعد سؤال قومه الذي وقع منهم قبل ذلك تعنتا وعنادا ، فعوقبوا عليه ، فكيف يعود موسى ويسأل ربه أن يجعل الذين أخذهم الله بالصاعقة يرونه بعد أن كانت عقوبتهم بسبب طلبهم الرؤية ؟ وكيف يطلبون الرؤية بعد أن صعقوا عقوبة على طلبها ؟
وأيضاً فإن موسى قال {رب أرني أنظر إليك } وهذا صريح في أنه طلب الرؤية لنفسه ، فتركه ما دل عليه الخطاب لأمور بعيدة مجرد تحكم .
وأيضاً فإن السياق يدل على أن موسى طلب الرؤية لنفسه فإن الله قال { ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك } فعقب طلب الرؤية على سماع الكلام ، ففيه إشارة إلى أنه لما سمع الكلام استأنس وظن أن الله يعطيه الرؤية كذلك في الدنيا فبين له ربه سبحانه أنه لا تجوز في الدنيا ، إذ لا تطيقها الجبال الرواسى فكيف بالبشر الضعيف في بنيته الدنيوية الضعيفة ، ولهذا قال بعد ذلك { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } ، أي خذ نعمتي عليك وأشكر عليها ، وهي الكلام والرسالة ، ولا تطمع فيما لا يكون لأحد ولا طاقة لأحد به[117] .
وقوله ( وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب ) ، لا معنى له ، فإن بني إسرائيل لم يسمعوا ما جرى بين موسى وربه من الخطاب ولم يروا دك الجبل ، وإلاّ لصعقوا كما صعق موسى ، بل كانوا في أثناء هذا يعبدون العجل ، كما قص القرآن ، فما فائدة أن يسأل موسى ربه أن يري نفسه بني إسرائيل مع علمه أنه مجال لتزول الشبهة عنهم إذا لم يكن بنوا إسرائيل شاهدين لهذا ، فما أبعد هذا .
وبالجملة فهذا إلى اللعب أقرب منه إلى التأويل ، وهو دليل واضح على أن أهل البدع يجعلون الآية من المتشابه لمجرد مخالفتها لمذهبهم ، يريدون بذلك صرفها عن نقض أقوالهم ، فالله المستعان .
وأما قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فإنه يدل على الرؤية من وجوه :
الأول : أن لفظ ( نظر ) إذا عدي بإلى دل على نظر العين ، كما أنه إذا عدي بفي دل على التفكر كما قال تعالى {أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } ، وإذا عدي بنفسه فمعناه الانتظار { انظرونا نقتبس من نوركم } [118] .
قال الجوهري ( النظر : تأمل الشيء بالعين ، وكذلك النظران بالتحريك ، وقد نظرت إلى الشيء)[119] .
وقال ابن فارس ( النون والظاء والراء أصل صحيح ، يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه ، فيقال نظرت إلى الشيء ، أنظر إليه إذا عاينته ... ويقولون نظرته أي انتظرته )[120] .
الثاني : أنه أضافه إلى الوجوه التي محل الأبصار فهذه قرينة تدل على أن المراد نظر العين[121] .
الثالث : أن المقام بيان النعيم ، فالمناسب ذكر تمتعهم بالنظر إلى الله ولو قيل أن المراد ينظرون رحمة ربهم لكان في ذلك تنقيص لهم لأن المنتظر للشيء مشغول القلب بوقت حصوله .
الرابع : في قوله {وجوه يومئذ ناضرة} إشارة إلى رؤية الله عيانا ، فكأنها اكتسبت النضرة.بسبب رؤية الله تعالى كما أن من يرى الشيء الحسن يتبين أثر ذلك في وجهه ، فكيف بمن يرى الله تعالى .
فهذه الوجوه تبطل تأويل النظر بانتظار الثواب كما فعل القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن.
وأما قول الزمخشري ( إلى ربها ناظرة ، تنظر إلى ربها خاصة ، لا ننظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، إلاّ ترى إلى قوله - إلى ربك يومئذ المستقر - إلى ربك يومئذ المساق - إلى الله تصير الأمور - إلى الله المصير - وإليه ترجعون - عليه توكلت وإليه أنيب - كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلاق كلهم )[122] .
ثم جعل هذا دليلاً على أن معنى النظر إلى الله عنده ( أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم ) كما قال[123] .
فجوابه أن الاختصاص على ظاهره فإن الله تعالى إذا تجلى لأهل الجنة ينظرون إليه ، كما تواتر في السنة ، فلا تتوجه الوجوه والأنظار إلاّ إليه وكأنها لا ترى إلاّ هو ، وسبحان الله ، كيف يتصور أن تطلب العيون نظراً إلى غير الله إذا تجلى بعظمته ، وكيف لا تعمى عن سواه إذا أزال رداء الكبرياء عن وجهه الكريم ؟ بل هذا أعظم لذّات الجنة وليس بين هذا النعيم وسائر نعيم الجنة وجه مقارنة أصلاً كما تقدم في حديث مسلم (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ).
وفي الوجوه الأربعة المتقدمة رد على قوله ( والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم).
وأما الاستدلال بقوله { لا تدركه الأبصار } فقد اشتبه عليهم ويتبين برده إلى المحكم معنا الصحيح ، فإنه لا ريب أن ما دلت عليه الآيات السابقة والأحاديث المتواترة من حصول رؤية المؤمنين ربهم ، محكم غاية الأحكام ، فقوله تعالى { لا تدركه الأبصار} لا يدل على عدم الرؤية بل هو أدل على وقوع الرؤية ، وذلك أن الآية ذكرت في ( سياق التمدح ومعلوم أن المدح ، إنما يكون بالصفات الثبوتية .
أما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال قيوميته ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره ، ونفي الأكل والشر المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته ، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا وجوديا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه .
فمعنى الآية إذن ، يرى ولكن لا يدرك ولا يحاط به فيكون قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن (الإدراك) ، هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى { فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا} الشعراء (62) ، فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الأدراج ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر ، وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه)[124] .
وهذا ختام كتاب ( أم البراهين ) والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين .
قائمة المحتويات
- الفصل الثاني : أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها ..................... ص 2
- المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة ..................................... ص 3
- مقدمة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة ............... ص 3
- الركن الأول ............................................................ ص 3
- الركن الثاني ............................................................ ص 5
- المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية ......... ص 8
- المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات ........................ ص 9
- أهم أدلة نفاة الصفات الفعلية ............................................. ص 9
- أهم أدلة نفاة صفة العلو ................................................ ص 10
- أهم أدلة نفاة صفات الذات .............................................. ص 11
- ملاحظات على هذه الأدلة ............................................... ص 12
- المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .. .................................................................................. ص 14
- الشق الأول : الرد العام ................................................. ص 14
- القسم الأول .......................................................... ص 14
- القسم الثاني ......................................................... ص 18
- الشق الثاني : الرد التفصيلي ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة المعتزلة ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات ..................... ص 21
- الجواب على أدلة تأويل نفي العلو وتأويل النصوص الدالة عليه ..... ص 21
- الجواب على أدلة نفي صفات الذات .................................. ص 22
- الجواب على ما ذكروه في نفي المحبة ............................... ص 23
- خلاصة مهمة جدا .................................................... ص 25
- المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ........ ص 27
- المثال الأول : آيات الاستواء ............................................ ص 27
- المثال الثاني : آيات الكلام ............................................... ص 29
- أهم أقوال المنتسبين إلى القبلة في توجيه نسبة الكلام إلى الله ....... ص 29
- القول الأول : قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث ............. ص 29
- القول الثاني : قول المعتزلة ...................................... ص 31
- القول الثالث : قول الأشاعرة ..................................... ص 31
- الأدلة على بطلان قولهم في كلام الله ................................. ص 32
- المثال الثالث : آيات الرؤية .............................................. ص 39
[1] كما ذكر الرازي في تفسيره 7/170، ولهذا قال في المواقف في علم الكلام ( ودلائله يقينية يحكم بها العقل ، وقد تأيدت بالنقل ) ص 8 ، فجعل الاعتماد على الأدلة العقلية ، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب .
[2] ينظر في الجواهر والأجسام المواقف ص 182ـ 188، شرح العقائد 46ـ 56 .
[3] ينظر في تفصيل القول بتماثل الأجسام مع المصدرين السابقين ، درء التعارض 1/116، 5/194ـ 2020، 7/112ـ 114 ، وقد ذكر أن القول الصحيح في انقسام الأجسام أنها تتجزأ حتى تصير إلى أجسام أخرى ،كما يستحيل الماء إلى هواء بالحرارة وأن القول بالجوهر الفرد لا يقول به أكثر العقلاء ، والأجسام غير متماثلة عندهم أيضا ، وينظر كذلك تلبيس الجهمية 1/518، والدرء 3/442، 445، وقد عزى الجرجاني القول بتماثل الأجسام إلى المتكلمين ، التعريفات للجرجاني 75، والآمدي كذلك ، نقلا عن الدرء 4/176 .
[4] ينظر الإرشاد للجويني ص 44ـ 45، والتمهيد للباقلاني ص 39ـ 40 ، وشرح العقائد ص 55ـ 57 ، والمواقف ص 101 .
[5] ينظر المواقف 101، والتمهيد ص 38 .
[6] ينظر في هذه الطريقة ، الإرشاد للجويني ص 39ـ 48، ولمع الأدلة له ص 76ـ 80، التمهيد 41، 42، شرح العقائد ص 54ـ 56 .
[7] حكاه ابن تيمية عن أبي المعالي ، الدرء 1/303، ويدل عليه كلامه في الإرشاد ص 151 .
[8] ينظر في هذه الطريقة ، الرسالة النظامية 16ـ 27، وقد ذكر ابن رشد أن الذي استنبطها هو أبو المعالي ، ثم شرحها ابن رشد بإيجاز ووضوح ، مناهج الأدلة ص 144، وينظر أيضا مقدمة الدكتور محمود حسين للكتاب ص 15 ، وكذلك الدرء لان تيمية 3/75ـ 76، وهذه الطريقة تنصب على إثبات الصانع بدون توسط إثبات حدوث جميع الجواهر ، كما صرح بذلك الرازي فيما نقل عنه في المصدر السابق .
[9] ينظر شرح المواقف للجرجاني 3/2، 5 .
[10] ممن ذكرها الرازي فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون بالإمكان ، أو الحدوث ، وكلاهما إما في الذات ، وإما في الصفات ، وينظر معالم أصول الدين للرازي ص 38 ، وذكر مثل هذا في المواقف ص 266، وقد اقتصر على هذه الطريقة الأشعري في اللمع ص 17ـ 18 ، واقتصر على الأولى كل من الجويني في إرشاده ولمعه ، والباقلاني في تمهيده ، والتفتازاني كما تقدم عنهم جميعا ، وكذلك اقتصر عليها السنوسي في شرح أم البراهين (151ـ 154) .
[11] ينظر كلام ابن تيمية الدرء 3/83 .
[12] عزاه في حاشية الدرء إلى نهاية العقول في دراية الأصول للرازي مخطوط ، ينظر العزو في الدرء 3/ 82 .
[13] ينظر اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص 18ـ 19 .
[14] ينظر العزو إلى كتاب الرازي دراية الأصول الذي مر ذكره آنفا .
[15] ينظر شرح الأصول الخمسي لعبد الجبار الهمداني ص 195ـ 196 .
[16] المصدر السابق 201 .
[17] ينظر المجموع 6/339 .
[18] متشابه القرآن له 1/8 .
[19] المصدر السابق 1/19 .
[20] هذه عبارة الغزالي في المستصفى 120 .
[21] ينظر شح العقائد النسفية 94ـ 95 .
[22] أما أبو المعالي فعبارته ( ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام ، وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ... إلخ ) الإرشاد 151، وقوله ( التحول وتفريغ مكان وشغل غيره ) يريد به حلول الحوادث ، ولذلك قال إنه يلزم منه القدح في دليل حدوث العالم ، وقد ذكر في أوائل كتابه أن الدليل على حدوث العالم قيام الأعراض الحادثة ، في جواهر العالم ، والأعراض الحادثة تتجدد ، وتأتي وتزول ، هذا مع أن المثبتين للنزول لا يقولون هو تفريغ مكان وشغل غيره ، بل هذا لا يقوله إلا من لايفهم من صفات الله تعالى ، إلا ما يلزم من نقص المخلوقات ، بل يقولون ينزل كيف يشاء نزولا ندرك حقيقته ، وينظر أيضا في دليهم على نفي الصفات الفعلية قواعد العقائد 186 .
[23] أساس التقديس 102 .
[24] بيان تلبيس الجهمية 1/143 .
[25] ينظر هذا الدليل في أساس التقديس ص 45، وتفسير الرازي 11/173، وقدمه في الموضعين .
[26] لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل الملة للجويني 95 .
[27] الإرشاد للجويني ص 9 ، واستدل الغزالي بأن القول بالجهة يوجب حلول الحوادث من جهة أنه إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا ، وكلاهما أعراض حادثة ، ينظر قواعد العقائد ص 158، واقتصر أيضا على هذه الحجة .
[28] ينظر تفسير الرازي 12/ 174، وأساس التقديس له .
[29] ينظر في هذا الدليل تفسير الرازي ( 12/42، ومجموع الفتاوى 6/69، 6/109، 13/303.
[30] رواه البخاري الفتح 8/395 .
[31] التمهيد للباقلاني 47 .
[32] الإرشاد 212 .
[33] مجموع ابن تيمية 11/358، وينظر كذلك 10/74، 6/69، 6/114 .
[34] ينظر تفسير الرازي 1/262، والتمهيد للباقلاني ص 47 ، ومجموع ابن تيمية 6/117ـ 123.
[35] ينظر الإرشاد للجويني 44، فقد جوز الصالحي من المعتزلة خلو الجواهر عن الإعراض ، وإذا جاز هذا سقط هذا الدليل على حدوث الجواهر ، وبالتالي لايمكن جعل هذا الدليل حجة في صرف ظواهر الوحي التي تقضي باتصاف الله تعالى بالصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء وغيره ، ولهذا قال أبو المعالي ( فإذا جوز الخصم عروّ الجواهر عن الحوادث مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث ) ص 46 .
[36] ينظر مناهج الأدلة 149 .
[37] ينظر جامع الرسائل تحقيق محمد رشاد سالم 2/8ـ9 .
[38] ينظر تلبيس الجهمية 1/496، وصرح التفتازاني في شرح العقائد بضعف أدلة الجوهر ، وحكى عن الرازي التوقف فيه ص 52 .
[39] مناهج الأدلة 138 .
[40] ينظر الدرء 4/176 .
[41] كما نقل ابن تيمية عن الآمدي الدرء 4/247 .
[42] ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية في المصدر السابق ، أن عالما مشهورا في الكلام والجدل اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما ، فقال له ( بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم من المعارضة فما وجدته ) وقال ابن تيمية أيضا ( وكذلك حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال ( أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي ، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء ، وبالعكس ، وأصبح وما ترجح عندي شيء 3/263 .
[43] تفسير الآلوسي 11/124 .
[44] ذم العلماء للكلام مشهور حدا ، كقول الشافعي حكمي على أهل الكلام ، أن يضربوا بالحديد والنعال ويطاف بهم بين العشائر والقبائل ،ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام ) وقول أحمد ( لا يفلح صاحب كلام أبدا ) ، وقال مالك ( لاتجوز شهادة أهل البدع ، وقال ابن خويز منداد ( أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا ، هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل البدع ، وقال أبو يوسف ( من طلب العلم بالكلام تزندق ) ينظر الدرء 7/146ـ 159، ومجموع ابن تيمية 16/472، 473، وبيان تلبيس الجهمية 1/101، 123، وقال أبو حامد وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه ، وهيهات ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة ، وبعد التغلل في إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ) إحياء علوم الدين 1/97 .
[45] ما بين القوسين عبارة ابن رشد في مناهج الأدلة 153، وينظر في هذا الدليل الشرعي لاثبات الصانع ، الذي أشار إليه ابن رشد هنا ، مناهج الأدلة لان رشد 150ـ 153، ومع أن هذا الرجل فيلسوف إلا أنه صرح أن طريقة القرآن في إثبات وجود الله ، تخالف طرق المتكلمين ، وأنها تنحصر في طريقين ، طريقة العناية ، وطريقة الاختراع ، ومثل للأولى وللثانية بالآيات ، وقال ابن تيمية بعد أن ذكر كلامه : قلت ذكره لهذين النوعين ،كلام صحيح حسن في الجملة ، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها ) تلبيس الجهمية 1/176، وينظر كذلك هذا المصدر 1/176ـ 181 .
[46] كما يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ) رواه البخاري ينظر فتح الباري 3/246 .
[47] ينظر مجموع ابن تيمية 13/304 .
[48] ينظر في إبطال استعمال القياسين ، والتمثيل لقياس الأولى درء التعارض 7/322ـ 323 .
[49] ينظر في ذكر أمثلة هذا القياس من القرآن الدرء 7/363 .
[50] ينظر الرسالة الأكملية لابن تيمية 17 .
[51] شرح الطحاوية 126 .
[52] شرح الطحاوية 129 .
[53] ينظر ابن تيمية السلفي للشيخ خليل هراس ص 98، وما هنا عبارة عن اختصاره لكلام ابن تيمية في منهاج السنة 1/233، 237 .
[54] ص 128 .
[55] 20 .
[56] ما بين القوسين كلام ابن تيمية مع بعض التصرف المجموع 6/346، وما تقدم كذلك من نفس المصدر ، وينظر كذلك في الجواب على دليل التركيب الدرء 5/142ـ 145 .
[57] شرح الطحاوية 129.
[58] ينظر في هذا الجواب المجموع 17/317 .
[59] ينظر في الجواب على أدلة نفي العلو ، مجموع الفتاوى ( 17/ 313ـ 325) ، والدرء ( 4/156ـ 162) و ( 4/220 فما بعدها ، وينظر في مسألة الجهة ، كتاب أقاويل الثقات لمرعي الكرمي ص 92ـ 95 .
[60] ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 6/109، وهذه الألفاظ كالجسم ، والجوهر ، والتركيب ، والانقسام ، لاتثبت ، ولا تنفى إلا بعد الاستفسار عن معانيها ، فما كان حقا اثبت ولم يستعمل إلا اللفظ الذي لا يحتمل غيره ، وما كان باطلا نفي ولا تطلق هذه الألفاظ المشتبهة على الله تعالى لما فيها من الإجمال الذي يشتمل على الحق والباطل ، أفاده ابن تيمية المجموع 17/304 .
[61] ينظر مجموع ابن تيمية 6/117 .
[62] يعني لم يقل أحد من أهل السنة ، ينظر حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/7 .
[63] تفسير الآلوسي 1/60 .
[64] لمع الأدلة للجويني 95 .
[65] المصدر السابق .
[66] ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 483، والإسناد المنقول ظاهر الصحة ، قال المصنف ( وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس ، فذكره .
[67] ينظر رسالة الرد على الجهمية ، للإمام احمد ص 65، ضمن مجموعة عقائد السلف ، وذكر ابن تيمية أن كلام احمد يحتمل إرادته التشابه اللازم لبعض الآيات ، وذكر ما يدل على جواز هذا الإطلاق ينظر المجموع 17/383 .
[68] تقدم تخريجه في الجزء الأول من هذا الكتاب .
[69] شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/399 .
[70] المصدر السابق 3/399، وعزاه الحافظ في الفتح إلى كتاب الفاروق للهروي 13/406، وينظر أيضا الذهبي مختصر العلو 195، واللسان 14/414 .
[71] فتح الباري 13/406 .
[72] ينظر الصواعق المرسلة 1/195ـ 196 .
[73] الإتقان 2/8ـ 9 .
[74] ص180 .
[75] شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/235 .
[76] المصدر السابق 2/235ـ 236 .
[77] المصدر السابق 2/234ـ 312 .
[78] المصدر السابق 2/312 .
[79] المصدر السابق 2/313ـ 330 .
[80] مجموع ابن تيمية 12/304 .
[81] ينظر شرح الأصول الخمسة ص 528 .
[82] ص 294 .
[83] ينظر شرح العقائد ص 94 ـ 95، وينظر في هذا المذهب ، أصول الدين للبغدادي ص 106، إرشاد الجويني ص 117 ـ 119 ، المستصفى للغزالي ص 120 ، قواعد العقائد له ص 182ـ 183 .
[84] ينظر في هذا التبصير في الدين ص 150 ، مجموع ابن تيمية 12/165 .
[85] ذكر أبو نصر السجزي في كتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت ، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان في أن الكلام لايكون إلا حرفا وصوتا حتى خالف في ذلك ابن كلاب ومن تبعه ص 89 ، وكذلك ذكر ابن تيمية أنه لم يقل بهذا القول في الكلام إلا هذه الطائفة المجموع 6/528 .
[86] ينظر قواعد العقائد للغزالي ص 185 .
[87] ينظر مجموع الفتاوى 12/130 .
[88] المصدر السابق 12/123 .
[89] مجموع ابن تيمية 12/130ـ 131 .
[90] ينظر شرح الطحاوية 197.
[91] ينظر المجموع لان تيمية 6/295ـ 296، 12/194 .
[92] المصدر السابق 12/122، وشرح الطحاوية 191.
[93] رواه البخاري الفتح 9/388 .
[94] رواه النسائي في سننه 3/19، وأبو داود 1/567 .
[95] شرح الطحاوية 191 .
[96] قال الإمام أبو نصر السجزي رحمه الله في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ( وتعلقوا بشبه منها قول الأخطر أن البيان لفي الفؤاد ... فذكر البيت ، ثم قال : فغيروه وقالوا : إن الكلام لفي الفؤاد ) 92 .
[97] شرح الطحاوية ص 198، وينظر مجموع الفتاوى 6/296ـ 297 .
[98] حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص 113 ، وانظر المستصفى للغزالي 120 ، فقد ذكر قريبا من عبارته ، وهذا التأويل بمني على جواز سماع الكلام النفسي ، وقد قال به بعض الاشعرية ينظر نظم الفرائد ص 15، 16 .
[99] مجموع ابن تيمية 12/132، 12/175 .
[100] أما الرؤية ـ أعني رؤية الروائح .. إلخ ، فذكره في المواقف ص 302 ، جوابا على من ألزمهم بأن مالا يوجد لاتصح رؤيته ، فذكروا أن مصحح الرؤية الوجود فقط ، والتزموا من اجل ذلك صحة رؤية الروائح والمطعومات ، والملموسات ، وأما السماع فكذلك نقله في نظم الفرائد عن الاشعري ، أنه يتعلق بكل موجود والكلام النفسي موجود فيصح سماعه ص 16 ، وحكاه ابن القيم عن الاشعري ومن اتبعه قال ( وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ، ويشم ، ويذاق ، ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود فكل موجود تعلق الادراكات كلها به ، كما قرره في مسالة رؤية ما ليس في جهة من الرائي ) مختصر الصواعق لابن القيم 513 .
[101] ينظر تفسير الرازي 22/16 .
[102] قال أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ( وأيضا فلو كان غير حرف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارات بحكم ، إما أن يكون الله أحدثها في صدر أو لوح أو أنطق بها بعض عبيده ، فتكون منسوبة إليه ص 191.
[103] مجموع ابن تيمية 12/378 .
[104] شرح العقائد النسفية 92ـ 93 .
[105] مختصر الصواعق لابن القيم 518 .
[106] ينظر في علاقة مسألة الكلام بمراتب الوجود ، مختصر الصواعق المرسلة ص 535، مجموع الفتاوى 12/239 ، 12/289، 12/385 .
[107] مجموع ابن تيمية 12/171 .
[108] المصدر السابق .
[109] المصدر السابق 12/291 .
[110] المصدر السابق 12/281 .
[111] متشابه القرآن لعبد الجبار 1/255 .
[112] تفسير ابن كثير 8/373 .
[113] شرح الطحاوية ص 207 ، وقوله عندهم في الوجه الأول يعني المعتزلة ، فإنهم لا يجوزون على الأنبياء حتى الصغائر فكيف بجهل ما يستحيل على الله .
[114] الكشاف 1/412 .
[115] متشابه القرآن له 1/291 .
[116] 1/293 .
[117] تفسير ابن كثير 3/471 .
[118] ينظر شرح الطحاوية 205 .
[119] الصحاح 2/830 .
[120] معجم مقاييس اللغة 5/444 .
[121] شرح الطحاوية 205 .
[122] الكشاف 4/192 .
[123] المصدر السابق .
[124] شرح الطحاوية 208 .
أم البراهين لشبهات المعطّلين والمؤوّلين والمفوّضين لصفات الله رب العالمين - الجزء 1-2
أم البراهين لشبهات المعطّلين والمؤوّلين والمفوّضين لصفات الله رب العالمين - الجزء 2-2
أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها
ويشتمل هذا الفصل على هذه المطالب :
المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة .
المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية .
المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات .
المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .
المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ، في الاستواء وكلام الله تعالى ورؤيته جل وعلا .
قائمة المحتويات
- الفصل الثاني : أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها ..................... ص 2
- المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة ..................................... ص 3
- مقدمة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة ............... ص 3
- الركن الأول ............................................................ ص 3
- الركن الثاني ............................................................ ص 5
- المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية ......... ص 8
- المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات ........................ ص 9
- أهم أدلة نفاة الصفات الفعلية ............................................. ص 9
- أهم أدلة نفاة صفة العلو ................................................ ص 10
- أهم أدلة نفاة صفات الذات .............................................. ص 11
- ملاحظات على هذه الأدلة ............................................... ص 12
- المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .. .................................................................................. ص 14
- الشق الأول : الرد العام ................................................. ص 14
- القسم الأول .......................................................... ص 14
- القسم الثاني ......................................................... ص 18
- الشق الثاني : الرد التفصيلي ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة المعتزلة ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات ..................... ص 21
- الجواب على أدلة تأويل نفي العلو وتأويل النصوص الدالة عليه ..... ص 21
- الجواب على أدلة نفي صفات الذات .................................. ص 22
- الجواب على ما ذكروه في نفي المحبة ............................... ص 23
- خلاصة مهمة جدا .................................................... ص 25
- المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ........ ص 27
- المثال الأول : آيات الاستواء ............................................ ص 27
- المثال الثاني : آيات الكلام ............................................... ص 29
- أهم أقوال المنتسبين إلى القبلة في توجيه نسبة الكلام إلى الله ....... ص 29
- القول الأول : قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث ............. ص 29
- القول الثاني : قول المعتزلة ...................................... ص 31
- القول الثالث : قول الأشاعرة ..................................... ص 31
- الأدلة على بطلان قولهم في كلام الله ................................. ص 32
- المثال الثالث : آيات الرؤية .............................................. ص 39
المطلب الأول
إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة
قد يستدل القائلون بتأويل الصفات ومن يجعل منهم نصوصها من المتشابه الذي لا يراد ظاهره بأدلة كثيرة ، وقد ينزعون في بعض الأحيان إلى الاستدلال بالسمع ، لكن تعويلهم الأعظم على الأدلة العقلية[1] وهي متنوعة .
وفي تفصيل القول فيها تطويل يخرجنا عن مقصود هذا الكتاب ، غير أن لهم في هذا الباب أدلة تجري مجرى الأصول لغيرها ، ومنها تفرع كثير من الاستدلال العقلي عندهم ، فإذا ذكرت وبين وجه الجواب عنها اتضح بذلك السبيل الذي اتبعوه في الحكم على هذه النصوص بالتشابه بالمعنى الذي أرادوه .
ويتضح بذلك أيضاً طريق الجواب عن غيرها من الأدلة العقلية بما ينقض زعم من زعم ، أن الأدلة العقلية قد تناقض الوحي الإلهي ، وإن الواجب في هذه الحال التصرف فيه ليلائمها ويتفق معها ، فإن لم يستطع ذلك قدمت الأدلة العقلية على نصوص الوحي ، وأحسن الظن فيها ـ أي نصوص الوحي ـ : بأنها مما يراد به الابتلاء ، لا اعتقاد ما دلت عليه.
* ولابد من تقديم جملة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة فيقال :
أما الركن الأول :
فهو أن هؤلاء المتكلمين - وهم القائلون بتأويل نصوص الصفات - قد اعتقدوا مسائل رأوها قاطعة ، دل عليها براهين محكمة ، وبنوا عليها أموراً عظيمة كإثبات وجود الله ، وأنه صانع العالم ، ورأوا أنها إذا ابتنى عليها هذا الذي هو أصل الدين ، فلا يجوز تقديم ما جاء في السمع عليها ، لأن في ذلك تقديم الفرع على أصله .
وبيان هذا أنهم قسموا ما في العالم من الموجودات إلى قسمين :
جواهر وأعراض ، ولتكون القسمة حاصرة ، جعلوا الجوهر هو المتحيز ، وهو ما يشار إليه بالذات الإشارة الحسية .
والعرض موجوداً قائما بمتحيز ثم جعلوا الجواهر قسمان : ما يقبل القسمة ، وهو الجسم ، وما لا يقبلها لا وهماً ، ولا فعلاً ن ولا فرضا ، ً وهو الجوهر الفرد .
واعتقد أكثرهم أن الأجسام متركبة في الحقيقة من هذه الجواهر الصغيرة التي هي في غاية الحقارة ، وهي في حقيقة الأمر متماثلة تتجمع لتكون الأجسام .
والأجسام كلها في هذا العالم متكونة منها[2] ، لا فرق بين جسم وآخر في أن أصله هذه الجواهر ، والاختلاف الظاهر فيها راجع إلى اختلاف الأعراض القائمة بها .
فجسم النار وجسم الثلج متماثلان إلا أن أعراضاً قامت بالجسم الناري كالحرارة والطافة جعلته بهذه الصفة ، والبرودة والرطوبة جعلت الثلج بهذا الشكل ، واختلاف أحجام الأجسام راجع إلى كثرة هذه الجواهر فيها وقلتها وهذه الجواهر متماثلة[3] .
وطائفة قليلة لم تعتقد قسمة الأجسام إلى هذه الجواهر الصغيرة ، لكنهم اتفقوا جميعاً على أن الجسم هو ما يمكن الإشارة إليه مما ينقسم ، ويعنون بانقسامه أن يتميز فيه شيء عن شيء ، فيكون فيه يمين ويسار أو فوق وتحت ، وإن كان انقسامه بمعنى انفصاله إلى أجزاء مما لا يقع .
وأما الأعراض فهي كالألوان ، والطعوم ، والروائح ، والأصوات ، وما يسمونه الكيفيات النفسية كالعلم ، والإرادة ، والقدرة ، وكل ما لايمكن الإشارة إليه من الموجودات ، ولا يقوم بنفسه كالاجتماع ، والافتراق ، والحركة ، والسكون ، وزعم أكثرهم أن الأجسام لا تخلوا من الأعراض ، أما من قال بالجواهر الفردة فلأنها متركبة منها فلا تخلوا من عرض الاجتماع ، وقال بعضهم لاتخلوا من الحركة ، والسكون ، أو الاجتماع ، والافتراق ، وقال بعضهم : لا تخلوا من جميع أنواع الأعراض[4] .
واشتهر عند الأشعرية أن العرض لا يبقى زمانين ، بل هي ـ أي الأعراض ـ تتجدد حالاً فحالاً ولما أورد عليهم بأن المشاهدة قاضية ببقاء الأعراض قالوا : لا دلالة لها كالماء الدافق من الأنبوب يجري مستمراً وهو أمثال تتوارد[5] .
هذا و لهم في هذه المباحث تفاصيل ، وجدال طويل ومعارضات ، وأدلة يسودون بها الصفحات في الجوهر والعرض ، فكم تناظروا في الجوهر الفرد ، وهل السكون عرض ، وأن الأجسام متماثلة في الأصل ، وينقض بعضهم قول بعض في تفاصيل تتعلق بالجواهر والأعراض ، مما لا يخفى على المطلع على طائفة من كتبهم ولو كانت قليلة.
لكن هذه الجملة المتقدمة أظهرت أعظم مسائل جواهرهم وأعراضهم ، بما فيهم المعتزلة وهي مادة غالب كلامهم في باب الصفات ، وإنما قدمت لتتضح دلائلهم فيما يأتي.
وأما الركن الثاني :
فهو أن المتكلمين أحدثوا طرقاً في إثبات حدوث العالم وصانعه ، بنوا عليها صحة الدين ، ورأوا اطرادها ، وقد بنوها على ما تقدم في الركن الأول .
ورؤوسها ثلاث طرق ، وهي :
الطريقة الأولى :
يقولون فيها ما مثاله[6] العلم أما جوهر أو عرض ، فإذا ثبت حدوثهما فالعالم حادث ، ونحن نثبت حدوث الأعراض ونبني عليه حدوث الجواهر ، فنقول : إن الجواهر لا تتعرى عن الأعراض البتة ، فأما إن صح وجود الجوهر الفرد ، فلا تنفك الجواهر عن عرض الاجتماع ، أو الافتراق ، وأما إن لم يصحّ فالحركة والسكون ، أو غيرها من الأعراض .
والأعراض حادثة لأنها تتعاقب على محالها التي هي الجواهر ، فنستيقن حدوث الطارئ منها من حيث وجدت ونعلم حدوث السابق من حيث عدمت ، لأن وجود الشيء بعد عدمه أو عدمه بعد وجوده دليل على حدوثه ، والحوادث لابد لها من مبدأ ، إذ لا يصحّ حوادث متسلسلة لا أول لها ، ويعنون بالحادث ما سبقه عدم .
فينتج من هذه المقدمات حدوث الجواهر إذ ما لا ينفك عن الحوادث التي لها مبدأ ، حادث مثله ضرورة ، فينتج حدوث العالم ، إذ هو بأسره ، جوهر أو عرض ، والحادث لابد له من محدث أحدثه وهو الله تعالى .
وقد عد بعضهم هذه الطريقة ، العمدة في إثبات وجود الله ، وجعل الدين مبنيا عليها[7] .
الطريقة الثانية :
وهي مبنية على القول بتماثل الأجسام ، وأشهر من قال بها أبو المعالي رحمه الله ، فإنه استدل بأن الأجسام في الأصل متماثلة ، وإنما يحصل الاختلاف بينها لاختصاص كل جسم بأعراض تخصه ، كما تقدم بيانه ، واختصاص كل جسم بما له من الصفات دون غيرها - كالحيز الذي هو فيه دون غيره ، والحد والنهاية الذي هو عليها دون غيرها - مفتقر إلى مخصص خصصه على هذه الصفات ، والمفتقر إلى غيره حادث والحادث لابد له من محدث وهو الله جل وعز.
وقد يسمون هذه الطريقة ، طريقة إمكان الأعراض ، والممكن عندهم هو ما لايجب وجوده ولا عدمه ، والواجب يجب وجوده ، والممتنع ما يجب عدمه وظاهر أن الممكن محدث والمحدث بحاجة إلى محدث[8] .
الطريقة الثالثة :
وهي مبنية على تركيب الأجسام من الجواهر المفردة ، ويقال فيها : إن الأجسام مركبة ، والمركب مفتقر إلى أجزائه ، والمفتقر إلى غيره ممكن ، والممكن محدث ، وإذا كانت الأجسام ممكنة محدثة فالأعراض التي لا تقوم إلاّ بها أولى بالإمكان والحدوث ، فالعالم محدث والمحدث لابد له من محدث[9] .
استنباط مما مضى :
ويستنبط من هذه الطرق ، أنها كلها ، مبنية على الجسم ، بالاصطلاح الذي وضعوه ، ومضمونها أن الشيء إذا كان في جهة ، ويشار إليه فهو جسم حادث ، وإن دليل حدوثه من ثلاث جهات:
الجهة الأولى : عدم انفكاكه عما يطرأ ويزول فهذا يدل على الحدوث.
الجهة الثانية : اعتوار الصفات الجائزة إياه - أي التي يجوز ألا تكون كما هـي - كوجوده في حيز معين أو مقدار معين وحد معينين ، دون غيرها - فهذا يدل على افتقاره إلى مخصص وهو دليل على الإمكان ، والممكن لابد له من مؤثر يرجح جانب وجوده على عدمه فهو محدث.
الجهة الثالثة: تركيبه دليل على افتقاره إلى ما تركب منه والافتقار دليل الإمكان .
ملحوظة :
يلاحظ أن الطرق السابقة هي استدلال بحدوث الجواهر ، وإمكانها كما هي الأولى والثالثة ، وإمكان الصفات - وهي الأعراض - كما هي الثانية ، وبقي الاستدلال بحدوث الصفات ، وقد يذكر مع الطرق السابقة أيضاً ، لكن الطريقة الأولى والثانية أشهر ، والأولى من الثانية وهي في الأصل للمعتزلة[10]
( والاستدلال بحدوث الصفات ، هو جزء من طريقة القرآن فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدث في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان ، وغير ذلك من الحوادث ، لكن القائلين بالجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا إستدلالاً بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها لكن تغير صفاتها)[11] .
ولهذا يقول الرازي في التمثيل لهذه الطريقة ( مثل صيرورة النطفة المتشابهة الأجزاء انساناً )[12] وليس في هذا دليل على حدوث الجواهر الحاملة لهذه الأعراض - كما لا يخفى - ولهذا عاد الأشعري رحمه الله بعد ذكر هذه الطريقة إلى الاستدلال على حدوث النطفة - التي مثل بها لهذه الطريقة - بعدم انفكاكها عن الأعراض كما ذكر في الطريقة الأولى السابقة[13] .
كما أن هذه الطريقة ليس فيها ما يقتضي إلاّ يكون صانع العالم جسماً ، بالمعني الكلامي ، كما قال الرازي ( والفرق بين الاستدلال بإمكان الصفات وبين الاستدلال بحدوثها ، أن الأول يقتضي ألا يكون الفاعل جسماً ، والثاني لا يقتضي ذلك )[14] ، واقتضاء طريقة الإمكان لما ذكر بسبب بناؤها على تماثل الأجسام .
وسيأتي الكلام على هذه الطريقة القرآنية ، وأنها ليست في حدوث الصفات فحسب ، بل الله تعالى أشهدنا حدوث الذوات ، والصفات ، ليجعل ذلك دليلاً على نفسه تبارك وتعالى .
وهكذا ، استعمل أهل الكلام ، الجواهر والأعراض ، وأحكامهما لاثبات حدوث العالم ثم إثبات صانعه ، وهو الله عز وجل ، فرأوا أن الاستدلال بالسمع مبني على هذه الأدلة العقلية ، التي اثبت بها وجود الله منزل الوحي - سبحانه وتعالى - ، فقدموها ، وحكموا بها على الوحي كما سيأتي عند ذكر أدلتهم على أن نصوص الصفات من المتشابه الذي يجب حمله على خلاف ظاهره .
فإن هذه الطرق أنتجت لهم الأدلة التي سيستدلون بها على معارضة السمع وصرفه عن ظاهره .
المطلب الثاني
ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية
الدليل الأول :
أن إثبات الصفات لله ، على أنها معاني زائدة على ذاته لا يخلو الأمر فيها ، إما أن تكون حادثة فيلزم حلول الحوادث بذاته ، أو تكون قديمة فيلزم أن يكون لله تعالى مماثلا في أخص وصفه وهو القدم ، فيتعدد القدماء ، وما لا يلزم منه إلاّ الباطل فهو باطل[15] .
وفيما تقدم ما يبين معنى قولهم (يلزم حلول الحوادث) وأنهم استدلوا بهذا على حدوث ما تحل به الحوادث ، ولذلك منعوا هذا هنا .
الدليل الثاني :
أن إثبات الصفات ، نسبة للأعراض إليه سبحانه وتعالى ، والأعراض لا يجوز أن يوصف الله بها إذ هي دليل على أن ما قامت به فهو جسم حادث[16].
الدليل الثالث :
أن إثبات الصفات يلزم منه نسبة التركيب إلى الله ، وانه مركب من الذات والصفات والمركب مفتقر إلى غيره فهو ممكن ، والله تعالى واجب الوجود بنفسه[17].
وقد تقدم كيف جعل التركيب دليلاً على الإمكان والحدوث ،وأنه من البراهين المستعملة في إثبات حدوث العالم الذي يعتمد عليه إثبات الصانع منزل المحكم والمتشابه .
وهذه الأدلة هي أهم ما يستدلون به على نفي الصفات ، ومن هنا جاء القول بأن نصوص الصفات من المتشابه عندهم ، لأنها تدل على خلاف ما قررته هذه البراهين المحكمة عندهم ، كما قال القاضي عبد الجبار (فأقوى ما يعلم به الفرق بين المحكم والمتشابه أدلة العقول )[18] ، فمثل هذه الأدلة حملته على جعل نصوص الصفات من المتشابه الذي عرفه بأنه (ما خرج ظاهره عن أن يدل على المراد)[19] ، فهذه هي أهم أدلة المعتزلة .
المطلب الثالث
ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات
وأما أدلة غيرهم من أهل التأويل ، فما هي ببعيد عن هذه الأدلة ، بل هي نابعة من عين واحدة ، وهذا بيان أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية ، ثم صفة العلو ، ثم الصفات الذاتية ، كالوجه واليدين.
النوع الأول : أهم ما استدلوا به على نفي الصفات الفعلية :
استدلوا على تأويل آيات ، وأحاديث صفات الأفعال ، التي تدل على أن الله يقوم به من الصفات ما يتعلق بالمشيئة ، كالمجيء يوم القيامة والنزول في ثلث الليل الأخير واستوائه على العرش بعد أن لم يكن مستوياً ونداؤه لموسى لما جاء عند شاطئ الوادي الأيمن وغير هذه النصوص التي تدل على أفعال الله في وقت دون وقت .
بأنها يلزم من ظاهرها قيام الحوادث بذات الله ، والحوادث هي ما سبقه العدم ، ولهذا السبب قالوا ليس لله صفة تقوم به إلاّ أن تكون قديمة غير متعلقة بالمشيئة ، ولهذا قالوا بالكلام النفسي ، وإن الله (يخلق لمن يشاء من عباده علما ضرورياً بكلامه ، من غير توسط حروف وصوت ودلالة )[20] ، وقال من قال منهم إن كلامه لا يسمع[21] ، خشية القول بأن الله يتكلم في دون وقت ، فيكون وجود بعض أفراد الكلام سبقه عدمه وهو معنى الحدوث الذي إذا قام بالشيء دل على حدوثه .
وبه استدل على حدوث العالم واثبات الصانع ، ولهذا جعل أبو المعالي القول بظاهر حديث النزول يؤدي إلى (طرفي نقيض إحداهما الحكم بحدوث الإله ، والثاني القدح في دليل حدوث العالم )[22]
وجعل الرازي أول البراهين الدالة على تأويل المجيء قوله (ما ثبت في علم الأصول أن كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب فإنه لا ينفك عن المحدث ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث فيلزم ان كل ما يصحّ عليه المجيء والذهاب وجب أن يكون محدثاً مخلوقاً فالإله القديم يستحيل أن يكون كذلك[23] .
قال ابن تيمية ( وبهذه الطريقة ، نفوا أن يقوم به فعل من الأفعال ، فنفوا أن يكون الرب استوى على العرش بعد أن لم يكن مستوياً)[24] .
وهكذا استدل هؤلاء على تأويل نصوص هذا النوع من الصفات بالدليل الذي اخترعه المعتزلة واثبتوا به وجود الصانع سبحانه.
النوع الثاني: أهم أدلة تأويل صفة العلو :
الدليل الأول :
إن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون منقسماً أو غير منقسم ، فإن كان منقسماً كان مركباً ، وقد تقدم ما يلزم من التركيب ، وأن لم يكن منقسماً كان في الصغر والحقارة كالجزء الذي لا يتجزأ ، وذلك باطل باتفاق العقلاء ، هذا على القول بوجود الجوهر الفرد ، ومن ينفي الجوهر الفرد يقول كل ما كان مشاراً إليه ، فإنه لابد وأن يتميز أحد جانبيه عن الآخر وذلك يوجب كونه منقسماً فثبت أن القول بأنه مشار إليه يفضي إلى الباطل فهو باطل[25].
الدليل الثاني :
قال أبو المعالي (والدليل على ذلك أن كل مختص بجهة ، شاغل لها ، متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها ، وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلوا عنها وما لا يخلوا عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر ) .
وقد اقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة[26] ، وهي مبنية على الدليل الذي استدل به على حدوث العالم وهو الاستدلال على حدوث الجواهر بحدوث الأعراض فقبول الاجتماع والافتراق دليل على حلول الحوادث الدال على حدوث ما حلت به ، إذا الاجتماع والافتراق ، أعراض وما قامت به الأعراض لا يخلوا منها وهي حادثة .
وما قامت به الحوادث حادث كما تقدم بيانه في أدلة حدوث العالم ، وقد صرح هذا الإمام بأن طرد دليل حدوث الجواهر يوجب القول بنفي العلو ، قال في الإرشاد ( إذ سبيل الدليل على حدوث الجواهر قبولها للمماسة والمباينة على ما سبق فإن طردوا دليل حدث الجواهر ، لزم القضاء بحرث ما اثبتوا متحيزاً ، وإن تفضوا الدليل فيما ألزموه انحسم الطريق إلى إثبات حدث الجوهر)[27] .
الدليل الثالث :
أن القول بأن الله فوق العالم يوجب إما أن يكون غير متناه وهو باطل ،وإما أن يكون متناهيا فيلزم أن يكون مفتقراً إلى من خصصه بهذا المقدار دون غيره ، وإما أن يكون متناهيا من بعض الجوانب دون بعض ، فيكون الجانب الموصوف بكونه متناهيا غير الآخر وذلك يوجب القسمة والتجزئة[28] .
النوع الثالث : أهم ما استدلوا به على نفي صفات الذات .
وأهم ما استدلوا به على نفيها ، أنها توجب التجسيم ، وذلك من جهتين:
الجهة الأولى : أنها لا تطلق إلاّ على الأجسام في الشاهد .
الجهة الثانية : أنها تدل على التركيب وهو من صفات الأجسام .
ثم يقولون بعد هذا أن القول بالجسم يلزم منه الحدوث من جهة الأعراض أو التركيب أو الانقسام ويلزم التماثل مع سائل الأجسام عند من يقول به فيجوز عليه ما يجوز عليها من النقص والحدوث ، ولهذا قد يقولون اختصاراً أنها توجب التشبيه ، والمقصود عندهم أن الأجسام متماثلة ، وهو قول عامة المتكلمين[29] .
أما الصفات التي تكون ذاتية باعتبار وفعلية باعتبار آخر:
كالمحبة ، والرحمة ، والرضا ، والغضب ، والحياء .
فقد سلكوا في نفيها مسلكين :
الأول : من جهة كونها صفات فعلية ، يلزم منها حلول الحوادث ، وهذا في مثل ما ذكره النبيّ -صلى الله عليه وسلم- من حديث الشفاعة من أن الله يغضب يوم القيامة غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله[30] ، ومثل قول الله تعالى {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: من الآية31] ، فإن ظاهره أن المحبة تكون بعد الاتباع ، ولهذا يقولون ظاهره التغير[31] .
الثاني : من جهة أنها تدل على النقص والحدوث.
أما المحبة ، فقد قيل في دليل نفيها أن الله تعالى يتقدس أن يميل أو يمال إليه ، حكاه الجويني عن طائفة من الأصحاب[32] ، ويظهر أن المراد ما ذكره ابن تيمية عمن ينفيها أنه احتج بأن المحبة تقتضي مناسبة بين المحب والمحبوب ، توجب للمحب بدرك محبوبه فرحاً ، وهذا يقتضي الحاجة ، إذا ما لا يحتاج إليه الحي لا يحبّه ، والله غني لو جازت عليه الحاجة للزم حدوثه[33] .
أما الرحمة والغضب والرضا والحياء وأمثالها : فلأن الرحمة خور في الطبيعة ، والغضب غليان الدم في القلب لطلب الانتقام ، والرضى رقة وسكون في الطبع والحياء انكسار ، وهذه أمارات النقص ولا يجوز أن يتصف الله بها[34] .
ملاحظات على هذه الأدلة :
ويلاحظ على هذه الأدلة التي هي عمدتهم في حكمهم على نصوص الصفات أنها من المتشابه الذي لا يراد به الظاهر مما دل عليه ، أمور :
الأول : أن ينبوعها واحد ، وهو ما أحدث من القول في الجواهر والأعراض ، ثم بناء إثبات وجود الله على ذلك ، ومعلوم أن مصدر هذه البدع من كتب الفلسفة .
الثاني: أن الألفاظ المستعملة عندهم ، لا سيما التي ينفون بها عن الله ما ينفون ، كالجسم والجوهر والعرض والتركيب والانقسام والحيز ، اصطلاحات خاصة بهم ، يريدون بها معاني خاصة لا يعرفها أكثر الناس من لغتهم ولا من عرفهم ، وقد يتوهم السامع انهم ينفون بها ما يعلمه من معناها اللغوي وليس الأمر كذلك كما سيأتي بيانه .
الثالث: انهم يستعملون فيما يبحثون فيه في المطالب الإلهية ، قياس الخالق على المخلوق قياساً شمولياً أو تمثيلياً .
يوضح ذلك مثال ، وهو أن :
حقيقة دليلهم في نفي العلو هو انهم يقولون :
ظاهر الشرع أن الله في جهة ،وكل ما كان في جهة فهو جسم ، حادث فظاهر الشرع أن الله جسم حادث ، وهذا هو قياس الشمول بعينه .
وأما قياس التمثيل فمثل أن يقال : المجودات في جهة أجسام حادثة في الشاهد ، والله تعالى في ظاهر النصوص في جهة ، فالله تعالى في ظاهر النصوص جسم حادث قياساً للغائب على الشاهد ، ثم ينتج من القياسين وجوب صرف الظاهر.
وهذا لا يستطاع الانفصال عنه ، وذلك أن الذي يريد أن لا يعول إلاّ على العقل في هذه الأمور الغيبية لابد له من استعمال القياس ، ولازم قياس التمثيل أن الله تعالى يدخل هو وغيره تحت قضية كلية واحدة تستوي أفرادها ، ولازم قياس التمثيل أن لله تعالى مماثل لا يقاس عليه وسيأتي الكلام على هذا وبطلانه .
فهذا إجمال لأهم أدلة أهل التأويل لصفات الله تعالى .
المطلب الرابع
الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى
ويتجه في تنظيم الرد أن ينفصم إلى شقين :
الأول عام .
والثاني أجوبة تفصيلية على أفراد الأدلة .
* أما الشق الأول العام في الرد على القائلين بتأويل نصوص الصفات :
فينشطر إلى قسمين أيضا :
أما القسم الأول فيقال فيه :
ما بنيت عليه هذه المقالة ، وهي أن نصوص الصفات من المتشابه المؤول ، من الأدلة العقلية ، التي اعتبرت محكمة لاستكمالها ما ينبغي اشتراطه لافضاء النظر العقلي إلى العلم ، قد تنازع فيها أرباب النظر والكلام أنفسهم ، وبعض القائلين ببعض هذه الأدلة في وقت رجع عنها في وقت آخر وأبطلها .
ويوضح هذا أمور :
الأول : إن قولهم في الدليل الأول ، الجواهر لا تتعري عن الأعراض ، والأعراض حادثة فالجواهر كذلك ، قد تنازع فيها أرباب الكلام أنفسهم ، فخالف في المقدمة الأولى بعض المعتزلة ، وأورد أبو المعالي في الرد عليهم ما هو من جنس ما يردون به عليه[35] .
وأما المقدمة الثانية ، فقد قال ابن رشد ( وذلك إن الجسم السماوي وهو المشكوك في إلحاقه بالشاهد ، الشك في حدوث أعراضه ، كالشك في حدوث نفسه لأنه لم يحس حدوثه لا هو ولا أعراضه)[36]، يريد أن الأجسام السماوية لا يمكن الاستدلال على حدوثها بحدوث الأعراض القائمة بها لأنها لم يشاهد حدوث أعراضها .
فهذا يوضح أن ما بنوا عليه قاعدتهم الكلية وهي إن ما يقوم به ( ما يأتي ويزول هو حادث ) ، أمور مشكوك فيها ، ولا يصح إن يصرف الشرع عن ظاهره لأدلة عقلية متنازع فيها ، لا يقوم عليها دليل عقلي قاطع .
ولهذا فقد صرح كبرائهم أنه ليس لهم حجة عقلية على نفي ما سموه (حلول الحوادث بذات الله ) ، ذكر ابن تيمية ذلك عن الرازي في كتابه المطالب العالية ، وذكر أنه آخر كتبه الكلامية ، وعن الآمدي في كتابه أبكار الأفكار[37] .
وهذا يبين أنه لا يجوز معارضة الوحي بأدلة عقلية قد تنازع فيها العقلاء ، وليس المقصود هنا إثبات قدم الجواهر ، والأعراض ، فإن المسلمين بل وأرباب الملل متفقون على أن الله خالق كل شيء ، وموجده من العدم .
وليس إثبات هذا مقصوراً على طرق المتكلمين ، وإنما المقصود هنا ، أنهم جعلوا ما ليس مسلما صارفا للنصوص السمعية القطعية عن ظاهرها وهذا لا يجوز قطعا.
الثاني: إن دليلهم الثاني في إثبات حدوث العالم مبني على تماثل الأجسام وعلى أنها مركبة من الجواهر الفردة ومعلوم إن هذا لا يمكن إثباته ، ولهذا توقف فيه الأذكياء منهم ، كماعزي ابن تيمية التوقف فيه إلى أبي المعالي ، والرازي من الأشعرية ، وأبي الحسين البصري من المعتزلة[38] .
ولهذا قال ابن رشد ( وان عنوا بالجوهر الجزء الذي لا ينقسم ، وهو الذي يريدونه بالجوهر الفرد ، ففيه شك ليس باليسير وذلك إن وجود جوهر غير منقسم ليس معروفاً بنفسه ، وفي وجوده ، أقاويل متضادة شديدة التعاند)[39]
وبهذا يعلم إن ما يستدل به على نفي العلو من أنه يلزم منه أن يكون ما هو في جهة جسماً مركباً من الجواهر ، و يكون جوهراً فرداً ، مبني على تخيلات لا أدلة عقلية.
ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية (ومن العجب أن كلامه - الآمدي - وكلام مثاله يدور في هذا الباب على تماثل الأجسام ، وقد ذكر النزاع في تماثل الأجسام وان القائلين بتماثلها من المتكلمين بنوا ذلك على أنها مركبة من الجواهر المنفردة وأن الجواهر متماثلة ، ثم إنه في مسألة تماثل الجواهر ذكر أنه لا دليل على تماثلها ، فصار أصل كلامهم الذي ترجع إليه هذه الأمور كلاماً بلا علم ، بل بخلاف الحق ، مع أنه كلام في الله تعالى وقد قال تعالى {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْأِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ} [الأعراف:33] )[40] .
الثالث : أن قولهم في الدليل الثالث على حودث العالم ، المركب ممكن لأنه مفتقر لأجزائه وهي غيره ، قد ضعفه بعضهم أيضاً ، وذكر أن العقل لا يوجب أن المركب حادث ما لم يجب حدوث أجزائه[41] .
فهذا أيضاً يدل على أن ما توهم أنه دلالات محكمة ، لا أحكام فيها ، بل إذا نشط مخترعوها لإبطالها فما أسهل ذلك ، ولهذا فان هؤلاء الجدليين يثبتون أموراً تارة ، وينفون ما أثبتوه تارة أخرى ، كما دل على ذلك ما تقدم[42] .
وهو مما يدل على صدق مقالة الآلوسي التي نقلها عنه رشيد رضا في المنار قال ( وقد صرح السيد الآلوسي تبعاً لغيره من المحققين العارفين بما حققناه هنا فيعلم الكلام والمتكلمين على آية الظن في باب الإشارة من هذا السياق فقال ما نصه ( وما يتبع أكثرهم إلاّ ظنا )) ، ذم لهم بعدم العلم بما يجب لمولاهم وما يمتنع وما يجوز ولا يكاد ينجو من هذا الذم إلاّ قليل، ومنهم الذين عرفوه جل شأنه به لا بالعقل بل قد يكاد يقصر العلم عليهم فإن أدلة أهل الرسوم من المتكلمين وغيرهم متعارضة وكلماتهم متجاذبة فلا تكاد ترى دليلاً سالماً من قيل وقال ونزاع وجدال ))[43] .
ومن المعلوم أنه ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الأمر بإثبات الصانع بهذه الطرق التي يلزم منها نفي الصفات ، ولو كان أصل الدين متوقفاً عليها - كما يقوله بعضهم - لما قبل صلى الله عليه وسلم إيمان متبعيه حتى يلقنهم أحكام هذه الجواهر والأعراض وكيف تدل على حدوث العالم واثبات صانع.
ولهذا صرح العلماء بذم هذه الطرق وذم الكلام فيما هذا سبيله مما ليس فيه فائدة في الحياة الدنيا بله أن يكون فيه نفع ديني بوجه[44]
والعلم بافتقار المحدث إلى محدث وبأن العالم محدث ،أبين في العقل من يتكلف له هذه التنطعات .
وإلا ما سمّي الله ما في الكون مما يدل على وجوده آيات ، والآية هي العلامة الواضحة التي تدل على الشيء بلا حاجة إلى توسط أمور أخرى كما قال تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ} [آل عمران:190] ، وقال {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ } [فصلت: من الآية53] ، وقد تنوعت آيات الذكر الحكيم وبهرت العقول في الاستدلال على الربوبية بما هو أوضح وأقرب إلى الفطرة من كلام المتكلمين .
مثل ذكر خلق السموات وبروجها والشمس والقمر والليل والنهار ، وما في الأرض من جبال وأنهار ، وجنات وأشجار ، والفلك التي تجري في البحار ، وخلق الإنسان في أطوار ، وتصريف الرياح وإنزال الأمطار ، فإذا أخذت هذه الآيات بمجامع قلب الشاك ، التفت إلى قلبه فوجد فيه العلم بأن لهذه الحوادث محدثاً علماً ضرورياً فطرياً ، (فهذه الطريق هي الصراط المستقيم الذي دعا الله الناس منه إلى معرفة وجوده ونبههم على ذلك بما جعل في فطرهم من إدراك هذا المعنى)[45] فإن الإنسان مركوز في فطرته أن الحوادث التي يشهدها لابد لها من محدث ، وان لهذا العالم مبدعاً أبدعه ، فإذا نبه على ما في الكون من آيات تدل على خالقه اشتاقت فطرته إليه [46].
ويدل على هذا أن الأمم التي بعث إليها الأنبياء كانوا مقرين بوجود الله وأنه خالقهم ، وإنما بعثت الرسل ليعبدوا الله وحده ،وأما فرعون فلم ينكر الرب بجهل ولكن جحوداً ، كما قال تعالى {وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً} [النمل: من الآية14] .
وإذا علم أن معرفة الخالق لا تحتاج إلى هذه الطرق الملتوية التي التزم أصحابها من أجلها نفي الصفات ، علم أن هؤلاء المتكلمين أضاعوا أوقاتهم فيما أقر به غالب بني آدم بما فطروا عليه ، ومن طرأ عليه الشك فإن طريقة القرآن كافيه في إزالته ، ومن أنكر فلجحود وهوى ولا تنفع الحجة حينئذ.
ولما كانت هذه الطرق التي سلكوها مبتدعة ، أفضت إلى ما هو بدعة في الشرع وجناية على القرآن والسعة واتهامهما بإظهار خلاف الحق في هذا الباب العظيم .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية مبيناً السبب في مخالفة أهل التأويل للكتاب والسنة : (وأصل ذلك أنهم أتوا بألفاظ ليست في الكتاب ولا في السنة ، وهي ألفاظ مجملة مثل (متحيز ) ، (ومحدود) ، (وجسم) ، (ومركب) ،ونحو ذلك ونفوا مدلولها، وجعلوا ذلك مقدمة بينهم مسلمة ومدلولاً عليها بنوع قياس ، وذلك القياس أوقعهم فيه مسلك سلكوه في إثبات حدوث العالم بحدوث الأعراض ، أو إثبات إمكان الجسم بالتركيب من الأجزاء فوجب طرد الدليل بالحدوث ولإمكان لكل ما شمله هذا الدليل ، إذ الدليل القطعي لا يقبل الترك لمعارض راجح فرأوا ذلك يعكر عليه من جهة النصوص فصاروا أحزابا ...)[47]
وأما القسم الثاني فيقال فيه:
إن هذه الأدلة المتقدمة ترجع إلى استعمال القياس في المطالب الإلهية كما تقدم التنبيه عليه ،وأنه يلزم منه أن يكون الله وغيره تحت قضية كلية تستوي أفرادها في قياس الشمول ، أو يكون هو سبحانه والمقيس عليه مستويان في قياس التمثيل .
وبطلان هذا أوضح من أن يتكلف الرد عليه ، وهو يدل على بطلان أدلتهم ، فإن الله تعالى لا يستدل عليه بالشاهد من جهة هذين القياسين ، ولكن يصح أن يستدل عليه بالشاهد من جهة قياس الأولى الذي ليس فيه المحذور من القياسين المتقدمين ، فإذا دخل في قضية كلية مع غيره لا يجعل مستوياً مع أفرادها في حكم لكن يجعل له المثل الأعلى ، ومثاله أن يقال : القائم بنفسه لا يفتقر إلى المحل كما يفتقر العرض مثلاً ، والله تعالى أحق بالغني عن كل محل من كل قائم بنفسه.
وإذا استدل عليه بالشاهد يقال مثلاً : كل كمال يستحقه موجود من جهة وجوده ، فالله تعالى أحق به إذ هو واجب الوجود ، وكل نقص يتنزه عن موجود لكمال وجوده فالموجود الواجب أحق بالتنزه عنه[48] .
وبهذا يمكن الاستدلال العقلي على بعض الصفات فإن السمع والبصر والعلم كمال في المخلوق فواهب الكمال أحق به ، وكذلك الرحمة والكلام فإن الذي يقدر على الكلام أكمل من الذي لا يقدر عليه ، والذي يرحم أكمل من الذي لا يرحم ، وكذلك الذي يغضب في موضع الغضب أكمل من الذي لا يغضب ، فالله تعالى أولى بهذه الكمالات من المخلوقات .
وقد استعمل في القرآن هذه الطريقة في التنبيه على الاقيسة العقلية التي تسمى في القرآن (ضرب الأمثال) كما قال تعالى {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ} [النحل:57] ، فبين أن الذي ينزهون أنفسهم عنه ، الله تعالى أولى بالتنزه عنه .
وكما استدل بالنشأة الأولى على الآخرة ،وبخلق السموات والأرض على خلق الناس ، إذ القادر على الإبداع قادر على الإعادة ، والقادر على خلق الأعظم قادر على خلق الأدنى من باب أولى[49] .
وكقول الله تعالى : {ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم:28] .
يقول الله تعالى : إذا كنتم أنتم لا ترضون بأن المملوك للمالك يشرك مالكه لما في ذلك من النقص والظلم ، فكيف ترضون ذلك لي ، وأنا أحق بالكمال والغنى منكم ؟ وهذا يبين أن الله تعالى أحق بكل كمال من كل أحد[50] .
ولو إن أهل التأويل استعملوا هذا القياس فحسب لما أوقعهم في التأويل ، وذلك انهم لما قاسوا الله على خلقه ، جعلوا ما يلزم من إطلاق الصفات عليه هو بعينه اللازم من إطلاقها على مخلوقاته ، ولذلك يقولون النزول تفريغ مكان وشغل آخر، والاستواء يقتضي الحاجة إلى العرش والرحمة ضعف ورقة ، ومثل هذه العبارات التي تدل على أنهم يقيسون الله على خلقه تعالى عن ذلك .
وإذا كان بعض المخلوقات لا يصح قياسه على غيره في لوازم ما يطلق عليه من الصفات ، فالروح لها نزول ، وصعود ، وأفعال ، ولا يلزم من ذلك ما يلزم من أفعال البشر للاختلاف بينهما فكيف بالله تعالى .
* أما الشق الثاني ، وهو الرد التفصيلي :
1ـ : الجواب عن أدلة المعتزلة :
الجواب عن الدليل الأول:
وهو قولهم ، إثبات الصفات يلزم منه مشاركة الله في صفة القدم أو حلول الحوادث ، ويقال في الجواب: (أن الله لم يزل متصفاً بصفات الكمال ، صفات الذات وصفات الفعل)[51] (ولا يحدث له وصف متجدد لم يكن ، تعالى عن ذلك)[52] ، ولكن إثبات الصفات وان الله لم يزل متصفا بها لا يلزم منه أن يكون الإله أكثر من واحد.
فليس يجب إن تكون صفة الإله إلها ، ووصف الصفة بالقدم ليس المراد أنها توصف بها على سبيل الاستقلال ، فإن الصفة لا تقوم بنفسها ولا تستقل بذاتها ، ولكنها تكون قديمة بقدم موصوفها ، فإن الصفة تابعة للموصوف ، قديمة بقدمه وباقية ببقائه ونحن إذا ذكرنا الله بلفظ مظهر أو مضمر ، دخل في مسمى اسمه صفاته ، فمن قال دعوت الله أو عبدته لم يرد بذلك انه دعا ، أو عبد ذاتا مجرده عن الصفات ، فإن وجود مثل هذه الذات في الأعيان ممتنع ، وإنما المراد أنه دعا أو عبد الله الحي القيوم القدير السميع البصير الموصوف بالعلم والقدرة وسائر صفات الكمال[53] .
وأما أفراد بعض صفات الله مما يحدث في وقت دون وقت ، فليس فيه تجدد صفة لله تعالى قال شارح الطحاوية (أن هذا الحدوث بهذا الاعتبار غير ممتنع ، ولا يطلق عليه أنه حدث بعد أن لم يكن ، ألا ترى أن من تكلم اليوم ، وكان متكلماً بالأمس لا يقال أنه حدث له الكلم ، ولو كان غير متكلم لآفة كالصغر والخرس ثم تكلم يقال حدث له الكلام ، فالساكت لغير آفة يسمى متكلماً بالقوة بمعنى أنه يتكلم إذا شاء وفي حال فعله يسمى متكلماً بالفعل)[54]
وإطلاقهم على هذا حلول الحوادث لا يصيره ممنوعاً ما لم يمنع من ذلك الكتاب والسنة .
الجواب عن الدليل الثاني :
وهو قولهم إثبات الصفات يلزم منه الأعراض الدال الجسمية ، وهو باطل إذ لا يلزم من إثبات الصفات إن تكون كصفات المخلوقين أعراضاً دالة على حدوثهم ، كما لا يلزم من إثباتكم أسماء الله فتقولون هو حي عليم قدير أن يكون حادثاً لأن ما يسمى بهذه من المخلوقات حادث ، وإثبات صفات الله فرع عن إثبات ذاته فكما إن ذاته لا تشبه ذوات المخلوقين فكذلك صفاته ليست أعراضاً تدل على الحدوث كصفات المخلوقين[55] .
الجواب عن الدليل الثالث :
وأما قولهم بالتركيب فهو من تأثرهم بالمنطق اليوناني الذي هو أصل هذا البلاء ، فإنهم يعنون بالتركيب في إثبات الصفات ، وأنها زائدة على ذاته وما يفهم من كل صفة يختلف عما يفهم من الأخرى ، يعنون به مثل تركيب الأنواع من الجنس والفصل ، كما يقال الإنسان حيوان ناطق ، فالحيوانية مشتركة بينه وبين سائر الأنواع ، والناطقية يمتاز بها عن غيره ، وجعلوا الإنسان مركب من هذين الأمرين ، ثم جعلوا هذا المعنى هو التركيب الذي يلزم من إثبات الصفات وقالوا هو ممتنع يلزم منه الافتقار ، واستعملوا كلمة التركيب يوهمون بها نفي النقص عن الله وهم إنما أرادوا هذا المعنى الخاص بهم .
فيقال لهم ( هذا التركيب أمر اعتباري ذهني ليس له وجود في الخارج كما أن ذات النوع من حيث هي عامة ليس لها ثبوت في الخارج ، فإن الإنسان الموجود في الخارج ليس فيه ذوات متميزة بعضها حيوانية وبعضها ناطقية وبعضها ضاحكية وبعضها حاسية ، بل العقل يدرك منه معنى ونظير ذلك المعنى ثابت لنوع آخر فيقول : فيه معنى مشترك ، ويدرك فيه معنى مختصاً ثم يجمع بين المعنيين فيقول هو مؤلف بينهما)[56] .
فهل يجوز أن يجعل هذا التخيل الذهني حقيقة واقعة ، ثم يقال إن إثبات الصفات ظاهرة التركيب؟ بل الذات الحية العالمة لا يتصور انفكاكها عن صفة الحياة والعلم .
فهذا ما شغبت له المعتزلة على ظاهر نصوص الوحي ، غاية ما فيه تخيلات أخذوها من ملاحدة الفلاسفة.
2ـ : الرد على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات:
الجواب عن أدلة تأويل صفات الأفعال كالمجيء والاستواء
وهو ما يسمونه حلول الحوادث ، وهو فرع عن قياس أفعال الله تعالى وصفاته بأفعال المخلوقين وصفاتهم وإن ما يلزم إذا أطلقت عليهم هو ما يلزم الباري سبحانه إذا أطلقت عليه ، وفيما تقدم كفاية في الجواب عن هذه الشبهة ، وقال شارح الطحاوية (وحلول الحوادث بالرب تعالى ، المنفي في علم الكلام ، لم يرد نفيه ولا إثباته في كتاب أو سنة ، وفيه إجمال : فإن أريد بالنفي انه سبحانه لا يحل في ذاته المقدسة شيء من مخلوقاته المحدثة ، أو لا يحدث له وصف متجدد لم يكن فهذا نفي صحيح ، وإن أريد به نفي الصفات الاختيارية ، من أنه لا يفعل ما يريد ولا يتكلم بما شاء ، إذا شاء ، ولا أنه يغضب ويرضى لا كأحد من الورى ، ولا يوصف بما وصف به نفسه من النزول والاستواء والإتيان ، كما يلي بجلاله وعظمته فهذا نفي باطل ).[57]
الجواب عن أدلة نفي العلو ، وتأويل النصوص الدالة عليه :
أما قولهم إن إثبات العلو يقتضي التجسيم ، ثم يلزم بعد ذلك ما يلزم الأجسام من التماثل عند من يقول به أو الافتقار إلى المخصص أو الانقسام والتركيب فالجواب عن هذه الشبهة : أن هذه الألفاظ المجملة ، يريدون بها تعظيم ما يزعمون أنه يعارض الوحي ، وإلاّ فإذا بين ما يريدون بها ظهر بطلانها لكل من لم تنحرف فطرته.
فإن التجسيم ، تفعيل من الجسم ، والجسم المعقول في اللغة ، وعرف الناس الجسد وهو البدن ، فإذا نفوه توهم السامع أنهم ينفون عن الله البدن الذي هو من جنس أبدان المخلوقات .
وإنما يريدون به المنقسم مما يشار ، والذي لا ينقسم هو الجوهر الفرد ، هذا عند عامتهم ، وقد يريد به بعضهم ماله عمق وأبعاد وتميز لجهاته ، ثم يقولون إذا أشير إليه لزم أن يكون منقسماً أو مركباً أو جوهراً فرداً وكله باطل ، فإذا أريد بنفي الجسم أي ليس من جنس أبدان المخلوقات فهو حق ، بل هو سبحانه ليس من جنس ما هو ليس بجسم بالمعنى اللغوي ، من مخلوقاته كالروح والهواء والملائكة فإنه سبحانه لا مثله ولا كفؤ له[58] .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس مركباً من الأجزاء ، المفردة فيقال :
أولاً : تركب الأجسام من ذلك لا يعلمه جمهور العقلاء ، وليس عليه برهان صحيح
وثانياً : لا ريب أن الله تعالى ليس مركباً من أجزاء كتركب المخلوقات من أجزائها تعالى عن ذلك .
وإن أريد بنفي الجسم أي ليس منقسماً فيقال :
ما تعنون بالانقسام : إن عنيتم أن ذاته لا تقبل التفريق والتجزئة والانفصال فهو حق وإن عنيتم انه لا تتميز ذاته عن غيره بحيث يشار إليه وينظر إليه يوم القيامة فهو باطل.
ومثل هذا يقال في جميع ما اصطلحوا عليه وجعلوه قانونا يحكم على نصوص الكتاب والسنة ، بأن المراد منها خلاف الظاهر .
مثل لفظ الافتقار ، فإن عني به أن الله مفتقر إلى غيره مما هو خارج عن ذاته فباطل وليس في إثبات صفاته هذا المعنى ، ولا في إثبات علوه على خلقه .
ومثل لفظ الجهة ، وقولهم لو كان فوق العالم للزم أن تحويه الجهة وللزم أن تكون قديمة معه وللزم أن لا يكون عاليا عليها ، ونحو ذلك من الكلام المشتبه ، فإن الجهة إما يراد بها أمر وجودي فإن كان كذلك فهو مخلوق ومن يقول بالعلو على المخلوقات لا يقال له : يلزمك أن يكون ليس عاليا على بعضها فإن هذا لا معنى له
وإن كانت أمراً عدمياً - وهو الصحيح - بمنزلة الأشياء الإضافية ، فلا يلزم من الأمر العدمي كل هذه اللوازم إذ هو لا شيء ، ومثل هذا يقال في الحيز والمكان.
وبمثل هذا التفصيل يجاب عن سائر ما يشغبون به على نصوص الوحي من الألفاظ المجملة المشتبه ، ويبين أنها مباحث عقلية محضة متنازع فيها وأكثرها باطل ، والصحيح منها لا يخالف الكتاب والسنة[59] .
الجواب عن أدلة نفي صفات الذات :
أما قولهم يلزم التجسيم لأنها في الشاهد لا تكون إلاّ للأجسام ، فالجواب عنه ، أن صفات المعاني كذلك لا تكون في الشاهد إلاّ للأجسام ، هذا على سبيل المعارضة وقد تقدم ما يريدون بلفظ الجسم والرد عليهم .
وأما قولهم تدل على التركيب ، كما فعل المعتزلة في سائر الصفات ، فإن عنوا بذلك ما عناه المعتزلة فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أنه قد ركبه مركب ، أو كان متفرقاً فاجتمع ، أو ما يمكن تفريقه ، فهذا لا يقوله مؤمن بالله تعالى ، وإن عنوا تركيب الجواهر المفردة ، فقد تقدم الجواب عنه ، وإن عنوا أن هذه الصفات متمايزه والمفهوم من بعضها ليس هو المفهوم من الآخر فليس في هذا محذور ، ولا هو ممتنع على الله تعالى عما يقولون[60] .
الجواب عما ذكروه في نفي المحبة ، وسائر ما ذكر:
أما المحبة فيقال : ما المراد بقولكم مناسبة بين الخالق والمخلوق أهو التوالد أو القرابة أو المماثلة فكله باطل ، أم المراد هو الموافقة في معنى من المعاني ، فهذا حق ، فإن الله وتر يحب الوتر ، جميل يحب الجمال، عليم يحب العلم ، محسن يحب المحسنين ، مقسط يحب المقسطين وليس في هذا إلاّ إثبات صفات الكمال لله ، ليس فيه نقص بوجه من الوجوه .
وأما قولهم يقتضي الحاجة فيلزمهم مثله في الإرادة ، فإنها لا تكون إلاّ لمناسبة بين المريد والمراد ، وملائمة بينهما في ذلك تقتضي الحاجة ، وإلاّ فما لا يحتاج إليه الحي لا ينتفع به ولا يريده فهل يقال فيها ظاهرها غير مراد ، أم يقال إرادة الله تعالى لائقة به لا يلزمها ما يلزم من إرادة المخلوقات من النقص ، فكذلك المحبة[61] .
وأما ما جعل ظاهره النقص والتغير كالرحمة والغضب والرضا والحياء ، فيجاب عنه بعدم تسليم أن الرحمة خور في الطبيعة لأنه مذموم والرحمة محمودة ، وكذلك الحياء محمود ، وليس هو انكسار كما قيل ، والغضب ليس هو غليان الدم لطلب الانتقام ، وقد يقارنه ذلك ، وقد لا يكون للانتقام ، ويقال أيضاً إن كل ما يلزم من رحمة المخلوق وغضبه ورضاه وحياءه فليس بلازم لله تعالى إذ هو ليس كمثله شيء في صفاته ، كما أنه لا يلزم من إثبات السمع لله ، ما يلزم من صفة السمع للمخلوق من الاعتماد على الهواء في نقل الصوت وغير ذلك .
قال ابن عابدين في حاشيته، : (وهل وصفه سبحانه بالرحمة حقيقة أو مجاز عن الإنعام ، أو إرادته لأنها من الأعراض النفسانية المستحيلة على الله ، فيراد غايتها ؟ ، المشهور الثاني والتحقيق الأول ، لأن الرحمة التي هي من الأعراض هي القائمة بنا ، ولا يلزم كونها في حقه تعالى كذلك حتى تكون مجازاً كالعلم والقدرة والإرادة وغيرها من الصفات معانيها القائمة بنا من الأعراض ، ولم يقل أحد : أنها في حقه تعالى مجاز )[62] .
قال العلامة الألوسي المفسر (كون الرحمة في اللغة رقة القلب إنما هو فينا ، وهذا لا يستلزم ارتكاب التجوز عند إثباتها لله تعالى ، لأنها حينئذ صفة لائقة بكمال ذاته كسائر صفاته ، ومعاذ الله تعالى أن تقاس بصفات المخلوقين ، وأين التراب من رب الأرباب ، ولو أوجب كون الرحمة فينا رقة القلب ارتكاب المجاز في الرحمة الثابتة لله لاستحالة اتصافه بما نتصف به .
فليوجب كون الحياة والعلم والإرادة والقدرة والكلام والسمع والبصر ، ما نعلمه منها فينا ، ارتكاب المجاز أيضاً فيها إذا أثبتت لله تعالى ، وما سمعنا أحداً قال بذلك ، وما ندري ما الفرق بين هذه وتلك ، وكلها بمعانيها القائمة فينا يستحيل وصف الله تعالى بها ، فأما أن يقال بارتكاب المجاز فيها كلها إذا نسبته إليه عز شأنه ، أو بتركه كذلك ، واثباتها له حقيقة بالمعنى اللائق بشأنه تعالى شأنه ، والجهل بحقيقة تلك الحقيقة كالجهل بحقيقة ذاته )[63] .
وما قاله هذان الإمامان في صفة الرحمة ، يقال مثله في سائر الصفات التي فينا أعراض نفسانية كالغضب والرضى والحياء ، يوصف الله بها كما يوصف بسائر صفاته وتجهل حقائقها كما تجهل حقيقة ذاته جل عز .
وبهذا الجواب يتبين قيمة الأدلة العقلية التي زعم أنها تصرف نصوص الصفات عن ظاهرها ، وتلقى بها في حظيرة المتشابه بالمعنى الذي أراده أهل التأويل.
وهذه الأجوبة تعضد ما ذكر في البراهين المحكمة الدالة على صحة مذهب السلف ، من أنه يستحيل أن يظهر الله سبحانه وتعالى غير الحق في الكتاب المهيمن على سائر كتبه ، ثم يحيل الناس في معرفة الحق على أدلة عقلية في غاية الخفاء ، ولا يفهمها إلاّ من هو حاد الذهن ، ذكي العقل ، بله أن يعرف نسبتها إلى الحق أو الباطل .
مثال هذا لازم قولهم إن هذه الظواهر الكثيرة في إثبات العلو لا يراد ظاهرها ، أن يكون الله سبحانه وتعالى عما يقولون ، قد أظهر خلاف الحق الذي أراد من المؤمنين أن يعتقدوه ، ثم أحالها في معرفة ما يعتقدونه على معرفة أن العلو يلزم منه الجسمية وذلك بطريقة الجواهر والأعراض .
وأن المشار إليه لا يكون إلاّ جسماً والجسم إما منقسم ، وإما جوهر فرد ، وكلاهما مستحيل على الله تعالى ، أما الأول فلأنه يلزم منه الافتقار ، لأن المركب مفتقر إلى أجزائه أو يلزم منه الافتقار إلى مخصص خصصه بهذا القدر دون غيره ، إلى آخر ما يماثل هذا الكلام .
مثل ما ذكره إمام المتأخرين من أهل التأويل ، أبو المعالي ، قال : (كل مختص بجهة شاغل لها متحيز ، وكل متحيز قابل لملاقاة الجواهر ومفارقتها وكل ما يقبل الاجتماع والافتراق لا يخلو عنهما وما لا يخلو عن الاجتماع والافتراق حادث كالجواهر)،[64] واقتصر على هذه الحجة في كتابه الذي سماه لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل السنة ، ثم قال بعد هذا الدليل ( فإذا سألنا عن قوله تعالى {الرحمن على العرش استوى } قلنا المراد بالاستواء القهر والغلبة والعلو ، ومنه قوله استوى فلان على المملكة أي استولى عليها واطردت له )[65] .
وهذا كالتصريح بأن القعدة التي صرفت هذا الظاهر هي هذا الكلام الشبيه بالألغاز ، فهل يلزم من هذا إلاّ أن الله أظهر في آياته الباطل ، وأحال الناس في أعظم مسائل الدين على ما هو شبيه بالألغاز .
* خلاصة مهمة جدا :
وبما تقدم نستخلص النتائج التالية :
الأولى :
أن القول الصحيح في باب الصفات ، هو مذهب السلف ، وهو إثبات جميع الصفات الواردة في الكتاب والسنة ، بعد النظر الصحيح في النص ، ومعرفة معناه حسب اللغة والسياق وسائر ما يستعان به على تفسير النصوص الشرعية ، فإذا تبين دلالته على صفة لله تعالى أثبتت ولم تصرف عن ذلك لتوهم تشبيه أو تجسيم أو دعوى مخالفة العقل .
الثانية :
أن جميع الصفات تثبت على هذه الطريقة ، ولا يفرق بين ما ذكر في القرآن والحديث ، وما دل عليه العقل وما لا يدل عليه .
الثالثة :
أن دعوى مخالفة نصوص الصفات ، لأدلة عقلية لا يتطرق إليها الشك ساقطة ، فإن هذه الأدلة المتقدمة هي أعظم ما عول عليه المؤولة ، فإذا كانت بهذه المثابة فكيف بغيرها.
الرابعة :
أن بعض نصوص الصفات يصحّ أن تكون من المتشابه بالمعنى الذي رجح في هذا البحث ، وذلك من جهتين :
الأولى : الاشتباه الحاصل للقاصر في العلم لغموض أو تعدد في معان اللفظ ، الذي يكون له أكثر من معنى ، أو تعارض متوهم بين معان نصوص القرآن كما ظنه بعض الناس بين نصوص العلو والمعية ، وهذا التشابه نسبي إضافي يزول بعد رده إلى المحكم ، ويرجع إلى الوضوح ، وهذا عام في هذا الباب وغيره.
الثانية : تشابه خاص يكون في مثل هذا الباب ، وهو أن من صفات الله ما يلق أيضاً على المخلوقات فيشتبه أيضاً على غير الراسخين في العلم ، ويظنون في هذه النصوص الظنون الباطلة ، وهذا التشابه المنسوب إلى هذه الآيات ، يزول بعد رده إلى المحكم أيضاً ، وإن كان قد يبقى على من لم يرسخ في العلم ، ويحاول طلب حقيقته فيؤدي إلى الفتنة ، إذ هو طالب لما لا سبيل إلى الدنو منه ، بله الوقوف على حقيقته ، وفتنته إما إنكار الصفات ، صفات الله ، أو تشبيهها بصفات خلقه تعالى الله عن ذلك ، وأما الراسخون فعلموا أن هذه من المتشابه الذي لا يعلم حقيقته إلاّ الله فلا يزالون يسألون الله العصمة من الوقوع في الفتنة قائلين {رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ} [آل عمران:8] .
والذي يدل على صحة إطلاق المتشابه على بعض الصفات ما ورد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه رأى رجلاً انتفض لما سمع حديثا عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في الصفات استنكاراً لذلك فقال : ما فرق هؤلاء يجدون رقة عند محكمه ويهلكون عند متشابهه[66] .
وكذلك فعل الأئمة فالإمام أحمد سمى ما نمسك به الجهمية متشابها ، قال (وكذلك الجهم وشيعته دعوا الناس إلى المتشابه من القرآن والحديث فضلوا وأضلوا بشراً كثيراً )[67].
والفتنة التي وقعت في هذا الباب هي أعظم فتنة وقعت بين المسلمين ، فأحرى ما ينطبق عليه قوله تعالى { فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا} [آل عمران: من الآية7] ، هو هذا الباب .
لكن لا يخفي أن أكثر نصوص الصفات ، لا يتطرق إليها التشابه بوجه ، وهي محكمة غاية الإحكام كاتصاف الله تعالى بالحياة والعلم والإرادة والقدرة والسمع والبصر والكلام والرحمة والرضوان ومحبته للطيب ومقته للخبيث ، وأنه فوق كل شيء ولا يخفي عليه شيء ، ولا يعجزه شيء ، وليس كمثله شيء وأنه خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ونحو ذلك من الأسماء الحسنى والصفات العلى .
المطلب الخامس
تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم
وتتمة لهذا البحث ، نتناول ثلاثة أمثلة ، لصفات وصف الله تعالى بها نفسه في الكتاب ، ووصفه بها رسوله صلى الله عليه وسلم في السنة ، ثم شن الغارة عليها أهل الكلام والتأويل الباطل ، وصرفوها عن ظاهرها ، اتباعا لأدلة زعموها عقلة قطعية ، وقد تقدم أنها
شبه تهافت كالزجاج تخالها حقا وكل كاسر مكسور
وهذه الأمثلة هي : في صفة الاستواء ، و الكلام ، والرؤية .
* المثال الأول : آيات الاستواء :
فإن الله تعالى قد تمدح ومدح نفسه في سبع آيات من كتابه باستوائه على العرش ، ولم يذكر صفة الاستواء إلاّ مقرونة بغيرها من صفات الكمال والجلال القاضية بعظمته وجلاله ، جل وعلا:
قال تعالى {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ} [الأعراف:54] .
وقال تعالى : {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ} [يونس:3] . وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمّىً يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:2] .
وقال تعالى { تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى * لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى } (طه:4-6).
وقال تعالى : {الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان:59] .
وقال تعالى {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا شَفِيعٍ أَفَلا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة:4] .
وقال {هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} [الحديد:4] .
وقد فسر السلف الاستواء بالعلو على العرش ، كما تقدم عن مجاهد[68] ، وهو معناه في اللغة كما روى اللالكائي عن أبي العباس ثعلب أنه قال {(ستوى على العرش : علا)[69] ، وروى أيضاً عن داود بن علي الإصبهاني الظاهري قال : كنا عند ابن الأعرابي - اللغوي المشهور - فأتاه رجل فقال له : ما معنى قول الله عز وجل {الرحمن على العرش استوى} فقال هو على العرش كما أخبر ، فقال يا أبا عبد الله : ليس هذا معناه ، إنما معناه استولى ، قال أسكت ما أنت ولهذا ، لا يقال : استولى على الشيء إلاّ أن يكون له مضاد)[70] .
وقال الحافظ في الفتح (ونقل محي السنة البغوي في تفسيره عن ابن عباس وأكثر المفسرين أن معناه ارتفع ، وقال أبو عبيد والفراء بنحوه)[71] .
فهذه نصوص محكمة لا شك في دلالتها على أن الله تعالى مستو على عرشه استواء يليق به ، وقد أجمع على هذا السلف وقال بقولهم كثير من العلماء في مختلف العصور إلاّ من ظن أن ذلك يعارض دليل إثبات الصانع ، من أهل الكلام وقد تقدم الكلام عليه.
ومع هذا كله فقد ادعي بعض من لا يثبت هذه الصفة أن اللفظ من الألفاظ المتشابهه التي تحتمل عدة معاني يريد بذلك إبطال دلالته على ما أجمع عليه السلف، قال ابن القيم (ومن هذا قول الجهمي الملبس : إذا قال لك المشبه { الرحمن على العرش استوى } فقل له : العرش له عندنا له ستة معان ، والاستواء له خمسة معان فأي ذلك المراد؟ فإن المشبه يتحير ولا يدري ما يقول ويكفيك مؤونته .
فيقال لهذا الجاهل الظالم الفاتن المفتون : ويلك ما ذنب الموحد الذي سميته أنت واصحابك مشبها ، وقد قال لك نفس ما قال الله ، فوالله لو كان مشبها كما تزعم لكان أولى بالله ورسوله منك ، لأنه لم يتعد النص .
وأما قولك للعرش سبعة معان أو نحوها ، وللاستواء خمسة معان فتلبيس منك ، وتمويه على الجهال وكذب ظاهر ، فإنه ليس لعرش الرحمن الذي استوى عليه إلاّ معنى واحد ، وإن كان للعرش من حيث الجملة عدة معان فاللام للعهد ، وقد صار بها العرش معيناً وهو عرش الرب ، جل جلاله الذي هو سرير ملكه الذي اتفقت عليه الرسل وأقرت به الأمم إلاّ من نابذ الرسل.
وقولك: الاستواء له عدة معان ، تلبيس آخر ، فإن الاستواء المعدي بأداة (على) ليس له إلاّ معنى واحد ، وأما الاستواء المطلق فله عدة معان ، فإن العرب تقول (استوى كذا) إذا انتهى وكمل ، ومنه قوله تعالى (ولما بلغ أشده واستوى) ، وتقول : (استوى وكذا) إذا ساواه ، نحو قولهم استوى الماء والخشبة واستوى الليل والنهار ، وتقول (استوى إلى كذا) ، إذا قصد إليه علوا وارتفاعا ، نحو استوى إلى السطح والجبل ، و(استوى على كذا ) أي إذا ارتفع عليه وعلا عليه ، لا تعرف العرب غير هذا فالاستواء في هذا التركيب نص لا يحتمل غير معناه ، كما هو نص في قوله (ولما بلغ أشده واستوى) لا يحتمل غير معناه ، ونص في قولهم استوى الليل والنهار في معناه لا يحتمل غيره)[72] .
ولا ريب أن الاستواء في الآيات السابقة يدل على معنى العلو ، لا غيره فهو محكم ، وقد دخل الاشتباه على من دخل عليه من أهل التأويل ، لا من تعدد ما يراد باللفظ لكن من وجه آخر وهو كون الاستواء يطلق على الخالق والمخلوق فيشتبه على غير الراسخين في العلم من هذه الجهة ، وإن كان قد حاول كثير ممن اشتبهت عليهم هذه الآيات أن يدعوا أن معنى الاستواء فيها ليس هو العلو، والذي حملهم على ذلك ظنهم أن جعله بهذا المعنى يقتضي التجسيم .
وبهذا يعلم أن ما ذكره السيوطي في الإتقان من التأولات في معنى الاستواء كله خلاف الحق[73] والحق أن الاستواء هو العلو ، والله أعلم.
* المثال الثاني : آيات الكلام :
وهذه المسألة ، مسألة الكلام لها طرفان ، أحدهما صفة الكلام لله تعالى ، والثاني تكلم العبد بكلام الله .
وقد اتفق المنتسبون إلى القبلة على نسبة الكلام إلى الله تعالى، ولكنهم اختلفوا في وجه ذلك وأهم الأقوال هي :
القول الأول :
وهو قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث وهو أن الكلام صفة من صفات الله تعالى يتكلم بما شاء ومتى شاء وكيف شاء ، والقرآن كلامه تكلم به على الحقيقة ، قال شارح الطحاوية ( تاسعها : انه تعالى لم يزل متكلما إذا شاء ومتى شاء وكيف شاء ، وهو يتكلم به بصوت يسمع وأن نوع الكلام قديم ، وإن لم يكن الصوت المعين قديماً ، وهذا المأثور عن أئمة الحديث والسنة)[74] .
واتفق أصحاب هذا لقول على أن القرآن تكلم به رب العزة على الحقيقة ، فسمعه جبريل وبلغه النبيّ صلى الله عليه وسلم كما سمعه ، وعلى الإنكار على من يقول إن القرآن مخلوق ، وجاء عن كثير منهم تكفير قائل هذه المقالة.
روى اللالكائي عن عمرو بن دينار أنه قال (سمعت مشيختنا من سبعين سنة يقولون القرآن كلام الله غير مخلوق)[75] ، ثم ذكر اللالكائي من مشيخته من الصحابة والتابعين خلقا[76] .
ثم روي عن خمسمائة رجلا من التابعين واتباعهم ومن بعدهم كلهم يقول القرآن كلام الله غير مخلوق.[77]
ثم قال (فهؤلاء خمسمائة وخمسون نفساً أو أكثر من التابعين وأتباع التابعين والأئمة المرضيين سوى الصحابة الخيرين ، على إختلاف الأعشار ومضي السنين والأعوام)[78] .
ثم روى عن مالك وابن أبي ليلى وابن عيينه وعبد الرحمن بن مهدي ووكيع بن الجراح ويحيى بن سعيد القطان وعبد الله بن المبارك ، وابن الماجشون وغيرهم تكفير من يقول القرآن مخلوق[79] .
وقيام الإمام أحمد رحمه الله في محنة خلق القرآن المقام الذي صيره إماما لأهل السنة معلوم مشهور (( ومواجهته للخلفاء والقضاة وأهل البدع بكلمة الحق وصبره الذي يضرب به المثل في غالب كتب التراجم والتاريخ مسطور ، وما كان إنكاره وإنكار علماء السنة في وقته إلاّ على قولين ، قول من يقول إن الله لا يوصف بالكلام ، وقول من يقول إن القرآن المنزل مخلوق .
والأدلة على صحة هذا القول وموافقته للوحي المنزل كثيرة جداً ، فإنهم قالوا بمقتضى ما دلت عليه أي الكتاب وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم ، التي تنص على أن الله يتكلم وينادي ويناجي ويقول ، وأنه يتكلم بكلام في وقت ويتكلم بغير عين هذا الكلام في وقت آخر ، كما نادي موسى لما بلغ الوادي المقدس وينادي ويتكلم يوم القيامة بكلام ، لم يتكلم بعينه قبل يوم القيامة وهو كثير جداً لا يستطاع حصره إلاّ بكلفة شديدة ولكن يذكر بعض ذلك ، فمن ذلك :
قال ابن تيمية (هذا وقد أخبر سبحانه عن نفسه بالنداء في أكثر من عشرة مواضع ، فقال تعالى {ويوم يناديهم أين شركائي الذين كنتم تزعمون} ، {فلما ذاقا الشجرة بدت لهما سوءاتهما وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ، وناداهما ربهما ألم أنهكما عن تلكما الشجرة واقل لكما إن الشيطان لكما عدو مبين } وقال {ويوم يناديهم فيقول ماذا أجبتم المرسلين} ، وذكر سبحانه ندائه لموسى في سورة (طه) و (مريم) و(الطس) الثلاث ، وفي سورة النازعات ، وأخبر أنه ناداه في وقت بعينه فقال تعالى }فلما أتاها نودي من شاطئ الوادي الأيمن في البقعة المباركة من الشجرة أن يا موسى إني أنا الله رب العالمين } وقال تعالى {هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه بالواد المقدس طوى } وقال { وما كنت بجانب الغربي إذ نادينا} ، واستفاضت الآثار عن النبيّ صلى الله عليه وسلم والصحابة والتابعين ومن بعدهم من أئمة السنة أنه سبحانه ينادي بصوت : نادى موسى ، وينادي عباده يوم القيامة بصوت ويتكلم بالوحي بصوت ، ولم ينقل عن أحد من السلف أنه قال : أن الله يتكلم بلا صوت وبلا حرف ، ولا أنه انكر أن يتكلم بصوت أو حرف)[80] .
القول الثاني:
قول المعتزلة، القائلين إن كلام الله خلق من خلق الله وهو حرف وأصوات يخلقها الله تعالى بائناً عنه، ولا يوصف بصفة الكلام كما لا يوصف بشيء من الصفات أصلاً، ولهذا ذكر القاضى عبد الجبار في شرح الأصول الخمسة، مسألة القرآن في قسم أفعال الله [81] . وهم بهذا القول ينسبون إلى الله تعالى ما يقوم بغيره من الصفات وهو مما يعلم بطلانه قطعاً ، وليس المقصود هنا الكلام على هذا القول ، لكن ذكر ما تبين الفرق بينه وببين القول الثالث .
القول الثالث:
هو قول الأشعرية وقولهم في الكلام والقرآن يحتاج إلى تفصيل ، وذلك أنهم قالوا كلام الله صفة قائمة به لازمة لذات الله ، أزلا وأبداً كلزوم صفة الحياة والعلم ، وهو معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ليس بحرف ولا صوت وانقسامه إلى الأمر والنهي والخبر والنداء والاستفهام بحسب التعلق ، أي صفة واحدة متعلقة بمتعدد ، كتعلق العلم الواحد بجميع المعلومات عندهم ، ويسمون هذا ( الكلام النفساني ) ، أما القرآن المؤلف من السور والآيات فمخلوق عندهم خلق إما في اللوح المحفوظ أو في جبريل أو في النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، قال الأيجي في المواقف (قالت المعتزلة - أصوات وحروف يخلقها الله في غيره - يعني كلام الله - كاللوح المحفوظ أو جبريل ، أو النبيّ ، وهو حادث ، وهذا لا ننكره لكن نثبت أمراً وراء ذلك هو المعنى القائم بالنفس ونزعم أنه غير العبارات.[82]
فالقرآن عبارات مخلوقة دالة على الكلام النفسي عندهم ، ويسمى القرآن كلام الله مجازاً عند بعضهم، وعند البعض الآخر يطلق ( كلام الله ) بالاشتراك اللفظي على المعنى القائم بالذات وعلى المخلوق المؤلف من السور والآيات الدالة على المعنى القائم بذات الله الذي هو صفة من صفاته وهو المسمي بالكلام النفسي.
قال السعد في شرح العقائد ( فإن قيل لو كان كلام الله تعالى حقيقة في المعنى القديم مجازاً في النظم المؤلف لصح نفيه عنه بأن يقال ليس النظم المنزل المعجز المفصل إلى السور والآيات كلام الله تعالى والإجماع على خلافه وأيضا المعجز المتحدى به، هو كلام الله حقيقة مع القطع بأن ذلك إنما يتصور في النظم المؤلف المفصل إلى السور والآيات، إذ لا معنى لمعارضة الصفة القديمة .
قلنا : التحقيق أن كلام الله تعالى اسم مشترك بين الكلام النفسي القديم، ومعنى الإضافة كونه صفة لله تعالى وبين اللفظي الحادث المؤلف من السور والآيات، ومعنى الإضافة أنه مخلوق لله تعالى ليس من تأليفات المخلوقين ) [83]
فالقرآن كما هو واضح من كلام السعد هذا - عند أصحاب هذا القول - مخلوق، دال على المعنى الواحد القائم بذات الله اللازم له لزوم الحياة والعلم والصفات الغير متعلقة بمشيئته وقدرته، وكذلك التوراة، والعبرانية والإنجيل السرياني، عبارات دالة على ذلك المعنى الواحد، فكلام الله معنى ، إن عبر عنه بالعبرانية كان توراة، وإن عبر عنه بالسريانية كان إنجيلاً، وإن عبر عنه بالعربية كان قرآنا، وكل هذه العبارات مخلوقة[84] .
وهذا المصنف المنقول كلامه في أول المثال، يبدوا أنه ممن يوافق أصحاب هذا المذهب، في أصل مذهبهم وإن خالفهم في تأويل النصوص الناقضة لهذا المذهب كما سيأتي.
والذي دعاهم إلى اختراع هذا القول الغريب [85] ، الذي دعاهم إلى هذا الاختراع ، هو إنكارهم قيام الأفعال والأمور الاختيارية بالرب تعالى ، ويسمون هذه المسألة (حلول الحوادث )[86] ، مع إرادتهم موافقة السلف الذين يثبتون صفة الكلام لله تعالى ويعظمون الإنكار على من قال كلام الله مخلوق بل ويكفرونه مع أن أئمة الدين المتقدمين في عصور السلف لم يفرقوا في إنكارهم بين من ادعى أن الكلام مخلوق أو ادعى أن القرآن مخلوق .
ومسألة قيام الأفعال الاختيارية بالله تعالى كالاستواء والنزول والغضب والرضى والكلام التي يسميها هؤلاء حلول الحوادث ، ويجعلون نصوصها من المتشابه المراد به خلاف الظاهر قد مضى الكلام عليها ، وابطال قولهم فيها جملة وتفصيلاً ، والمقصود هنا الكلام على هذا المثال خاصة بما يبين أثر معرفة المحكم والمتشابه في تفسير آيات هذا النوع ، والتي تقدم بعضها .
وينبغي تقديم ما يدل على بطلان هذا القول في كلام الله ثم الرد على تأويلاتهم بما ، وبه يتبين أن هذه الآيات محكمة لا اشتباه فيها عند الراسخين في العلم ، وإنما اشتبهت على من تعلق بشبه من الكلام ، قدمها على نصوص الوحي .
ويدل على بطلان قولهم في كلام الله أدلة أهمها :
الدليل الأول :
أن قوله تعالى { وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً} [النساء: من الآية164] وقوله {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [لأعراف: من الآية143] ، وقوله { فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى * إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً * وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى } [طه:11-13] ، دليل على أنه تكليم سمعه موسى ، والمعنى المجرد لا يسمع بالضرورة ، ومن قال إنه يسمع فهو مكابرة ، ودليل على أنه نادى والنداء لا يكون إلاّ صوتاً مسموعاً ولا يعقل لفظ النداء بغير صوت مسموع[87] .
الدليل الثاني :
أن الله تعالى قال { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} [النحل:103] ، وهؤلاء المشركون إنما كانوا يقولون إنما يعلم محمداً هذا القرآن العربي بشر ، لم يكونوا يقولون إنما يعلمه بشر معانيه فقط ، بدليل قوله { لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ} فإنه تعالى أبطل قول الكفار بأن لسان الذي ألحدوا إليه لسان أعجمي ، وهذا القرآن ألفاظ عربية ، فدل هذا على أن القرآن لفظه ومعناه من الله لا من غيره[88] .
الدليل الثالث :
أن قوله تعالى {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ} [القصص:62] ، وقوله {وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ} [القصص:65] ، دليل على وقوع النداء بظرف محدود وهو ذلك اليوم ، يوم القيامة ، وكذلك قوله تعالى {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ } [البقرة: من الآية34] وقوله {وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً } [البقرة: من الآية30] وأمثال ذلك مما فيه توقيت بعض أقوال الرب بوقت معين ، فإن أصحاب هذا القول يقولون إن الله لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل الكلام المعين لازم لذاته لزوم الحياة لذاته[89] .
الدليل الرابع :
أن القول بأن الكلام معنى واحد يلزم منه التناقض فإن موسى مثلاً إن كان سمع جميع المعنى فقد سمع جميع كلام الله وإن سمع بعضه ، فقد تبعض ، وكلاهما ينقض قولهم فإنهم يقولون إنه معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض[90] .
الدليل الخامس :
إن قولهم معنى واحد هو أمر بكل مأمور وخبر عن كل مخبر به وسائر ما ذكروه غير متصور ، ولهذا كان أبو محمد ابن كلاب رأس هذه الطائفة ومخترع هذه المقالة ، لا يذكر في بيانها شيئاً يعقل بل يقول هو معنى يناقض السكوت والخرس[91] .
الدليل السادس :
أنه معلوم بالاضطرار أنا إذا عربنا التوراة والإنجيل لم يكن معنى ذلك هو معنى القرآن ، بل معاني هذا ليست معان هذا ، وكذلك معنى {قل هو الله أحد} ليس هو معنى {تبت يدا أبي لهب} ، ولا معنى آية الكرسي هو معنى آية الدين وإذا جوز ان تكون الحقائق المتنوعة شيئاً واحداً ، فليجوز أن يكون العلم والكلام والسمع والبصر صفة واحدة[92] .
فهذا أهم ما يدل على بطلان قولهم ، وهم قد جعلوا الكلام اسماً للمعنى فقط ، واطلاقه على اللفظ من قبيل مجاز ، لأنه دال عليه ، وقالوا بناء على هذا أن القرآن ليس كلام الله حقيقة لأن الكلام هو المعنى أما الألفاظ فتسمى كلاماً من باب المجاز .
والصحيح المعلوم من اللغة أن الكلام يتناول اللفظ والمعنى جميعاً كما يتناول اسم الإنسان الروح والبدن جميعاً ، ومما يدل قطعا على هذا الحديث المتفق عليه (أن الله تجاوز لأمتي عما حدثت له أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل )[93] ، والحديث الذي رواه النسائي وأبو داود وعلقه البخاري بصيغة الجزم (إن الله يحدث من أمره ما يشاء وإنما أحدث إلاّ تكلموا في الصلاة )[94] .
وقد اتفق العلماء على أن المصلي إذا تكلم في الصلاة عامداً لغير مصلحتها بطلت صلاته ، واتفقوا على أن ما يقوم بالقلب أثناء الصلاة من معاني تتعلق بغير الصلاة من أمور الدنيا أنها لا تبطل الصلاة وإنما يبطل الصلاة التكلم بذلك ، فعلم باتفاق المسلمين أن هذا ليس بكلام[95] .
وقد استدلوا على قولهم ببيت من الشعر ، قال شارح الطحاوية (وأما من قال إنه معنى واحد واستدل عليه بقول الأخطل:
إن الكلام لفي الفؤاد وانما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
فاستدلال فاسد ، ولو استدل مستدل بحديث في الصحيحين لقالوا : هذا خبر واحد ، ويكون مما اتفق العلماء على تصديقه ، وتلقيه بالقبول والعمل به ، فكيف وهذا البيت قد قيل انه موضوع ، منسوب إلى الأخطل ، وليس في ديوانيه ؟ وقيل إنما قال (إن البيان ففي الفؤاد ) ، وهذا أقرب إلى الصحة[96].
وعلى تقدير صحته عنه فلا يجوز الاستدلال به ، فإن النصارى قد ضلوا في معنى الكلام وزعموا أن عيسى عليه السلام نفس كلمة الله واتحد اللاهوت والناسوت ، أي شيء من الإله بشيء من الناس . أفيستدل بقول نصراني قد ضل في معنى الكلام على معنى الكلام ، ويترك ما يعلم من معنى الكلام في لغة العرب ؟ وأيضاً فمعناه غير صحيح إذ لازمه أن الأخرس يسمى متكلماً لقيام الكلام بقلبه ، وإن لم ينطق به ولم يسمع منه)[97] .
ويدل على أن اسم الكلام يتناول اللفظ والمعنى أنه إذا أريد استعماله في حديث النفس خاصة فإنه يقيد بما يدل عليه ، فيقال : قلت في نفسي ، وحدث نفسه ، ونحوه فإن أطلق دل على اللفظ والمعنى معاً ، فهذا ما يدل على بطلان هذا القول .
وقد سلكوا في تأويل النصوص الكثيرة الدالة على ضد قولهم مسلكين مشهورين ، إبطال تأويل النصوص المؤيدة لمذهب السلف :
أما المسلكان : فالأول :
وهو مسلك غريب وقول عجيب ، ما ذكره في حاشية على شرح أم البراهين قال (ليس معنى كلم الله موسى تكليما أنه ابتداء الكلام بعد أن كان ساكتا ، ولا أنه بعد ما كلمه سكت ، وانما المعنى أنه أزال الحجاب عن موسى وخلق له سمعاً وقواه حتى أدرك كلامه القديم ثم منعه بعد ذلك ورده لما كان عليه قبل سماع كلامه)[98] .
وحكى شيخ الإسلام ابن تيمية عنهم أنهم يقولون (إن التكليم والنداء ليس إلاّ مجرد خلق إدراك المخلوق بحيث يسمع ما لم يزل ولا يزال لا أنه يكون هناك كلام يتكلم الله به بمشيئته وقدرته ، ولا تكليم بل تكليمه عندهم جعل العبد سامعاً لما كان موجوداً قبل سمعه بمنزلة جعل الأعمى بصيراً لما كان موجوداً قبل رؤيته ... فعندهم لما جاء موسى لميقات ربه سمع النداء القديم لا أنه حينئذ نودي)[99] .
ولا ريب أن هذا التأويل المتكلف لم يخطر على بال أحد سمع آيات القرآن الواردة في هذا الصدد من نزولها إلى يومنا هذا ، ما لم يتلقنه من أصحاب هذا المذهب ، ثم عليه بعد ذلك أن يرغم نفسه على تصوره إن استطاع ذلك ، نعم ، لا سيما إذا فسر له سماع هذا الكلام النفسي بأن مصحح السماع هو الوجود كما أن مصحح الرؤية كذلك ، كما يقولون ، وقد التزم من أجل هذا جواز رؤية الروائح والملموسات والطعوم[100] .
ويكفي في نقض هذا التأويل المتكلف ، مصادمته الواضحة لنصوص الكتاب والسنة ، التي تنص على أن الله كلم موسى ، وناداه ، وناجاه ، وسأله فأجاب ، ورد عليه ، فهل هذا كله كان أزلاً ، وسيبقى أبداً ملازما لذات الله ، كلزوم الحياة ، وكيف يعقل أنه لم يزل ربنا تعالى ، ينادي موسى ويكلمه ، قبل أن يخلق السموات والأرض، ويجيب على قوله {رب أرني أنظر إليك } بقوله {لن تراني} قبل وجود الكائنات ، والتأويل إذا بلغ إلى هذا الحد ، فلا يلام من يسميه تلاعبا بكتاب الله .
والمسلك الثاني :
هو أن الله خلق صوتا في الشجرة ، أو في الهواء فسمعه جبريل أو غيره ، فالذي سمعه موسى ، وتسمعه الملائكة ، وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، ليلة المعراج من كلام الله ، أصوات وحروف مخلوقة خلقها الله فدلت على المعنى الواحد اللازم لذات الله ، ومع أنها متعددة ، متبعضة ، إلاّ أنها دالة على معنى واحد لا يتعدد ولا يتبعض ، وهذا المسلك هو الذي تقدم عن الايجي أنه حكاه وقال لا ننكره ، وحكاه الرازي عن أهل السنة من أهل ما وراء النهر ، ويقصد بهم أصحاب الكلام النفساني[101] .
وبهذا المسلك - وكذلك الذي قبله - صرح أصحاب هذا القول بخلق القرآن ، فأما الأولون فقالوا إن الله تعالى خلق في جبريل إدراكا أدرك به المعنى النفسي ، فعبر عنه بألفاظه فكان القرآن ، أو أن جبريل ألقى المعنى إلى محمد فأنشأه بلفظه[102] .
وهذا تصريح بخلق القرآن ، فإن المخلوقات وأفعالها كلها مخلوقة .
وأما هؤلاء فيقولون : خلق في جبريل ، أو في اللوح المحفوظ ، أو في الهواء حروفاً ، هي القرآن العربي المنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم بلغ جبريل هذا المخلوق للنبي صلى الله عليه وسلم[103] .
فإذن أوّل ما يدل على بطلان هذا المسلك - وكذلك الذي قبله - أنه تصريح بخلق القرآن ، الذي اتفقت الأمة وكلمة أهل العلم في عصور السلف على إنكاره والبراءة من قائله ، وهو مع ذلك تناقض بين من قائله - أن كان من أصحاب هذا المذهب - فإنه إنما يحتج على المعتزلة الذين ينسبون الكلام إلى الله مع قيامه بغيره - لأنهم يقولون حروف وأصوات يخلقها في غيره - بأن الموصوف بالشيء هو ما قام به ذلك الشيء ، ولا يوصف الشيء بما قام في غيره ، كما قال السعد في شرح العقائد ( والمعتزلة لما لم يمكنهم إنكار كونه تعالى متكلما ذهبوا إلى أنه تعالى متكلم بمعنى إيجاد الأصوات والحروف في محالها ، وإيجاد أشكال الكتابة في اللوح المحفوظ ، وإن لم يقرأ على اختلاف بينهم وأنت خبير بأن المتحرك من قامت به الحركة لا من أوجدها ، وإلاّ لصح اتصاف الباري تعالى بالأعراض المخلوقة له تعالى عن ذلك علواً كبيراً )[104] .
فمن ينكر على المعتزلة نسبة الكلام إلى الله مع القول بأنه أوجده في غيره ، كيف ينسب إلى الله الكلام الذي أوجده في غيره ، فيقول القرآن المؤلف من السور والآيات مخلوق خلقه الله في غيره ، كاللوح المحفوظ أو جبريل أو محمد -صلى الله عليه وسلم- وهو مع ذلك كلام الله.
فإن قال : إنما هذا من باب إضافة المخلوق إلى الخالق ، لزمه أن كل كلام خلقه الله فهو كلامه ، وهذا يشمل كل كلام في الوجود وهذا من أبطل الباطل ، وما قال به إلاّ أهل وحدة الوجود من الزنادقة المنتسبين إلى التصوف .
فهذا أهم ما يدل على بطلان هذين التأويلين ، والحق الذي لا ريب فيه أن الآيات التي نصت على اتصاف الله بالكلام هي على ظاهرها اللائق بالله تعالى ، وأن الله تعالى موصوف بصفة الكلام ، وهو متكلم بما شاء متى شاء ، كيف شاء ، بكلام سمعه موسى ويسمعه جبريل وسمعه نبينا صلى الله عليه وسلم ، بصوت لا يماثل صوت المخلوقين كما أن سائر صفاته لا تماثل صفات المخلوقين .
ولينظر إلى هذا الاعتقاد ما أحسنه وأسهله وأوفقه لنصوص الوحي ، وذلك القول مع ما جر إليه من تأويلات ، ما أشد تكلفة ، وأبعد تصوره ، وأصعبه على النفوس السليمة ، يتجرعه المؤمن ولا يكاد يسيغه ، ويأتيه الباطل من كل مكان ، فالحمد لله الذي جعل عقيدة الإسلام سهلة ميسورة قريبة إلى النفوس والفطرة واضحة في التصور والعلم .
فليس في آيات الكلام اشتباه ، ولا هي من المتشابه عند أهل الرسوخ في العلم ، ولكنها إنما اشتبهت على من عارضها بعقله الضعيف ، واصطلاحهم على أن المتشابه هو ما يراد به خلاف ظاهره هو الذي أدى إلى تأويل آلاف النصوص وجعلها من المتشابه وإدعاء أنها من المراد به خلاف الظاهر قال ابن القيم (ولا تستبعد قولنا أكثر من ثلاثة آلاف ، فكل آية ، وكل حديث إلهي وكل حديث فيه الإخبار عما قال الله تعالى أو يقول وكل أثر فيه ذلك إذا استقرئت زادت على هذا العدد)[105] .
وبما مضى يتبين أن الآيات الواردة في مسألة كلام الله تعالى وأنه يكلم ملائكته وجبريل ومن شاء من أصفيائه ، ويكلم من شاء يوم القيامة وأهل الجنة وهي كثيرة جداً في القرآن كلها محكمة لا اشتباه فيها عند أهل العلم الراسخين فيه من أهل السنة ، وتفسيرها تلاوتها واعتقاد ظاهر ما دلت عليه مع تنزيه الله عن مماثلة خلقه .
ويبقى الكلام في قوله تعالى {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} [التوبة: من الآية6] ، وهو الطرف الثاني من مسألة الكلام ، وهو قراءة العباد كلام الله وتسمى مسألة اللفظ وهذه المسألة من المسائل الدقيقة وقد اشتبهت على كثير ممن ينتسب إلى السنة والحديث .
وسبب اشتباه هذه المسألة أن الكلام ، وجوده العيني يتحد مع وجوده اللفظي ، فالذي يبلغ بلفظه الكلام الذي تكلم به غيره يبلغه بنفس المرتبة الوجودية التي حصلت له في الأول .
وبيان هذا أن للشيء أربعة مراتب ، مرتبة في الأعيان ومرتبة في الأذهان ، ومرتبة في اللسان ، ومرتبة في الخط ، وهذه المراتب الأربعة تتحقق منفصلة في الأعيان القائمة بنفسها كالشمس مثلاً ، فوجودها الخارجي شيء ، ووجودها الذهني شيء ، ووجودها اللساني شيء ، ووجودها في الكتاب شيء ، أما العلم مثلاً فتتحد فيه المرتبتان الذهنية والخارجية ، والكلام تتحد فيه المرتبتان اللفظية والخارجية ، فلا جرم حصل الاشتباه العظيم في مسألة تكلم العباد بالقرآن[106] .
وقد ذكر شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله بيانا واضحا لهذا الإشكال ويحسن إيراده بألفاظه قال رحمه الله (ومما ينبغي أن يعرف ، أن كلام المتكلم في نفسه واحد وإذا بلغه المبلغون تختلف أصواتهم ، به ، فإذا أنشد المنشد ، قول لبيد : ألا كل شيء ما خلا الله باطل ، كان هذا الكلام كلام لبيد لفظه ومعناه ، مع أن أصوات المنشدين له تختلف ، وتلك الأصوات ليست صوت لبيد ، وكذلك من روى حديث (إنما الأعمال بالنيات) فإن هذا الكلام كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، لفظه ومعناه ويقال لمن رواه أدي الحديث بلفظه ، وإن كان صوت المبلغ ليس هو صوت الرسول ، فالقرآن أولى أن يكون كلام الله لفظه ومعناه ، وإذا قرأه القراء فإنما يقرؤونه بأصواتهم )[107] .
وقال ( ومن المعلوم أنه إذا سمع الناس كلهم كلام محدث يحدث بحديث النبيّ -صلى الله عليه وسلم- كقوله ( إنما الأعمال بالنيات ) قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، أو هذا كلامه بعينه ، لأنهم قد علموا أن النبيّ -صلى الله عليه وسلم- تكلم بذلك الكلام لفظه ومعناه وتكلم بصوته ، ثم المبلغ له عنه بلغه بصوت نفسه ، فالكلام كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- هو الذي تكلم بمعانيه وألف حروفه بصوته والمبلغ له بلغة بفعل نفسه وصوت نفسه ، فإذا قالوا : هذا كلام النبيّ -صلى الله عليه وسلم- ، كانت إشارتهم إلى نفس الكلام الذي هو الكلام حروفه ونظمه ومعانيه ، لا إلى ما اختص به المبلغ من حركاته وأصواته ، بل يضيفون الصوت إلى المبلغ فيقولون صوت حسن ، وما كان في الكلام من فصاحة حروفه ونظمه وبلاغة معانيه فإنما يضاف إلى المتكلم به ابتداء لا إلى المبلغ له ، ولكن يضاف إلى المبلغ حسن الأداء كتجويد الحروف وتحسين الصوت ولهذا قال تعالى {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله }[108] .
وقال رحمه الله ( كما في الاسم والمسمى ، فإن اسم الشخص وإن ذكره أناس متعددون ، ودعا به أناس متعددون ، فالناس يقولون إنه اسم واحد لمسمى واحد ، فإذا قال المؤذن أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، وقال ذلك هذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وهذا المؤذن ، وقاله غير المؤذن ، فالناس يقولون إن هذا المكتوب هو اسم الله واسم رسوله ، كما أن المسمى هو الله ورسوله )[109] .
فقوله تعالى {فأجره حتى يسمع كلام الله} المقصود الكلام نفسه من حيث هو هو وإن كان إنما سمع بواسطة التالي وصوته.
والمشار إليه عند قراءة القارئ للقرآن ، (بهذا كلام الله ) ليس هو ما يمتاز به قارئ عن قارئ إذ كان من المعلوم ، أن ما يسمع من كل قارئ فهو كلام الله وأن صوت هذا القارئ ليس هو صوت ذلك ، بل المشار إليه ، هو الحقيقة المتحدة ، وهو كونه كلام الله بقراءة جميع القراء .[110]
ومما ينبغي أن يعلم أن هذا الاشتباه لا ينحل إلاّ لمن يتيقن أمرين :
الأول : أن الله تكلم بالقرآن بكلام سمعه جبريل منه سماعاً حقيقياً وأنزله على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتلاه عليه وعرضه عليه فسمعه -صلى الله عليه وسلم- وبلغه للأمة كما سمعه ولم يزل ينقل بالتواتر كما تكلم الله به أول مرة كلاماً حقيقياً بصوت نفسه سبحانه وتعالى .
الثاني : أن الكلام يضاف إلى من قاله مبتدئاً لا إلى من قاله مبلغاً مؤدياً ، فلا يقال عمن روى حديث ( إنما الأعمال بالنيات ) هذا كلامك ، وقولك ، بل يقال كلام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقوله .
ولا تشتبه هذه المسألة إلاّ على من ينكر أحد هذين الأمرين أو يجهله ، وبهذا فقوله تعالى {حتى يسمع كلام الله} هو كلام الله بأصوات القارئين فلا إشكال ولا إشتباه فيه إذا رد إلى المحكم.
فهذا ما يتعلق بهذا المثال .
* المثال الثالث : آيات الرؤية :
وهي من المسائل الكبار التي خالف فيها أهل البدع السنة ، واتبعوا ما تشابه عليهم من القرآن كما قال القاضي عبد الجبار المعتزلي ، عند قوله تعالى {لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } .
قال (يدل على أن الله تعالى لا يجوز أن يرى بالأبصار والعيون ، على وجه ، في كل وقت من غير تخصيص)[111] .
وقد أثبتها أهل السنة واستدلوا على ذلك بالكتاب والسنة .
وأما الكتاب فقوله تعالى : {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة:22-23] .
وقد صرح ابن كثير رحمه الله بتواتر أحاديث الرؤية .
ومما يدل على ذلك من كتاب الله أيضاً قوله تعالى {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين:15] قال ابن كثير ( قال الإمام الشافعي رحمه الله : هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عز وجل يومئذ وهذا الذي قاله الإمام الشافعي - رحمه الله - في غاية الحسن وهو استدلال بمفهوم الآية ، كما دل منطوق قوله { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة في رؤية المؤمنين ربهم - عز وجل - في الدار الآخرة ، رؤية بالأبصار في عرصات القيامة ، وفي روضات الجنات الفاخرة)[112] .
ومما يدل على الرؤية من كتاب الله أيضاً قوله تعالى { قال رب أرني انظر إليك ...} ، قال شارح الطحاوية رحمه الله ( الاستدلال منها على ثبوت الرؤية من وجوه :
الأول : أنه لا يظن بكليم الله ورسوله الكريم وأعلم الناس بربه في وقته أن يسأل ما لا يجوز عليه بل هو عندهم من أعظم المحال .
الثاني : أن الله لم ينكر عليه سؤاله ، ولما سأل نوح ربه نجاة ابنه أنكر سؤاله وقال (إني أعظك أن تكون من الجاهلين ).
الثالث : أنه تعالى قال {لن تراني} ولم يقل (إني لأرى ) أو ( لا تجوز رؤيتي ) أو ( لست بمرئي ) ، والفرق بين الجوابين ظاهر ، ألا ترى أن من كان في كمه حجر فظنه رجل طعام ، فقال أطعمنيه ، فالجواب الصحيح أنه لا يؤكل ، أما إذا كان طعاماً صح أن يقال إنك لن تأكله ، وهذا يدل على أنه سبحانه مرئي ، ولكن موسى لا تحتمل قواه رؤيته في هذه الدار لضعف قوى البشر فيها عن رؤيته تعالى ثم ذكر وجوها أخرى ، هذه أهمها.[113]
وقد تقدم ما يدل على ذلك من السنة ويدل على ذلك أيضاً إجماع المسلمين قبل حدوث بدعة إنكار الرؤية .
وقد استدل المعتزلة بقوله تعالى { لا تدركه الأبصار} كما تقدم عن القاضي عبد الجبار ، وجعل الزمخشري قوله تعالى { لا تدركه الأبصار } محكما ، وقوله تعالى { إلى ربها ناظرة } متشابها[114] .
وحاول القاضي عبد الجبار المعتزلي في كتابه متشابه القرآن ، تأويل ما استدل على الرؤية من آية الأعراف ، وحاول الزمخشري تأويل قوله تعالى { إلى ربها ناظرة } بما يقطع ببطلانه .
أما قوله تعالى {وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ} [الأعراف:143] .
قال القاضي عبد الجبار (قالوا : ثم ذكر تعالى بعده ما يدل على أنه يجوز إن يرى ،وما يدل على أنه يجوز أن يظهر ويتجلى ويحتجب ، فقال { ولما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه قال رب أرني انظر إليك } فلو لم تجز الرؤية عليه لم يكن ليسأل ذلك ، كما لا يجوز أن يسأل ربه اتخاذ الصاحبة والولد ، إلى ما شاكله من الأمور المستحيلة عليه )[115] .
ثم قال ( وقد اختلف أجوبة شيوخنا رحمهم الله في ذلك ، فمنهم من قال إنما سأل ذلك عن لسان قومه ، لأنهم سألوه ذلك فأجابهم بأن الرؤية لا تجوز عليه ، فلم يقنعوا بجوابه ، وأرادوا أن يرد ذلك من الله تعالى ، ولذلك قال تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً } [النساء: من الآية153] ، ولذلك قال الله تعالى {أتهلكنا بما فعل السفهاء منا} ولو كانت المسألة صدرت عنه لأمر يخصه لم يجز أن يقول ذلك ، وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب)[116] .
وهذا أحسن ما حكى عن شيوخه من تأويلات وهو كما لا يخفى من ابعد التأويل ولا يدل عليه الخطاب من قريب ولا من بعيد .
فإن قوله تعالى {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَاناً مُبِيناً} [النساء:153] .
مع قوله تعالى {وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ * ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة:55-56] ، يدل على أنهم سألوا رؤية الله عن عناد وتعنت ، كما يفسره قوله تعالى { لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة } فادعوا أنهم لن يؤمنوا إلاّ إذا رأوا الله جهرة ، فعاقبهم الله بالصاعقة ، فماتوا ثم بعثهم ،وفي تعقيب أخذه لهم على سؤالهم (بالفاء ) دلالة على وقوع صعقهم عقيب سؤالهم ، وقوله تعالى ثم اتخذوا العجل دليل على أن اتخاذهم العجل قد وقع لما انطلق موسى إلى ميقات ربه وكلمه ، فأخبره سبحانه {فإنا فتنا قومك من بعدك وأضلهم السامري } ، وفي هذا دلالة على أن سؤال موسى رؤية ربه كان بعد سؤال قومه الذي وقع منهم قبل ذلك تعنتا وعنادا ، فعوقبوا عليه ، فكيف يعود موسى ويسأل ربه أن يجعل الذين أخذهم الله بالصاعقة يرونه بعد أن كانت عقوبتهم بسبب طلبهم الرؤية ؟ وكيف يطلبون الرؤية بعد أن صعقوا عقوبة على طلبها ؟
وأيضاً فإن موسى قال {رب أرني أنظر إليك } وهذا صريح في أنه طلب الرؤية لنفسه ، فتركه ما دل عليه الخطاب لأمور بعيدة مجرد تحكم .
وأيضاً فإن السياق يدل على أن موسى طلب الرؤية لنفسه فإن الله قال { ولما جاء موسى لميقاتنا ، وكلمه ربه قال رب أرني أنظر إليك } فعقب طلب الرؤية على سماع الكلام ، ففيه إشارة إلى أنه لما سمع الكلام استأنس وظن أن الله يعطيه الرؤية كذلك في الدنيا فبين له ربه سبحانه أنه لا تجوز في الدنيا ، إذ لا تطيقها الجبال الرواسى فكيف بالبشر الضعيف في بنيته الدنيوية الضعيفة ، ولهذا قال بعد ذلك { يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي وبكلامي فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين } ، أي خذ نعمتي عليك وأشكر عليها ، وهي الكلام والرسالة ، ولا تطمع فيما لا يكون لأحد ولا طاقة لأحد به[117] .
وقوله ( وقد بينا أن السائل إذا سأل لأجل غيره حسن أن يسأل ما يعلم أنه محال ، لكي يرد الجواب فتقع به الإبانة ، إذا كان عنده أن ذلك إلى زوال الشبهة أقرب ) ، لا معنى له ، فإن بني إسرائيل لم يسمعوا ما جرى بين موسى وربه من الخطاب ولم يروا دك الجبل ، وإلاّ لصعقوا كما صعق موسى ، بل كانوا في أثناء هذا يعبدون العجل ، كما قص القرآن ، فما فائدة أن يسأل موسى ربه أن يري نفسه بني إسرائيل مع علمه أنه مجال لتزول الشبهة عنهم إذا لم يكن بنوا إسرائيل شاهدين لهذا ، فما أبعد هذا .
وبالجملة فهذا إلى اللعب أقرب منه إلى التأويل ، وهو دليل واضح على أن أهل البدع يجعلون الآية من المتشابه لمجرد مخالفتها لمذهبهم ، يريدون بذلك صرفها عن نقض أقوالهم ، فالله المستعان .
وأما قوله تعالى { وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة } فإنه يدل على الرؤية من وجوه :
الأول : أن لفظ ( نظر ) إذا عدي بإلى دل على نظر العين ، كما أنه إذا عدي بفي دل على التفكر كما قال تعالى {أفلم ينظروا في ملكوت السموات والأرض } ، وإذا عدي بنفسه فمعناه الانتظار { انظرونا نقتبس من نوركم } [118] .
قال الجوهري ( النظر : تأمل الشيء بالعين ، وكذلك النظران بالتحريك ، وقد نظرت إلى الشيء)[119] .
وقال ابن فارس ( النون والظاء والراء أصل صحيح ، يرجع فروعه إلى معنى واحد وهو تأمل الشيء ومعاينته، ثم يستعار ويتسع فيه ، فيقال نظرت إلى الشيء ، أنظر إليه إذا عاينته ... ويقولون نظرته أي انتظرته )[120] .
الثاني : أنه أضافه إلى الوجوه التي محل الأبصار فهذه قرينة تدل على أن المراد نظر العين[121] .
الثالث : أن المقام بيان النعيم ، فالمناسب ذكر تمتعهم بالنظر إلى الله ولو قيل أن المراد ينظرون رحمة ربهم لكان في ذلك تنقيص لهم لأن المنتظر للشيء مشغول القلب بوقت حصوله .
الرابع : في قوله {وجوه يومئذ ناضرة} إشارة إلى رؤية الله عيانا ، فكأنها اكتسبت النضرة.بسبب رؤية الله تعالى كما أن من يرى الشيء الحسن يتبين أثر ذلك في وجهه ، فكيف بمن يرى الله تعالى .
فهذه الوجوه تبطل تأويل النظر بانتظار الثواب كما فعل القاضي عبد الجبار في متشابه القرآن.
وأما قول الزمخشري ( إلى ربها ناظرة ، تنظر إلى ربها خاصة ، لا ننظر إلى غيره ، وهذا معنى تقديم المفعول ، إلاّ ترى إلى قوله - إلى ربك يومئذ المستقر - إلى ربك يومئذ المساق - إلى الله تصير الأمور - إلى الله المصير - وإليه ترجعون - عليه توكلت وإليه أنيب - كيف دل فيها التقديم على معنى الاختصاص ، ومعلوم أنهم ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر ولا تدخل تحت العدد في محشر يجتمع فيه الخلاق كلهم )[122] .
ثم جعل هذا دليلاً على أن معنى النظر إلى الله عنده ( أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم ) كما قال[123] .
فجوابه أن الاختصاص على ظاهره فإن الله تعالى إذا تجلى لأهل الجنة ينظرون إليه ، كما تواتر في السنة ، فلا تتوجه الوجوه والأنظار إلاّ إليه وكأنها لا ترى إلاّ هو ، وسبحان الله ، كيف يتصور أن تطلب العيون نظراً إلى غير الله إذا تجلى بعظمته ، وكيف لا تعمى عن سواه إذا أزال رداء الكبرياء عن وجهه الكريم ؟ بل هذا أعظم لذّات الجنة وليس بين هذا النعيم وسائر نعيم الجنة وجه مقارنة أصلاً كما تقدم في حديث مسلم (فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ).
وفي الوجوه الأربعة المتقدمة رد على قوله ( والمعنى أنهم لا يتوقعون النعمة والكرامة إلاّ من ربهم).
وأما الاستدلال بقوله { لا تدركه الأبصار } فقد اشتبه عليهم ويتبين برده إلى المحكم معنا الصحيح ، فإنه لا ريب أن ما دلت عليه الآيات السابقة والأحاديث المتواترة من حصول رؤية المؤمنين ربهم ، محكم غاية الأحكام ، فقوله تعالى { لا تدركه الأبصار} لا يدل على عدم الرؤية بل هو أدل على وقوع الرؤية ، وذلك أن الآية ذكرت في ( سياق التمدح ومعلوم أن المدح ، إنما يكون بالصفات الثبوتية .
أما العدم المحض فليس بكمال فلا يمدح به ، وإنما يمدح الرب تعالى بالنفي إذا تضمن أمرا وجوديا ، كمدحه بنفي السنة والنوم المتضمن كمال قيوميته ، ونفي الموت المتضمن كمال الحياة ، ونفي اللغوب والإعياء المتضمن كمال القدرة ونفي الشريك والصاحبة والولد المتضمن كمال الربوبية والألوهية وقهره ، ونفي الأكل والشر المتضمن كمال توحيده وغناه عن خلقه ، ونفي الظلم المتضمن كمال عدله وعلمه وغناه ، ونفي النسيان وعزوب شيء عن علمه المتضمن كمال علمه وإحاطته ، ونفي المثل المتضمن كمال ذاته وصفاته ، ولهذا لم يتمدح بعدم محض لم يتضمن أمرا وجوديا ، فإن المعدوم يشارك الموصوف في ذلك العدم ، ولا يوصف الكامل بأمر يشترك هو والمعدوم فيه .
فمعنى الآية إذن ، يرى ولكن لا يدرك ولا يحاط به فيكون قوله تعالى ( لا تدركه الأبصار ) يدل على كمال عظمته وأنه أكبر من كل شيء ، وأنه لكمال عظمته لا يدرك بحيث يحاط به ، فإن (الإدراك) ، هو الإحاطة بالشيء ، وهو قدر زائد على الرؤية كما قال تعالى { فلما تراءا الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون ، قال كلا} الشعراء (62) ، فلم ينف موسى الرؤية وإنما نفى الأدراج ، فالرؤية والإدراك كل منهما يوجد مع الآخر ، وبدونه فالرب تعالى يرى ولا يدرك ، كما يعلم ولا يحاط به علما ، وهذا هو الذي فهمه الصحابة والأئمة من الآية كما ذكرت أقوالهم في تفسير الآية ، بل هذه الشمس المخلوقة لا يتمكن رائيها من إدراكها على ما هي عليه)[124] .
وهذا ختام كتاب ( أم البراهين ) والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وأجمعين .
قائمة المحتويات
- الفصل الثاني : أهم أدلة أهل التعطيل والتأويل والرد عليها ..................... ص 2
- المطلب الأول : إبطال المنهج العقلي الذي اعتمدوا عليه في تعطيل صفات الله تعالى ، وتأويل نصوصها الواردة في الكتاب والسنة ..................................... ص 3
- مقدمة مشتملة على ركنين قام عليهما ما سيذكر من الأدلة ............... ص 3
- الركن الأول ............................................................ ص 3
- الركن الثاني ............................................................ ص 5
- المطلب الثاني : ذكر ما استدل به المعتزلة على نفي الصفات الإلهية ......... ص 8
- المطلب الثالث : ذكر ما استدل به نفاة بعض الصفات ........................ ص 9
- أهم أدلة نفاة الصفات الفعلية ............................................. ص 9
- أهم أدلة نفاة صفة العلو ................................................ ص 10
- أهم أدلة نفاة صفات الذات .............................................. ص 11
- ملاحظات على هذه الأدلة ............................................... ص 12
- المطلب الرابع : الرد على جميع أدلة القائلين بتأويل نصوص صفات الله تعالى .. .................................................................................. ص 14
- الشق الأول : الرد العام ................................................. ص 14
- القسم الأول .......................................................... ص 14
- القسم الثاني ......................................................... ص 18
- الشق الثاني : الرد التفصيلي ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة المعتزلة ........................................... ص 19
- الجواب على أدلة القائلين بتأويل بعض الصفات ..................... ص 21
- الجواب على أدلة تأويل نفي العلو وتأويل النصوص الدالة عليه ..... ص 21
- الجواب على أدلة نفي صفات الذات .................................. ص 22
- الجواب على ما ذكروه في نفي المحبة ............................... ص 23
- خلاصة مهمة جدا .................................................... ص 25
- المطلب الخامس : تتمة مهمة مشتملة على أمثلة موضحة لما تقدم ........ ص 27
- المثال الأول : آيات الاستواء ............................................ ص 27
- المثال الثاني : آيات الكلام ............................................... ص 29
- أهم أقوال المنتسبين إلى القبلة في توجيه نسبة الكلام إلى الله ....... ص 29
- القول الأول : قول سلف الأمة وأئمة السنة والحديث ............. ص 29
- القول الثاني : قول المعتزلة ...................................... ص 31
- القول الثالث : قول الأشاعرة ..................................... ص 31
- الأدلة على بطلان قولهم في كلام الله ................................. ص 32
- المثال الثالث : آيات الرؤية .............................................. ص 39
[1] كما ذكر الرازي في تفسيره 7/170، ولهذا قال في المواقف في علم الكلام ( ودلائله يقينية يحكم بها العقل ، وقد تأيدت بالنقل ) ص 8 ، فجعل الاعتماد على الأدلة العقلية ، وأما النقلية فهي تؤيدها فحسب .
[2] ينظر في الجواهر والأجسام المواقف ص 182ـ 188، شرح العقائد 46ـ 56 .
[3] ينظر في تفصيل القول بتماثل الأجسام مع المصدرين السابقين ، درء التعارض 1/116، 5/194ـ 2020، 7/112ـ 114 ، وقد ذكر أن القول الصحيح في انقسام الأجسام أنها تتجزأ حتى تصير إلى أجسام أخرى ،كما يستحيل الماء إلى هواء بالحرارة وأن القول بالجوهر الفرد لا يقول به أكثر العقلاء ، والأجسام غير متماثلة عندهم أيضا ، وينظر كذلك تلبيس الجهمية 1/518، والدرء 3/442، 445، وقد عزى الجرجاني القول بتماثل الأجسام إلى المتكلمين ، التعريفات للجرجاني 75، والآمدي كذلك ، نقلا عن الدرء 4/176 .
[4] ينظر الإرشاد للجويني ص 44ـ 45، والتمهيد للباقلاني ص 39ـ 40 ، وشرح العقائد ص 55ـ 57 ، والمواقف ص 101 .
[5] ينظر المواقف 101، والتمهيد ص 38 .
[6] ينظر في هذه الطريقة ، الإرشاد للجويني ص 39ـ 48، ولمع الأدلة له ص 76ـ 80، التمهيد 41، 42، شرح العقائد ص 54ـ 56 .
[7] حكاه ابن تيمية عن أبي المعالي ، الدرء 1/303، ويدل عليه كلامه في الإرشاد ص 151 .
[8] ينظر في هذه الطريقة ، الرسالة النظامية 16ـ 27، وقد ذكر ابن رشد أن الذي استنبطها هو أبو المعالي ، ثم شرحها ابن رشد بإيجاز ووضوح ، مناهج الأدلة ص 144، وينظر أيضا مقدمة الدكتور محمود حسين للكتاب ص 15 ، وكذلك الدرء لان تيمية 3/75ـ 76، وهذه الطريقة تنصب على إثبات الصانع بدون توسط إثبات حدوث جميع الجواهر ، كما صرح بذلك الرازي فيما نقل عنه في المصدر السابق .
[9] ينظر شرح المواقف للجرجاني 3/2، 5 .
[10] ممن ذكرها الرازي فإنه قال : الاستدلال على الصانع إما أن يكون بالإمكان ، أو الحدوث ، وكلاهما إما في الذات ، وإما في الصفات ، وينظر معالم أصول الدين للرازي ص 38 ، وذكر مثل هذا في المواقف ص 266، وقد اقتصر على هذه الطريقة الأشعري في اللمع ص 17ـ 18 ، واقتصر على الأولى كل من الجويني في إرشاده ولمعه ، والباقلاني في تمهيده ، والتفتازاني كما تقدم عنهم جميعا ، وكذلك اقتصر عليها السنوسي في شرح أم البراهين (151ـ 154) .
[11] ينظر كلام ابن تيمية الدرء 3/83 .
[12] عزاه في حاشية الدرء إلى نهاية العقول في دراية الأصول للرازي مخطوط ، ينظر العزو في الدرء 3/ 82 .
[13] ينظر اللمع في الرد على أهل الزيغ والبدع ص 18ـ 19 .
[14] ينظر العزو إلى كتاب الرازي دراية الأصول الذي مر ذكره آنفا .
[15] ينظر شرح الأصول الخمسي لعبد الجبار الهمداني ص 195ـ 196 .
[16] المصدر السابق 201 .
[17] ينظر المجموع 6/339 .
[18] متشابه القرآن له 1/8 .
[19] المصدر السابق 1/19 .
[20] هذه عبارة الغزالي في المستصفى 120 .
[21] ينظر شح العقائد النسفية 94ـ 95 .
[22] أما أبو المعالي فعبارته ( ولا وجه لحمل النزول على التحول ، وتفريغ مكان وشغل غيره ، فإن ذلك من صفات الأجسام ونعوت الأجرام ، وتجويز ذلك يؤدي إلى طرفي نقيض ... إلخ ) الإرشاد 151، وقوله ( التحول وتفريغ مكان وشغل غيره ) يريد به حلول الحوادث ، ولذلك قال إنه يلزم منه القدح في دليل حدوث العالم ، وقد ذكر في أوائل كتابه أن الدليل على حدوث العالم قيام الأعراض الحادثة ، في جواهر العالم ، والأعراض الحادثة تتجدد ، وتأتي وتزول ، هذا مع أن المثبتين للنزول لا يقولون هو تفريغ مكان وشغل غيره ، بل هذا لا يقوله إلا من لايفهم من صفات الله تعالى ، إلا ما يلزم من نقص المخلوقات ، بل يقولون ينزل كيف يشاء نزولا ندرك حقيقته ، وينظر أيضا في دليهم على نفي الصفات الفعلية قواعد العقائد 186 .
[23] أساس التقديس 102 .
[24] بيان تلبيس الجهمية 1/143 .
[25] ينظر هذا الدليل في أساس التقديس ص 45، وتفسير الرازي 11/173، وقدمه في الموضعين .
[26] لمع الأدلة في قواعد عقائد أهل الملة للجويني 95 .
[27] الإرشاد للجويني ص 9 ، واستدل الغزالي بأن القول بالجهة يوجب حلول الحوادث من جهة أنه إما أن يكون متحركا ، أو ساكنا ، وكلاهما أعراض حادثة ، ينظر قواعد العقائد ص 158، واقتصر أيضا على هذه الحجة .
[28] ينظر تفسير الرازي 12/ 174، وأساس التقديس له .
[29] ينظر في هذا الدليل تفسير الرازي ( 12/42، ومجموع الفتاوى 6/69، 6/109، 13/303.
[30] رواه البخاري الفتح 8/395 .
[31] التمهيد للباقلاني 47 .
[32] الإرشاد 212 .
[33] مجموع ابن تيمية 11/358، وينظر كذلك 10/74، 6/69، 6/114 .
[34] ينظر تفسير الرازي 1/262، والتمهيد للباقلاني ص 47 ، ومجموع ابن تيمية 6/117ـ 123.
[35] ينظر الإرشاد للجويني 44، فقد جوز الصالحي من المعتزلة خلو الجواهر عن الإعراض ، وإذا جاز هذا سقط هذا الدليل على حدوث الجواهر ، وبالتالي لايمكن جعل هذا الدليل حجة في صرف ظواهر الوحي التي تقضي باتصاف الله تعالى بالصفات الفعلية الاختيارية كالاستواء وغيره ، ولهذا قال أبو المعالي ( فإذا جوز الخصم عروّ الجواهر عن الحوادث مع قبوله لها صحة وجوازا ، فلا يستقيم مع ذلك دليل على استحالة قبول الباري تعالى للحوادث ) ص 46 .
[36] ينظر مناهج الأدلة 149 .
[37] ينظر جامع الرسائل تحقيق محمد رشاد سالم 2/8ـ9 .
[38] ينظر تلبيس الجهمية 1/496، وصرح التفتازاني في شرح العقائد بضعف أدلة الجوهر ، وحكى عن الرازي التوقف فيه ص 52 .
[39] مناهج الأدلة 138 .
[40] ينظر الدرء 4/176 .
[41] كما نقل ابن تيمية عن الآمدي الدرء 4/247 .
[42] ومن ذلك ما ذكره ابن تيمية في المصدر السابق ، أن عالما مشهورا في الكلام والجدل اجتمع بالشيخ إبراهيم الجعبري يوما ، فقال له ( بت البارحة أفكر إلى الصباح في دليل على التوحيد سالم من المعارضة فما وجدته ) وقال ابن تيمية أيضا ( وكذلك حدثني من قرأ على ابن واصل الحموي أنه قال ( أبيت بالليل وأستلقي على ظهري وأضع الملحفة على وجهي ، وأبيت أقابل أدلة هؤلاء بأدلة هؤلاء ، وبالعكس ، وأصبح وما ترجح عندي شيء 3/263 .
[43] تفسير الآلوسي 11/124 .
[44] ذم العلماء للكلام مشهور حدا ، كقول الشافعي حكمي على أهل الكلام ، أن يضربوا بالحديد والنعال ويطاف بهم بين العشائر والقبائل ،ويقال : هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة ، وأقبل على الكلام ) وقول أحمد ( لا يفلح صاحب كلام أبدا ) ، وقال مالك ( لاتجوز شهادة أهل البدع ، وقال ابن خويز منداد ( أهل الأهواء عند مالك وسائر أصحابنا ، هم أهل الكلام ، فكل متكلم فهو من أهل البدع ، وقال أبو يوسف ( من طلب العلم بالكلام تزندق ) ينظر الدرء 7/146ـ 159، ومجموع ابن تيمية 16/472، 473، وبيان تلبيس الجهمية 1/101، 123، وقال أبو حامد وأما منفعته فقد يظن أن فائدته كشف الحقائق ومعرفتها على ماهي عليه ، وهيهات ، فليس في الكلام وفاء بهذا المطلب الشريف ، فاسمع هذا ممن خبر الكلام ثم قلاه بعد حقيقة الخبرة ، وبعد التغلل في إلى منتهى درجة المتكلمين وجاوز ذلك إلى التعمق في علوم أخرى سوى نوع الكلام ، وتحقق أن الطريق إلى حقائق المعرفة من هذا الوجه مسدود ) إحياء علوم الدين 1/97 .
[45] ما بين القوسين عبارة ابن رشد في مناهج الأدلة 153، وينظر في هذا الدليل الشرعي لاثبات الصانع ، الذي أشار إليه ابن رشد هنا ، مناهج الأدلة لان رشد 150ـ 153، ومع أن هذا الرجل فيلسوف إلا أنه صرح أن طريقة القرآن في إثبات وجود الله ، تخالف طرق المتكلمين ، وأنها تنحصر في طريقين ، طريقة العناية ، وطريقة الاختراع ، ومثل للأولى وللثانية بالآيات ، وقال ابن تيمية بعد أن ذكر كلامه : قلت ذكره لهذين النوعين ،كلام صحيح حسن في الجملة ، وإن كان في ضمنه مواضع قصر فيها ) تلبيس الجهمية 1/176، وينظر كذلك هذا المصدر 1/176ـ 181 .
[46] كما يدل على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : كل مولود يولد على الفطرة ) رواه البخاري ينظر فتح الباري 3/246 .
[47] ينظر مجموع ابن تيمية 13/304 .
[48] ينظر في إبطال استعمال القياسين ، والتمثيل لقياس الأولى درء التعارض 7/322ـ 323 .
[49] ينظر في ذكر أمثلة هذا القياس من القرآن الدرء 7/363 .
[50] ينظر الرسالة الأكملية لابن تيمية 17 .
[51] شرح الطحاوية 126 .
[52] شرح الطحاوية 129 .
[53] ينظر ابن تيمية السلفي للشيخ خليل هراس ص 98، وما هنا عبارة عن اختصاره لكلام ابن تيمية في منهاج السنة 1/233، 237 .
[54] ص 128 .
[55] 20 .
[56] ما بين القوسين كلام ابن تيمية مع بعض التصرف المجموع 6/346، وما تقدم كذلك من نفس المصدر ، وينظر كذلك في الجواب على دليل التركيب الدرء 5/142ـ 145 .
[57] شرح الطحاوية 129.
[58] ينظر في هذا الجواب المجموع 17/317 .
[59] ينظر في الجواب على أدلة نفي العلو ، مجموع الفتاوى ( 17/ 313ـ 325) ، والدرء ( 4/156ـ 162) و ( 4/220 فما بعدها ، وينظر في مسألة الجهة ، كتاب أقاويل الثقات لمرعي الكرمي ص 92ـ 95 .
[60] ينظر في هذا الجواب مجموع ابن تيمية 6/109، وهذه الألفاظ كالجسم ، والجوهر ، والتركيب ، والانقسام ، لاتثبت ، ولا تنفى إلا بعد الاستفسار عن معانيها ، فما كان حقا اثبت ولم يستعمل إلا اللفظ الذي لا يحتمل غيره ، وما كان باطلا نفي ولا تطلق هذه الألفاظ المشتبهة على الله تعالى لما فيها من الإجمال الذي يشتمل على الحق والباطل ، أفاده ابن تيمية المجموع 17/304 .
[61] ينظر مجموع ابن تيمية 6/117 .
[62] يعني لم يقل أحد من أهل السنة ، ينظر حاشية ابن عابدين على الدر المختار 1/7 .
[63] تفسير الآلوسي 1/60 .
[64] لمع الأدلة للجويني 95 .
[65] المصدر السابق .
[66] ينظر فتح المجيد شرح كتاب التوحيد ص 483، والإسناد المنقول ظاهر الصحة ، قال المصنف ( وروى عبد الرزاق عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن ابن عباس ، فذكره .
[67] ينظر رسالة الرد على الجهمية ، للإمام احمد ص 65، ضمن مجموعة عقائد السلف ، وذكر ابن تيمية أن كلام احمد يحتمل إرادته التشابه اللازم لبعض الآيات ، وذكر ما يدل على جواز هذا الإطلاق ينظر المجموع 17/383 .
[68] تقدم تخريجه في الجزء الأول من هذا الكتاب .
[69] شرح أصول اعتقاد أهل السنة 3/399 .
[70] المصدر السابق 3/399، وعزاه الحافظ في الفتح إلى كتاب الفاروق للهروي 13/406، وينظر أيضا الذهبي مختصر العلو 195، واللسان 14/414 .
[71] فتح الباري 13/406 .
[72] ينظر الصواعق المرسلة 1/195ـ 196 .
[73] الإتقان 2/8ـ 9 .
[74] ص180 .
[75] شرح أصول اعتقاد أهل السنة 2/235 .
[76] المصدر السابق 2/235ـ 236 .
[77] المصدر السابق 2/234ـ 312 .
[78] المصدر السابق 2/312 .
[79] المصدر السابق 2/313ـ 330 .
[80] مجموع ابن تيمية 12/304 .
[81] ينظر شرح الأصول الخمسة ص 528 .
[82] ص 294 .
[83] ينظر شرح العقائد ص 94 ـ 95، وينظر في هذا المذهب ، أصول الدين للبغدادي ص 106، إرشاد الجويني ص 117 ـ 119 ، المستصفى للغزالي ص 120 ، قواعد العقائد له ص 182ـ 183 .
[84] ينظر في هذا التبصير في الدين ص 150 ، مجموع ابن تيمية 12/165 .
[85] ذكر أبو نصر السجزي في كتاب الرد على من أنكر الحرف والصوت ، أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان في أن الكلام لايكون إلا حرفا وصوتا حتى خالف في ذلك ابن كلاب ومن تبعه ص 89 ، وكذلك ذكر ابن تيمية أنه لم يقل بهذا القول في الكلام إلا هذه الطائفة المجموع 6/528 .
[86] ينظر قواعد العقائد للغزالي ص 185 .
[87] ينظر مجموع الفتاوى 12/130 .
[88] المصدر السابق 12/123 .
[89] مجموع ابن تيمية 12/130ـ 131 .
[90] ينظر شرح الطحاوية 197.
[91] ينظر المجموع لان تيمية 6/295ـ 296، 12/194 .
[92] المصدر السابق 12/122، وشرح الطحاوية 191.
[93] رواه البخاري الفتح 9/388 .
[94] رواه النسائي في سننه 3/19، وأبو داود 1/567 .
[95] شرح الطحاوية 191 .
[96] قال الإمام أبو نصر السجزي رحمه الله في الرد على من أنكر الحرف والصوت ، ( وتعلقوا بشبه منها قول الأخطر أن البيان لفي الفؤاد ... فذكر البيت ، ثم قال : فغيروه وقالوا : إن الكلام لفي الفؤاد ) 92 .
[97] شرح الطحاوية ص 198، وينظر مجموع الفتاوى 6/296ـ 297 .
[98] حاشية الدسوقي على شرح أم البراهين للسنوسي ص 113 ، وانظر المستصفى للغزالي 120 ، فقد ذكر قريبا من عبارته ، وهذا التأويل بمني على جواز سماع الكلام النفسي ، وقد قال به بعض الاشعرية ينظر نظم الفرائد ص 15، 16 .
[99] مجموع ابن تيمية 12/132، 12/175 .
[100] أما الرؤية ـ أعني رؤية الروائح .. إلخ ، فذكره في المواقف ص 302 ، جوابا على من ألزمهم بأن مالا يوجد لاتصح رؤيته ، فذكروا أن مصحح الرؤية الوجود فقط ، والتزموا من اجل ذلك صحة رؤية الروائح والمطعومات ، والملموسات ، وأما السماع فكذلك نقله في نظم الفرائد عن الاشعري ، أنه يتعلق بكل موجود والكلام النفسي موجود فيصح سماعه ص 16 ، وحكاه ابن القيم عن الاشعري ومن اتبعه قال ( وعنده ذلك المعنى سمع من الله حقيقة ، ويجوز أن يرى ، ويشم ، ويذاق ، ويلمس ، ويدرك بالحواس الخمس ، إذ المصحح عنده لإدراك الحواس هو الوجود فكل موجود تعلق الادراكات كلها به ، كما قرره في مسالة رؤية ما ليس في جهة من الرائي ) مختصر الصواعق لابن القيم 513 .
[101] ينظر تفسير الرازي 22/16 .
[102] قال أبو نصر السجزي في الرد على من أنكر الحرف والصوت ( وأيضا فلو كان غير حرف ، وكانت الحروف عبارة عنه ، لم يكن بد من أن يحكم لتلك العبارات بحكم ، إما أن يكون الله أحدثها في صدر أو لوح أو أنطق بها بعض عبيده ، فتكون منسوبة إليه ص 191.
[103] مجموع ابن تيمية 12/378 .
[104] شرح العقائد النسفية 92ـ 93 .
[105] مختصر الصواعق لابن القيم 518 .
[106] ينظر في علاقة مسألة الكلام بمراتب الوجود ، مختصر الصواعق المرسلة ص 535، مجموع الفتاوى 12/239 ، 12/289، 12/385 .
[107] مجموع ابن تيمية 12/171 .
[108] المصدر السابق .
[109] المصدر السابق 12/291 .
[110] المصدر السابق 12/281 .
[111] متشابه القرآن لعبد الجبار 1/255 .
[112] تفسير ابن كثير 8/373 .
[113] شرح الطحاوية ص 207 ، وقوله عندهم في الوجه الأول يعني المعتزلة ، فإنهم لا يجوزون على الأنبياء حتى الصغائر فكيف بجهل ما يستحيل على الله .
[114] الكشاف 1/412 .
[115] متشابه القرآن له 1/291 .
[116] 1/293 .
[117] تفسير ابن كثير 3/471 .
[118] ينظر شرح الطحاوية 205 .
[119] الصحاح 2/830 .
[120] معجم مقاييس اللغة 5/444 .
[121] شرح الطحاوية 205 .
[122] الكشاف 4/192 .
[123] المصدر السابق .
[124] شرح الطحاوية 208 .
أم البراهين لشبهات المعطّلين والمؤوّلين والمفوّضين لصفات الله رب العالمين - الجزء 1-2
أم البراهين لشبهات المعطّلين والمؤوّلين والمفوّضين لصفات الله رب العالمين - الجزء 2-2
No comments:
Post a Comment