Sunday, August 1, 2010

تَوحِيدُالأسمَاء وَالصفَاتِ : منزلتُه، أصولُه، خصائصُهُ - الرد على المفوضة

بسم الله الرحمن الرحيم

أربع حلقات (6-7-8-9) في الرد على المفوضة 
للكاتب : عبد الله السيباني

َتوحِيدُالأسمَاءوَالصفَاتِ:منزلتُه،أصولُه،خصائصُهُ (الحلقة السادسة) -الرد على المفوضة-
http://www.alaqida.net/vb/showthread.php?t=347

توحيُدالأسمَاءوالصفَات:منزلتُهُ،أصولُه،خصائصُهُ(الحلقة السابعة) الرد على المفوضة
http://www.alaqida.net/vb/showthread.php?t=381

توحيداُلأسماءوالصفاتِ:منزلتُهُ،أصولهُُ،خصائصُهُ(الحلقة الثامنة)-الردعلى المفوضة
http://www.alaqida.net/vb/showthread.php?t=430

توحيدُالأسماءوالصِّفات:منزلتهُ،أصولهُ،خصائصهُ(الحلقة التاسعة)-الردعلى المفوضة-
http://www.alaqida.net/vb/showthread.php?t=455
 

تَوحِيدُالأسمَاءوَالصفَاتِ:منزلتُه،أصولُه،خصائصُهُ (الحلقة السادسة) -الرد على المفوضة-

هذه الحلقة السادسة من هذه السلسلة المباركة،و قد خصصتها للرد على مذهب التفويض ؛ بمناسبة الكلام على نوع الإثبات الذي عليه أهل السنة والجماعة،و أعتذر عن تأخرها عن سابقتها؛نظراً لبعض العوارض،و بالله التوفيق.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
المَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : بَيَانُ نَوْعِ هَذَا الإثْـبَاتِ ، وَهُو إِثْبَاتُ أَلْفَاظِ الأَسْمَاءِ ، وَ الصِّفَاتِ الوَارِدَةِ فِي الكِتَابِ وَالسُّـنَّةِ مَع مَا تَضَمَّـنَتْهُ مِن المَعَانِي ؛ خِلافَـاً لأَهْلِ التَّحْرِيْفِ ( التَّـأْويْلِ ) ، وَ التَّفْوِيْضِ :

-إنَّ إثبات الأسماء و الصفات الواردة في الكتاب و السنة يتضمن : إثبات ألفاظها كما وردت من غير زيادة و لا نقصان ، و اعتقاد ما تدل عليه من المعاني اللائقة بالله -تعالى- ؛ بحسب مقتضى اللسان العربي ، و دلالة السياق ؛ فليست معانيها مما لا يُمكن للمكلَّف فهمه كما يقول أرباب التفويض ، و ليست بعيدةً عن مُقْتَضَى اللسان العربي ، و لا عن سياق الكلام كما يقول أرباب التحريف (التأويل)؛لا سيما وأنها أكثر علوم القرآن ذكراً،و قد تنوعت دلالته عليها ما لم تتنوع على الدلالة على ما سواها؛"فقد تطابقتْ نصوص الكتاب و السنة و الآثار على إثبات الصفات لله ،و تنوعت دلالتها عليها أنواعاً تُوجب العلم الضروري بثبوتها ،و إرادة المتكلِّم اعتقادَ ما دلت عليه.
-و القرآن مملوءٌ من ذِكْر الصفات ،و السنة ناطقةٌ بمثل ما نطق به القرآن ،مقرِّرة له ،مصدقة له ،مشتملة على زيادة في الإثبات :
-فتارة بذِكْر الاسم المشتمل على الصفة كالسميع ،البصير ،العليم ،القدير، العزيز ،الحكيم.
-و تارة بذِكْر المصدر –و هو الوصف الذي اشتُقَّتْ منه تلك الصفةُ- كقوله : "أنزله بعلمه"[النساء:166]، و قوله : "إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين"[الذاريات:58]، و قوله : " إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي"[الأعراف:144]، و قوله : "قال فبعزتك لأغوينَّهم أجمعين"[ص:82]، و قوله –صلى الله عليه و سلم- في الحديث الصحيح : "حجابه النور لو كشفه لأحرقت سُبُحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه" ،و قوله في دعاء الاستخارة : "اللهم إني أستخيرك بعلمك ،و أستقدرك بقدرتك" ،و قوله : "أسألك بعلمك الغيب ،و قدرتك على الخلق" ،و قول عائشة : " الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات" ،و نحوه.
-و تارة يكون بذكْرِ حُكْم تلك الصفةِ كقوله –تعالى- : "قد سمع الله"[المجادلة:1]، و : "إنني معكما أسمع وأرى"[طه:46]، و قوله : "فقدرنا فنعم القادرون"[المرسلات:23]، و قوله : "علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم"[البقرة:187]، و نظائرِ ذلك.
و يصرِّح في الفوقية بلفظِها الخاصِّ ،و بلفظ "العلو" و "الاستواء" و "أنه في السماء" و "أنه ذو المعارج" و "أنه رفيع الدرجات" و "أنه تعرج إليه الملائكه" و "تنـزل من عنده" و "أنه ينزل إلى سماء الدنيا" و "أن المؤمنين يرونه بأبصارهم عياناً" من فوقهم ،إلى أضعاف أضعاف ذلك مما لو جُمعت النصوص ،و الآثار فيه لم تَنْقص عن نصوص الأحكام و آثارها".["الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"1/320-324]
ثم إنه –تعالى- يذكر صفاته، و يقرِّرها عند ذكر آلهة المشركين "-التي عبدوها من دونه ،و جعلوها شركاء له- ؛فيذكر –سبحانه- من صفات كماله ،و علوه على عرشه ،و تكلمه ،و تكليمه ،و إحاطة علمه ،و نفوذ مشيئته ما هو منتفٍ عن آلهتهم ؛فيكون ذلك من أدلِّ الدليل على بطلان إلهيتِها ،و فساد عبادتها من دونه.
و يذكر ذلك عند دعوته عبادَه إلى ذكره ،و شكْره ،و عبادته ؛ فيذكر لهم من أوصاف كماله ،و نعوت جلاله ما يجذب قلوبَهم إلى المبادرة إلى دعوته ،و المسارعة إلى طاعته ،و التنافس في القرب منه.
و يذكر صفاته –أيضاً- عند ترغيبه لهم ،و ترهيبه ،و تخويفه ؛لتعرف القلوب مَنْ تخافه ،و ترجوه ،و ترغب إليه ،و ترهب منه.
و يذكر صفاته –أيضاً- عند أحكامه ،و أوامره ،و نواهيه ،فقلَّ أَنْ تجد آية حُكْمٍ من أحكام المكلَّفين إلا و هي مختتمة بصفةٍ من صفاته ،أو صفتين ،و قد يَذْكر الصفة في أول الآية ،و وسطها ،و آخرها كقوله –تعالى- : "قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير"[المجادلة:1] ، فيذكر صفاته عند سؤال عباده لرسوله –صلى الله عليه و سلم- عنه ،و يذكرها عند سؤالهم له عن أحكامه حتى إنَّ الصلاة لا تنعقد إلا بذكر أسمائه و صفاته ؛فذِكْر أسمائه و صفاته روحها ،و سرها ،يصحبها من أولها إلى آخرها ،و إنما أمر بإقامتها ليذكر بأسمائه و صفاته .
و أمر عباده أن يسألوه بأسمائه و صفاته ؛ففتح لهم باب الدعاء رغباً و رهباً ليذكره الداعي بأسمائه و صفاته ؛فيتوسل إليه بها ،و لهذا كان أفضل الدعاء ،و أجوبه ما توسل فيه الداعي إليه بأسمائه و صفاته ؛قال الله –تعالى- : "و لله الأسماء الحسنى فادعوه بها"[الأعراف:180] ، و كان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين آية الكرسي ،و فاتحة "آل عمران" لاشتمالهما على صفة "الحياة" المصحِّحَة لجميع الصفات ،و صفة "القيومية" المتضمنة لجميع الأفعال ؛و لهذا كانت سيدة آي القرآن ،و أفضلها ؛و لهذا كانت سورة الإخلاص تعدل ثلث القرآن ؛لأنها أُخلصت للخبر عن الرب –تعالى- و صفاته دون خلقه و أحكامه و ثوابه و عقابه ،و سمع النبي –صلى الله عليه و سلم- رجلاً يدعو : "اللهم إني أسألك بأنك أنت الله -الذي لا إله إلا أنت ،المنان ،بديع السماوات و الأرض - ،ياذا الجلال و الإكرام ،يا حي يا قيوم" ،و سمع آخر يدعو : "اللهم إني أسألك بأني أشهد أنك أنت الله -الذي لا إله إلا أنت- ،الأحد ،الصمد -الذي لم يلد ،و لم يولد ،و لم يكن له كفوا أحد" ؛فقال لأحدهما : "لقد سألت الله باسمه الأعظم -الذي إذا دُعي به أجاب ،و إذا سُئل به أَعطى" ،و قال للآخر : "سَلْ تُعْطَه" ؛و ذلك لما تضمنه هذا الدعاء من أسماء الرب و صفاته ،و أحب ما دعاه الداعي به أسماؤه و صفاته ،و في الحديث الصحيح عنه أنه قال : "ما أصاب عبداً قط هم ،و لا حزن فقال : "اللهم إني عبدك ،و ابن عبدك ،و ابن أمتك ،ناصيتي بيدك ،ماضٍ فيَّ حكمك ،عدل فيَّ قضاؤك ،أسألك بكل اسم هو لك :سميت به نفسك ،أو علمته أحداً من خلقك ،أو استأثرت به في علم الغيب عندك أَنْ تجعل القرآن ربيع قلبي ،و نور صدري ،و جِلاء حزني ،و ذهاب همي و غمي" إلا أذهب الله همَّه و غمَّه ،و أبدله مكانه فرحاً" ؛قالوا : "أفلا نتعلمهن يا رسول الله؟ قال : "بلى ،ينبغي لمن يسمعهن أن يتعلمهن".
و قد نبه –سبحانه- على إثبات صفاته و أفعاله بطريق المعقول ؛فاستيقظت لتنبيهه العقول الحيَّة ،و استمرت على رقدتها العقول الميتة :
فقال الله –تعالى- في صفة "العلم" : "ألا يعلم مَنْ خلق و هو اللطيف الخبير"[الملك:14] ، فتأمَّل صحة هذا الدليل مع غاية إيجاز لفظه و اختصاره.
و قال –سبحانه- : "أفمن يخلق كمن لا يخلق"[ النحل:17] ، فما أصح هذا الدليل ،و ما أوجزه.
و قال –تعالى- في صفة "الكلام" : "و اتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلاً جسداً له خوار ألم يروا أنه لا يكلمهم و لا يهديهم سبيلاً"[ الأعراف:148] ، نبه بهذا الدليل على أنَّ مَن لا يكلِّم ،و لا يَهدي لا يصلح أنْ يكون إلهاً ، و كذلك قوله في الآية الأخرى عن العجل: "أفلا يرون ألا يرجع إليهم قولاً و لا يملك لهم ضراً و لا نفعاً"[طه:89] ،
فجعل امتناع صفة الكلام ،و التكليم ،و عدم ملك الضر و النفع دليلاً على عدم الإلهية ،و هذا دليل عقلي سمعي على أنَّ الإله لا بدَّ أَنْ يكلم ،و يتكلم ،و يملك لعابده الضر و النفع ،و إلا لم يكن إلهاً.
و قال –تعالى- : "ألم نجعل له عينين و لساناً و شفتين و هديناه النجدين"[البلد:8-10] ،نبَّهك بهذا الدليل العقليِّ القاطع أَنَّ الذي جعلك تبصر ،و تتكلم ،و تعلم أولى أَنْ يكون بصيراً ،متكلِّماً ،عالماً ؛فأيُّ دليل عقلي قطعي أقوى من هذا ،و أبين و أقرب إلى المعقول.
و قال –تعالى- في آلهة المشركين المعطِّلين : "ألهم أرجل يمشون بها أم لهم أيدٍ يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها"[الأعراف:195] ، فجعل –سبحانه- عدم البطش ،و المشي ،و السمع ،و البصر دليلاً على عدم إلهية مَنْ عدمت فيه هذه الصفات ،فالبطش و المشي من أنواع الأفعال ،و السمع و البصر من أنواع الصفات ،و قد وصف نفسه –سبحانه- بضدِّ صفة أربابهم ،و بضد ما وصفه به المعطِّلة و الجهمية ؛فوصف نفسه بالسمع و البصر و الفعل باليدين ،و المجيء و الإتيان وذلك ضد صفات الأصنام -التي جَعَل امتناعَ هذه الصفات عليها منافياً لإلهيتها- ؛فتأمل آيات التوحيد ،و الصفات في القرآن على كثرتها ،و تفننها ،و اتساعها ،و تنوعها :كيف تجدها كلَّها قد أثبتت الكمال للموصوف بها ،و أنه المتفرد بذلك الكمال ؛فليس له فيه شبهٌ و لا مثالٌ".["الصواعق المرسلة"3/910-916]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
-و لا يلزم من إثبات هذه المعاني التمثيل أو التكييف ؛ فهما شئ وراء ذلك ، و سيأتي بيان ذلك بالتفصيل في الكلام على الأصلين : الثاني و الثالث بإذن الله –تعالى-.

-و سأذكر هنا الأدلة على التمكُّن من فهم هذه المعاني ، و أبيِّن أن هذا مما أجمع عليه السلف -رحمهم الله- ، و أذكر شبه المفوِّضة ، و الردَّ عليها مستعيناً بالله –تعالى-.

-و قبل البدء في ذلك أُنَـبِّه إلى أنَّ مما يحول بين القلب وبين فهم القرآن عموماً ، وفهم نصوص الأسماء والصفات خصوصاً ما أشربه القلب من المعاصي والبدع ؛ كما قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله-(ت751)و هو يفسر قوله –تعالى- :"لا يمسه إلا المطهرون"[الواقعة:79]: "و دلت الآية بإشارتها ،و إيمائها على أنه لا يدرك معانيه ،و لا يفهمه إلا القلوب الطاهرة ،و حرام على القلب المتلوِّث بنجاسة البدع ،و المخالفات أن ينال معانيه ،و أن يفهمه كما ينبغي ،قال البخاري في صحيحه في هذه الآية : "لا يجد طعمه إلا مَنْ آمن به"،و هذا –أيضاً- من إشارة الآية ،و تنبيهها ،و هو أنه لا يلتذ به ،و بقراءته ،و فهمه ،و تدبره إلا من شهد أنه كلام الله ،تكلم به حقاً ،و أنزله على رسوله –صلى الله عليه و سلم- وحياً ،و لا ينال معانيه إلا مَنْ لم يكن في قلبه حرجٌ منه بوجه من الوجوه ؛فمَنْ لم يؤمن بأنه حقٌّ من عند الله ففي قلبه منه حرج ،و من لم يؤمن بأن الله –سبحانه- تكلم به وحياً ،و ليس مخلوقاً من جملة مخلوقاته ففي قلبه منه حرج ،و من قال : "إنَّ له باطناً يخالف ظاهره ،و إنَّ له تأويلاً يخالف ما يُفهم منه" ففي قلبه منه حرج ،و من قال : "إنَّ له تأويلاً لا نفهمه ،و لا نعلمه ؛و إنما نتلوه متعبدين بألفاظه" ففي قلبه منه حرج ،و من سلَّط عليه آراء الآرائيين ،و هذيان المتكلمين ،و سفسطة المسفسطين ،و خيالات المتصوفين ففي قلبه منه حرج ،و من جعله تابعاً لنحلته ،و مذهبه ،و قول مَنْ قلده دينه ؛ ينـزِّله على أقواله ،و يتكلف حمله عليها ففي قلبه منه حرج ،و من لم يحكِّمه ظاهراً و باطناً في أصول الدين و فروعه ،و يسلم ،و ينقاد لحكمه أين كان ففي قلبه منه حرج ،و من لم يأْتَمِر بأوامره ،وينـزجر عن زواجره ،و يصدق جميع أخباره ،و يحكم أمره و نهيه و خبره ،و يَرُدّ له كلَّ أَمْر و نَهْي و خَبَرٍ خالفه ففي قلبه منه حرج ،و كل هؤلاء لم تمس قلوبهم معانيه ،و لا يفهمونه كما ينبغي أن يفهم ،و لا يجدون من لذة حلاوته و طعمه ما وجده الصحابة و من تبعهم.
و أنت إذا تأملت قوله : "لا يمسه إلا المطهرون" ،و أعطيت الآية حقَّها من دلالة اللفظ ،و إيمائه و إشارته و تنبيهه و قياس الشيء على نظيره و اعتباره بمشاكله ،و تأملت المشابهة -التي عقدها الله –سبحانه- ،و ربطها بين الظاهر و الباطن - فهمت هذه المعاني كلَّها من الآية ،و بالله التوفيق"ا.ه["التبيان في أقسام القرآن"ص143-144]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
أدلة فهم معاني الأسماءوالصفات:

-لقد دل على ذلك النقل والعقل ،أما النقل فمن عدة أوجه :

الوجه الأول : أَنَّ الله –تعالى- أخبر أنه أنزل القرآن للتدبُّر ؛فقال –تعالى- : "كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته و ليتذكر أولوا الألباب "[ص:29].
و أنكر على مَنْ لم يتدبرْه ؛فقال -تعالى- : "أفلا يتدبرون القران ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً"[النساء:82]، و قال -تعالى- : "أفلم يدبروا القول أم جاءهم ما لم يأت آباءهم الأولين" [المؤمنون:68] ،و قال -تعالى- : "أفلا يتدبرون القران أم على قلوب أقفالها" [محمد:24].
و توعَّد مَنْ أعرض عن ذلك ؛فقال –تعالى- : "ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه "[الكهف:57] ،و قال -تعالى- : "و من أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون"[السجدة:22]، و قال -تعالى- : "من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً" [طه:100].
و أنكر على من لم يفقهه ؛فقال -تعالى- : "فما لهؤلاء القوم لا يكادون يفقهون حديثاً"[النساء:78].
و ذمَّه كذلك ؛فقال –تعالى- : " و منهم من يستمع إليك و جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقراً و إن يروا كل آية لا يؤمنوا بها حتى إذا جاؤوك يجادلونك يقول الذين كفروا إن هذا إلا أساطير الأولين" [الأنعام:25] ، و قال -تعالى- : " وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم و قراً و إذا ذكرت ربك في القران وحده ولوا على أدبارهم نفوراً" [الإسراء:46]،و قال -تعالى- : "إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه و في آذانهم وقراً و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبداً"[الكهف:57].
و ذمَّ مَنْ كان حظُّه منه سماع الصوت ،و التلاوة دون فهم المعنى ؛فقال -تعالى- : "وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ"[البقرة:171]،و قال -تعالى- : " أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً"[الفرقان:44]،و قال -تعالى- : " وَ مِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ"[محمد:16] ،و قال -تعالى- : "وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلاَّ أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ"[البقرة::78].

و وجه الدّلالة مِنْ ذلك من وجهين :

الوجه الأول :أَنَّ هذه النصوص تتضمن الحثَّ على تدبُّر القرآن كلِّه ، لا بعضِهِ ،و منه نصوص الأسماء و الصفات.
و التدبر يستلزم التمكُّن من فَهْم معانيه كلِّها ؛ كما يقول ابن جرير –(ت310) -رحمه الله- : "محال أنْ يُقَال لمن لا يَفهم ما يُقَال له ،و لا يَعْقِل تأويلَه : "اعتبرْ بِما لا فَهْم لك به ،و لا مَعْرفة مِن القيل و البيان" إلا على معنى الأمْرِ بأنْ يَفْهَمه ،و يفقهه ،ثم يتدبره ،و يعتبر به ،فأَمَّا قَبْل ذلك فمستحيلٌ أَمْرُهُ بتدبُّره ،و هو بمعناه جاهِلٌ ؛كما محالٌ أَنْ يُقَال لبعض أصناف الأُمم -الذين لا يعقلون كلام العرب ،و لا يفهمونه ؛لو أنشدت قصيدةَ شِعْرٍ مِنْ أَشْعار العرب ،ذات أمثال ،و مواعظ ،و حِكَمٍ- : "اعتبرْ بِما فيها من الأمثال ،و ادَّكِرْ بِما فيها من المواعظ" إلا بمعنى الأمر لهم بِفَهْم كلام العرب ،و معرفته"ا.ه.["جامع البيان عن تأويل آي القرآن"1/36-37].
و قال الخازن -رحمه الله –(741) : "أصل التدبر : النظر في عواقب الأمور ،و التفكر في أدبارها ،ثم استعمل في كل تفكر و تأمل ،و يقال : "تدبرتُ الشيءَ" أي : نظرت في عاقبته ،و معنى تدبُّر القرآنِ تأَمُّلُ معانيه ،و التفكر في حِكَمِهِ ،و تبصُّرُ ما فيه من الآيات"ا.ه.["لباب التأويل في معاني التنزيل"1/402 ،وانظر:"مدارك التنـزيل وحقائق التأويل"1/236 للنسفي].
و قال الشوكاني -رحمه الله-(ت1250) : "إِنَّ التدبر هو التأمُّل ؛لفهم المعنى ،يقال : "تدبرتُ الشيءَ" : تفكرتُ في عاقبته ،و تأملته،ثم استعمل في كل تأمُّل،و التدبير: أَنْ يدبر الإنسانُ أمْرَه ،كأنه ينظر إلى ما تصير إليه عاقبته".ا.ه.["فتح القدير"1/491].
و قال السعدي -رحمه الله-(ت1376) : "يأمر –تعالى- بتدبر كتابه،و هو التأمُّل في معانيه،و تحديق الفكر فيه،و في مبادئه و عواقبه،و لوازم ذلك ؛فإن تدبر كتاب الله مفتاحٌ للعلوم و المعارف،و به يُستنتج كل خير ،و تُستخرج منه جميع العلوم،و به يزداد الإيمان في القلب ،و ترسخ شجرته ؛فإنه يعرِّف بالرب المعبود،و ما له من صفات الكمال;و ما ينـزَّه عنه من سمات النقص،و يعرِّف الطريق الموصلة إليه ،و صفة أهلها،و ما لهم عند القدوم عليه،و يعرِّف العدوَّ -الذي هو العدو على الحقيقة-،و الطريق الموصلة إلى العذاب،و صفة أهلها،و ما لهم عند وجود أسباب العقاب.
و كلما ازداد العبد تأمُّلاً فيه ازداد علماً و عملاً و بصيرةً، لذلك أمر الله بذلك ،و حثَّ عليه ،و أخبر أنه[ هو] المقصود بإنزال القرآن،كما قال –تعالى- : "كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ"[ص:29]،و قال –تعالى- : "أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا"[محمد:24]"ا.ه.["تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"ص189-190،وانظر ص712،788].
و قال الشنقيطي –رحمه الله –(ت1393) : "و معلومٌ أن كل من لم يشتغل بتدبر آيات هذا القرآن العظيم –أي: تصفحها ،و تفهمها ،و إدراك معانيها ،و العمل بها- فإنه معرضٌ عنها،غيرُ متدبرٍ لها ،فيستحق الإنكار ،و التوبيخ المذكور في الآيات –إِنْ كان الله أعطاه فهماً ؛يقدر به على التدبر ،و قد شكا النبي –صلى الله عليه و سلم- إلى ربِّه من هجْر قومه هذا القرآنَ كما قال –تعالى- : "و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجوراً"[الفرقان:].
و هذه الآيات المذكورة تدل على أن تدبر القرآن ،و تفهمه ،و تعلمه ،و العمل به أمرٌ لا بدَّ منه للمسلمين"ا.ه.["أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"7/429]

و دعوى استثناءِ نصوص الأسماء و الصفات من ذلك باطلةٌ لأمرين :
الأمر الأول : أنَّها دعوى لا دليل عليها.
الأمر الثاني : أنه يلزم منها كون نصوص التدبُّر عامَّـةً يُرَاد بها الأقلُّ –و هو ما عدا نصوص الأسماء و الصفات- ، لا الكلُّ ،و لا الأكثرُ-و هو نصوص الأسماء و الصفات- ،و لا يخفى بطلان هذا.

الوجه الثاني : أَنَّ الخطاب في الآيات السابقة للكفار ،و المنافقين ؛ فدل على إمْكان فهمهم لمعاني القرآن ؛فإمكان فَهْم المؤمنين لها أولى.[انظر:"مجموع الفتاوى"4/157-158،"التحرير و التنوير" 1/450 لابن عاشور]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــ
تنبيـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــه :

قال الشنقيطي –رحمه الله-(ت1393) : "اعلم أن قول بعض متأخري الأصوليين : "إِنَّ تدبر هذا القرآن العظيم، و تفهمه ،و العمل به لا يجوز إلا للمجتهدين خاصةً،و أن كل مَنْ لم يبلغ درجة الاجتهاد المطلق بشروطه المقررة –عندهم ،التي لم يستند اشتراطُ كثيرٍ منها إلى دليلٍ من كتاب و لا سنة و لا إجماع و لا قياس جلي،و لا أثر عن الصحابة-، قول لا مستند له من دليلٍ شرعيٍ أصلاً ،بل الحق -الذي لا شك فيه- أَنَّ كل من له قدرةٌ من المسلمين على التعلُّم و التفهم،و إدراك معانى الكتاب و السنة يجب عليه تعلمُهما،والعملُ بما علم منهما.
أمَّا العمل بهما مع الجهل بما يعمل به منهما فممنوعٌ إجماعاً.
وأمَّا ما علمه منهما علماً صحيحاً ناشئاً عن تعلُّمٍ صحيح فله أَنْ يعمل به ،و لو آية واحدة ،أو حديثاً واحداً.
و معلوم أَنَّ هذا الذمَّ ،و الإنكار على مَن لم يتدبر كتاب الله عامٌّ لجميع الناس.
و مِمَّا يوضِّح ذلك أَنَّ المخاطبين الأولين به -الذين نزل فيهم- هم المنافقون ،و الكفار،ليس أحد منهم مستكملاً لشروط الاجتهاد المقررة عند أهل الأصول،بل ليس عندهم شيء منها أصلاً، فلو كان القرآن لا يجوز أن ينتفع بالعمل به،و الاهتداء بهديه إلا المجتهدون بالإصطلاح الأصولي لَمَا وبَّخ الله الكفار ،و أنكر عليهم عدم الاهتداء بهداه،و لَمَا أقام عليهم الحجة به حتى يحصِّلوا شروط الاجتهاد المقررة عند متأخري الأصوليين،كما ترى.
و معلوم أنَّ من المقرَّر فى الأصول أنَّ صورة سبب النـزول قطعية الدخول،و إذاً فدخول الكفار و المنافقين في الآيات المذكورة قطعيٌّ،و لو كان لا يصح الانتفاع بهدي القرآن إلا لخصوص المجتهدين لَمَا أنكر الله على الكفار عدم تدبرهم كتاب الله،و عدم عملهم به.
و قد علمتَ أَنَّ الواقع خلاف ذلك قطعاً،و لا يخفى أن شروط الاجتهاد لا تشترط إلا فيما فيه مجال للاجتهاد،و الأمور المنصوصة في نصوص صحيحة من الكتاب و السنة لا يجوز الاجتهاد فيها لأحدٍ،حتى تُشْتَرَط فيها شروط الاجتهاد،بل ليس فيها إلا الاتباع،و بذلك تَعْلم أنَّ ما ذكره صاحب مراقي السعود تبعاً للقرافي من قوله:
"من لم يكن مجتهداً فالعملُ منه بمعنى النص مما يحظلُ"ا.ه
لا يصح على إطلاقه بحالٍ ؛لمعارضته لآيات و أحاديث كثيرة من غير استناد إلى دليل.
و من المعلوم أنه لا يصح تخصيص عمومات الكتاب و السنة إلا بدليلٍ يجب الرجوع إليه.
و من المعلوم أيضاً أن عمومات الآيات و الأحاديث الدَّالة على حثِّ جميع الناس على العمل بكتاب الله،و سنة رسوله –صلى الله عليه و سلم- أكثر من أن تحصى،كقوله -صلى الله عليه و سلم- : "تركت فيكم ما إِنْ تمسكتم به لنْ تضلوا كتاب الله و سنتي" ،و قوله -صلى الله عليه وسلم- : "عليكم بسنتي" الحديث،و نحو ذلك مما لا يحصى،فتخصيص جميع تلك النصوص بخصوص المجتهدين ،و تحريم الانتفاع بهدي الكتاب و السنة على غيرهم تحريماً باتَّاً يحتاج إلى دليلٍ من كتاب الله ،أو سنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-،و لا يصح تخصيص تلك النصوص بآراء جماعات من المتأخرين المقرِّين على أنفسهم بأنهم من المقلدين.
و معلوم أن المقلد الصِّرف لا يجوز عدُّه من العلماء ،و لا من ورثة الأنبياء .
و قال صاحب مراقي السعود في : "نشر البنود" في شرحه لبيته المذكور آنفاً ما نصه : "يعني : أن غير المجتهد، "يُحظل له" أي : يُمنع أن يعمل بمعنى نصٍّ من كتاب أو سنة –و إنْ صح سندها- ؛لاحتمال عوارضه من نسخ ،و تقييد، و تخصيص ،و غير ذلك من العوارض -التي لا يضبطها إلا المجتهد-،فلا يخلصه من الله إلا تقليد مجتهد"، قاله القرافي" ا.هـ. محل الغرض منه بلفظه.
و به تعلم أنه لا مستند له،و لا للقرافي الذي تبعه في منع جميع المسلمين غير المجتهدين من العمل بكتاب الله،و سنة رسوله إلا مطلق احتمال العوارض -التي تعرض لنصوص الكتاب و السنة من نسخ ،أو تخصيص ،أو تقييد ،ونحو ذلك-،و هو مردودٌ من وجهين :

الأول : أنَّ الأصل السلامة من النسخ حتى يثبت ورود الناسخ ،و العام ظاهرٌ في العموم حتى يثبت ورود المخصص، و المطلق ظاهرٌ في الإطلاق حتى يثبت ورود المقيّد ،و النص يجب العمل به حتى يثبت النسخ بدليل شرعي،و الظاهر يجب العمل به عموماً كان ،أو إطلاقاً ،أو غيرهما حتى يرد دليل صارف عنه إلى المحتمل المرجوح،كما هو معروف في محلِّه.
و أول مَنْ زعم أنه لا يجوز العمل بالعام حتى يُبْحَث عن المخصِّص فلا يوجد ،و نحو ذلك أبو العباس ابن سريج ،و تبعه جماعاتٌ من المتأخرين،حتى حكوا على ذلك الإجماعَ حكايةً لا أساس لها.
و قد أوضح ابن القاسم العبادي في : "الآيات البينات" غلطَهم في ذلك في كلامه على شرح المحلي لقول ابن السبكي في : "جمع الجوامع" : "ويُتمسك بالعامِّ في حياة النبي -صلى الله عليه و سلم- قبل البحث عن المخصِّص،و كذا بعد الوفاة،خلافاً لابن سريج"ا.هـ.
و على كل حال فظواهر النصوص من عموم ،و إطلاق،و نحو ذلك لا يجوز تركها إلا لدليل يجب الرجوع إليه من مخصص ،أو مقيد،لا لمجرَّد مطلق الاحتمال،كما هو معلوم في محله.
فادِّعاء كثير من المتأخرين أنه يجب ترك العمل به حتى يُبْحَث عن المخصِّص،و المقيد مثلاً خلاف التحقيق.

الوجه الثاني : أن غير المجتهد إذا تعلَّم بعض آيات القرآن،أَو بعض أحاديث النبي -صلى الله عليه و سلم- ؛ ليعمل بها تعلم ذلك النص العام،أو المطلق،و تعلم معه مخصِّصَه ،و مقيِّدَه -إِنْ كان مخصَّصاً ،أو مقيَّداً-،و تعلَّم ناسخه -إن كان منسوخاً-،و تعلُّم ذلك سهل جداً بسؤال العلماء العارفين به،و مراجعة كتب التفسير ،و الحديث المعتدِّ بها في ذلك، و الصحابة كانوا في العصر الأول يتعلم أحدهم آية فيعمل بها،وحديثاً فيعمل به،و لا يمتنع من العمل بذلك حتى يحصِّل رتبة الاجتهاد المطلق،و ربما عمل الإنسان بما علم ؛فعلَّمَه ما لم يكن يعلم كما يشير له قوله –تعالى- : "وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ ٱللَّهُ"[البقرة: 282] ،و قوله –تعالى- : "يِا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إَن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً"[الأنفال: 29] على القول بأن الفرقان هو العلم النافع -الذي يفرق به بين الحق و الباطل-،و قوله –تعالى- : "يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ"[الحديد: 28] الآية،و هذه التقوى التي دلت الآيات على أن الله يُعَلِّم صاحبها بسببها ما لم يكن يعلم لا تزيد على عمله بما علم من أمر الله ؛و عليه فهي عمل ببعض ما علم زاده الله به علم ما لم يكن يعلم.
فالقول بمنع العمل بما عَلِم من الكتاب و السنة حتى يحصِّل رتبة الاجتهاد المطلق هو عين السعي في حرمان جميع المسلمين من الانتفاع بنور القرآن حتى يحصِّلوا شرطاً مفقوداً فى اعتقاد القائلين بذلك،و ادِّعاء مثل هذا على الله ،و على كتابه ،و على سنة رسوله-صلى الله عليه و سلم- هو كما ترى"ا.ه.[أضواء البيان"7/430-434]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الوجه الثاني : أَنَّ الله –تعالى- أخبر أنه يسَّر القرآن ؛ ليتذكر به العباد ؛ فقال –تعالى- : " و لقد يسرنا القران للذكر فهل من مدكر"[القمر:17،22،32،40]، "أي : و لقد يسرنا ،و سهلنا هذا القرآن الكريم : ألفاظَه للحفظ و الأداء، و معانيَهُ للفهم و العلم،لأنه أحسن الكلام لفظاً،و أصدقه معنى،و أبينه تفسيراً،فكل مَنْ أقبل عليه يسر الله عليه مطلوبه غاية التيسير،و سهله عليه.
و الذكر شامل لكل ما يتذكر به العاملون من الحلال و الحرام،و أحكام الأمر و النهي،و أحكام الجزاء و المواعظ و العبر،و العقائد النافعة ،و الأخبار الصادقة،ولهذا كان علم القرآن حفظاً ،و تفسيراً أسهل العلوم،و أجلها على الإطلاق، و هو العلم النافع -الذي إذا طلبه العبد أعين عليه،قال بعض السلف عند هذه الآية: "هل من طالب علم ؛فيعانَ[ عليه ]؟ ،و لهذا يدعو الله عباده إلى الإقبال عليه ،و التذكر بقوله : "فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ" "ا.ه.["تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"ص825-826]

و وجه الدلالة من ذلك : أَنَّ الله –تعالى- جعل القرآن كلَّه ميسَّراً : لفظاً و معنى ؛ فدل على التمكُّن من فهم معانيه ، و على عدم وجود ما يتعسر فهمه ،فضلاً عن ما لا يمكن فهمه ،و بخاصة في أعظم أخباره،و أشرفها،و أكثرها ذكراً،و هو الأخبار عن أسماء الله ،و صفاته.
قال ابن قيم الجوزية –رحمه الله- (ت751) : "و تيسيره للذكر يتضمن أنواعاً من التيسير :
إحداها : تيسير ألفاظه للحفظ.
الثانِي : تيسير معانيه للفهم.
الثالث : تيسير أوامره ،و نواهيه للامتثال.
و معلوم أنه لو كان بألفاظ لا يفهمها المخاطب لم يكن ميسَّراً له ، بل كان معسرا عليه ،فهكذا إذا أُريد من المخاطَب أن يَفهم من ألفاظه ما لا يدل عليه من المعاني ،أو يدل على خلافه ،فهذا من أشد التعسير ،و هو منافٍ للتيسير ؛فإنه لا شيء أعسر على الأمة من أن يُرَاد منهم أن يفهموا كونه -سبحانه- لا داخل العالم ،و لا خارجه ،و لا متصلاً به ،و لا منفصلاً عنه ،و لا مبايناً له ،و لا محايثاً ،و لا يُرَى بالأبصار عياناً ،و لا له وجه ،و لا يد من قوله : "قل هو الله أحد"[الإخلاص:1] ،و من قول رسوله – صلى الله عليه و سلم - : "لا تفضلوني على يونس بن متى" ،و من قوله –تعالى- : "الذين يحملون العرش و من حوله يسبحون بحمد ربهم و يؤمنون به"[غافر:7] ، و أنْ يجهدوا أنفسهم ، و يكابدوا أعظم المشقة في طلب أنواع الاستعارات ، و ضروب المجازات ،و وحشي اللغات ؛ ليحملوا عليه آيات الصفات وأخبارها ؛ فيصرفوا قلوبهم ، و أفهامهم عما تدل عليه ،و يفهموا منها ما لا تدل عليه ، بل تدل على خلافه ،و يقول : "اعلموا يا عبادي أني أردت منكم أن تعلموا أني لست فوق العالم ، و لا تحته ، و لا فوق عرشي ، و لا ترفع الأيدي إلي ، و لا يعرج إلي شيء ، و لا ينـزل من عندي شيء من قولي : "الرحمن على العرش استوى"[طه:5] ، و من قولي : "يخافون ربهم من فوقهم"[النحل:50] ، و من قولي : "تعرج الملائكة و الروح إليه"[المعارج:4] ، و من قولي : "بل رفعه الله إليه"[النساء:158] ، و من قولي : "رفيع الدرجات ذو العرش"[غافر:15] ، و من قولي : "وهو العلي العظيم"[البقرة:255] ، و من قولي : "سبح اسم ربك الأعلى"[الأعلى:1] ، و من قولي : "وجوه يومئذ ناضرة إلى ربها ناظرة"[القيامة:23 – 22] ، و من قولي : "ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض"[الملك:16] ، و من قولي "تنزيل من حكيم حميد"[فصلت:42] ، و من قولي : "قل نزله روح القدس من ربك بالحق"[النحل:102] ، و أن تفهموا أنه ليس لي يدان من قولي : "لما خلقت بيدي"[ص:75] ، و من قولي : "بل يداه مبسوطتان"[المائدة:64] ، و لا عين من قولي : "ولتصنع على عيني"[طه:39] ؛ فإنكم إذا فهمتم من هذه الألفاظ حقائقها ،و ظواهرها فهمتم خلاف مرادي منها ، بل مرادي منكم أن تفهموا منها ما يدل على خلاف حقائقها ، و ظواهرها !
فأي تيسير يكون هناك ؟! وأي تعقيد ،و تعسير لم يحصل بذلك ؟!
و معلوم أنَّ خطاب الرجل بما لا يفهمه إلا بترجمة أيسر عليه من خطابه بما كُلِّف أن يَفهم منه خلاف موضوعه و حقيقته بكثير ؛ فإن تيسير القرآن منافٍ لطريقة النفاة المحرِّفين أعظم منافاة ؛ و لهذا لما عسر عليهم أن يفهموا منه النفي ، و عَزَّ عليهم ذلك عوَّلوا فيه على الشبه الخيالية - التي سموها قواطع عقلية ، و قواعد يقينية - ،و إذا تأملها من نور الله قلبه ، و كحل عين بصيرته بمرود الإيمان رآها لحم جمل غث على رأس جبل وعر ، لا سهل ؛ فيرتقى ، و لا سمين ؛ فينتقل ، و هي من جنس خيالات الممرورين ، و أصحاب الهوس ، و قد سودوا بها القلوب ، و الأوراق.
فطريقتهم ضد طريقة القرآن من كل وجه ؛ إذ طريقة القرآن حق بأحسن تفسير ، و أبين عبارة ، و طريقتهم معان باطلة بأعقد عبارة ، و أطولها ، و أبعدها من الفهم ، فيجهد الرجل الظمآن نفسه وراءهم حتى تنفذ قواه ، فإذا هو قد اطلع على سراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا و وجد الله عنده فوفاه حسابه و الله سريع الحساب ، أو كظلمات في بحر لجي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ،و من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
و الله يعلم أنا لم نقل ذلك تقليداً لغيرنا ، بل إخباراً عما شاهدناه ،و رأيناه ،و إذا أحببت أن تعلم حقيقة ذلك فتأمل عامة مطالبهم ، و أدلتهم عليها ،و كيف تجدها مطالب بعد التعب الشديد ،و الجهد الجهيد لا تحصل منها على مطلب صحيح" ا.ه.["الصواعق المرسلة"1/332] 

توحيُدالأسمَاءوالصفَات:منزلتُهُ،أصولُه،خصائصُهُ(الحلقة السابعة) الرد على المفوضة
بسم الله الرحمن الرحيم
أكمل في هذه الحلقة الأوجه الدالة على فهم المكلف لمعاني الأسماء الحسنى،و الصفات العليا؛مما يبين بطلان مذهب المفوضة،و بالله التوفيق.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه الثالث : أَنَّ الله –تعالى- جَعَل القرآن عربياً ،و أَرسل رسوله -صلى الله عليه و سلم- باللسانِ العربيِّ ؛لتتحقق بذلك البشارة ،و النذارة ،و التقوى ،و الذِّكْرى ،و العقل ،و العلم ؛ "وَ ذَلِكَ لأَنَّ لُغَةَ الْعَرَبِ أَفْصَحُ اللُّغَاتِ ،وَ أَبْيَـنُهَا ، وَ أَوْسَعُهَا ، وَ أَكْثَرُهَا تَأْدِيَةً لِلْمَعَانِي -التِي تَقُومُ بِالنُّـفُوسِ - ؛فَلِهَذَا أَنْزَلَ أَشْرَفَ الْكُتُبِ بِأَشْرَفِ اللُّغَاتِ عَلَى أَشْرَفِ الرُّسُلِ بِسِفَارَةِ أَشْرَفِ الْمَلائِكَةِ ،وَ كَانَ ذَلِكَ فِي أَشْرَفِ بِقَاعِ الأَرْضِ ،وَ ابْتَدَأَ إِنْزَالَـهُ فِي أَشْرَفِ شُهُورِ السَّنَةِ ،وَ هُوَ رَمَضَانُ ؛ فَكَمُلَ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ".["تفسير القرآن العظيم"4/29،لابن كثير] ؛قال –تعالى- : "إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون"[يوسف:2]،و قال –تعالى- : " إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون" [الزخرف:3]،و قال -تعالى- : "و كذلك أنزلناه حكماً عربياً" [الرعد:37]،و قال -تعالى- : "و لقد نعلم أنَّهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا لسان عربيٌّ مبينٌ"[النحل:103]،و قال -تعالى- : "و كذلك أنزلناه قراناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً" [طه:113]،و قال -تعالى- : "و إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين" [الشعراء:192-195] ،و قال -تعالى- : "و لقد ضربنا للناس في هذا القرآن من كل مثل لعلهم يتذكرون قراناً عربياً غير ذي عوج لعلهم يتقون" [الزمر:27-28]،و قال -تعالى- : "كتاب فصلت آياته قراناً عربياً لقوم يعلمون بشيراً و نذيراً" [فصلت:3-4] ،و قال -تعالى- : "و لو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي و عربي قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء و الذين لا يؤمنون في آذانهم وقر و هو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" [فصلت:44]،و قال -تعالى- : "و كذلك أوحينا إليك قراناً عربياً لتنذر أم القرى و من حولها و تنذر يوم الجمع لا ريب فيه"[الشورى:7] ،و قال -تعالى- : "و هذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين" [الأحقاف:12] ، و قال -تعالى- : "فإنما يسرناه بلسانك لتبشر به المتقين و تنذر به قوماً لدَّاً" [مريم:97] ،و قال -تعالى- : "فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون"[الدخان:58].
و أخبر –تعالى- أنه بعث كل رسل بلغة قومه لإقامة الحجة ؛فقال -تعالى- : "و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء و هو العزيز الحكيم" [إبراهيم:4]،و عن أبي ذر –رضي الله عنه- قال:قال رسول الله –صلى الله عليه وسلم- : "لم يبعث الله –عز و جل- نبياً إلا بلغة قومه".[أخرجه أحمد في "المسند"5/158،و قال الهيثمي في :"مجمع الزوائد"7/43:"رجاله رجال الصحيح إلا أن مجاهداً لم يسمع من أبي ذر"ا.ه، و يشهد له القرآن]

و الدّلالة من ذلك على المطلوب من وجهين :

الأول : أَنَّ كوْن القرآنِ عربياً يَقتضي فَهْمَ معانيه ؛فإنَّ الألفَاظَ أَوْعيةُ المعاني.[انظر:"البرهان في علوم القرآن"1/106،"الإتقان في علوم القرآن"2/1192]

الثاني : أَنَّ تحقُّقَ البشارة ،و النّذارة ،و التقوى ،و الذّكرى ،و العقل ،و العلم بالقرآن يتوقَّف على فَهْم معانيه –كما لايخفى-.[انظر:"مجموع الفتاوى"5/159،350]
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه الرابع : أَنَّ الله –تعالى- وَصَفَ القرآنَ بأَنَّه نورٌ ،و هدى ،و رحمةٌ، و فرقانٌ ،و شفاءٌ ،و موعظةٌ ،و روحٌ ،و بصائرُ للنَّاس ،و بيانٌ،و مُبِيْنٌ ،و تبيانٌ ،و ذِكْرٌ، و عليٌّ ،و حكيمٌ ،و مهيمنٌ ،و مباركٌ ،و قيِّمٌ ،و فَصْلٌ ،و أَحْسَنُ الحديثِ ،و تذْكرةٌ ،و بشرى ،و بشيرٌ ،و نذيرٌ ،و مجيدٌ ،و عزيزٌ :
قال –تعالى- : "ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين"[البقرة:2]،و قال -تعالى- :" قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله مصدقاً لما بين يديه و هدى و بشرى للمؤمنين" [البقرة:97]، و قال -تعالى- :"شهر رمضان الذي أُنزل فيه القران هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه و من كان مريضاً أو على سفر فعدة من أيام أُخر يريد الله بكم اليسر و لا يريد بكم العسر و لتكملوا العدة و لتكبروا الله على ما هداكم و لعلكم تشكرون" [البقرة:185]، و قال -تعالى- : " و لقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى و رحمة لقوم يؤمنون" [الأعراف:52] ،و قال -تعالى- :" وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم و هدى و رحمه لقوم يؤمنون "[الأعراف:203]،و قال -تعالى- : " يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم و شفاء لما في الصدور و هدى و رحمة للمؤمنين" [يونس:57]،و قال -تعالى- : "ما كان حديثاً يفترى و لكن تصديق الذي بين يديه و تفصيل كل شيء و هدى و رحمه لقوم يؤمنون"[يوسف:111]، و قال -تعالى- : "و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه و هدى و رحمة لقوم يؤمنون" [النحل:64]،و قال -تعالى- : " و نزلنا عليك الكتاب تبياناً لكل شيء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين"[النحل:89]،و قال -تعالى- : " قل نزله روح القدس من ربك بالحق ليثبت الذين آمنوا و هدى و بشرى للمسلمين" [النحل:102]،و قال -تعالى- : " إنَّ هذا القران يهدي للتي هي أقوم و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنَّ لهم أجراً كبيراً"[الإسراء:9]،و قال -تعالى- : " هدى و بشرى للمؤمنين" [النمل:2]،و قال -تعالى- : " و إنه لهدى و رحمة للمؤمنين" [النمل:77]،و قال -تعالى- : " هدى و رحمة للمحسنين" [لقمان:3]،و قال -تعالى- : " الله نزَّل أحسن الحديث كتاباً متشابهاً مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء و من يضلل الله فما له من هاد" [الزمر:23]،و قال -تعالى- : " هدى و ذكرى لأولي الألباب" [غافر:54]،و قال -تعالى- : " و لو جعلناه قرآناً أعجمياً لقالوا لولا فصلت آياته أأعجمي و عربي قل هو للذين آمنوا هدى و شفاء و الذين لا يؤمنون في آذانهم وقر و هو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد" [فصلت:44]،و قال -تعالى- : " و كذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم" [الشورى:52]،و قال -تعالى- : " هذا هدى و الذين كفروا بآيات ربهم لهم عذاب من رجز أليم"[الجاثية:11]،و قال -تعالى- : " هذا بصائر للناس و هدى و رحمة لقوم يوقنون" [الجاثية:20]،و قال -تعالى- : " قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتاباً أُنزل من بعد موسى مصدقاً لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم" [الأحقاف:30]،و قال -تعالى- : " يهدي إلى الرشد فآمنا به و لن نشرك بربنا أحداً" [الجن:2]،و قال -تعالى- : " و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخساً و لا رهقاً" [الجن:13]،و قال –تعالى- : "و إنه لكتاب عزيزٌ"[فصلت:41]،و قال -تعالى- : "يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نوراً مبيناً "[النساء:174]،و قال -تعالى- : " يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيراً مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفو عن كثير قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين" [المائدة:15]،و قال -تعالى- : " فالذين آمنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون"[الأعراف:157]، و قال -تعالى- : " فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا و الله بما تعملون خبير "[التغابن:8]، و قال -تعالى- : " فقد جاءكم بينة من ربكم و هدى و رحمة"[الأنعام:157]،و قال -تعالى- : "أ فمن كان على بينة من ربه و يتلوه شاهد منه و من قبله كتاب موسى إماماً و رحمة أولئك يؤمنون به و من يكفر به من الأحزاب فالنار موعده فلا تك في مرية منه إنه الحق من ربك و لكن أكثر الناس لا يؤمنون" [هود:17]،و قال -تعالى- : " و ننـزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خساراً" [الإسراء:82]،و قال -تعالى- : " أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يتلى عليهم إن في ذلك لرحمة و ذكرى لقوم يؤمنون" [العنكبوت:51]،و قال -تعالى- : " و من قبله كتاب موسى إماماً و رحمة و هذا كتاب مصدق لساناً عربياً لينذر الذين ظلموا و بشرى للمحسنين" [الأحقاف:12]،و قال -تعالى- : " شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس و بينات من الهدى و الفرقان" [البقرة:185]،و قال -تعالى- : " من قبل هدى للناس و أنزل الفرقان"[آل عمران:4]،و قال -تعالى- : " تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً" [الفرقان:1]،و قال -تعالى- : " وكلاً نقص عليك من أنباء الرسل ما نثبت به فؤادك و جاءك في هذه الحق و موعظة و ذكرى للمؤمنين" [هود:20]،و قال -تعالى- : " و لقد أنزلنا إليكم آيات مبينات و مثلاً من الذين خلوا من قبلكم و موعظة للمتقين" [النور:34]،و قال -تعالى- : " رفيع الدرجات ذو العرش يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده لينذر يوم التلاق" [غافر:15]،و قال -تعالى- : " قد جاءكم بصائر من ربكم" [الأنعام:104]،و قال -تعالى- : " الر تلك آيات الكتاب المبين" [يوسف:1]،و قال -تعالى- : " الر تلك آيات الكتاب و قرآن مبين" [الحجر:1]،و قال -تعالى- : " و لقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون اليه أعجمي و هذا لسان عربي مبين"[النحل:103]،و قال -تعالى- : " لقد أنزلنا آيات مبينات و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم "[النور:46]،و قال -تعالى- : " تلك آيات الكتاب المبين" [الشعراء:2]،و قال -تعالى- : " بلسان عربي مبين" [الشعراء:195]،و قال -تعالى- : " طس تلك آيات القران و كتاب مبين"[النمل:1]،و قال -تعالى- : " تلك آيات الكتاب المبين"[القصص:2]،و قال -تعالى- : " و ما علمناه الشعر و ما ينبغي له إن هو إلا ذكر و قرآن مبين "[يس:69]،و قال -تعالى- : "حم و الكتاب المبين"[الزخرف:1-2]،و قال -تعالى- : "حم و الكتاب المبين" [الدخان:1-2]،و قال -تعالى- : " و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقاً لما بين يديه من الكتاب و مهيمناً عليه" [المائدة:48]،و قال -تعالى- : " قيماً لينذر بأساً شديداً من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجراً حسناً" [الكهف:1-2]،و قال -تعالى- : " الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير" [هود:1]،و قال -تعالى- : " إنه لقول فصل"[الطارق:13]،و قال -تعالى- : " ق و القران المجيد" [ق:1]،و قال -تعالى- : " بل هو قرآن مجيد" [البروج:21] ،و قال -تعالى- : "وإنه في أم الكتاب لدينا لعليٌّ حكيم"[الزخرف:4].
[انظر:"جامع البيان عن تأويل القرآن"1/41-47للطبري،"التذكار في أفضل الأذكار"ص17للقرطبي،"البرهان في علوم القرآن"1/370-377للزركشي،"الإتقان في علوم القرآن"1/159-165للسيوطي،"مفتاح السعادة"2/355لطاش كبري،"كشف الظنون"1/89لحاجي خليفة،"أبجد العلوم"2/490للقنوجي،"أسماء القرآن"مقال نشر في "مجلة الأزهر"17،عدد9،سنة1345]

و وجه الدّلالة من ذلك : أَنَّه يستحيل أَنْ تكون أعظم علوم القرآن -و هو الأسماء و الصفات- ليس لها معاني يَعقِلُها المكلَّفُ ؛و هي أكثر علومه وروداً ،و قد تنوعتْ دلالته عليها ما لم تتنوع في دلالتها على غيره –كما تقدم- ؛ إذ ذلك مضادٌّ لهذه الأوصاف العظيمة المذكورة آنفاً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه الخامس : أَنَّ الله –تعالى- أَمَرَنَا بالعلم بمعاني أَسمائه و صفاته ؛فقال -تعالى- : "و اعلموا أنَّ الله مع المتقين"[البقرة:194،التوبة:123]،و قال –تعالى- : "و اتقوا الله و اعلموا أنَّ الله شديد العقاب"[البقرة:196]،و قال –تعالى- : " فإنْ زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم" [البقرة:209]،و قال –تعالى- : "و اتقوا الله و اعلموا أن الله بكل شيء عليم"[البقرة:231]،و قال –تعالى- : "و اتقوا الله و اعلموا أن الله بما تعملون بصير"[البقرة:233]،و قال –تعالى- : "و اعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه و اعلموا أن الله غفور حليم"[البقرة:235]،و قال –تعالى- : "و اعلموا أن الله سميع عليم"[البقرة:244]،و قال –تعالى- : "و اعلموا أن الله غني حميد"[البقرة:267]،و قال –تعالى- : " إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم فاعلموا أن الله غفور رحيم" [المائدة:34]،و قال –تعالى- : " اعلموا أن الله شديد العقاب و أن الله غفور رحيم"[المائدة:98]،و قال –تعالى- :" و اعلموا أن الله شديد العقاب"[الأنفال:25]،و قال –تعالى- : "و اعلموا أن الله مع المتقين"[التوبة:36]،و قال –تعالى- " اعلموا أن الله يحيي الارض بعد موتها" [الحديد:17].

و وجه الدلالة من ذلك : أنه يستحيل أَنْ يأمر الله المكلَّف بالعلم بأسمائه و صفاته ،و ليس له سبيل إلى فهم معانيها.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه السادس :أن الله –تعالى- أخبر أنه بين لنا ما نزل إلينا ،وأن الرسول –صلى الله عليه وسلم- بينه لنا كذلك ؛ فقال –تعالى- :"كذلك يبين الله آياته للناس لعلهم يتقون"[لبقرة:187]، و قال –تعالى- :" كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"[البقرة:219]،و قال –تعالى- :"و يبين آياته للناس لعلهم يتذكرون"[البقرة:221]،و قال –تعالى- :"و تلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون"[البقرة:230]،و قال –تعالى- :"كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون" [البقرة:242]،و قال –تعالى- :"كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون"[لبقرة:266]،و قال –تعالى- :"كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون"[آل عمران:103]،و قال –تعالى- :" يريد الله ليبين لكم و يهديكم سنن الذين من قبلكم و يتوب عليكم و الله عليم حكيم" [النساء:26]،و قال –تعالى- :"يبين الله لكم أن تضلوا و الله بكل شيء عليم"[النساء:176]،و قال –تعالى- :" يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير و الله على كل شيء قدير" [المائدة:19]،و قال –تعالى- :" كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تشكرون"[المائدة:89]،و قال –تعالى- :"و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء و هو العزيز الحكيم"[إبراهيم:4]،و قال –تعالى- :" و يبين الله لكم الآيات و الله عليم حكيم"[النور:18]،و قال –تعالى- :" و يبين الله لكم الآيات و الله عليم حكيم"[النور:58]،و قال –تعالى- :"كذلك يبين الله لكم آياته و الله عليم حكيم"[النور:59]،و قال –تعالى- :"كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تعقلون"[النور:61]،و قال –تعالى- :" بالبينات و الزبر و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزِّل إليهم و لعلهم يتفكرون"[النحل:44]،و قال –تعالى- :" و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه و هدى و رحمة لقوم يؤمنون"[النحل:64]،و قال –تعالى- :"فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه"[القيامة:19].

و وجه الدلالة من ذلك : أن "هذا البيان -الذي تكفل به –سبحانه- ،و أمر به رسوله-صلى الله عليه و سلم- :
إما أن يكون المراد به بيان اللفظ وحده ،أو المعنى وحده ،أو اللفظ و المعنى جميعاً ،و لا يجوز أَنْ يكون المراد به بيان اللفظ دون المعنى ؛فإنَّ هذا لا فائدة فيه ،و لا يحصل به مقصود الرسالة،و بيان المعنى وحده بدون دليله –و هو اللفظ الدال عليه- ممتنعٌ ؛فعُلِم قطعاً أَنَّ المراد بيانُ اللفظ و المعنى.
و الله –تعالى- أنزل كتابه :ألفاظَه ،و معانيَه ،و أرسل رسوله –صلى الله عليه و سلم_ ليبين اللفظ و المعنى ،فكما أنَّا نقطع ،و نتيقن أنه بَـيَّن اللفظ ،فكذلك نقطع ،و نتيقن أنه بَـيَّن المعنى ،بل كانت عنايته ببيان المعنى أشدَّ من عنايته ببيان اللفظ ،و هذا هو الذي ينبغي ؛فإنَّ المعنى هو المقصود ،و أما اللفظ فوسيلةٌ إليه ،و دليلٌ عليه ،فكيف تكون عنايته بالوسيلة أهمَّ من عنايته بالمقصود؟! و كيف نتيقن بيانه للوسيلة ،و لا نتيقن بيانه للمقصود؟! و هل هذا إلا من أبين المحال".["الصواعق المرسلة"2/737-738].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (ت728) : "فالخطاب -الذي أُريد به هدانا ،و البيان لنا ،و إخراجنا من الظلمات إلي النور- إذا كان ما ذُكر فيه من النصوص ظاهره باطلٌ ،و كفرٌ ،و لم يُرَد منا أنْ نعرف لا ظاهره ،و لا باطنه ،أو أُرِيد منا أنْ نعرف باطنه من غير بيانٍ في الخطاب لذلك ،فعلي التقديرين لم نخاطَب بما بُيِّن فيه الحق ،و لا عُرِّفنا أَنَّ مدلول هذا الخطاب باطلٌ ،و كفرٌ.
و حقيقة قول هؤلاء في المخاطِب لنا : أنَّه لم يبين الحق ،و لا أوضحه مع أمره لنا أنْ نعتقده ،و أَنَّ ما خاطبنا به ،و أمرنا باتباعه ،و الرد إليه لم يبين به الحق ،و لا كشفه ،بل دل ظاهرُهُ علي الكفر و الباطل ،و أراد منا أنْ لا نفهم منه شيئاً ،أو أن نفهم منه ما لا دليل عليه فيه ،و هذا كله مما يعلم بالاضطرار تنـزيه الله ،و رسوله –صلى الله عليه و سلم- عنه ،و أنه من جنس أقوال أهل التحريف و الإلحاد"ا.ه.["درأ تعارض العقل والنقل"1/202]

توحيداُلأسماءوالصفاتِ:منزلتُهُ،أصولهُُ،خصائصُهُ(الحلقة الثامنة)-الردعلى المفوضة

بسم الله الرحمن الرحيم
أكمل في هذه الحلقة الأدلةالنقلية والعقليةعلى تمكن المكلف معاني أسماء الله-تعالى-وصفاته؛مما يدل على بطلان مذهب التفويض،و أحمده -تعالى-على ما منَّ به من قبول لهذه الحلقات لدى كثير من القراء؛مما أغاظ بعض أهل البدع والأهواء،كما هو مدونٌ في بعض المواقع،والله ولي التوفيق.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ
"إذا ركلــــــــــــــــــت من الخلف فاعلـــــــــــــــــــــم أنـك في المقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــدمــــــ ــــــــــــــة"
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــــ

-الوجه السابع : أن الله-تعالى- علَّم عباده تعبير الرؤى،و جعله من فضله عليهم ؛ فقال -تعالى- عن يعقوب أنه قال لابنه يوسف - عليهما السلام - : "يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيداً إن الشيطان للإنسان عدو مبين "[يوسف:5]،و قال –أيضاً- : "و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث"[يوسف:]،و قال –تعالى- : " و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون" [يوسف:43]،و قال – تعالى- : "و رفع أبويه على العرش وخروا له سجداً و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقاً"[ يوسف:100]،و قال –تعالى- : "لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي"[يوسف:36].

و وجه الدّلالـة من ذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (ت728) : "أنَّ العلم بتأويل الرؤيا أصعب من العلم بتأويل الكلام- الذى يخبر به-؛ فإن دلالة الرؤيا على تأويلها دلالة خفيةٌ، غامضةٌ، لا يهتدي لها جمهور الناس ، بخلاف دلالة لفظ الكلام على معناه ؛فإذا كان الله قد علَّم عباده تأويل الأحاديث -التى يرونها فى المنام- فلأن يعلمهم تأويل الكلام العربى المبين -الذى ينـزله على أنبيائه-بطريق الأولى و الأحرى"ا.ه.["مجموع الفتاوى"17/403]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

-الوجه الثامن : أن الله –تعالى- أخبر عن كمال أقواله و أفعاله ؛ فأقواله و أفعاله كلُّها حقٌّ ، ليس فيها باطل ،و لا عبث ،و لا سفه ،و لا عيب ، فقال –تعالى- : "و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل"[الأحزاب:4] ،و قال –تعالى- : "و الحقَّ أقول"[ص:84]، وقال –تعالى-:" أم يقولون افترى على الله كذباً فإن يشأ الله يختم على قلبك و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته إنه عليم بذات الصدور "[الشورى:24]،و قال –تعالى- : "الحق من ربك فلا تكونن من الممترين"[البقرة:147]،و قال –تعالى- : " الذين يذكرون الله قياماً و قعوداً و على جنوبهم و يتفكرون في خلق السماوات و الأرض ربنا ما خلقت هذا باطلاً سبحانك فقنا عذاب النار "[آل عمران:191]،و قال-تعالى- : " و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلاً ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار "[ص:27].

و وجه الدلالة من ذلك كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية-رحمه الله- (ت728) : أنَّ "الكلام إنما المقصود به الإفهام ،فإذا لم يُقصد به ذلك كان عبثاً و باطلاً ،و الله –تعالى- قد نـزَّه نفسه عن فعل الباطل ،و العبث ،فكيف يقول الباطل ،و العبث ،و يتكلم بكلام ينـزِّله على خلقه ،لا يريد به إفهامهم؟!"ا.ه.["مجموع الفتاوى"17/397]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ

الأدلــــــــة العقلية :

و لقد دل العقل على فهم المكلف لمعاني الأسماء و الصفات الإلهية من عدة أوجه:

الوجه الأول : أن القول بالتفويض يسلِّط الملحدين القائلين بالتخييل ،"و هم الذين اعتقدوا أنَّ الرسل لم تُفصح للخلق بالحقائق ؛إذ ليس في قواهم إدراكها ،و إنما خيَّلت لهم ،و أبرزت المعقول في صورة المحسوس.
قالوا : "و لو دعت الرسلُ أممهم إلى الإقرار بربٍّ لا داخل العالم ،و لا خارجه ،و لا محايثاً له ،و لا مبايناً له ،و لا متصلاً به ،و لا منفصلاً عنه ،و لا فوقه ،و لا تحته ،و لا عن يمينه ،و لا عن يساره : لنَفَرَت عقولهم من ذلك ،و لم تصدِّق بإمكان وجود هذا الموجود ،فضلاً عن وجوب وجوده، و كذلك لو أخبروهم بحقيقة كلامه ،و أنه فيض فاض من المبدأ الأوَّل على العقل الفعال ،ثم فاض من ذلك العقل على النفس الناطقة الزكية المستعدَّة : لم يفهموا ذلك ،و لو أخبروهم عن المعاد الروحاني بما هو عليه : لم يفهموه ؛فقرَّبوا لهم الحقائق المعقولة في إبرازها في الصور المحسوسة ، و ضربوا لهم الأمثال بقيام الأجساد من القبور في يوم العرض و النشور ،و مصيرها إلى جنة فيها أكلٌ و شربٌ و لحم و خمر و جوار حسان ،أو نار فيها أنواع العذاب ؛ تفهيماً للذة الروحانية بهذه الصورة ،و الألم الروحاني بهذه الصورة ،و هكذا فعلوا في وجود الرب و صفاته و أفعاله ؛ضربوا لهم الأمثال بموجود عظيم جداً أكبر من كلِّ موجود ،و له سرير عظيم ،و هو مستوٍ فوق سريره : يسمع ،و يبصر ،و يتكلم ،و يأمر ، و ينهى ،و يرضى ،و يغضب ،و يأتي ،و يجيء ،و ينزل ،و له يدان ،و وجه ،و يفعل بمشيئته و إرادته ،و إذا تكلم العبادُ سمع كلامهم ،و إذا تحركوا رأى حركاتهم ،و إذا هجس في قلب أحد منهم هاجسٌ علمه ،و أنه ينـزل كلَّ ليلة إليهم إلى سمائهم هذه ،فيقول : "من يسألني فأعطيه ،و من يستغفرني فأغفر له"،إلى غير ذلك مما نطقت به الكتب الإلهية.
قالوا : "و لا يحل لأحد أنْ يتأول ذلك على خلاف ظاهره للجمهور ؛لأنه يفسد ما وُضِعَت له الشرائع ،و الكتب الإلهية ،و أما الخاصة فهم يعلمون أنَّ هذه أمثالٌ مضروبة لأمورٍ عقلية تعجز عن إدراكها عقول الجمهور ،فتأويلها جنايةٌ على الشريعة و الحكمة ،و إقرارها إقرار للشريعة و الحكمة.
قالوا : "و عقول الجمهور بالنسبة إلى هذه الحقائق أضعف من عقول الصبيان بالنسبة إلى ما يدركه عقلاء الرجال ،و أهل الحكمة منهم ،و الحكيم إذا أراد أن يخوف الصغير ،أو يَبسط أمله خوَّفه ،و رجاه بما يناسب فهمه و طبعه".
و حقيقة الأمر عند هذه الطائفة : أنَّ الذي أخبرت به الرسل عن الله و صفاته و أفعاله ،و عن اليوم الآخر لا حقيقة له ،يطابق ما أخبروا به ،و لكنه أمثال و تخييل و تفهيم بضرب الأمثال ،و قد ساعدهم أرباب التأويل على هذا المقصد في باب معرفة الله و أسمائه و صفاته ،و صرَّحوا في ذلك بمعنى ما صرح به هؤلاء في باب المعاد و حشر الأجساد ،بل نقلوا كلماتهم بعينها إلى نصوص الاستواء و الفوقية ،و نصوص الصفات الخبرية ، لكن هؤلاء أوجبوا ،أو سوَّغوا تأويلها بما يخرجها عن حقائقها و ظواهرها ،و ظنوا أنَّ الرسل قصدت ذلك من المخاطبين تعريضاً لهم إلى الثواب الجزيل ببذل الجهد في تأويلها أو استخراج معانٍ تليق بها ،و حملها عليها ،و أولئك حرَّموا التأويل ،و رأوه عائداً على ما قصدته الأنبياء بالإبطال ،و الطائفتان متفقتان على انتفاء حقائقها المفهومة منها في نفس الأمر "[الصواعق 2/418-422]

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (ت728) : " فإذا كانت الأمور العلمية -التى أخبر الله بها فى القرآن- لا يعرفها الرسول –صلى الله عليه وسلم-كان هذا من أعظم قدح الملاحدة فيه ،و كان حجةً لما يقولونه من أنه كان لا يعرف الأمور العملية [في المطبوعة :"العلمية"]،أو أنه كان يعرفها ،و لم يبينها ،بل إن هذا القول يقتضي أنه لم يكن يعلمها ؛فإنَّ ما لا يعلمه إلا الله لا يعلمه النبى ،و لا غيره"ا.ه.["مجموع الفتاوى"17/399]
و قال –أيضاً- : "إذا قيل :"إنَّ نفس الكلام -الذي جاء به- قد كان لا يفهم معناه" : قالوا : "فغيره من العلوم العقلية أولى أن لا يفهم معناه" ،و الكلام إنما هو في صفات الرب ،فإذا قيل : "إن ما أنزل عليه من صفات الرب لم يكن هو ،و لا غيره يفهمه ،و هو كلامُ أميٍّ عربي ينزل عليه" : قيل : "فالمعاني المعقولة في الأمور الإلهية أولى أن لا يكون يفهمها ،و حينئذ فهذا الباب لم يكن موجوداً في رسالته ،و لا يؤخذ من جهته : لا من جهة السمع ،و لا من جهة العقل" ؛ قالت الملاحدة : "فيؤخذ من طريق غيره".
فإذا قال لهم هؤلاء : "هذا غير ممكن لأحدٍ" : منعوا ذلك ؛و قالوا : "إنما في القرآن أن ذلك الخطاب لا يعلم معناه إلا الله ،لكن من أين لكم أنَّ الأمور الإلهية لا تُعلم بالأدلة العقلية -التى يقصر عنها البيان بمجرد الخطاب و الخبر-؟".
و الملاحدة يقولون : "إنَّ الرسل خاطبت بالتخييل" ،و أهل الكلام يقولون : "بالتأويل" ، و هؤلاء الظاهرية [أي : المفوضة] يقولون بالتجهيل ،و قد بُسط الكلام على خطأ الطوائف الثلاث ،و بُيـِّن أنَّ الرسول –صلى الله عليه وسلم-قد أتى بغاية العلم ،و البيان -الذي لا يمكن أحداً من البشر أنْ يأتي بأكمل مما جاء به -صلى الله عليه و سلم تسليماً- ؛فأكمل ما جاء به القرآن ،و الناس متفاوتون فى فهم القرآن تفاوتاً عظيماً"ا.ه.["مجموع الفتاوى"16/413-414،وانظر السابق17/397،"الصواعق المرسلة"2/677،769]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه الثاني : "أنَّ من العظيم أنْ يقال : "إن الله أنزل على نبيه –صلى الله عليه وسلم-كلاماً لم يكن يفهم معناه : لا هو و لا جبريل ،بل و على قول هؤلاء كان النبى -صلى الله عليه و سلم- يحدِّث بأحاديث الصفات و القدر و المعاد و نحو ذلك مما هو نظير متشابه القرآن –عندهم- ،و لم يكن يعرف معنى ما يقوله ،و هذا لا يُظـنُّ بأقـلِّ الناس".["مجموع الفتاوى"17/396]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه الثالث : أنَّ المراد بالكلام معانيه ، بواسطة ألفاظه ، فالمعاني مقاصد ،و الألفاظ وسائل ،فمحال أنْ يُراد بالكلام الوسائل دون المقاصد،و بخاصة أفضل الكلام،و أفصحه ، و أبينه –و هو كلام الله ،و كلام رسوله -صلى الله عليه وسلم- .[انظر:" "مجموع الفتاوى"17/398]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه الرابع : أنَّ القول بالتفويض يقتضي أنَّ النصوص الشرعية من الكتاب و السنة جاءت بما ظاهرُهُ الباطل من التجسيم ،و التركيب ،و التمثيل ...إلخ،فكان ترْك الناس بلا كتاب و لا سنة خيراً لهم من تعريضهم لاعتقاد ما لا يليق بالله -تعالى-.

قال ابن قيم الجوزية –رحمه الله- في ردِّه على أهل التأويل ،و أهل التفويض (ت751) : "إنَّ هذا القانون مضمونه جحد الرسالة في الحقيقة ،و إنْ أقرَّ بها صاحبه بلسانه ،بل مضمونه أنَّ ترك الناس بلا رسول يُرسل إليهم خيرٌ من أنْ يرسَل إليهم رسولٌ ،و أنَّ الرسل لم يهتد بهم أحد في أصول الدين، بل ضل بهم الناس ،و ذلك أن القرآن على ما اعتقده أرباب هذا القانون [أي : قانون التأويل و التحريف] لا يستفاد منه علم ،و لا حجة ،بل إذا علمنا بعقولنا سبباً اعتقدناه ،ثم نظرنا في القرآن : فإنْ كان موافقاً لذلك أقررناه على ظاهره ؛لكونه معلوماً بذلك الدليل العقلي -الذي استفدناه به-، لا بكون الرسول –صلى الله عليه وسلم- أخبر به ،و إن كان ظاهره مخالفاً لما عرفناه ،و استنبطناه بعقولنا اتبعنا العقل ،و سلكنا في السمع طريقة التأويل ،أو الإعراض و التفويض ،فأيُّ فائدةٍ حصلت إذاً بأخبار الرسول –صلى الله عليه وسلم- ،بل مضمون ذلك أنا حصلنا على العناء الطويل لاستخراج وجوه التأويلات المستلزمة ،أو التعرض لاعتقاد الباطل و الضلال بحمل الكلام على ظاهره ؛فكانت الأدلة اللفظية مقتضيةً لضلال هؤلاء ،و لعناء أولئك ،فأين الهدى و الشفاء -الذي حصل بها لهؤلاء ،و هؤلاء-؟!و من العجب اعتراف أرباب هذا القانون بهذا ،و جوابهم عنه بجواب أهل الإلحاد ،و هو أنَّ المخاطَبين لم يكونوا يفهمون الحقائق ؛فضُربت لهم الأمثال من غير أنْ يكون المخبَر [به] ثابتاً في نفس الأمر ،فراجع كتب القوم تجدْ ذلك فيها"ا.ه[الصواعق 2/770-771]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ

الوجه الخامس : لما كان مذهب التفويض قائماً على كون المعنى الظاهر من نصوص الأسماء و الصفات ،أو بعضها غير مراد،و كان ظاهرها يدل على إثبات هذه المعاني حقيقةً على ما يليق بالله –تعالى-،و كان حال الناس يقتضي فهم هذا الظاهر ،و اعتقاد موجَبِهِ : لزم أنْ يَعقب كلَّ نص من هذه النصوص،أو بعضها ما يمنع من فهم هذا الظاهر،و اعتقادِ موجَبِهِ،أو أنْ يرد نص مستقل بذلك غير متراخٍ،و لما لم يكن شئ من ذلك : عُلم بطلان مذهب التفويض؛لأنه إذا امتنع تأخير البيان عن وقت الحاجة ،و بخاصة في أعظم أمور الدين ؛ فلأن يمتنع عدم هذا البيان من باب أولى.

قال أبو الحسن الأشعري -رحمه الله- (ت324) : "و معلوم عند سائر العقلاء أن ما دعا النبي –صلى الله عليه و سلم- إليه مَنْ واجهه من أمته من اعتقاد حَدَثهم ،و معرفة المحدِث لهم ،و توحيده ،و معرفة أسمائه الحسنى ،و ما هو عليه من صفات نفسه ،و صفات فعله ،و تصديقه فيما بلغهم من رسالته مما لا يصح أن يؤخر عنهم البيان فيه ؛لأنه لم يجعل لهم فيما كلفهم من ذلك من مهلة ،و لا أمرهم بفعله في الزمن المتراخي عنه ،و إنما أمرهم بفعل ذلك على الفور.
و إذا كان ذلك من قِبَل أنه لو أخَّـر ذلك عنهم لكان قد كلفهم ما لا سبيل لهم إلى فعله ،و ألزمهم ما لا طريق لهم إلى الطاعة فيه ،و هذا غير جائز عليه لما يقتضيه ذلك من بطلان أمره ،و سقوط طاعته.
و هذا المعنى لم تجد عن أحد من صحابته خلافاً في شيء مما وقف -عليه السلام- جماعتهم عليه ،و لا شك في شيء منه ،و لا نقل عنهم كلام في شيء من ذلك ،و لا زيادة على ما نبههم عليه من الحجج ،بل نصوا جميعاً -رحمة الله عليهم- على ذلك ،و هم متفقون ،لا يختلفون في حَدَثهم ،و لا في توحيد المحدِث لهم ،و أسمائه و صفاته ،و تسليم جميع المقادير إليه ،و الرضا فيها بأقسامه لما قد ثلجت به صدورهم ،و تبينوا وجوه الأدلة -التي نبههم عليها عند دعائه لهم إليها ،و عرفوا بها صدقه في جميع ما أخبرهم به-"ا.ه.["رسالة إلى أهل الثغر"ص177-179]

و قال عبدالله بن يوسف الجويني الشافعي –رحمه الله-(ت438) :"و كنت أخاف من إطلاق القول بإثبات العلو و الاستواء و النزول مخافة الحصر و التشبيه ،و مع ذلك فإذا طالعتُ النصوص الواردة في كتاب الله ،و سنة سوله –صلى الله عليه و سلم- أجدها نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ،و أجد الرسول -صلى الله عليه و سلم- قد صرَّح بها مخبراً عن ربه ،واصفاً له بها ،و أعلم بالاضطرار أنه كان يحضر في مجلسه الشريف العالم ،و الجاهل ،و الذكي ،و البليد ،و الأعرابي الجافي ، ثم لا أجد شيئاً يعقب تلك النصوص -التي كان- صلى الله عليه و سلم- يصف بها ربه : لا نصَّاً ،و لا ظاهراً مما يصرفها عن حقائقها ،و يؤولها كما تأولها هؤلاء مشايخي الفقهاء المتكلمون ،مثل تأويلهم الاستواء بالاستيلاء ،و النزول بنزول الأمر ،و غير ذلك ،و لم أجد عنه- صلى الله عليه و سلم- أنه كان يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفة ربه من الفوقية و اليدين و غيرهما ،مثل أن ينقل عنه مقالة تدل على أن لهذه الصفات معاني أُخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها ،مثل فوقية المرتبة ،و يد النعمة "،ثم ذكر جملة من نصوص الصفات.["النصيحة في صفات الرب"ص4]

و قال مرعي بن يوسف الكرمي المقدسي الحنبلي –رحمه الله- (ت1033) : "و يجد الناظر في النصوص الواردة عن الله ،و رسوله –صلى الله عليه و سلم- في ذلك نصوصاً تشير إلى حقائق هذه المعاني ،و يجد الرسول - صلى الله عليه و سلم- : تارة قد صرح بها مخبراً بها عن ربه ،و اصفاً له بها.
و من المعلوم أنه -عليه السلام- كان يحضر في مجلسه الشريف ،و العالم و الجاهل ،و الذكي و البليد ،و الأعرابي الجافي ،ثم لا يجد شيئاً يعقب تلك النصوص مما يصرفها عن حقائقها : لا نصاً و لا ظاهراً كما تأولها بعض هؤلاء المتكلمين ،و لم ينقل عنه -عليه السلام- أنه كان يحذِّر الناس من الإيمان بما يظهر من كلامه في صفته لربه من الفوقية و اليدين و نحو ذلك ،و لا نقل عنه أن لهذه الصفات معاني أخر باطنة غير ما يظهر من مدلولها ،و لما قال للجارية : "أين الله؟ فقالت : "في السماء" لم ينكر عليها بحضرة أصحابه كي لا يتوهموا أن الأمر على خلاف ما هو عليه ،بل أقرها ،و قال : "أعتقها ؛فإنها مؤمنة" ،إلى غير ذلك من الدلائل -التي يطول ذكرها- ،و لم يقل الرسول –صلى الله عليه و سلم-،و لا أحد من سلف الأمة يوماً من الدهر: " هذه الآيات و الأحاديث لا تعتقدوا ما دلت عليه" ؛وكيف يجوز على الله و رسوله –صلى الله عليه و سلم-،و السلف أنهم يتكلمون دائماً بما هو نص أو ظاهر في خلاف الحق ،ثم الحق -الذي يجب اعتقاده- لا يتكلمون به ،و لا يدلون عليه" ا.ه["أقاويل الثقات في تأويل الأسماء والصفات والآيات المحكمات والمشتبهات"ص85-86]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه السادس : أنَّ العقل الصريح يدل على على عدم تكييف صفات الله –تعالى- الواردة في الكتاب و السنة من أوجه عديدة ،سيأتي ذكرها مفصَّلةً في الكلام على الأصل الثالث من أصول مذهب أهل السنة و الجماعة في هذا الباب،و هو "نفي التكييف" –إن شاء الله-.
و هذا يقتضي فهم معاني الصفات الإلهية ؛ لأن نفي العلم بالكيفية مع عدم العلم بالمعنى عبثٌ.

قال ابن تيمية –رحمه الله- (ت728) : "لو لم يكن معنى الاستواء فى الآية معلوماً لم يحتج أن يقول : "الكيف مجهول" ؛ لأن نفي العلم بالكيف لا يُنفَى إلا [عن] ما قد عُلم أصله ،كما نقول : "إنا نقر بالله ،و نؤمن به ،و لا نعلم كيف هو""ا.ه.["مجموع الفتاوى"5/145]

و قال ابن قيم الجوزية -رحمه الله- (ت751):"إن العقل قد يئس من تعرُّف كنه الصفة ،و كيفيتها ؛فإنه لا يعلم كيف الله إلا الله ،و هذا معنى قول السلف : "بلا كيف" أي : بلا كيف يعقله البشر ؛فإن من لا تعلم حقيقة ذاته ،و ماهيته كيف تعرف كيفية نعوته ،و صفاته ،و لا يقدح ذلك في الإيمان بها ،و معرفة معانيها ؛فالكيفية وراء ذلك ؛كما أنا نعرف معاني ما أخبر الله به من حقائق ما في اليوم الآخر ،و لا نعرف حقيقة كيفيته ،مع قرب ما بين المخلوق و المخلوق ؛فعجزنا عن معرفة كيفية الخالق ،و صفاته أعظم و أعظم"ا.ه.["مدارج السالكين منازل إياك نعبد وإياك نستعين"3/376]

و قال عبدالله بن يوسف الجويني الشافعي -رحمه الله- (ت438) : "لا ريب أنا نحن وإياهم متفقون على إثبات صفات الحياة و السمع و البصر و العلم و القدرة و الإرادة و الكلام لله –تعالى- ،و نحن قطعاً لا نعقل من الحياة إلا هذا العرض -الذي يقوم بأجسامنا- ،و كذلك لا نعقل من السمع و البصر إلا أعراضاً تقوم بجوارحنا ،فكما أنهم يقولون : "حياته ليست بعرض ،و علمه كذلك ،و بصره كذلك ،هي صفات كما يليق به ،لا كما يليق بنا" : فكذلك نقول نحن : "حياته معلومة ،و ليست مكيفة ،و علمه معلوم ،و ليس مكيفا ،و كذلك سمعه و بصره معلومان ،وليس جميع ذلك أعراضاً ، بل هو كما يليق به ،و مثل ذلك بعينه فوقيته ،و استواؤه ،و نزوله ؛ففوقيته معلومة -أعني ثابتة كثبوت حقيقة السمع ،و حقيقة البصر ؛فإنهما معلومان، و لا يكيفان ،كذلك فوقيته معلومة ثابتة غير مكيفة كما يليق به ،و استواؤه على عرشه معلوم ثابت كثبوت السمع و البصر ،غير مكيف ،و كذلك نزوله ثابت معلوم غير مكيف بحركة و انتقال يليق بالمخلوق ،بل كما يليق بعظمته و جلاله ،و صفاته معلومة من حيث الجملة و الثبوت ،غير معقولة له [أي:المؤمن] من حيث التكييف و التحديد ،فيكون المؤمن بها مبصراً من وجه ،أعمى من وجه : مبصراً من حيث الإثبات و الوجود ،أعمى من حيث التكييف و التحديد ،و بها يحصل الجمع بين الإثبات لما وصف الله به نفسه ،و بين نفي التحريف و التشبيه و الوقوف [أي :التفويض] ،و ذلك هو مراد الله –تعالى- منا في إبراز صفاته لنا ؛لنعرفه بها ،و نؤمن بحقائقها ،و ننفي عنها التشبيه ،و لا نعطلها بالتحريف و التأويل ،و لا فرق بين الاستواء و السمع ،و لا بين النزول و البصر ؛لأن الكل ورد في النص ،فإن قالوا لنا في الاستواء : "شبهتم" نقول لهم في السمع : "شبهتم ،و وصفتم ربكم بالعرض" ،و إن قالوا : "لا عرض ،بل كما يليق به" قلنا في الاستواء و النزول و اليد و الوجه و القدم و الضحك و التعجب من التشبيه نلزمهم به في الحياة و السمع و البصر و العلم ؛فكما لا يجعلونها أعراضاً كذلك نحن لا نجعلها جوارح ،و لا مما يوصف به المخلوق ،و ليس من الإنصاف أن يفهموا في الاستواء و النزول و الوجه و اليد صفات المخلوقين ؛فيحتاجون إلى التأويل و التحريف، فإن فهموا في هذه الصفات ذلك فيلزمهم أن يفهموا في الصفات السبع صفات المخلوقين من الأعراض ،فما يلزموننا في تلك الصفات من التشبيه و الجسمية نلزمهم في هذه الصفات من العرضية ،و ما ينزهون ربهم به في الصفات السبع ،و ينفونه عنه من عوارض الجسم فيها فكذلك نحن نعمل في تلك الصفات -التي ينسبوننا فيها إلى التشبييه- سواء بسواء ،و من أنصف عرف ما قلناه ،و اعتقده ،و قَبِل نصيحتنا ،و دان الله بإثبات جميع صفاته هذه [و] تلك ،و نفى عن جميعها التعطيل و التشبيه و التأويل و الوقوف [أي: التفويض] ،و هذا مراد الله –تعالى- منا في ذلك لأن هذه الصفات و تلك جاءت في موضع واحد ،و هو الكتاب و السنة ،فإذا أثبتنا تلك بلا تأويل ،و حرفنا هذه ،و أولناها كان كمَن آمن ببعض الكتاب ،و كفر ببعض ،و في هذا بلاغ و كفاية "ا.ه.["النصيحة في صفات الرب"ص4]

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ـــــــــــــ

الوجه الثامن : "أنه من أعظم المحال أنْ يكون المصنِّفون في جميع العلوم قد بينوا مرادهم ،و علم الناس مرادهم منها يقيناً : سواء كان ذلك المعلوم مطابقاً للحق ،أو غير مطابق له ،و يكون الله –تعالى- ،و رسوله –صلى الله عليه و سلم- لم يبين مراده بكلامه ،و لا تيقنت الأمة إلى الآن ما أراد بكلامه ؛فهذا لا يقوله إلا مَن هو من أجهل الناس بالله و رسوله و كلامه"["الصواعق المرسلة"2/766]

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه التاسع: أن القائلين بالتفويض منتناقضون ؛و التناقض مبطل لكل قول أو عمل يقع فيه،و قد وضح شيخ الإسلام ابن تيمية ،و تلميذه العلامة ابن قيم الجوزية –رحمهما الله- ذلك في مواضع من مصنفاتهما،و سأذكر منها هنا ما يكفي عن ما سواه :

قال شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- (ت728) : "و هؤلاء -الذين ينفون التأويل مطلقاً ،و يحتجون بقوله –تعالى- : "و ما يعلم تأويله إلا الله"[آل عمران:] قد يظنون أنا خوطبنا فى القرآن بما لا يفهمه أحد ،أو بما لا معنى له ،أو بما لا يُفهم منه شىء.
و هذا مع أنه باطل فهو متناقضٌ ؛ لانا إذا لم نفهم منه شيئاً لم يجز لنا أن نقول : "له تأويل يخالف الظاهر ،و لا يوافقه" ؛لإمكان أن يكون له معنى صحيح ،و ذلك المعنى الصحيح لا يخالف الظاهر المعلوم لنا ؛فانه لا ظاهر له على قولهم ،فلا تكون دلالته على ذلك المعنى دلالةً على خلاف الظاهر فلا يكون تأويلاً،و لا يجوز نفي دلالته على معان لا نعرفها على هذا التقدير ؛فإن تلك المعانى -التى دل عليها- قد لا نكون عارفين بها ،و لأنا إذا لم نفهم اللفظ و مدلوله فلأن لا نعرف المعاني -التى لم يدل عليها اللفظ- أولى ؛لأن إشعار اللفظ بما يراد به أقوى من إشعاره بما لا يراد به،فإذا كان اللفظ لا إشعار له بمعنى من المعاني لا يُفهم منه معنى أصلاً لم يكن مشعراً بما أريد به فلأن لا يكون مشعراً بما لم يُرَد به أولى
، فلا يجوز أن يقال : "إن هذا اللفظ متأوَّل" بمعنى أنه مصروف عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح ،فضلاً عن أن يقال : "إن هذا التأويل لا يعلمه إلا الله" ،اللهم إلا أن يُراد بالتأويل ما يخالف ظاهره المختص بالخلق ،فلا ريب أن من أراد بالظاهر هذا لا بد و أن يكون له تأويل يخالف ظاهره ،لكن إذا قال هؤلاء : "إنه ليس لها تأويل يخالف الظاهر" ،أو : "إنها تجرى على المعاني الظاهرة منها" كانوا متناقضين ، و إن أرادوا بالظاهر هنا معنى ،و هناك معنى فى سياق واحد من غير بيان كان تلبيساً.
و إن أرادوا بالظاهر مجرد اللفظ أي : تجرى على مجرد اللفظ -الذى يظهر- من غير فهم لمعناه : كان إبطالهم للتأويل ،أو إثباته تناقضاً ؛ لأن مَن أثبت تأويلاً ،أو نفاه : فقد فهم معنى من المعاني."ا.ه.[الرسالة التدمرية ضمن"مجموع الفتاوى"3/،وانظر5/35]

و قال –أيضاً- : "و هؤلاء أهل التضليل و التجهيل -الذين حقيقة قولهم : إن الأنبياء جاهلون ضالون ،لا يعرفون ما أراد الله بما وصف به نفسه من الآيات و أقوال الأنبياء- :
ثم هؤلاء منهم من يقول : "المراد بها خلاف مدلولها الظاهر و المفهوم ،و لا يعرف أحد من الأنبياء و الملائكة و الصحابة و العلماء ما أراد الله بها كما لا يعلمون وقت الساعة".
و منهم من يقول : "بل تُجرى على ظاهرها ،و تحمل على ظاهرها" ،و مع هذا فلا يعلم تأويلها إلا الله ؛فيتناقضون ؛حيث أثبتوا لها تأويلاً يخالف ظاهرها ،و قالوا ـ مع هذا ـ : "إنها تحمل على ظاهرها" ،و هذا ما أنكره ابن عقيل على شيخة القاضي أبي يعلى في كتاب : "ذم التأويل" "["درأتعارض العقل والنقل"1/15]

و قال ابن قيم الجوزية –رحمه الله- (ت751) : "إن أصحاب هذا القانون في قول مختلف ؛يؤفك عنه من أفك :
فتارة يقولون : "نحن نعلم انتفاء الظاهر قطعاً ،و أنه غير المراد ،و إن كنا لا نعلم عين المراد".
و تارة يقولون : "بل الرسول خاطب الخلق خطاباً جمهورياً يوافق ما عندهم ،و ما ألفوه ،و لو خاطبهم بإثبات موجود ،لا داخل العالم و لا خارجه،و لا يتكلم ،و لا يكلم ،و لا يُرى عياناً ،و لا يشار إليه : لقالوا : "هذه صفات معدومٍ ،لا موجود" ،فوقعوا في التعطيل ؛فكان الأصلح أن يأتي بألفاظ دالة على ما يناسب ما نحلوه ،و ألفوه ؛فيخلصهم من التعطيل.
فكيف يجتمع هذا القول و قولهم : "إن الظاهر غير مراد" ؛فإن كان قد أراد منهم الظاهر بطل قولهم : "إن الظاهر غير مراد" ،وإن أراد منهم التأويل يبطل قولهم : "إنه قصد خطابهم بما يخيل إليهم ،و يتمكنون معه من إثبات الصانع ،و يتخلصون من التعطيل"،فأي تناقض أشد من هذا ؛فإن أراد الظاهر فقد أراد –عندكم- إفهام الباطل -الذي دل عليه لفظه-،و إن لم يرد الظاهر ،بل أراد منهم التأويل لم يحصل الغرض -الذي ذكرتموه ،و لم يخلصوا من التعطيل ،و هذا لا حيلة لكم في دفعه.
فهما طريقتان باطلتان مضادتان لقصد الرسالة ؛هؤلاء يقولون أراد منهم أن يتخيلوا ما ينفعهم –و إن لم يكن حقاً في نفس الأمر-،و أصحاب التأويل يقولون : "أراد منهم ضد ذلك المعنى -الذي دل عليه كلامه و نصه" ،و تارة يقولون : "أراد منهم تأويل النصوص"،و تارة يقولون : "أراد منهم تفويضها" ،و قد نزه الله رسولَه –صلى الله عليه و سلم- عن أن يريد المعاني الباطلة ،أو يقصر في بيان ما أراده؛فإن الأول كذبٌ و تدليس و تلبيس ،و الثاني تقصير في البيان ،و إذا كان الرسول –صلى الله عليه و سلم-منزهاً عن هذا ،و هذا ؛ فالرب –تعالى- أولى بتنزيهه عن الأمرين.
و قد قام الدليل القطعي على تنزيه الله ،و رسوله عن ذلك ؛فلا يُقدح فيه بالشبه الخيالية الفاسدة"ا.ه.["الصواعق"2/771،وانظر2/423]
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ــــــــ
وللحديث بقيــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــة.

توحيدُالأسماءوالصِّفات:منزلتهُ،أصولهُ،خصائصهُ(الحلقة التاسعة)-الردعلى المفوضة-
بسم الله الرحمن الرحيم
في هذه الحلقة أنهي الكلام على الأدلة العقلية الدالة على بطلان مذهب التفويض،والحمدلله أولاً و آخراً.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

الوجه العاشر:أن القول بالتفويض مضادٌّ لحال النبي –صلى الله عليه و سلم-،و حال الصحابة –رضي الله عنهم- ،قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله- (ت728)،و قد سئل عن قوله في آيات الصفات و أحاديثها : "قولنا فيها ما قاله الله و رسوله – صلى الله عليه و سلم- ،و السابقون الأولون من المهاجرين و الأنصار و الذين اتبعوهم بإحسان ،و ما قاله أئمة الهدى بعد هؤلاء -الذين أجمع المسلمون على هدايتهم و درايتهم-؛و هذا هو الواجب على جميع الخلق في هذا الباب و غيره ؛فإن الله -سبحانه و تعالى- بعث محمداً -صلى الله عليه و سلم- بالهدى و دين الحق ؛ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد ،و شهد له بأنه بعثه داعياً إليه بإذنه و سراجاً منيراً ،و أمره أن يقول :"قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني"[يوسف:108]؛ فمن المحال في العقل و الدين أن يكون السراج المنير -الذى أخرج الله به الناس من الظلمات إلى النور ،و أنزل معه الكتاب بالحق ؛ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه ،و أمر الناس أن يردوا ما تنازعوا فيه من أمر دينهم إلى ما بعث به من الكتاب و الحكمة ،و هو يدعو إلى الله ،و إلى سبيله بإذنه على بصيرة ،و قد أخبر الله بأنه أكمل له ،و لأمته دينهم ،و أتم عليهم نعمته_: محالٌ مع هذا ،و غيره أن يكون قد ترك باب الإيمان بالله ،و العلم به ملتبساً مشتبهاً ،و لم يميز بين ما يجب لله من الأسماء الحسنى و الصفات العليا ،و ما يجوز عليه ،و ما يمتنع عليه ؛ فإن معرفة هذا أصلُ الدين ،و أساس الهداية ،و أفضل ،و أوجب ما اكتسبته القلوب ،و حصلته النفوس ،و أدركته العقول ؛فكيف يكون ذلك الكتاب ،و ذلك الرسول ،و أفضل خلق الله بعد النبيين لم يُحكموا هذا الباب اعتقاداً و قولاً .
و من المحال –أيضاً- أن يكون النبى –صلى الله عليه و سلم- قد علم أمته كل شىء حتى الخِراءة ،و قال :"تركتكم على المحجة البيضاء ،ليلها كنهارها ؛لا يزيغ عنها بعدي إلا هالك"، و قال فيما صح عنه –أيضاً- : "ما بعث الله من نبى إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ،و ينهاهم عن شر ما يعلمه لهم"، و قال أبو ذر –رضي الله عنه-:"لقد توفي رسول الله و ما طائرٌ يقلب جناحيه فى السماء إلا ذكر لنا منه علماً"،و قال عمر بن الخطاب –رضي الله عنه-:" قام فينا رسول الله مقاماً ؛فذكر بدء الخلق حتى دخل أهل الجنة منازلهم ،و أهل النار منازلهم ،حفظ ذلك من حفظه ،و نسيه من نسيه" رواه البخاري.
و محال مع تعليمهم كلَّ شىء لهم فيه منفعة فى الدين –و إن دقت- أن يترك تعليمهم ما يقولونه بألسنتهم ،و يعتقدونه فى قلوبهم فى ربهم و معبودهم رب العالمين -الذى معرفته غاية المعارف ،و عبادته أشرف المقاصد ،و الوصول إليه غاية المطالب ،بل هذا خلاصة الدعوة النبوية ،و زبدة الرسالة الإلهية-؛ فكيف يَتوهَّم مَن فى قلبه أدنى مسكة من إيمان و حكمة أنْ لا يكون بيان هذا الباب قد وقع من الرسول –صلى الله عليه و سلم- على غاية التمام.
ثم إذا كان قد وقع ذلك منه فمن المحال أن يكون خير أمته ،و أفضل قرونها قصَّروا فى هذا الباب زائدين فيه ،أو ناقصين عنه.
ثم من المحال –أيضاً- أن تكون القرون الفاضلة -القرن الذي بعث فيه رسول الله –صلى الله عليه و سلم- ،ثم الذين يلونهم ،ثم الذين يلونهم كانوا غير عالمين ،و غير قائلين فى هذا الباب بالحق المبين ؛لأن ضد ذلك :
إما عدم العلم و القول.
و إما اعتقاد نقيض الحق ،و قول خلاف الصدق.
و كلاهما ممتنعٌ :
أما الأول فلأن من فى قلبه أدنى حياة ،و طلب للعلم ،أو نهمة فى العبادة يكون البحث عن هذا الباب ،و السؤال عنه ،و معرفة الحق فيه أكبرَ مقاصده ،و أعظم مطالبه -أعني بيان ما ينبغي اعتقاده ،لا معرفةَ كيفية الرب ،و صفاته-؛ و ليست النفوس الصحيحة إلى شىء أشوق منها إلى معرفة هذا الأمر، و هذا أمر معلوم بالفطرة الوجدية.
فكيف يُتصور مع قيام هذا المقتضي -الذى هو من أقوى المقتضِيات- أنْ يتخلف عنه مقتضاه في أولئك السادة ،في مجموع عصورهم ،هذا لا يكاد يقع فى أبلد الخلق ،و أشدهم أعراضاً عن الله ،و أعظمهم إكباباً على طلب الدنيا ،و الغفلة عن ذكر الله –تعالى-؛ فكيف يقع في أولئك؟!
و أما كونهم كانوا معتقدين فيه غيرَ الحق ،أو قائليه فهذا لا يعتقده مسلم ،و لا عاقل عرف حالَ القوم.
ثم الكلام فى هذا الباب عنهم أكثر من أن يمكن سطْرُهُ فى هذه الفتوى ،و أضعافها ،يعرف ذلك مَن طلبه ،و تتبعه"ا.ه..["مجموع الفتاوى"5/،وانظر "الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة"1/ لابن قيم الجوزية]
و يمكن بيان ما تقدم بأن يقال :"رسالة النبي -صلّى الله عليه و سلّم- تتضمن شيئين هما : العلم النافع، و العمل الصالح كما قال –تعالى-:"هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ"[التوبة:الاية33] .
فالهدى هو: العلم النافع.
و دين الحق هو: العمل الصالح -الذي اشتمل على الإخلاص لله، و المتابعة لرسوله -صلّى الله عليه و سلّم-.
و العلم النافع يتضمن كلَّ علم يكون للأمة فيه خير و صلاح في معاشها،و معادها،و أول ما يدخل في ذلك العلم بأسماء الله و صفاته و أفعاله؛ فإن العلم بذلك أنفع العلوم،و هو زبدة الرسالة الإلهية، و خلاصة الدعوة النبوية، و به قوام الدين قولاً، و عملاً، و اعتقاداً.
و من أجل هذا كان من المستحيل أن يهمله النبي -صلّى الله عليه و سلّم-، و لا يبيّنه بياناً ظاهراً ينفي الشكّ، و يدفع الشبهة، و بيان استحالته من وجوه :
الأول : أن رسالة النبي -صلّى الله عليه و سلّم- كانت مشتملة على النور و الهدى؛ فإن الله بعثه بشيراً و نذيراً، و داعياً إلى الله بإذنه، و سراجاً منيراً، حتى ترك أمته على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، و أعظم النور ،و أبلغه ما يحصل للقلب بمعرفة الله، و أسمائه، و صفاته، و أفعاله، فلا بد أن يكون النبي -صلّى الله عليه و سلّم- قد بيّنه غاية البيان.
الثاني : أن النبي -صلّى الله عليه و سلّم- علّم أمته جميع ما تحتاج إليه من أمور الدين و الدنيا، حتى آداب الأكل، و الشرب، و الجلوس، و المنام ،و غير ذلك ،قال أبو ذر - رضي الله عنه -: "لقد توفي رسول الله -صلّى الله عليه و سلّم- و ما طائر يقلب جناحيه إلا ذكر لنا منه علماً".
و لا ريب أن العلم بالله، و أسمائه، و صفاته، و أفعاله داخل تحت هذه الجملة العامة، بل هو أول ما يدخل فيه ؛لشدة الحاجة إليه.
الثالث : أن الإيمان بالله –تعالى- و أسمائه و صفاته و أفعاله هو أساس الدين، و خلاصة دعوة المرسلين، و هو أوجب ،و أفضل ما اكتسبته القلوب ،و أدركته العقول؛ فكيف يهمله النبي -صلّى الله عليه و سلّم- من غير تعليم ،و لا بيان مع أنه كان يعلِّم ما هو دونه في الأهمية و الفضيلة؟!
الرابع " أن النبي -صلّى الله عليه و سلّم- كان أعلم الناس بربه، و هو أنصحهم للخلق، و أبلغهم في البيان و الفصاحة؛ فلا يمكن مع هذا المقتضي التام للبيان أن يترك باب الإيمان بالله و أسمائه و صفاته ملتبساً مشتبهاً.
الخامس : أن الصحابة - رضي الله عنهم - لا بد أن يكونوا قائلين بالحق في هذا الباب؛ لأن ضدّ ذلك "
إما السكوت.
و إما القول بالباطل.
و كلاهما ممتنع عليهم :
أمّا امتناع السكوت فوجهه: أن السكوت :
إمّا أن يكون عن جهل منهم بما يجبُ لله –تعالى- من الأسماء و الصفات، و ما يجوز عليه منها ،و يمتنع.
و إمّا أن يكون عن علم منهم بذلك ،و لكن كتموه.
و كلٌّ منهما ممتنع :
أما امتناع الجهل : فلأنه لا يمكن لأي قلب فيه حياة، و وعي ،و طلب للعلم، و نهمة في العبادة إلا أن يكون أكبر همّه هو البحث في الإيمان بالله –تعالى-، و معرفته بأسمائه و صفاته، و تحقيق ذلك علماً و اعتقاداً.
و لا ريب أن القرون المفضلة ،و أفضلهم الصحابة هم أبلغ الناس في حياة القلوب، و محبة الخير، و تحقيق العلوم النافعة، كما قال النبي -صلّى الله عليه و سلّم-: "خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم" ، و هذه الخيرية تعمُّ فضلهم في كل ما يُقرّب إلى الله من قول، و عمل، و اعتقاد.
ثم لو فرضنا أنهم كانوا جاهلين بالحق في هذا الباب لكان جهل مَنْ بعدهم من باب أولى؛ لأن معرفة ما يُثْبَتُ لله –تعالى- من الأسماء و الصفات، أو يُنْفَى عنه إنما تُتَلقَّى من طريق الرسالة، و هم الواسطة بين الرسول -صلّى الله عليه و سلّم- و بين الأمة، و على هذا الفرض يلزم أن لا يكون عند أحد علم في هذا الباب، و هذا ظاهر الامتناع.
و أما امتناع كتمان الحق : فلأنّ كل عاقل منصف عرف حال الصحابة - رضي الله عنهم - ،و حرصهم على نشر العلم النافع، و تبليغه الأمة فإنه لن يمكنه أن ينسب إليهم كتمان الحق – و لا سيما في أوجب الأمور، و هو معرفة الله و أسمائه و صفاته-.
ثم إنه قد جاء عنهم من قول الحق في هذا الباب شيء كثير يعرفه من طلبه وتتبّعه.
و أما امتناع القول بالباطل عليهم فمن وجهين :
أحدهما : أن القول بالباطل لا يمكن أن يقوم عليه دليل صحيح.
و من المعلوم أن الصحابة - رضي الله عنهم - أبعد الناس عن القول فيما لم يقم عليه دليل صحيح، خصوصاً في أمر الإيمان بالله –تعالى-، و أمور الغيب، فهم أولى الناس بامتثال قوله –تعالى-: "وَ لا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ "[الإسراء: 36] ، و قوله : "قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَ مَا بَطَنَ وَ الإثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ"[الأعراف: الاية33] .
ثانيهما : أن القول بالباطل :
إما أن يكون مصدره الجهل بالحق.
و إما أن يكون مصدره إرادة ضلال الخلق.
و كلاهما ممتنعٌ في حق الصحابة -رضي الله عنهم- :
أما امتناع الجهل فقد تقدّم بيانه.
و أما امتناع إرادة ضلال الخلق : فلأن إرادة ضلال الخلق قصدٌ سيئ، لا يمكن أن يصدر من الصحابة -الذين عُرفوا بتمام النصح للأمة، و محبة الخير لها.
ثم لو جاز عليهم سوء القصد فيما قالوه في هذا الباب لجاز عليهم سوء القصد فيما يقولونه في سائر أبواب العلم و الدين؛ فتعدم الثقة بأقوالهم و أخبارهم في هذا الباب و غيره، و هذا من أبطل الأقوال؛ لأنه يستلزم القدح في الشريعة كلها.
و إذا تبين أن الصحابة - رضي الله عنهم - لا بدَّ أن يكونوا قائلين بالحق في هذا الباب فإنهم :
إما أن يكونوا قائلين ذلك بعقولهم.
أو من طريق الوحي.
و الأول ممتنع ؛ لأن العقل لا يُدْرِك تفاصيل ما يجب لله –تعالى- من صفات الكمال؛ فتعين الثاني، و هو أن يكونوا تلقوا هذه العلوم من طريق رسالة النبي -صلّى الله عليه و سلّم-، فيلزم على هذا أن يكون النبي -صلّى الله عليه و سلّم- قد بين الحق في أسماء الله و صفاته، و هذا هو المطلوب"ا.ه.[" فتح رب البرية بتلخيص الحموية"ص3-4لابن عثيمين]










 

No comments:

Post a Comment