Sunday, August 1, 2010

التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي: مساهمة في دراسة ثنائية الحكم والدين في النسق المغربي الوسيط

بسم الله الرحمن الرحيم

التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي: مساهمة في دراسة ثنائية الحكم والدين في النسق المغربي الوسيط 
الباحث د. محمد الشريف 
أستاذ التاريخ بكلية الاداب بتطوان، ومتخصص في العصر الموحدي

حكاية لقاء بن تومرت مع حجة الاسلام الغزالي غير صحيحة ولم يوكله الامام اصلاح الاسلام في المغرب
التطرف الدموي في حركة الغزو الموحدي قد مهدت مباشرة للإقبال الشعبي الواسع علي التصوف الزهدي
التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي: مساهمة في دراسة ثنائية الحكم والدين في النسق المغربي الوسيط (1 ــ 3)
محمد الشريف
يتضح من القرائن المصدرية، ومن مختلف الدراسات القطاعية الحديثة المتصلة بتاريخ الغرب الإسلامي، أن التصوف شكل أحد أبرز الحساسات الدينية داخل مجتمعاته، وأحد مقوماتها الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية، بل وحتي السياسية والاقتصادية. فهو أحد أبرز عناصر التراث الإسلامي التي كان لها تأثير عميق في مجري الحياة اليومية لمغاربة العصر الوسيط.
ولئن كانت بدايات التصوف المغربي ـ مثلها مثل بدايات التصوف المشرقي والأندلسي متواضعة، متمثلة في الممارسات الزهدية التي كان يحياها بعض النساك والمتعبدين، كما تخبرنا بذلك مختلف كتب التراجم المغربية والأندلسية، فإن التصوف سرعان ما اكتسح النسيج المغربي بمركبيْه القروي والحضري، وأخذ يتسلل حتي إلي أوساط عامة المثقفين وخاصتهم، وأصبح قوة اجتماعية وسياسية فاعلة. بل استطاع المتصوفة -لأسباب متعددة- أن يفرضوا وجودهم علي الدولة المغربية منذ نهاية القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد. فقد بلغوا من القوة شأوا، بحيث أصبح ثقلهم الاجتماعي والسياسي أمرا يستوقف الباحث. ويكفي أن نتصفح بعض المؤلفات المناقبية، مثل كتاب المستفاد لمحمد التميمي، أو السر المصون لطاهر الصدفي، أو التشوف لابن الزيات التادلي، أو المقصد الشريف لعبد الحق البادسي، لنقف علي حقيقة تغلغل التصوف ورجاله في النسيج المجتمعي المغربي، وانتشار رجاله عبر مجموع المجال المغربي، شمالا وجنوباً، بادية وحاضرة، وكذا علي مختلف الأدوار والوظائف التي أنيطت بهم في سياق التفاعل الاجتماعي خلال تلك الأعصار.
ولا يتسع المجال، في هذا التقديم المقتضب، للوقوف عند الأسباب التي مهدت لذلك الاكتساح وواكبته، ولا لضبط خلفيات الإقبال الشعبي الواسع علي التصوف الزهدي. لكن لا مندوحة من الإشارة إلي قضية أساسية في تقديرنا : إن تغلغل هذه القوة الاجتماعية الدينية في المجتمع، وانتشار المريدين، وتوزع الأولياء وشيوخ التصوف، أصحاب الزمان ، بحسب بعض التسميات، كان من شأنه أن يفرز سلطة رمزية ، قادرة علي أن تنازع أصحاب السلطة الفعلية علي النفوذ السياسي، أو علي الأقل، علي السيطرة علي قسم أو علي فئة من العامة. فقد جسد الوليّ بسلوكه المميَّز، وبتأطيره لفئات عريضة من المجتمع، ومن خلال الوظائف والأدوار التي اضطلع بها داخل مجتمعه، وبالخصوص وقوفه إلي جانب الرعية ضد تجاوزات الحُكام وأعوانهم، نوعا من الحَـكـَم - البديـل للسلطة القائمة. ألمْ تصبح الطرق الصوفية في فترة لاحقة، شريكة في بعض الأحيان للنظام السياسي الفاعل علي أرض الواقع؟
واللافت للانتباه هو أن المعارضة الدينية- السياسية ضد الموحدين، والمذهب الموحدي، قد اصطبغت طيلة القرنين السادس والسابع الهجريين/ الثاني عشر والثالث عشر للميلاد بهذا اللون الصوفي، فتزعمها أفراد ليسوا فقهاء محترفين وإنما هم زهاد وعُـبّاد ومتصوفة قضوا معظم حياتهم العملية بالأرياف والجبال والرباطات النائية، أو حمل لواءها بعض المتنبئين الطامحين إلي الحكم، معتمدين في ذلك علي استثمار الموجة الصوفية أو ادعاء المهدوية.

وهذا الأمر لم يغرب عن بال الخلفاء الموحدين. فقد أدركوا مدي القوة التي يلعبها تيار التصوف في اجتذاب المريدين وتنظيمهم، واستشعروا خطورته علي دولتهم. فحــــاولوا، منذ فترة مبكرة، الاستفادة من التيار الصوفي كوضـــع قائم، وعمدوا أحيانا أخري إلي تنظيمه بشكل يسمح باحتوائه وضبطه والتحكم فيه، كما راموا الاستفادة من شعبية أقطابه ورموزه، ولعب ورقتهم أمام العامة، كما حاولوا الاستعانة بالتصوف كقوة سياسية لا بد منها من أجل توطيد ركائز السلطة، وخلق قاعدة عريضة تكون دعامتها القوية وسندها الفاعل.
إن فهم مجمل التحولات التي طبعت علاقة المتصوفة بالسلطة بالمغرب الموحدي يقتضي وضع هذه العلاقة في إطارها التاريخي الصحيح، ورصد مختلف جوانبها الاجتماعية والسياسية والدينية، وتحديد الدوافع التي حتمت مواجهة التيارات الصوفية للجهاز السياسي الموحدي، أو عاضدته وشدت من أزره. ذاك ما حفزنا علي إعداد هذه الدراسة، التي نأمل أن تسهم في تجلية بعض الجوانب الغامضة التي ما فتئت تلف موضوع : ثنائية الحكــم والدين في النسق المغربي الوسيط .

حول جذور التصوف المغربي

من بين القضايا التي ما يزال يلفها الغموض بخصوص موضوع التصوف بالمغرب هناك مسألة تحقيب تطوره بشكل مقنع ودقيق، وطبيعة التيارات الخارجية التي أثرت فيه سواء بالنسبة للمشرق أو الأندلس. وليس هدفنا في هذا المدخل استجلاء هذه القضايا الشائكة، وإنما نروم التذكير فقط ببعض مصادر التأثير والقنوات التي تسربت منها تيارات التصوف لبلاد المغرب.
تميل كثير من الدراسات المتخصصة إلي ربط انتشار ظاهرة الأولياء والمتصوفة بالمرحلة الأخيرة من العصر المرابطي، حين تجذرت الأزمة في مختلف شرايين الحياة العامة. إلا أن هذا التحديد لا ينبغي أن يجعلنا نتغاضي عن الرصيد التاريخي الذي سبق هذه الفترة ومهد لها، وما يقتضيه من انعزال عن الملذات الدنيوية والاعتكاف علي العبادة والتردد علي الرباطات ...إلخ. فالأمر يقتضي منهجيا التمييز بين ثبوت وجود السلوك الزهدي منذ فترة مبكرة نسبياً، وما رافقه من مظاهر عكستها المواقف الخاصة للزهاد، وبين التصوف باعتباره مذهباً و نسقاً فكرياً وسلوكياً يعبر عن آراء ومواقف فئة اجتماعية تشترك في خصائص ومقومات محددة
فازدهار التصوف واكتساحه للنسيج الاجتماعي المغربي والأندلسي في القرن السادس الهجري خاصة (الثاني عشر الميلادي)، يجد جذوره في الحضور المستمر للميولات الزهدية بالأندلس، وهو تتويج للتطورات التي عرفتها القرون السابقة، خاصة مع انتشار مختلف مؤلفات الزهد والرقائق، ومجهودات بعض العلماء، أمثال أبي عمر الطلمنكي، الذين كان اهتمامهم بأصول الدين والتصوف مترابطاً جداً، وحاولوا استيعاب التصوف وإدماجه داخل نسق الإسلام السني.
وبالنظر إلي المعلومات المتوفرة، المشتتة فيما يخص الفترة المبكرة، يبدو أن التصوف قد دخل المغرب عن طريق ثلاث قنوات متزامنة : الإفريقية والأندلسية والمشرقية. وهذا الأمر يفترض القول إن ظهور التصوف بالمغرب كان متأخراً بالنسبة لبلاد المشرق، وكذا بالنسبة لبلاد افريقية والأندلس. ولكننا نميل إلي افتراض أن هذا التأخير مرتبط بتأخر الآثار الكتابية الشاهدة، لا بتأخر الظاهرة نفسها. ويبدو أن عدم وجود مقياس معياري واضح للتصنيف بين الأشخاص، وعدم الفصل بين صفات الخير والفضل والعلم في تراجم الفترة المبكرة، قد فوت علينا فرصة التعرف عن قرب علي جذور التصوف المغربي في بواكيره الأولي، خاصة وأن هناك مؤشرات عن بعض المغاربة الذين يوصفون بـ الصلاح أو النسك منذ بدايات الفتح الإسلامي لبلاد المغرب.
ومن الطبيعي أن تكون القناة المشرقية هي مصدر التأثير المباشر باعتبار المشرق الإسلامي مجال التصوف ومنطلقه، وإليه كان يهرع المغاربة لأداء فريضة الحج أو للاستزادة من العلم والنهل من معين الثقافة الإسلامية، أو للتجارة والتكسب، ومنه يعودون محملين بأفكار وتعاليم وسلوكات ومؤلفات صوفية، يعملون علي نشرها في الوسط المغربي. ويزخر كتاب المستفاد ـ مثله مثل كتاب التشوف ظ بأسماء عدد من المغاربة الذين يمموا وجوههم شطر المشرق، وأخذوا عن شيوخ التصوف هناك. ويكفي بهذا الصدد التذكير أنه عن طريق هذه القناة بالذات دخل مذهب الغزالي مبكراً إلي المغرب، وخاصة إلي مدينة فاس، ربما عن طريق أبي محمد صالح ابن حرزهم، الذي تتلمذ مباشرة علي الغزالي. إلا أن القناتين الأخريين (الإفريقية والأندلسية) لا تقلان أهمية عن القناة الأولي (المشرق).
فعن طريق القناة الإفريقية تسرب المجهود الدعائي لبعض شيوخ افريقية الزيرية، ومن بينهم تلامذة القاضي أبي عمران الفاسي. بل نتوفر علي شهادات حول وجود متصوفة بافريقية، منذ القرن 3 هـ / 9 م علي الأقل. ونعرف مثلا أنه في هذه الفترة كانت جماعات صوفية تجتمع بشكل دوري في بعض المساجد بالقيروان، وفي رباط المنستير خاصة. وتقوي التصوف بافريقية خلال القرن الرابع الهجري/ العاشر الميلادي خاصة، إذ تميزت هذه الفترة بازدياد الاحترام الشعبي للأولياء، وبظهور ممارسات صوفية وطقوس أثارت حفيظة بعض الفقهاء المالكيين. وخلال القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر للميلاد، برزت محاولات للتوفيق بين التصوف ومبادئ المذهب المالكي. ويعزز هذا الافتراض أن أغلب التراجم التي أوردها ابن الزيات التادلي (ت. 627 هـ) لرجالات من بلاد افريقية، يشترك أصحابها في امتلاك رصيد علمي وفقهي، بالإضافة إلي منحاهم الزهدي والتعبدي. بل إنهم كانوا ميالين للاستعاضة عن تدريس الفقه بالعمل علي نشر المؤلفات الصوفية. ولقد هاجر بعض هؤلاء الشيوخ من افريقية- ربما خلال النصف الثاني من القرن 5 هـ/11م واستقروا بالمغرب الأقصي، مساهمين بذلك في نشر التصوف في هذه المنطقة. فليس جزافاً أن تكون أولي تراجم كتاب التشوف هي تلك المتعلقة بهؤلاء الأفارقة بالذات، مثل : ابن سعدون القيرواني (ت. 485 هـ/1092 م)، صاحب عدة تآليف في الفقه المالكي، وناشر تعاليم الشيخ أبي بكر المطوعي في التصوف، أو عبد العزيز التونسي (ت. 486 هـ/1093 م)، الذي كان يحثّ تلامذته من المصامدة علي قراءة رعاية المحاسبي، ونحو ذلك من علوم التصوف، أو أبي الفضل ابن النحوي (ت. 513 هـ/ 1119م)، الذي أقام خلال فترة في سلجماسة وفاس، وهو أحد الذين ساهموا مساهمة كبيرة في نشر كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي والدفاع عنه. والملاحظ أن أغلب هؤلاء المتصوفة اختاروا أغمات وريكة - عاصمة المرابطين قبل بناء مراكش- مكانا لإقامتهم.
أما بخصوص القناة الأندلسية، فلا يخفي دورها في نقل التأثيرات الزهدية إلي بلاد المغرب كما تبين ذلك كتب التراجم المغربية الأندلسية، وعدد من الدراسات الحديثة حول انتشار الميولات الزهدية بالأندلس منذ فجر الإسلام بها حتي بدايات القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. وقد شكلت هذه الميولات الخميرة التي انبثق عنها مذهب صوفي من المحتمل أنه ظهر بالأندلس قبل القرن الخامس الهجري/ الحادي عشر الميلادي. خلال هذه الفترة، تم مثلا انتشار بعض أهم التآليف المشرقية المتعلقة بالتصوف مثل قوت القلوب لأبي طالب المكي، و رعاية المحاسبي . وارتسمت كذلك أولي مراكز للأنشطة الصوفية بالأندلس ومن بينها مدينة ألمرية - التي من أشهر ممثــــليها ابن العريف (توفي سنة 536 هـ/1141م) وقرطــــبة واشبيلية. وفي هذه الأخيرة ظهر ابن برجان (ت. 536هـ/1141م). ويجب أن لا نغفل بهذا الصدد أهمية القاضي أبي بكر بن العربي (ت.543 هـ /1148 م)، أحد أبرز الذين أدخلوا إحياء علوم الدين ، الذي شكــــل القاعدة المذهبية الأساس التي تغذت منها التيارات الزهــــدية الصوفية الكامنة بمنطقة الغرب الإسلامي. وتميز القرن السادس الهجري /12م بالانــــتقال المستمر لشيوخ التصوف بين ضفــــتيْ المضيق. ولدينا شهادات تفــــيد أنه عقب انكســـار ثورة ابن قسي (توفي سنة 546هـ/1151م) ، إمام طريقة المريدين بغرب الأندلس، لجأ بعض أتباعه إلي المغرب.
إلا أن تأثير مختلف هذه القنوات ما كان له أن يلاقي وسطاً محتضناً ومتقبلا داخل المجتمع المغربي لو لا تجذّر الأزمة في شرايينه، وخاصة أواخر العصر المرابطي، سواء علي المستوي الاقتصادي والاجتماعي، أو علي الأصعدة السياسية والإيديولوجية والثقافية، وهي الأزمة التي استغلها ابن تومرت لتقويض دعائم مشروعية الدولة المرابطية من خلال مهاجمته لمواطن الفساد في سياسة المرابطين في مختلف المجالات العقدية منها والثقافية والاجتماعية، وبركوبه موجة التصوف.

الممارسة الصوفية لابن تومرت
حسب الإستوغرافية الموحدية

لقد أوضحت بعض الدراسات الحديثة كيف أن الممارسات السياسية والدينية للمهدي ابن تومرت كانت تحاول إعادة إنتاج الرمزية النبوية. ولكن الإستوغرافية الموحدية الرسمية، وشبه الرسمية التي تصور لنا المهدي بأنه فتي شب علي التقوي والورع تحاول أن تضفي عليه كذلك طابع الولاية والكرامة عندما تخرج بدعوته من حيز العمل المنظم والهادف إلي حيز الظواهر الخارقة للعادة، وهذا ما نلمسه بوضوح عند أبي بكر البيذق وابن القطان اللذين يوردان كثيراً من كرامات المهدي بن تومرت. أما عبد الواحد المراكشي فهو يشير إلي كيفية جمع ابن تومرت بيت السلوك الزهدي والرغبة في تغيير الواقع قائلا : (كان) يكثر التزهد والتقلل، ويظهر التشبه بالصالحين والتشدد في إقامة الحدود، جاريا في ذلك علي السنة الأولي . ودون أن نضاعف من الأمثلة، يمكن القول إن الأمر يتعلق هذه المرة بمحاولة إضفاء طابع الولاية علي سيرة المهدي بن تومرت، أو إعادة إنتاج الرمزية الصوفية عن طريق إبراز المنحي الزهدي التقشفي والكرامي (التنبؤي) في سيرته الذاتية.
وقد يتساءل المرء عن لحظة إعادة التركيب التاريخي للمنحي الصوفي في شخصية ابن تومرت علي مستوي التدوين التاريخي. وإن كنا لا نعرف تاريخ تأليف كتاب فضائل الإمام المهدي المنسوب لأبي القاسم المؤمن، فإننا نرجح أن يكون هذا الموضوع قد بدأ في الظهور ابتداء من القرن السابع الهجري /13 م، أي بعد وفاة ابن تومرت بقرن من الزمن تقريبا، وبتزامن مع تشكيل أولي الجماعات الصوفية المنظمة في طوائف بالمغرب الأقصي، مثل طائفة أبي محمد صالح، وطائفة الهزميري، وتعميم التبجيل والاحترام الشعبي للأولياء والتبرك بهم.
ففي حين يذكر البيذق في معرض تتبعه لخطوات ابن تومرت في عودته إلي بلاد المغرب، مرور المهدي بتلمسان، وإقامته في منزل ابن صاحب الصلاة (قاضي تلمسان حسب ابن خلدون) بموقع يقع في ضواحي المدينة يسمي أكدير حيث التزم الطبلة المذاكرة للامام المهدي ، نجد أن راوية صاحب المعجب تختلف جذريا عن هذه الراوية البيذقية . فهو يذكر أن المهدي لما أتي تلمسان أقام بمسجد بظاهرها يعرف بالعباد ، وهو مكان يرتاده الصالحون، ويورد المراكشي قصة لابن تومرت أطلق فيها سراح المسجونين من سجن تلمسان، وكان السجانون والحرس يتمسحون به لبركته. وهذه الرواية - كما يظهر- لها شبه كبير بكرامات الأولياء.
والملاحظ أن إعادة تركيب رواية إقامة ابن تومرت بتلمسان ليست اعتباطية. ففي فترة تأليف المراكشي لكتابه، كان موضع العباد يؤوي جماعة صوفية كبيرة، وتحول إلي مركز يؤمه الوافدون لزيارة ضريح الشيخ أبي مدين. فبإيراده لرواية إقامة المهدي بهذا المكان، كان المراكشي يربط شخصية المهدي بأحد المراكز الحساسة للتصوف المغربي في القرن السابع الهجري /13م، وبإضفائه الكرامات علي ابن تومرت كان يعمل، من جهة أخري علي مساواته، في الحقيقة، مع باقي الأولياء الذين أصبحوا موضوع تبجيل من طرف العامة. إن المراكشي يؤكد بنفسه ـ في مكان آخر ـ أن ابن تومرت كان يكثر التزهد والتقلل، ويظهر التشبه بالصالحين .
ويحاول ابن القطان من جهته ـ هو من مؤرخي البلاط الموحدي في القرن السابع /13م ـ إيجاد رابط، ولو بصفة مصطنعة ، مابين المهدي ابن تومرت والأوساط الزهدية الصوفية. فبينما يذكر البيذق ـ وهو شاهد عيان ـ انتقال ابن تومرت إلي نواحي ملالة بعد طرده من مدينة بجاية، يدعي ابن القطان أنه خرج من بجاية إلي رباط خارجها وعلي القرب منها يقال له رباط ملالة حيث يقيم بعض الزهاد. وهنا عمر مجلسه الطلبة والصالحون . وفي نفس السياق يخصص ابن القطان فصلا كاملا للحديث عن الكرامات المنسوبة لإمام الموحدين.
وإذا كانت الإستوغرافية المرينية الرسمية تميل إلي التشكيك في هذا المنحي الصوفي للمهدي ابن تومرت فإن الدعاية الموحدية قد لقيت، علي ما يبدو، صدي لدي المؤرخين، إذ نجد أن ابن خلدون يتحدث عن قيام ابن تومرت علي المرابطين والتغلب عليهم وهو بحالة من التقشف والحصر والصبر علي المكاره والتقلل من الدنيا وأنه كان يلبس العباءة المرقعة، وله قدم في التقشف والعبادة . ويصف ابن خلكان بدوره شخصية ابن تومرت قائلا : كان ورعا ناسكا متقشفا مخشوشنا مخلولقا، كثير الإطراق، بساما في وجوه الناس، مقبلا علي العبادة، لا يصحبه من متاع الدنيا إلا عصا وركوة . بل إنها ربطت نجاحه في كسب الأتباع بعد إعلانه الثورة علي المرابطين بظهوره بمظهر الشيخ الزاهد صاحب الكرامات. يقول ابن أبي زرع الفاسي : وفرق من يثق بسياسته من تلامذته في البلاد القاصية والدانية يدعون إلي بيعته ويثبتون عند الناس إمامته، ويزرعون في قلوبهم محبته، مما يذكرون له من الفضائل والكرامات، ويصفونه به من الزهد في الدنيا
ومن جانب آخر، فمن الثابت حاليا أن ابن تومرت ـ علي عكس ما ترويه سيرته الرسمية ـ لم يلق الغزالي، ولا حضر حلقة دروسه، وبالأحري لم يوكل له الإمام المشرقي مهمة إصلاح الإسلام ببلاد المغرب، أو تقويض سلطان المرابطين بها. وكل شيء يدفعنا للاعتقاد أن قصة لقائه بالغزالي هي بدورها عبارة عن إعادة إنشاء إستوغرافية لاحقة. فالاستشهاد بالغزالي واستغلال مكانته أمر متأخر كثيراً. ولا يظهر اسمه بوصفه منطلق حياة ابن تومرت العامة إلا في الوقت عينه الذي بدأ يفتر فيه نفور الفقهاء المغاربة من الآراء الكلامية للإمام المشرقي الكبير.
من جهة أخري، نجد أن السلطة الموحدية حاولت بدورها الاستفادة من نوع معين من الحساسية الدينية لدي العامة، وهو المتمثل في زيارة قبور بعض الأولياء. ولرفع ابن تومرت إلي درجة الأولياء عمد الخلفاء الموحدون إلي ترسيم زيارة قبره بتينملل. وأصبحت زيارة الخلفاء لقبر المهدي تتم في جو من الطقوس الرسمية، وخلالها يتم التذكير بغر فضائله ومآثره . وإلي جانب ذلك، شجعت السلطات الموحدية زيارة بعض الأماكن المرتبطة بدعوة المهدي، وقامت ببناء رابطتين قرب مغارة كان ابن تومرت قد لجأ إليها بعد هروبه من مراكش سنة 514 هـ /1120م في موضع ايجليز من هرغة. ونعرف من بين هذه الأماكن المقدسة ، رابطة وانسري ورابطة الغار. فقد كان الناس يأخذون التراب منهما، فيتبركون به ويجعلونه علي المرضي . وواضح أن الخلفاء الموحدين كانوا يهدفون، في الحقيقة، السموّ بابن تومرت، ووضعه علي قدم المساواة مع الأولياء والمتصوفة الذين أصبحوا يحظون بشعبية كبيرة في أوساط السكان.
وثمة أمر مثير للانتباه هو أن كتب المناقب المغربية لا تشير إلي شيوع المؤلفات المذهبية للمهدي، وتداولها في الأوساط الصوفية، خلال العصر الموحدي، مع العلم أن الخلفاء الموحدين شجعوا علي الاهتمام بآثار المهدي الفكرية والعقدية، وأصدروا ظهائر يأمرون فيها بحمل الرعية علي الاعتناء بها والإقبال عليها. ولم تعرف مرشدة ابن تومرت، مثلا، إقبالا من لدنهم إلا في القرن الثامن الهجري /14م. فقد لاحظ أبو عبد الله محمد بن يحيي الشيباني الطرابلسي (منتصف القرن الثامن الهجري /14م) مؤلف إحدي الشروح علي المرشدة ، الاهتمام الكبير الذي تحظي به هذه الأخيرة في الأوساط الصوفية في عصره، ويشير أبو عبد الله محمد بن أبي العباس الأموي، المعروف بابن النقاش، وهو صاحب شرح علي المرشدة عنوانه : الدرة المفردة في شرح العقيدة المرشدة ، إلي انكباب فقراء ومتصوفة مدينة تلمسان علي حفظ مرشدة المهدي ابن تومرت، يقول : رأيت العقيدة المعروفة بالمرشدة المنسوبة إلي الإمام المهدي، رحمه الله، كثيراً ما يستعملها أهل الفضل من الصوفية ويقرؤونها علي جهة التبرك في أذكارهم، وقد تشوف بعضهم إلي بسط ألفاظها وشرح معانيها .ولم يخفت اهتمام متصوفة تلمسان بمرشدة المهدي خلال القرن التالي (9 هـ/15م). فهناك شيخ آخر من هذه المدينة ألف شرحا عليها، هو محمد بن يوسف بن عمر السنوسي (ت. سنة 895 هـ /1490م)، فضلا عن شروح أخري للمرشدة لم تصلنا، مما يدل علي بعض التعلق بها، وعلي بعض الأثر لتفكير ابن تومرت في القرون الموالية له .
ونشير إلي أن ابن عباد الرندي (ت. 792 هـ/1390م) يعتبر من بين الشيوخ المغاربة الأوائل الذين خصصوا شرحاً لمرشدة ابن تومرت، وإليه ينسب كتاب الدرة المشيدة في شرح المرشدة. وبهذا التأليف دشن ابن عباد تقليدا سيستمر لاحقا، وهو المتمثل في شرح مرشدة ابن تومرت من وجهة نظر صوفية.
إلا أنه لفهم انتشار مرشدة ابن تومرت في صفوف الدوائر الصوفية بالمغرب خلال القرن الثامن الهجري /14م، يبدو من الضروري استحضار نقاش، له طابع مذهبي، حول ضرورة الشيخ أو عدمه، لسلوك طريق القوم وفي هذا الجدل ـ المنطلق من غرناطة والذي شارك فيه علماء فاس ـ يدافع ابن عباد علي ضرورة الشيخ، ويقول في إجابته علي سؤال أبي إسحاق الشاطبي: الذي أراه أن الشيخ في سلوك التصوف علي الجملة أمر لازم لا يسع أحدا إنكاره . ومن المهم أن نلاحظ أن ابن عباد، في دفاعه عن دور الشيخ كمرشد روحي للمريدين المبتدئين، قد يكون اعتمد علي الدلائل التي استعملها ابن تومرت في بداية القرن السادس الهجري. لقد ضمن ابن تومرت في المرشدة العبارة التالية : من لا شيخ له، فشيخه الشيطان . لذا يري بعض الباحثين أن ابن عباد في دفاعه عن دور الشيخ كمرشد روحي للمريدين المبتدئين قد يكون استند علي الدلائل التي استعملها ابن تومرت ـ ولو في إطار آخر ـ في بداية القرن السادس الهجري، إن توافق طروحات ابن تومرت وطروحات بعض شيوخ التصوف في القرن 8 هـ/14م ـ وخاصة فيما يخص موضوع المريد السالك، وضرورة الشيخ- يبين حيوية الفكر التومرتي، ويبرر انتشار مؤلفه المرشدة في صفوف شريحة هامة من المتصوفة المغاربة بعد قرنين من تأليفها. إلا أن عدم انتشارها في الأوساط الصوفية الموحدية يبقي لغزاً محيراً، علي الرغم من تأثر بعض المتصوفة بها كأبي القاسم اللجائي (ت. 599 هـ) الذي يعالج في كتاب قطب العارفين كثيرا من المسائل التي وردت في المرشدة .
وكيفما كان الحال، فإنه يمكن التأكيد علي أن الإستوغرافية الموحدية الرسمية لم تعمل إلا علي عكس ما كان ابن تومرت قد كرسه بفعله وممارسته السياسية. فنحن نعلم كيف نجح في استثمار التيار الصوفي الذي استقطب العامة، وربط حركته بالغزالي، ومزج بين الفكر الصوفي والمهدوية وآمال العامة .

فترة الخليفة عبد المؤمن بن علي:
سياسة قمعية ـ احترازية تجاه المتصوفة

يتضح الموقف الرسمي للدولة الموحدية من المتصوفة، بصورة جلية خلال فترة الخليفة عبد المؤمن بن علي (ت. 558 هـ /1163م). فقد تحكمت في الإستراتيجية التي اتبعها هذا الخليفة تجاه أتباع المذهب ظهور ثورتين ضد سلطة الموحدين خلال سنوات 541ـ 546 هـ/ 1146ـ1151م، وبزعامة شخصيتين ذات منحي صوفي.
الأولي هي ثورة ابن هود برباط ماسة سنة 541 هـ/1146ـ1147م بمساندة الجماعة الصوفية المرتكزة في هذا الرباط الذي كان قد تحول، منذ مدة، إلي بؤرة لجذب الصلحاء، وكان يقام به موسم يجتمع خلاله عدد كبير من المريدين. ومن المرجح أن اختيار ابن هود لهذا المكان لبدء ثورته مرتبط بتأكده من دعم رجال الصلاح الذين التفت العامة حولهم. فقد كانوا وراء انتصاراته الأولي ضد الجيش الموحدي.
أما الثورة الثانية، فقد اندلعت ابتداء من سنة 539 هـ /1144م بزعامة أبي القاسم أحمد بن الحسين بن قسي (ت. سنة 546 هـ/1151م)، وكان مسرحها منطقة الغرب الأندلسي، وقد أطلق إمام هذه الحركة التمردية، ذات الإيحاء الصوفي، علي أتباعه إسم المريدين ، وتعرف حركته في المصادر التاريخية بـ حركة المريدين . وقد لعبت دوراً كبيراً في التعجيل بانهيار السلطة المرابطية بالأندلس. وليس غرضنا هنا تتبع مراحل هذه الثورة وأسباب فشلها، فذلك قد أغنتنا عن القيام به كثير من الدراسات الحديثة، وما يهمنا بالخصوص هو ما يستشف من المعلومات التي يقدمها ابن الخطيب حين يقيم علاقة سببية بين تمرد ابن قسي علي الموحدين، في فترة لاحقة من بداية ثورته، وتمرد ابن هود برباط ماسة سنة 541 هـ/1146ـ1147م، خاصة وأن كلا الثائريْن قد أسسا طموحاتهما الشرعية علي مفهوم الهداية.
وهناك ثورة أخري يفترض أنها من إيحاء صوفي كذلك قادها يدر الدكالي في منطقة دكالة. وهذا هو علي الأقل رأي الدكتورة عصمت دندش التي تري أن الدكالي قد التف حوله المتصوفة الذين سموا أصحاب الركوات . وكانت دكالة قد أصبحت مركز نشاط صوفي كبير، كرسه التأثير الكبير للرباط الذي أقامه آل أمغار في تيط الفطر. وقد تم سحق ثورة الدكالي بواسطة جيش بقيادة الحسن بن المعلم.
وبصفة عامة، تبدو خطورة هذه الحركات في توقيتها، فقد اندلعت وسلطة عبد المؤمن ما تزال تبحث عن توازنها، والدولة الموحدية لم تثبت دعائمها بعد. وكان لهذا الأمر تأثيره المباشر علي موقف الخليفة من المتصوفة، بحيث أضحت الحيطة والصرامة والتنافر والتباعد من سمات سياسته تجاههم.
فالمراقبة الرسمية لنشاطات بعض المتصوفة المشهورين تدخل في إطار قمعي شامل استعمله الخليفة الموحدي لتنحية الانشقاقات السياسية والثورات التي تبعت الاستيلاء علي عاصمة المرابطين مراكش، وثورة ابن هود. ووصل القمع درجته القصوي مع ما يعرف بعملية الاعتراف الدموية التي قام بها عبد المؤمن سنة 544هـ /1149ـ1150م، لاستئصال المعارضين والعناصر المشكوك في ولائها في مختلف القبائل الخاضعة للموحدين.
بل يجب التذكير أن انتصارات الموحدين في هذه الفترة كانت في أغلب الأحيان دموية، ولم يكن أي انتصار من انتصاراتهم سهلا، ولم يتم لهم الاستيلاء علي أية مدينة هامة إلا عنوة، بما يؤشر علي المناخ البشري المناوئ الذي شبت عليه الحركة الموحدية، سواء في وسط القبائل، أو الحواضر المغربية، مما سيكون له تأثير سلبي مباشر علي موقف السكان من الحكم الموحدي لاحقا. وفي هذا السياق يري باحث مختص أن التطرف الدموي الذي شاب حركة الغزو الموحدي وما استتبعه من إجراءات نعتها بـ سياسة الميز العنصري ، قد مهدت مباشرة للإقبال الشعبي الواسع علي التصوف الزهدي.
أستاذ التعليم العالي بجامعة عبد المالك السعدي
QP17
--------------------------------
الخوف من عقوبة الموحدين دفع ببعض المتصوفة إلي التزام السرية في نشاطاتهم وحلقات الذكر
العلاقة المتسمة بالنفور بين الأولياء والسلطة ادت لمواجهات مسلحة كما في ثورة الرجل الغامض عتاب
التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي: مساهمة في دراسة ثنائية الحكم والدين في النسق المغربي الوسيط (2 ــ 3)
محمد الشريف
يتضح من القرائن المصدرية، ومن مختلف الدراسات القطاعية الحديثة المتصلة بتاريخ الغرب الإسلامي، أن التصوف شكل أحد أبرز الحساسات الدينية داخل مجتمعاته، وأحد مقوماتها الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية، بل وحتي السياسية والاقتصادية. فهو أحد أبرز عناصر التراث الإسلامي التي كان لها تأثير عميق في مجري الحياة اليومية لمغاربة العصر الوسيط.
ولئن كانت بدايات التصوف المغربي ـ مثلها مثل بدايات التصوف المشرقي والأندلسي متواضعة، متمثلة في الممارسات الزهدية التي كان يحياها بعض النساك والمتعبدين، كما تخبرنا بذلك مختلف كتب التراجم المغربية والأندلسية، فإن التصوف سرعان ما اكتسح النسيج المغربي بمركبيْه القروي والحضري، وأخذ يتسلل حتي إلي أوساط عامة المثقفين وخاصتهم، وأصبح قوة اجتماعية وسياسية فاعلة. بل استطاع المتصوفة -لأسباب متعددة- أن يفرضوا وجودهم علي الدولة المغربية منذ نهاية القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد. فقد بلغوا من القوة شأوا، بحيث أصبح ثقلهم الاجتماعي والسياسي أمرا يستوقف الباحث. ويكفي أن نتصفح بعض المؤلفات المناقبية، مثل كتاب المستفاد لمحمد التميمي، أو السر المصون لطاهر الصدفي، أو التشوف لابن الزيات التادلي، أو المقصد الشريف لعبد الحق البادسي، لنقف علي حقيقة تغلغل التصوف ورجاله في النسيج المجتمعي المغربي، وانتشار رجاله عبر مجموع المجال المغربي، شمالا وجنوباً، بادية وحاضرة، وكذا علي مختلف الأدوار والوظائف التي أنيطت بهم في سياق التفاعل الاجتماعي خلال تلك الأعصار.
ولا يتسع المجال، في هذا التقديم المقتضب، للوقوف عند الأسباب التي مهدت لذلك الاكتساح وواكبته، ولا لضبط خلفيات الإقبال الشعبي الواسع علي التصوف الزهدي. لكن لا مندوحة من الإشارة إلي قضية أساسية في تقديرنا : إن تغلغل هذه القوة الاجتماعية الدينية في المجتمع، وانتشار المريدين، وتوزع الأولياء وشيوخ التصوف، أصحاب الزمان ، بحسب بعض التسميات، كان من شأنه أن يفرز سلطة رمزية ، قادرة علي أن تنازع أصحاب السلطة الفعلية علي النفوذ السياسي، أو علي الأقل، علي السيطرة علي قسم أو علي فئة من العامة. فقد جسد الوليّ بسلوكه المميَّز، وبتأطيره لفئات عريضة من المجتمع، ومن خلال الوظائف والأدوار التي اضطلع بها داخل مجتمعه، وبالخصوص وقوفه إلي جانب الرعية ضد تجاوزات الحُكام وأعوانهم، نوعا من الحَـكـَم - البديـل للسلطة القائمة. ألمْ تصبح الطرق الصوفية في فترة لاحقة، شريكة في بعض الأحيان للنظام السياسي الفاعل علي أرض الواقع؟
واللافت للانتباه هو أن المعارضة الدينية- السياسية ضد الموحدين، والمذهب الموحدي، قد اصطبغت طيلة القرنين السادس والسابع الهجريين/ الثاني عشر والثالث عشر للميلاد بهذا اللون الصوفي، فتزعمها أفراد ليسوا فقهاء محترفين وإنما هم زهاد وعُـبّاد ومتصوفة قضوا معظم حياتهم العملية بالأرياف والجبال والرباطات النائية، أو حمل لواءها بعض المتنبئين الطامحين إلي الحكم، معتمدين في ذلك علي استثمار الموجة الصوفية أو ادعاء المهدوية.


المراقبة الصارمة

إن الإستراتيجية التي سار علي هديها الخليفة عبد المؤمن تقوم علي المراقبة الصارمة، واتخاذ الإجراءات ذات الطابع الاحترازي والتمهيدي ضد أتباع التصوف. ولم يكن الموحدون أول من سنّ مثل هذه السياسة الحذرة الاحترازية تجاه المتصوفة. فالمصادر تشير بوضوح إلي سياسات مماثلة اتخذتها مختلف السلطات بالغرب الإسلامي. فقد حذر أحدهم أمراء الطوائف بالأندلس من مخاطر الزاهد والمتصوف بقوله : ولا يغُرَّنَّكَ ما تري فيه من سَمْتِ الوقار ولزوم الدار ومداومة التسبيح والاستغفار، فتحت الرغوة مَذْق ، وكتب المعز صاحب القيروان قائلا : إن أهل الزهد والوعظ وتأليف العامة وإقامة المجالس أضر الأصناف علي الملك، وأقبحهم أثراً في الدول، فيجب أن يتدارك أمرهم ويبادر إلي حسم الأذي منهم . وقبل الموحدين كانت الدولة المرابطية قد فرضت مراقبة صارمة علي كل من اشتبه في أمره من المتصوفة، فصارت تلتقط أنفاسهم .
ويبدو أن ريبة الخليفة عبد المؤمن بن علي من موقف بعض المتصوفة قد أفصحت عن نفسها مبكرا، حتي قبل استيلائه علي عاصمة المرابطين. إذ خلال محاصرته لمراكش سنة 540 هـ /1145م استدعي عبد الجليل بن ويحلان، وهو من متصوفة أغمات، إلي جبل اجيليز، ولما اعتذر للمكلفين باستقدامه بكونه مريضا، أجبروه علي النهوض، قائلين له : ولو حملناك علي نعش ، وكان هدف الموحدين من استقدام ذلك الولي وإصرارهم علي ذلك هو وضعه تحت مراقبتهم المباشرة ومنعه من تأليب الناس عليهم، أو علي الأقل، الحد من تحركه المحتمل ضدهم.
وضمن هذه السياسة الاحترازية نجد أن أحد الإجراءات التي اتخذها الخليفة عبد المؤمن بعد الاستيلاء علي مراكش سنة 541 هـ/ 1147م، هي استدعاء رمزي المتصوفة آنذاك للقدوم إليه وهما : أبو شعيب الآزموري وتلميذه أبي يعزي. وتتفادي المصادر المناقبية الإشارة إلي الطابع السياسي لهذه الدعوة، وتؤولها كدعوة للخليفة عبد المؤمن من دون خلفيات، الغرض منها معرفة حقيقة بعض الاتهامات الموجهة للشيخين المتصوفين، خاصة ما تعلق منها باشتغالهما بعلم المكاشفات، ومعرفة علوم الغيب. إلا أننا نرجح أن تكون دواعي إشخاصهما إلي مراكش ذات طبيعة سياسية قبل أن تكون دينية. وذلك ما يستشف، علي الأقل، من خلال الاستنطاق الذي أخضع له أبو شعيب. فقد أشخصه عبد المؤمن بن علي، فلما رآه شاب اللون أشفق عليه، ثم أراد أن يناظره، فهابه لما رأي منه بعض المكاشفة، فصرف مناظرته إلي بعض المتجزئين من أصحاب الإمام المهدي، فسأله عن حقائق التوحيد المصطلح عليه، فأجابه بجواب السلف بالآيات القرآنية . وواضح أن المقصود بـ المناظرة هو الاستنطاق الذي أخضع له الشيخ علي يد أبي محمد وأسنار، حاجب ابن تومرت السابق، للتأكد من موقفه تجاه أحد المبادئ الأساسية للمذهب الموحدي، ألا وهو مبدأ التوحيد ، واختبار مدي إخلاصه للسلطة السياسة الجديدة بالمغرب.
ويبدو أن السلطة الموحدية لم تغض الطرف عن نشاطات أبي شعيب أيوب، ووضعته، هو وأتباعه، تحت المراقبة الشديدة. بل إنها لم تتورع عن التنكيل بهم في بعض الأحيان، كما يستشف من موقف والي أزمور تجاه اتباع هذا الولي. فقد أمر الوالي يوما بإحضار جماعة للقتل، ففزع الناس إلي أبي شعيب، فأخذ في البكاء، فقال لهم : والله ما ابتليتم بهذا إلا من أجلي، ولو مت لاسترحتم مما نزل بكم .
وبخصوص أبي يعزي، يبدو أن شعبيته الكبيرة بين سكان نواحي فاس ومكناسة، وكذا الاستقلال النسبي الذي كانت تتمتع به نواحي تاغية، قد أثارت ريبة الموحدين الذين رأوا فيها بؤرة محتملة لمعارضة سلطتهم. فقد استدعاه الخليفة عبد المؤمن بن علي إلي مراكش عام 541 هـ 1146 ـ 1147 م، وتم حبسه في صومعة الجامع أياما ثم أخلي سبيله ، وذلك عقب وشاية بالشيخ تحذره من كثرة الجموع التي تقصده ، والتي يخاف علي الدولة منها ناهيك عما شاع عنه من المكاشفات ومواصلة الإخبار عن الغيوب . ولم يكن إطلاق سراح أبي يعزي فاتحة عهد حرية مطلقة له، بل إن عيون الموحدين ظلت ترمقه بحذر وريبة شديدين، ونجد أن أحد أشهر قواد الموحدين، وهو أبو عبد الله بن صناديد، قد قام بزيارة مفاجئة لأبي يعزي في أربعين فارسا من فرسان الموحدين. ومع تصاعد شهرته وازدياد الإقبال عليه، إذ طبق ذكره أقطار المغرب ، وبسبب ما نمي إلي مسامع الناس ورجالات الدولة من الغيوب التي تؤثر عنه من المكاشفات ، تم استدعاؤه مرة ثانية من قبل الخليفة عبد المؤمن، علي إثر تخويفه من قبل بعض الحسدة من المتفقهة المنكرين لكرامات الأولياء ، حسب ابن صعد. إلا أنه استطاع الانفلات من بطش الموحدين مرة أخري. بل يمكننا التأكيد علي أن السلطة الموحدية لجأت إلي أسلوب الاغتيالات والتصفية الجسدية لبعض رموز التصوف، مثل ما وقع لأبي عبد الله محمد بن الأصم، الذي قتل عام 542 هـ. فقتل هذا الرجل الذي كان من أكابر الصوفية بتلك الصورة التي توردها الرواية المناقبية، لا يدع مجالا للشك في أن السلطة الموحدية كانت وراء اغتياله. يقول ابن الزيات : مر رجل بأبي عبد الله الأصم وهو يتعبد فضرب عنقه. فمر به أحد أصحابه فقال : رحمك الله يا عبد الله، ولا رحم قاتلك. فدفنه من الخوف بين الديار، إلي أن يمكنه دفنه في المقابر . كما أخضع البعض الآخر للإقامة الجبرية بمدينته، كما هو الحال بالنسبة لأحد أكابر الأولياء الذي أمره بعض أصدقائه بالخروج من البلد خوفا عليه، وكان الحرس علي باب المدينة، فخرج عليهم ولم يشعروا به حتي بعد عنهم... فاشتدوا ليدركوه ... فلم يدركوه ... وسلم منهم .
وحاول بعض المتصوفة الاختفاء من الملاحقة الموحدية حتي لا يطاله قمعها، كما هو الحال بالنسبة لأبي الفضل بن أحمد المتوفي سنة 542 هـ، فقد طلب فخاف علي نفسه فاختفي في جنة له وبقي بها الي أن أشرف علي الموت من شدة الجوع .
إن الخوف من عقوبة الموحدين دفعت ببعض المتصوفة إلي التزام السرية في نشاطاتهم. يستدل علي هذا بموقف الشيخ أبي مهدي وين السلامة ابن جلداسن (ت. حوالي سنة 560 هـ/1164م). فقد كان يتردد علي رباط شاكر، فقال له أحد وعاظ هذا الرباط : سيدي أبا مهدي، سمعت المريدين يتحدثون عنك بالعجائب. فطأطأ رأسه حياء، فقال له : أما تخاف من السلطان إذا بلغه ما يذكر عنك ؟ فرفع إلي رأسه، وقال : ما ينبغي أن يخاف إلا من الله تعالي .
إننا نقف، فوق ذلك، علي إشارات أخري تؤكد تبني هذه السياسة الاحترازية ـ القمعية من طرف السلطات الموحدية ضد المتصوفة علي عهد عبد المؤمن. فهي لم تكتف بضرب بعض المتصوفة والتنكيل بهم، بل زجت بالذين اشتهروا بموقفهم الصارم ضد ممثلي السلطة وأعوانها في السجن. وأولي هذه الإشارات هي المتعلقة بالشيخ أبي الحسن علي ابن حرزهم (ت 559/1164م) الذي تم سجنه في مدينة فاس بأمر من القائد الموحدي أبي محمد الجياني، لأسباب لم يتم توضيحها، ولكن يسهل تخيلها إن نحن وضعناها في إطار القمع الشامل ابتداء من فتح مراكش وثورة ابن هود سنة 540 هـ /1145م. أما بخصوص الصوفي أبي إبراهيم إسماعيل الخزرجي، فإننا نعرف أسباب إيداعه بالسجن. فقد سيق مقيدا إلي السجن، و جعلوه في مطمورة عميقة عقب إلقائه خطبة وعظية يوم الجمعة في الجامع بحضور العامل الموحدي، فتكلم في حق العامل بكلام خاف منه الناس علي أنفسهم .
ويبدو أن هذه السياسة الاحترازية قد نجحت في لجم تطلعات المتصوفة السياسية فنجد أن رمزاً صوفياً من عيار أبي يعزي أصبح يدعو بالسمع والطاعة للأئمة والأمراء ، ويخاطب الخليفة بـ أمير المؤمنين ، ويعرض علي أرباب الدولة الوصول إلي منزله بحكم التشريف . كما أن متصوفة آخرين أصبحوا ممثلين في النسق البروتوكولي للموحدين، أو علي الأقل هذا ما تؤكده المصادر الموحدية شبه الرسمية، مثل كتاب المن بالإمامة الذي يصف الوفود التي قصدت الخليفة سنة 555 هـ/1160م، وهو بجبل طارق حيث أنالها من خيراته ، وكانت تضم الفقهاء الكبار، والموحدين والأولياء الطهراء . بل إن المصدر نفسه يقول إن أبا يعقوب يوسف كان يذهب في زهده وورعه، وبسطه لعدله وسداده في فضله مذهب أبيه ، أي الخليفة عبد المؤمن بن علي. إن هذه الصورة التي تجمع في نفس الشخصية صفات متناقضة مثل الصرامة إلي حد القسوة، وإراقة الدماء، مع الزهد والورع قد نجد تفسيرا لها إن نحن فصلنا الصفات الشخصية للحاكم وعزلناها عن ممارسات الدولة وتصرفاتها- كجهاز ونظام- تجاه رجال التصوف.

الخليفة أبو يعقوب يوسف :
صرامة مع نزوع نحو المرونة تجاه المتصوفة

يبدو أن موقف الريبة والصرامة تجاه المتصوفة الذي أبداه الخليفة عبد المؤمن لم يتغير بصورة محسوسة خلال فترة حكم ابنه أبي يعقوب يوسف (558 ـ 580هـ 1163 ـ 1184م). وبصفة عامة، يمكننا التأكيد علي أن علاقات الموحدين مع أتباع التصوف خلال النصف الثاني من القرن السادس الهجري/ الثاني عشر للميلاد، كانت متوترة بما فيه الكفاية. ولو أن الموحدين حاولوا كسب تأييد بعض أشياخ التصوف عن طريق مختلف الوسائل والإجراءات، فإن رفض التعامل مع السلطات الموحدية أصبح هو الميل العام خلال هذه الفترة. فالعداوة التي أبداها بعض المتصوفة تجاه السلطة الموحدية أدت إلي عدة صراعات، عنيفة في بعض الأحيان. وتذكر المصادر حالات من القمع الرسمي للمتصوفة، إلا أن معلوماتها تبقي مقتضبة جدا ولا تمكن من معرفة الأسباب التي دفعت بالسلطات إلي اتخاذ مثل تلك الإجراءات الردعية. ومع ذلك، يبدو جليا أن الموحدين حاولوا في بداية الأمر فرض قيود علي أنشطة بعض الشيوخ. ومن الأمثلة البينة والدالة، حالة أبي عبد الله محمد بن موسي الأزكاني (المتوفي بعد سنة 590 هـ/1194م)، فقد كان هذا الشيخ من متصوفة منطقة صفرو ويتردد علي رباط شاكر، وسمع كلاما عن يمينيه يقول له : خذ سلاحك ومر إلي صفرو . فأتي صفرو، واجتمعت له جموع كثيرة، وتاب علي يده مئون من الرجال، وتسامع الناس به، فجاؤوا من كل مكان، وتكاثروا، فسمع بذلك القائد ابن حسون، وكان واليا علي فاس، فخرج إليه في جمع كثير من الخيل والرجال، لإلقاء القبض عليه، وطلبوه طلبا شديداً.
يمكننا ربط هذه الحوادث بما جري لأبي زكريا يحيي الصنهاجي الذي أمره بعض أصدقائه بالخروج من البلد خوفا عليه . وعلي خلاف سابقه، فإننا نجهل تماما أسباب ملاحقة هذا الصوفي. ومن المؤكد أن المعلومات المتعلقة بهذين الرجلين تشير إلي مناخ العداء الرسمي تجاه بعض المتصوفة.
وحري بنا أن نقف عند الانتقادات العنيفة التي وجهها أبو محمد عبد الله القطان للخلفاء الموحدين وممثليهم. فقد كان يصدع بالأمر، لا تأخذه في الله لومة لائم، ويرد كلام السلاطين في وجوههم أقبح الرد. له صولة يرمي بها من شاء بالحق، ولا يبالي عرّض نفسه للقتل من كثرة سبه لأفعال السلاطين وما هم عليه من مخالفة الشريعة . ويذكر تلميذه محيي الدين بن عربي أن السلطان وجه فيه ليقتله، فأخذه الأعوان ودخلوا به علي الوزير ، ولما أخبر هذا الأخير بقرار السلطان، رد عليه ابن القطان: أنت لا تقرب أجلا ولا تدفع مقدورا . فما كان للوزير إلا أن أمر أعوانه بسجن ابن القطان حتي يشاور السلطان في قتله. وأمر السلطان أن يحضر ابن القطان الذي يقول الحق ويظهر معاييب الموحدين وما همْ عليه من الجور والفساد بين يديه، وقام الخليفة باستنطاقه للتثبت خاصة من وفائه لمبدأ التوحيد . وأجاب ابن القطان ـ كما أجاب أبو شعيب الخليفة عبد المؤمن قبل هذا ـ بآيات من القرآن الكريم لشرح هذا المفهوم.
واستمر ابن القطان في انتقاداته للسلطان، وفي المجلس الوزراء والفقهاء ، ولم يجد الخليفة من مخرج سوي إطلاق سراحه، وكان يصيح ويرفع صوته أمام أرباب الدولة ويقول : هؤلاء الفجار بغوا في الأرض، (عَلَيْهِم لَعْنَةُ الله وَالْملائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعينَ خَالِدينَ فيها لاَ يُخَفّف عَنْهُم العَذابَ وَلا هُمْ يُنْظَرونََ) .
وبصفة عامة اتخذت السلطة الموحدية موقفا مستريبا من رجال التصوف خلال هذه الفترة، واتخذت من المراقبة والتطويق والإشخاص وسيلة لخنق أنفاسهم. أما موقف رجال التصوف من السلطة وتمثيلها، فقد ظل محكوما بمبدأ الانقباض عن السلطان . ولذلك تكررت في كتب المناقب والتراجم الروايات التي تفيد باتخاذ المتصوفة لمواقف تتلخص في الإعراض عن الخلفاء وممثلي السلطة، والانزواء عنهم، ومحاشاتهم وعدم مداخلتهم إلا عند الضرورة وفي بعض الظروف الاستثنائية، كظروف الجهاد بالأندلس ـ كما سنري جليا مع الخليفة المنصور خاصة.
ويمكننا إعطاء بعض الأمثلة المعبرة عن هذا الموقف. يؤكد ابن عربي مثلا أن أبا يعقوب يوسف بن يخلف الكومي الذي كانت له في الطريقة قدم راسخة قد عرضت عليه ولاية فاس فأبي . ومثال مشابه هو الذي يقدمه الشيخ أبو محمد عبد العزيز البغاني. فقد بعث إليه قاضي القضاة أبو يوسف حجاج بن يوسف التجيبي ليجبره علي قضاء أغمات. فقدم مراكش واستعفاه. فلم يعفه، وقال له : لا بد لك من ولاية القضاء. فقال له عبد العزيز: والله لو نشرت بالمنشار من قرني إلي قدمي ما قبلت هذه الولاية .
وبعث نفس القاضي حجاج بن يوسف إلي الفقيه العابد أبي عبد المالك مروان بن عبد المالك اللمتوني (المتوفي سنة 571 هـ/ 1175 م) بفاس ليقدمه علي خطة الحسبة بمراكش، وعند قدومه إلي عاصمة الموحدين زار رجلا من الصالحين يعرف بأبي عبد الله الصوفي بأحد مساجد المدينة، فرأي الناس يزدحمون عليه ويقبلون رأسه ويده. فقال : هذا رجل أمي لا علم عنده ويعظمه الناس هذا التعظيم، وأنا لم ينفعني الله بشيء مما تعلمته، والله لا أتولي ولاية ولأنقطعن إلي الله تعالي . أما ابن المجاهد المتصوف الإشبيلي الشهير (المتوفي سنة 574هـ/1179م)، فقد كان مباعدا للملوك مع شدة رغبتهم فيه، منافرا لهم، لا يقبل منهم كثيرا ولا قليلا . وقد عرضت عليه أوان طلبه ولاية القضاء بشريش فنفر من ذلك وامتنع، حتي أعفي . وينقل ابن صعد حكاية تعطينا صورة معبرة عن موقفه من رجال السلطة الموحدية، يقول : قدم إشبيلية أحد أمراء الموحدين، فاستُدعيَ الشيخ ابن مجاهد مع علماء وقته لحضور مجلسه كي يشاركهم في بعض أمور المسلمين، فلما انصرفوا من عنده قال ذلك الأمير لمن حضر من أصحابه : أما هذا الزاهد، ابن مجاهد، فما لأحد فيه طمع، أما رأيتموه حين دخل منزلنا، قدم رجله اليسري، فلما خرج قدم رجله اليمني .
كما ظل الأولياء علي موقفهم المبدئي الرافض للتعامل مع السلطة وهبات أرباب الدولة ومشاركتها طعامها. فنري مثلا أبا داوود بن علي، يرفض صلة الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بن علي، علي الرغم من أنه تجشم عناء السفر من بلاده بطيوة بالساحل المتوسطي حتي العاصمة مراكش لعلاج أحد أبناء الخليفة من داء البرص.
ويبدو أن السلطة الموحدية، التي كانت واعية بحقيقة تغلغل رجال التصوف وازدياد قوتهم، قد عملت علي مراجعة موقف الريبة والصرامة تجاههم وانتهاج نوع من المرونة مع أتباع المذهب. ونجد بعض الإشارات حول الانفراج النسبي الذي طبع علاقة السلطة الموحدية بالمتصوفة. وكمثال علي ذلك يمكن الإشارة إلي تعيين بعض المتصوفة في مناصب إدارية ، راتبها يؤدي مبدئيا من الخزينة العامة للدولة، مثلما نجده مع الفقيه أبي محمد يسكر بن موسي الجراوي الذي تصفه المصادر بكونه أحد أشياخ المغرب في الدين والفضل والزهد والورع والمجاهدة والتقشف والإيثار . فقد تولي منصب الخطابة بجامع القرويين بفاس بعد وفاة سلفه، أبي الحسن بن عطية سنة 558 هـ/1163م. وكان أبو محمد الجراوي تلميذا لأشهر متصوفة فاس، مثل أبي خزر يخلف الأوروبي، وأبي الحسن علي ابن حرزهم. من جهة أخري كان الجراوي أحد فقهاء فاس القلائل الذين صدحوا بتأييدهم للشيخ أبي يعزي، في وقت كانت أنشطة هذا الأخير فيه قد استنكرها فقهاء المدينة. ومن المحتمل أن وضعيته كمتصوف ـ بالإضافة إلي موقفه المساند لأبي يعزي ـ قد جلب عليه سخط والي المدينة الموحدي الذي كتب رسالة للخليفة أبي يعقوب يوسف يكشف فيها عدم إخلاص أبي محمد الجراوي للسلطة الموحدية، بدعوي أنه يستنكف من الدعاء للخليفة في الخطبة الجمعية. وعندما وصل الخبر للخليفة، بعث من حينه بأن يشخص الجراوي إليه. وحسب الجزياني الذي يورد هذه المعلومات، تراجع الخليفة عن قراره القاضي بمعاقبة الشيخ، بعد أن أشار عليه أحد الصلحاء، ممن حضر عنده، من سوء عاقبة قراره، فتاب من ذلك وبودر برد الذي بعث لإشخاصه . وقد تم عزل أبي محمد الجراوي من الخطابة بعد ذلك وتعويضه بالفقيه أبي عبد الله محمد بن زيادة الله المزني. ولم تؤثر هذه التنحية سلبا علي موقف الجراوي من الموحدين، لأنه ظل يشغل منصب الإمامة في نفس الجامع. ومن جانب آخر لا ندري إلي أي حد نجحت سياسة السلطة الموحدية في إدراج ممثلي الأولياء ضمن وفودها الرسمية، لأننا نجد إشارة إليهم ضمن الوفد الذي دخل علي الخليفة لتهنئته بعيد الأضحي لسنة 566 هـ 1170 ـ /1171م، إذ تقول الرواية شبه الرسمية علي لسان ابن صاحب الصلاة : وأدخل الوزير أبو العلي إدريس [...] بن جامع إلي المجلس الأعلي من تقدمت عادته بالدخول من أشياخ الموحدين الكبراء [...] والفقهاء والقضاة والكتاب والأولياء وأهل الوفود... .
وكان من الطبيعي أن تؤدي العلاقة المتسمة بالنفور بين الأولياء والسلطة الموحدية في تلك المرحلة، إلي مواجهات مسلحة بينهما كما تجسد ذلك ثورة غامضة، نرجح أنها اندلعت أواخر عهد الخليفة أبي يعقوب يوسف، بقيادة أحد المتصوفة الذي لا نعرف عنه سوي إسمه : عتّـاب.
وابن الزيات التادلي هو المؤلف الوحيد الذي يشير ـ باقتضاب شديد - إلي هذه الثورة. فهو يشير إلي الثائر عتاب في مناسبتين، وبالذات في ترجمة متصوفين عانيا ـ بسبب انخراطهما في هذه الثورة - من قمع السلطات الموحدية. أولهما هو أبو وازاغار تيفاوت بن علي المشنزائي (المتوفي سنة 603 هـ/1206 م) الذي فر من المغرب إلي المشرق وذلك حين طلب أشيـــــــاخ المريدين بسبب ما نسب إلي عتاب حين قيل إنه يطـــلب الملك فقتل وطلب أصحابه .
أما المتصوف الآخر الذي يظهر أنه شارك في هذه الثورة، فهو أبو محمد تيلجي بن موسي الدغوغي (المتوفي سنة 605 هـ/ 1208 م)، وكان واعظا برباط شاكر، وقد طلب في أيام عتاب طلبا شديداً ، واقتفي أثره فرسان الموحدين، واختفي في خيمة ولو وجد لقتل .
شخصية عتاب

وما تزال شخصية عتاب ـ مثلها مثل ثورته ـ غامضة. أما محاولة بعض الباحثين لاستجلاء طبيعتها، فلا تعدو أن تكون مجرد تأويل لإحدي الفراغات التي تركتها الإستوغرافية الموحدية. ومن المؤكد أن حركة عتاب ما كان لها أن تقوم دون دعم المتصوفة والمريدين الذين كانوا يجتمعون موسميا برباط شاكر علي ضفة وادي تانسيفت، ذلك أن المتصوفة الذين عانوا من القمع الموحدي ـ بسبب دعمهم لعتاب ـ كانت لهم علاقة مباشرة بهذا الرباط الذي أصبح آخر القرن السادس الهجري يشكل مركز اصطدام حاد بين الأولياء والمريدين من جهة، وممثلي السلطة الموحدية من جهة أخري خاصة بعد استحواذ الخطباء من الأولياء المتشددين علي منبر شاكر، أمثال أبي محمد تيلجي، وأبي محمد موسي الدغوغي (ت. 605 هـ 1208 ـ 1209 م) الذي كان واعظا بالرباط، في وقت لا يصعد منبر شاكر إلا الآحاد . وقد حارب بعض الفقهاء عادة الارتياد السنوي علي هذا الرباط، فضلا عن استهجانهم للموسم الذي يقام به ولحفلاته. وإذا كانت السلطة الموحدية قد فرضت رقابة مستمرة علي بعض أشهر أهل التصوف لتخوفها من نشر تعاليم معارضة لها، فليس من الصعب الجزم بالريبة التي كان الموحدون يرمقون بها الأعداد الكبيرة للمتصوفة الوافدين علي رباط شاكر. وإذا كان أتباع الثائر عتاب يتكونون من الأولياء والأشياخ والمريدين الذين كانوا يفدون علي هذا الرباط طيلة السنة، فإن الموحدين استغلوا ذلك لخنق الرباط وتحييده بشكل عنيف، باعتباره بؤرة محتملة لمعارضة سلطتهم.
إلا أن المكون الصوفي الذي يسم ثورة عتاب لا يسفر لوحده القمع الرسمي الذي تعرض له أتباعه. وقد يكون للعصبية القبلية دور محتمل زاد من تأجيج هذا الصراع، خصوصا وأن جميع القبائل الساكنة بمنطقة تادلة هي من قبيلة صنهاجة، والموحدون وصلوا إلي السلطة بدعم من مصمودة. هذا ما يطرحه الأستاذ أحمد التوفيق من خلال علاقة ثورة عتاب بظاهرة الجلاء الذي حكم به الموحدون علي سكان داي في منطقة تادلة.
إلا أن هذه العلاقة المفترضة لا تستقيم جيدا إن نحن أخذنا بعين الاعتبار تاريخ الجلاء ، الذي جاء كنتيجة لحادثة غير معينة حدثت سنة 559 هـ / 1163 م ، أي مباشرة بعد وفاة الخليفة عبد المؤمن سنة 558 هـ/1162م، وتاريخ ثورة عتاب، التي نرجح أنها اندلعت أواخر القرن السادس الهجري، بناء علي تاريخ وفاة المتصوفيْن المشاركين فيها : المشنزائي (ت 603 هـ) والدغوغي (ت. 605 هـ).
أما الثورة الثانية التي اندلعت آخر عهد هذا الخليفة، واستمرت مشتعلة علي عهد خلفه، فهي ثورة علي بن محمد بن رزين المعروف بالجزيري. ويمكن اعتبار ثورته علي دولة الموحدين ـ وهي في أوج قوتها- آية في المغامرة والإقدام. وقد اتخذت شعارات دينية إصلاحية، إذ ثار علي الموحدين منكرا عليهم انحرافهم عن تعاليم المهدي. وعلي الرغم من أن المصادر الموحدية ترميه بالمروق والشعوذة وأعمال السحر، والتأثير علي السذج من الناس، فإنه لا يسعنا إلا أن نقر بأن الرجل قام آمرا بالمعروف ناهيا عن المنكر؛ فقد حز في نفسه المتصوفة ما شاهده من مظاهر انغماس أصحاب الدولة في الأبهة والترف، فثار وفي رأسه أن يُحيي سُنّة مهدي الغرب ، أي المهدي ابن تومرت؛ لاعتقاده أن بني عبد المؤمن لما غيروا رسْمَ مهديَّهم، وصيّروا الخلافة ملكا، وتوسعوا في الرفاهية، وأهملوا حق الرعية . ونحن لا نستبعد أن تكون للثائر أهداف سياسية وتطلع إلي السلطة والملك. واشتهر أمره وعظم في النفوس خبره، واستشعر الموحدون خطره علي كيانهم، فوُضعت عليه العيون في جميع البلاد، وشاع عند الناس أنه يتصوَّر في صورة الحيوان مثل القطط والكلاب والسنانير؛ وهو الأمر الذي يؤشر علي قدرته علي التكتم والاستتار، وتمكنه من الانفلات من شباك الملاحقة الموحدية. فقد تنقل بين مراكش وفاس، وتمكن من عبور المضيق باتجاه الأندلس، وأرسلت أوامر إلقاء القبض عليه إلي جميع الجهات بصفته وأَمارته وهيئته... ووقع عليه في كل مكان وجعل الرقباء يتصفحون الصفات بالعيان ، إلي أن قبض عليه بمنطقة مرسية، بعد ترصد وملاحقة عنيفة استمرت سبع سنين (من سنة 579 إلي سنة 586 هـ/1190م)، تخللتها حملات مداهمة واعتقالات واسعة، وإعدامات طالت كل من حامت حوله شبهات تسهيل هربه أو اختفائه. وقد صُلب، وحمل رأسه إلي مراكش. ومن المؤكد أن ثورة الجزيري هي تقليد لثورة المهدي ابن تومرت، مثلها في ذلك مثل ثورات ابن قسي وابن هود، وثورة ابن الفرس (الآتية الذكر) وغيرهم، ممن أغراهم النجاح السياسي لحركة ابن تومرت ودعوته، واتخذوا المهدوية سبيلا للوصول إلي السلطة.
QP17
-------------------------------
الموحدون والمتصوفة كانوا في فترة الدعوة التومرتية حلفاء مرحليين ضد الخصم المشترك: الفقهاء والمرابطين
دولة الموحدين في مرحلة تصدعها ابتليت بثورات ذات مرجعية مهدوية استخدمت ترسبات عبيدية وشيعية قديمة
التصوف والسلطة بالمغرب الموحدي: مساهمة في دراسة ثنائية الحكم والدين في النسق المغربي الوسيط (3 ــ 3)
محمد الشريف
يتضح من القرائن المصدرية، ومن مختلف الدراسات القطاعية الحديثة المتصلة بتاريخ الغرب الإسلامي، أن التصوف شكل أحد أبرز الحساسات الدينية داخل مجتمعاته، وأحد مقوماتها الدينية والروحية والثقافية والاجتماعية، بل وحتي السياسية والاقتصادية. فهو أحد أبرز عناصر التراث الإسلامي التي كان لها تأثير عميق في مجري الحياة اليومية لمغاربة العصر الوسيط.
ولئن كانت بدايات التصوف المغربي ـ مثلها مثل بدايات التصوف المشرقي والأندلسي متواضعة، متمثلة في الممارسات الزهدية التي كان يحياها بعض النساك والمتعبدين، كما تخبرنا بذلك مختلف كتب التراجم المغربية والأندلسية، فإن التصوف سرعان ما اكتسح النسيج المغربي بمركبيْه القروي والحضري، وأخذ يتسلل حتي إلي أوساط عامة المثقفين وخاصتهم، وأصبح قوة اجتماعية وسياسية فاعلة. بل استطاع المتصوفة -لأسباب متعددة- أن يفرضوا وجودهم علي الدولة المغربية منذ نهاية القرن السادس للهجرة/ الثاني عشر للميلاد. فقد بلغوا من القوة شأوا، بحيث أصبح ثقلهم الاجتماعي والسياسي أمرا يستوقف الباحث. ويكفي أن نتصفح بعض المؤلفات المناقبية، مثل كتاب المستفاد لمحمد التميمي، أو السر المصون لطاهر الصدفي، أو التشوف لابن الزيات التادلي، أو المقصد الشريف لعبد الحق البادسي، لنقف علي حقيقة تغلغل التصوف ورجاله في النسيج المجتمعي المغربي، وانتشار رجاله عبر مجموع المجال المغربي، شمالا وجنوباً، بادية وحاضرة، وكذا علي مختلف الأدوار والوظائف التي أنيطت بهم في سياق التفاعل الاجتماعي خلال تلك الأعصار.
ولا يتسع المجال، في هذا التقديم المقتضب، للوقوف عند الأسباب التي مهدت لذلك الاكتساح وواكبته، ولا لضبط خلفيات الإقبال الشعبي الواسع علي التصوف الزهدي. لكن لا مندوحة من الإشارة إلي قضية أساسية في تقديرنا : إن تغلغل هذه القوة الاجتماعية الدينية في المجتمع، وانتشار المريدين، وتوزع الأولياء وشيوخ التصوف، أصحاب الزمان ، بحسب بعض التسميات، كان من شأنه أن يفرز سلطة رمزية ، قادرة علي أن تنازع أصحاب السلطة الفعلية علي النفوذ السياسي، أو علي الأقل، علي السيطرة علي قسم أو علي فئة من العامة. فقد جسد الوليّ بسلوكه المميَّز، وبتأطيره لفئات عريضة من المجتمع، ومن خلال الوظائف والأدوار التي اضطلع بها داخل مجتمعه، وبالخصوص وقوفه إلي جانب الرعية ضد تجاوزات الحُكام وأعوانهم، نوعا من الحَـكـَم - البديـل للسلطة القائمة. ألمْ تصبح الطرق الصوفية في فترة لاحقة، شريكة في بعض الأحيان للنظام السياسي الفاعل علي أرض الواقع؟
واللافت للانتباه هو أن المعارضة الدينية- السياسية ضد الموحدين، والمذهب الموحدي، قد اصطبغت طيلة القرنين السادس والسابع الهجريين/ الثاني عشر والثالث عشر للميلاد بهذا اللون الصوفي، فتزعمها أفراد ليسوا فقهاء محترفين وإنما هم زهاد وعُـبّاد ومتصوفة قضوا معظم حياتهم العملية بالأرياف والجبال والرباطات النائية، أو حمل لواءها بعض المتنبئين الطامحين إلي الحكم، معتمدين في ذلك علي استثمار الموجة الصوفية أو ادعاء المهدوية.

الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور:
سياسة استقطاب المتصوفة،
ومحاولة ترسيم الممارسة الصوفية

مع وصول أبي يوسف يعقوب المنصور إلي الحكم (580 ـ 595 هـ 1184 ـ 1199م) تبدأ مرحلة جديدة يطبعها ذلك التحول الإيجابي الهام الذي طرأ علي تعامل السلطة الموحدية مع المتصوفة، خاصة وأن سياسة العنف والمواجهة المباشرة التي نهجها أبوه وجده لم تنجح في كسر شوكة تيار التصوف الزهدي السني، أو الحد من نفوذ رجال التصوف الاجتماعي والروحي.
ومن نافلة القول أن السلطة الموحدية لم تكن لتجهل الخطر الذي يمكن أن تشكله قوي التصوف علي الجهاز الموحدي كبنية وسلطة. فتقرب المنصور ـ وخلفائه من بعده ـ من المتصوفة كان نابعا من قناعته بحقيقة اكتساح رجال التصوف للنسيج المجتمعي المغربي بمركبيه القروي والحضري و تقدمه الحثيث بمعزل عن العقيدة التومرتية الرسمية الحاكمة وعلي حسابها . وبهذا الصدد نشير إلي أن تأليف كتاب المستفاد نفسه، ليشير إلي حقيقة وجود تيار صوفي بفاس ونواحيها له أهمية كافية ليفرد له تأليف خاص.
والواقع أن استفحال التمايز الاجتماعي وفرض العقيدة التومرتية بنزعتها العقلية الجافة، قد فتح المجال أمام تنامي النزعة الصوفية وإعطاء الفرصة للتيار الصوفي ليشغل حيزاً كبيراً داخل المجتمع المغربي، حيث أفرز ذلك التيار تطوراً علي مستوي السلوك والممارسة، تمثل في اتساع مجال اتصاله بالعامة والبسطاء، وكذا في مراعاته لمتطلبات المجتمع وتكييفه مع بنياته وحاجاته. فنموذج الولي وسلوكه كان علي طرفي نقيض من سلوك الحاكم الموحدي الذي وسمه أحد الباحثين النبهاء بـ المتعصب ، و المتغطرس إزاء كل من لا ينتسب لعقيدة المهدي.
بالنسبة للمتصوفة، كانت طاقتها في طريقها لتصبح قوة اجتماعية يحسب حسابها، بعد أن تجاوزت إطار التصوف الفردي إلي تصوف جماعي منظم، وهو الأمر الذي كان سيمنحها بعدها الاجتماعي، وبالتالي السياسي. أما بالنسبة للحكم الموحدي، فإنه كان يري في هذا التيار أو الحساسية الدينية مادة للاستقطاب والاحتواء، ولو فقط في أفق تزكية عملية الجهاد، أو المساندة في صراعه ضد الخصم المشترك الذي كان يمثله تيار الفقهاء المالكية المحتضر علي مستوي الحضور السياسي. لكن قوي التصوف كانت قابلة لأن تنقلب، في أي لحظة، ضد الحكم.
ومن هنا نفهم ذلك التقارب الظاهري بين السلطة الموحدية والمتصوفة و الاحتضان المعتدل الرزين المتبادل بينهما، والذي نجد له أكثر من شهادة في مصادرنا التاريخية، ونفهم في نفس الوقت كذلك، تلك الرقابة المشددة علي نشاط المتصوفة، والحراسة المستمرة المسلطة عليهم. إن ابن عبد الملك المراكشي قد أورد لنا شهادة حية عن هذه السياسة الموحدية تجاه المتصوفة حينما كتب معلقاً علي اهتمام المنصور الموحدي باستقدام أحد هؤلاء المتصوفة إليه. يقول: وكان دأب عبد المؤمن وبينه التنقير عمن هذه حاله والكشف عن باطن أمره متخوفين من ثورته وخروجه عليهم . أما الأمر بالإشخاص إلي مراكش لهؤلاء المتصوفة، فنبرة متواترة في كتب المناقب كالتشوف وغيره.
والواقع أن شهادة عبد الواحد المراكشي حول علاقة المنصور بالأولياء والمتصوفة غنية عن كل تعليق. يقول: وانتشر في أيامه للصالحين والمتبتلين وأهل علم الحديث صيت، وقامت لهم سوق، وعظمت مكانتهم منه ومن الناس، ولم يزل يستدعي الصالحين من البلاد ويكتب إليهم يسألهم الدعاء، ويصل من يقبل صلته منهم بالصلات الجزيلة . وتؤكد مضمون هذه النصوص الموحدية، نصوص أخري مرينية. فصاحب البيان المغرب يقول عن يعقوب المنصور أنه كان يحب الصالحين ويدني مجالسهم ويستدنيهم من أقاصي طاعته . ومؤلف روض القرطاس يؤكد أنه: كان يشهد جنائز الفقهاء والصلحاء ويزورهم ويتبرك بهم و أكرم الفقهاء وراعي الصلحاء والفضلاء، وأجري علي أكثرهم الإنفاق من بيت المال .
ويمكننا ضبط سياسة يعقوب المنصور تجاه المتصوفة إن نحن أخذنا بعين الاعتبار ثلاثة عناصر أساسية هي:
ہ البعد الاجتماعي والأخلاقي في إصلاحاته
ہ البعد الجهادي في سياسته الأندلسية
ہ سياسة ترسيم التعليم الصوفي وتنظيم التيار الصوفي في طوائف
1 / افتتح أبو يوسف يعقوب المنصور حكمه بمجموعة من المبادرات الإصلاحية تهدف، حسب ابن عذاري، قطع المناكر وبسط العدل ومباشرة الأحكام لتحقيق شرائع الاسلام . أي أنها مست الحقل الأخلاقي ـ الاجتماعي والعدلي، وهي ميادين تحرك المتصوفة بامتياز. يقول ابن عذاري: لما رأي (المنصور) التساوي في الانهماك والاغترارـ وسمع المجاهرة بالاستهتار، والتنافس في الشهوات، ونفاق سوق الغانيات الملهيات، تنكر وغضب في الله لذلك المنكر [...] فأمر بإراقة المسكرات وقطعها، والتحذير بعقاب الموت علي استعمالها، وأنفذ المخاطبات بذلك إلي كافة ولاته بالأمصار [...] وضمنت الكتب النافذة بذلك فصولا في بسط العدل والتأكيد علي العمال والولاة بتأنيس الرعية وتوخي رضاهم في اقتضاء حقوقهم وكف أيدي الظالمين عنهم . ويضيف صاحب البيان المغرب في مكان آخر : ثم أمر بقطع لباس الغالي من الحرير، والاجتزاء منه بالرسم الرقيق الصغير، ومنع النساء من الطرز الحفيل، وأمر بالاكتفاء منه بالساذج القليل [...] ثم أمر أصحاب الشرطة بقطع الملهين والقبض علي من شهر من المغنين، فثقف من وجد منهم بكل مكان .
ومن المؤكد أن مثل هذه الإجراءات التي كرست صورة الحاكم العادل للخليفة المنصور، قد قابلها المتصوفة مبدئيا بموقف ايجابي.
2/ ساهمت الانتصارات التي حققها الموحدون في الأندلس خاصة علي عهد يعقوب المنصور الموحدي، إلي حد كبير في تحديد نظرة المتصوفة لهم. فعملية الجهاد بأرض الأندلس قد عملت علي استقطاب عامة الناس علي اختلاف انتماءاتهم. ويشير صاحب المعجب إلي استصحاب يعقوب المنصور للأولياء في مشروعاته الجهادية، واعتبارهم جنده الحقيقيين. وفي نفس السياق، يخبرنا صاحب روض القرطاس بأن المنصور حينما اتجه إلي الأندلس لمعركة الأرك سنة 591 هـ/1195م كان معه فقهاء المغرب وصلحاؤه . بينما يصف لنا ابن عذاري أصداء هذه المعركة في الأوساط الشعبية قائلا : جاءت هذه الوقعة هنيئة الموقع، عامة المسرة كأكلة جائع وشربة عاطش، فأنست كل فتح بالأندلس تقدمها وبقي بأفواه المسلمين إلي الممات ذكرها . وهذه الرؤية تتوافق مع شهادات كتب المناقب التي تنص علي اهتمام الأولياء والمتصوفة بالجهاد بالأندلس، وتجييش الحماس الديني عند العامة، وتعبئتها للانخراط فيه، وتتبع أخباره، وابتهاجهم بالنصر والتنبؤ به. ويمكن افتراض أن المتصوفة الذين شاركوا في المشروعات الجهادية للدولة الموحدية قد جعلوها قضية مشتركة.
3/ من المعلوم أن أولي المحاولات لترسيم التعليم وجعله إطاراً لتوجيه الاختيارات الثقافية والعلمية للحكم الموحدي كانت من عمل الخليفة يعقوب المنصور. ومن بين الإجراءات التي تبناها هذا الخليفة نجد إقامة المدارس وتخصيص ميزانيات من الخزينة العمومية لتغطية تكاليفها ومتطلباتها التربوية والتنظيمية.
ولكن ما يبدو دالاً بخصوص موضوعنا، هو أن إحدي المدارس الرسمية قد تم تخصيصها بالذات لأحد أقطاب التصوف في العهد الموحدي، ألا وهو الولي الشهير أبو العباس السبتي (ت. 601 هـ). فقد قرر الخليفة المنصور إدخاله إلي مراكش، وحبس عليه مدرسة للعلم والتدريس، وزاوية للفقراء والذكر والعبادة، وداراً للسكني . ويمكن تأويل هذا القرار للوهلة الأولي،كعربون تقدير من الخليفة المنصور تجاه أبي العباس، واعترافا بمكانته الدينية، وتقديراً من الدولة التي وضعت رهن إشارته مدرسة رسمية لتسهل مهمته في التدريس ونشر معارفه. إلا أن وضع القضية في الإطار العام لسياسة الاستقطاب للمتصوفة التي تبنتها السلطة الموحدية خلال هذه الفترة تجعلنا نرجح أن يكون وراء إسكان أبي العباس بالعاصمة، والسماح له بإلقاء تعاليم مذهبه في مدرسة رسمية، نية أخري للخليفة الموحدي، وهي المتمثلة في تقييد الحرية النسبية التي كان يتمتع بها في جبل ايجليز، ومن ثم وضع نشاطه العمومي تحت المراقبة، للوقوف عن كثب علي آلياته. إن دخوله مراكش واتخاذها مجالا لنشاطه لم يكن برغبة منه، وإنما بقرار مخزني موحدي.
وفي نفس السياق، لدينا مثال آخر يسمح بتوضيح هذه الاستراتيجية الموحدية لـ ترسيم التعاليم المقدمة من طرف بعض شيوخ التصوف ـ أو لهم صلة بهذا المذهب ـ ومراقبتها، يمكن أن نستشفه من حالة عيسي بن عبد العزيز يلبخت القزولي (ت. 607 هـ/1210 م). فهذا الشيخ الذي يصفه ابن عبد الملك المراكشي بـ الورع والزهد والصلاح والانقباض عن مخالطة الناس ومداخلة أبناء الدنيا ، كان يدرس بإحدي مساجد مراكش. وكان مجلسه من بين المجالس العامرة، وانتشر صيته إلي درجة كبيرة بين سكان العاصمة الموحدية. ولما شاع ذكر أبي موسي واشتهر أمره وعرف قدره، تكاثر طلبة العلم عليه وانثالوا من كل حدب إليه، حتي ضاق عنهم ذلك المسجد الذي كان يدرس فيه، فانتقل إلي مسجد ابن الأبكم الأكثر اتساعا. وقد أثارت الشهرة الكبيرة التي لحقت بهذا الشيخ ريبة الخليفة، إذ لما نمي إلي المنصور من بني عبد المؤمن خبره، وقر عنده ما هو عليه من الدين والزهد والورع والتقشف والإعراض عن الدنيا والانقطاع إلي نشر العلم، والبعد عن التعرض لأهل الجاه من الأمراء والولاة ، أمر الخليفة باستدعائه للمثول بين يديه. ويبدو مما تورده المصادر أن ارتياب الخليفة لم يكن في تصوف عيسي بن عبد العزيز وحماسه لنشر العلم، وإنما ارتاب قبل كل شيء من إعراضه عن الولاة والأمراء . وبهذا الصدد يورد ابن عبد المالك المراكشي جملته الشهيرة حول السياسة التي اتبعها الخلفاء الموحدون تجاه المتصوفة، القاضية بـ التنقير عمن يتصف بهذه الصفات، و الكشف عن بواطن أمورهم، لتخوفهم من الخروج والثورة عليهم. والأكيد أن الخـليفة المنصور قرر كبح جماح النشاط العمومي لهذا المتصوف، ومن ثمّ أمر كبير وزرائه.. ونقيب طلبة العلم.. بالتوجه إليه وإحضاره بين يديه . وكون الخليفة قد أوعز لكبيري شخصيات دولته القيام بهذه المهمة، يدل علي الأهمية التي كان يوليها لهذه القضية وحساستها.
ويصف لنا عبد الملك المراكشي الحظوة الكبيرة التي كانت للقزولي عند المنصور غداة إلحاقه بقصره، ولم يزل المنصور بعد ذلك شديد العناية بأبي موسي راعيا له مفيضا عوارفه عليه، متعهدا أحواله متبركا به وبرؤيته . إلا أن تلك الحظوة لم يكن لها انعكاسات كبيرة علي قناعة الشيخ الذي تصفه المصادر بالتقية. إذ لم يتلبس من الدنيا إلا بما يتظاهر به بين أبنائها تقية منه علي نفسه، فأما في باطن أمره وخفي حاله فإنه كان علي أرفع درجات الزهد والتقلل من الدنيا .
ومن المؤكد أن هذا الاعتناء الكبير بالشيخ القزولي لم يكن من دون خلفيات. فبوضعه داخل إقامته لم يكن الخليفة المنصور يرمي، في نهاية المطاف، سوي الي مراقبة نشاط الصوفي العام، ووضعه تحت مراقبة رسمية، ذلك أنه في الفترة السابقة عندما كان في أحد مساجد مراكش، كانت لعيسي القزولي حرية نشر تعاليمه بحرية أكبر أمام سامعة كبيرة. ولا ندري إن كان قد تابع نشاطه كمدرس بعد لقائه بالخليفة المنصور. الأكيد أن المنصور قد قدمه إلي الخطبة في جامعه الأعظم المتصل بقصره حين أتم بناءه، فكان أول خطيب به . ومن دون شك، كان هذا التعيين قد سمح مباشرة بمراقبة تعاليمه خصوصا وأن الجامع كان متصلا بالقصر.
ومن المؤكد أن هناك أمثلة أخري للرقابة الرسمية التي طبقتها السلطات الموحدية علي أنشطة الشيوخ المتصوفة المشهورين خلال القرن السادس الهجري /12م والتي كانت ترمي إلي تدجين تعليمهم وتعاليمهم وإخضاعهم لإرادة الحكام.   
ومما له مغزاه أن محاولة الموحدين لترسيم تعليم المذهب الصوفي كانت فاشلة علي المدي البعيد، إذ ما لبثت أن دفعت بعض المتعاطفين مع المتصوفة إلي إنشاء مدرسة خاصة أصبح التصوف علي رأس المواد التي تدرس بها. نحيل هنا مدرسة أبي الحسن علي الشاري السبتي (649 هـ/1251م) التي بناها بمدينة سبتة سنة 635 هـ/1238م. ولو أن أيا من مصادرنا لم ينعت الشاري بالمتصوف، فإن معارفه كانت واسعة في هذا الميدان، اكتسبها علي ما يبدو من صلاته وتتلمذه علي بعض الشخصيات الشهيرة في عالم التصوف، مثل أبي عبد الله الفندلاوي ابن الكتاني (ت. 597/1201)، والصوفي السبتي الكبير، أبي الحسين ابن الصائغ (ت. سنة 600/1204م)، وأبي الصبر أيوب الفهري (ت. 609/1212م). إن التأثير الذي مارسه هؤلاء المتصوفة علي الشاب الشاري، يمكن أن يفسر كيف أنه قرر ـ سنوات بعد ذلك ـ إنشاء مدرسته الخاصة، وإعطائه الأولية لتدريس المؤلفات الصوفية بها.
والواقع أن الخليفة المنصور قد أبان عن ذكاء سياسي كبير عند إدخاله تغييرات محسوسة علي موقف الدولة الموحدية تجاه أتباع التصوف إلي حدود هذه الفترة. وبالإضافة إلي إضفائه الامتيازات علي بعض شيوخ التصوف، تبني هذا الخليفة بعض الإجراءات التي تم استقبالها بحفاوة من أصحاب التصوف. وبهذا الصدد يمكن الإشارة إلي الأثر الذي خلفه في الأوساط الصوفية منْع المنصور لبعض كتب علم الفروع، وإحراقه لعدد منها بعد تخليصها من الأحاديث والآيات القرآنية. ويجب ألا تغرب عن بالنا القيمة الرمزية التي يمكن أن تكون لعملية إحراق كتب الفروع في أوساط المتصوفة عند نهاية القرن السادس الهجري /12م، لأن هذا القرار الخليفي يشكل في نهاية المطاف هجوما مباشرا علي الفقهاء المالكيين الذين كانوا يرعون هذا التخصص. وبذلك يمكننا اعتبار أن المنصور قد فرض علي الفقهاء المالكيين وعلم فروعهم، نفس العقاب الذي فرضوه علي أتباع المذهب الغزالي و إحيائه في بداية هذا القرن.
وبصفة عامة، يظهر أن هذه السياسة قد نجحت إلي حد كبير في استقطاب عدد مهم من المتصوفة أو تحييدهم علي الأقل. فبالإضافة إلي كثرة توافدهم علي عاصمة الموحدين مراكش، نتوفر علي مجموعة من الأمثلة الدالة علي نجاح سياسة الاستقطاب والاحتواء الناجحة للسلطة الموحدية تجاه المتصوفة، مستمدة من تراجم بعض أشهر متصوفة المغرب والأندلس علي عهد الموحدين. بل أصبح البعض منهم يضمنون الولاء للخليفة ويتولون كتابة بيعة مدنهم ويبعثون به لمراكش.
والواقع ان هذه السياسة التقاربية التي انتهجها الخليفة المنصور مع التيار السني في التصوف هي التي تفسر ما ذهبت إليه بعض المصادر حينما تدعي انتماء الخليفة الموحدي للتيار الزهدي، خاصة وأنه كان يجتاز خلال فترة حكمه أزمة ضمير خانقة قادته إلي سلوك طريق التصوف.
ومع ذلك، فنحن لا ننفي وجود نماذج ظلت علي مقاطعتها المبدئية للحكم، ولأعطياتهم، وتتحاشي لقاء رموزه، بل ولجأت إلي التطرف وانتقاد الموحدين علانية، الأمر الذي جعلهم موضوع متابعة وملاحقة وتم الزج ببعضهم في السجون. هذا هو حال أبي إبراهيم إسماعيل بن وجماتن الرجراجي (المتوفي سنة 595 هـ/1198م). فابن الزيات يخبرنا أنه بعد صلاة الجمعة في مسجد قرية أجوز من بلد رجراجة، قام هذا الولي يعظ الناس فتكلم بكلام سمعه العامل فسجنه، وأقام في السجن ثلاثة أيام . ومرة أخري قام يعظ الناس بحضور العامل مما أثار مخاوف الأهالي، فتكلم في حق العامل بكلام خاف منه الناس علي أنفسهم، فخرجوا من المسجد كلهم وخرج العامل من المسجد ، وما لبث أن تم اعتقاله، وحملوه إلي السجن وقيدوه وجعلوه في مطمورة عميقة [...] وأمر الكاتب من يكتب فيه كتابا إلي حضرة مراكش .
والواقع أنه رغم سياسة الانفتاح تجاه الأولياء التي سنها المنصور، فإن ذلك لا يعني أن السلطة الموحدية قد تغافلت عن خطر النشاط الصوفي، بمعني أن سياسة المراقبة والحذر قد استمرت علي عهد المنصور نفسه ولكن ليس بطريق العنف والمواجهة المباشرة التي سلكها من قبل أبو يعقوب يوسف وعبد المؤمن، وإنما سلك سياسة المهادنة والمحاباة والتودد كإجراء تكتيكي في إطار استراتيجية المراقبة التي كانت تفرضها الدولة الموحدية علي المد الصوفي. ولعل موقف الخليفة المنصور من الشيخ أبي مدين خير معبر عن هذه السياسة. فما زال هذا الأخير مستقرا بمدينة بجاية إلي أن وشي به بعض المنكرين لكرامات الأولياء من علماء الظاهر لخليفة زمانه في المغرب المنصور سنة 594 هـ، زاعمين أن له شبها بالإمام المهدي ، وأتباعه كثيرون، وأصحابه في كل بلد وإقليم. فما كان من المنصور إلا أن أمر بإشخاصه إلي حضرة مراكش لاستنطاقه، بعد أن طلب من واليه علي بجاية الاعتناء به وحمله خير محمل . ووافته المنية وهو متوجه إلي مراكش ودفن بالعباد خارج تلمسان. ومما له مغزاه أن ابنه وخليفته الناصر هو الذي أمر بتشييد ضريح لأبي مدين بالعباد، سيتحول إلي مركز هام يحج إليه المتصوفة من جميع بلاد المغرب.
ولم يكن أبو مدين الوحيد الذي اتهم بالتشبه بالمهدي وانتحال الإمامة، بل إن المصادر التاريخية تشير إلي كثيرين ممن كانوا علي شاكلته، نذكر منهم الثائر عبد الرحيم بن إبراهيم الخزرجي، المشهور بـ ابن الفرس وبـ المهر . فقد اتخذ بدوره المهدوية سبيلا للوصول إلي السلطة، مثله مثل سابقيه ابن قسي وابن هود والجزيري. ومن المعلوم أن شعار المهدوية كان يحيل بالأساس علي أمل التغيير وإصلاح الأوضاع السائدة.
ولئن كانت بعض المصادر تذهب إلي أن ابن الفرس غرناطي الأصل، وتؤكد أنه كان من طبقة العلماء بالأندلس ، فإنها تشير كذلك إلي دعم قبائل جزولة المغربية لحركته، مما يؤشر علي إمكانية أن يكون مغربي الأصل، أو انتسابه لتلك القبائل. والجدير بالذكر أن ابن الفرس كان فقيها عالما، أتاحت له ثقافته الواسعة حضور مجلس الخليفة المنصور الموحدي، إلا أنه تكلم في بعض الأيام، حتي خشي عاقبته في عقده، وخرج من المجلس فاختفي مدة . ثم بعد مهلك المنصور ظهر في بلاد كزولة بجنوب المغرب معلنا ثورته سنة 597 هـ، منتحلا الإمامة، ومدعيا أنه القحطاني الذي سـ يقود الناس بعصاه ليملأ الأرض عدلا كما مُلئت جورا . ولقيت دعوته استجابة كبيرة ببلاد السوس (خاصة بجزولة ولمطة ودرعة)، فتبعه الجمع الغفير، ودعوه بالخليفة، وحيوه بتحية الملك. ولم يكن أمام الموحدين إلا تدبير اغتياله، فقُطع رأسه، ورفع في عصا، وعلق علي باب مراكش، وذلك سنة 601 هـ /1205م، وهو ابن ست وثلاثين سنة.
من الجلي إذن، أن دولة الموحدين قد ابتليت، حتي قبل بداية تصدعها، بثورات ذات مرجعية مهدوية؛ ولقد أشارت بعض الدراسات الحديثة إلي خطورة هذه الثورات التي تركزت بالجنوب وخاصة بمجال جزولة، علي الدولة الموحدية، خصوصا وأن بعضها استفادت من الرجة الهائلة التي أصابت كيان الدولة الموحدية بعد هزيمة العقاب سنة 609 هـ/1212م، كما لم يفت تلك الدراسات التنصيص علي البعد القبلي في هذه الثورات لأنها كانت تتحرك في إطار العصبية الصنهاجية، أو علي الأقل العصبيات المعادية للمصامدة. بل إن العصبية الصنهاجية ستتحرك مرة أخري مع ثائر آخر أثار آثارا قبيحة ... واستفسد خلقا كثيرا . إلي أن تمكن من قتله سنة 618 هـ والي سجلماسة أبو محمد عبد العزيز بن الخليفة يوسف. علي أنه ما يجب التنصيص عليه بالنسبة لموضوعنا هو استناد هؤلاء الثوار إلي مرجعية مهدوية وادعائهم بأنهم عبيديون فاطميون، فلعلهم كانوا يرومون من وراء ذلك استغلال وجود ترسبات وبقايا تأثيرات شيعية قديمة بالمنطقة الجنوبية، واستعداد هذه المنطقة لتقبل ظهور آل البيت علي مسرح السلطة. ومن المعلوم أن صلة التصوف بالتشيع أصبحت الآن حقيقة تاريخية مؤكدة، كما تثبت ذلك الأبحاث الجادة.

التصوف خلال مرحلة الانحلال الموحدي
هيكلة الطوائف الصوفية

شهد العقدان الثاني والثالث من القرن السابع الهجري/13 م الانحلال التدريجي للإمبراطورية الموحدية، ذلك أن التصدع الذي أحدثته هزيمة العقاب سنة 609 هـ/1212 م لم يقف عند حدود جهاز الدولة الموحدية المركزية، وإنما امتد إلي مجموع مجالها الذي أصبح عرضة للتفتت السياسي بانقسام الإمبراطورية إلي كيانات مستقلة. إلي هذه الأزمة السياسية تنضاف أزمة إيديولوجية ابتداء من سنة 626 هـ/1229م، حين أعلن الخليفة المأمون (626 ـ 630 هـ 1229 ـ /1232م) نبذه للعقيدة التومرتية، وأزال اسم المهدي من السكة ومن خطبة الجمعة ومن المراسلات الرسمية، واعتبر الإبقاء علي تلك الإجراءات ليس ضروريا للمحافظة علي الشرعية السياسية والدينية للموحدين. ولا نفهم جيدا هذه الصيرورة التي تؤشر علي انكسار الأسس الإيديولوجية للدولة الموحدية، وتؤشر علي فقدان النسق الموحدي لأهم خيوطه المميزة.   
ويبدو أن السياسة الرسمية تجاه التصوف خلال فترة الانحلال الموحدي المتأخرة، كان لها وجهان: من جهة حاولت السلطة بطرق مختلفة، إضعاف سلطة الطوائف الصوفية المنظمة، في محاولة يائسة لتجنب ميل هؤلاء للخصم المريني، ومن جهة أخري وللحد من تأثير التصوف المنظم في رباطات ، حاول الموحدون أن يحوزوا ثقة أشياخ التصوف غير المنتمين لإحدي هذه الطوائف التي كانت تعمل ببلاد المغرب خلال النصف الأول من القرن السابع الهجري /13م. وبنهجهم لهذه السياسة لم يكن خلفاء فترة الانهيار الموحدي يعملون إلا علي السير في نفس الطريق التي سار عليها أسلافهم، والمتمثلة في إضفاء الامتيازات علي بعض أشياخ التصوف ذوي الشهرة، أو تعيينهم في بعض الخطط الحكومية، بهدف الظهور بمظهر الخلفاء الورعين ، وإضفاء نوع من الشرعية علي سلطتهم المترنحة.
وهناك مثال يسمح لنا بتوضيح ما سبق، وهو العلاقة التي ربطت الخليفة المأمون (626 ـ 630 هـ/1229 ـ 1232 م) بشيوخ رباط تيط. فخلال نزاعه مع يحيي المعتصم علي السلطة بعد وفاة الخليفة العادل الموحدي (624 هـ)، كتب المأمون لشيخ رباط تيط، طالبا منه تزكية بيعته. وقد ساند شيخ الرباط المأمون دون تردد، وطلب منه بأن يأخذ الحركة إلي مراكش ويستعين بالله، وإنا (يقول الشيخ) نتكفل لك علي ذمة الله تعالي أن يهب لك ملككم، ويجعلكم خليفة، لكونكم أهلا للخلافة، لأن لك عقلا وافرا ورأيا صالحا . كما أن علاقة المأمون بالشاعر المتصوف أبي عمر ميمون بن علي الصنهاجي الخطابي، المشهور بابن خبازة (ت. 637 هـ /1239 م) تؤشر بدورها علي طبيعة علاقة الخليفة المأمون برجال التصوف. فقد عينه الخليفة علي حسبة الســـوق. وعلي عكس نموذج الصوفي الرافض للتعامل مع السلطة، فإن ابن خبازة الذي كان لباسه عادة عبارة عن مرقعة ، لم يكتف بمدح الخليفة المأمون في أشعاره وإنما عندما قرر هذا الأخير نبذ العقيدة التومرتية، نظم قصيدة يبين فيها تأييده لقرار الخليفة ويذم فيها عقيدة المهدي.
إن التسامح الظاهري للخليفة المأمون مع المتصوفة لا ينفي بالطبع أنه خلال فترة خلافته ظهرت خلافات بين بعض أتباع التصوف والسلطات الموحدية. للأسف لا توفر المصادر إلا القليل من المعلومات بهذا الخصوص. وهذا ما يبدو بخصوص حالة الشاعر الصوفي القرطبي أبي زيد عبد الرحمن بن محمد بن يخلفتن الفزازي (ت.627 هـ/1230 م)، فقد تتلمذ علي يد متصوفين كبيرين هما أبو الحسن ابن الصائغ، وأبو الصبر أيوب الفهري. وتشير المصادر بصفة خاصة إلي ميله للتصوف، ودفاعه المستميت عن المذهب. فقد اشتهر بـ المنافرة لأهل البدع ، وكان كثير الحب للصالحين والزيارة لهم . وقد ألف كذلك قصائد زهدية ومدائح نبوية، وله في الزهد أشعار سمعت منه وسارت عنه ومال إلي التصوف وشهر به مع الميل إلي علم التصوف وصحبة المريدين والسعي في مطالبتهم والتشدد علي أهل البدع . وقد شغل الفزازي ـ الذي كانت له حياة متنقلة ما بين ضفتي الزقاق ـ منصب كاتب لدي الخليفة المأمون، مع العلم أن أغلبية مترجميه يؤكدون أن تعيينه في هذا المنصب كان ضد إرادته. ومن المحتمل أن يكون هذا التحفظ سببا في الجفوة التي نالته من السلطان ، ولزوم داره، أو أنها نجمت عن موقف الفازازي من استعانة المأمون بالروم علي قتال المسلمين وموافقته علي شروطهم المهينة. واضطر في أخريات حياته (سنة 626 هـ) للقدوم إلي مراكش ـ ربما بين يدي المأمون ـ وتوفي هناك السنة الموالية.
والواقع ان السياسة الموحدية لاحتواء الطوائف الصوفية قد منيت بالفشل، علي الرغم من الامتيازات التي أسبغوها علي شيوخ الطائفة الصوفية الصنهاجية التي أسسها بنو أمغار في رباط تيط الفطر. ومما يؤشر علي تأزم العلاقة بين الجانبين محاولة الخليفة الرشيد (630 ـ 640 هـ 1232 ـ /1242 م) ـ بإيعاز من بعض شيوخ صنهاجة ـ فرض ضريبة علي الجماعة الصوفية لرباط تيط الفطر، وإبطال الظهير الذي يعفي بني أمغار من أداء المغارم. ولو أن محاولة الخليفة لم يكن لها ـ علي ما يبدو ـ تأثير، فإنه كان لها انعكاسات كبري من الناحية السياسية؛ إذ اعتبرها بنو أمغار دليلا علي عداوة الخليفة الرشيد لهم، وتدشينا للقطيعة النهائية بين متصوفة رباط تيط الفطر والسلطة الموحدية، إذ بعد ذلك بقليل، وخلال خلافة المرتضي (646 ـ 665 هـ 1248 ـ /1266م) ثار الوالي الموحدي أبو فارس عزوز بن يبروك بن أمغار ضد الخليفة الموحدي المرتضي، والتجأ إلي حرم رباط تيط، واعترف بسيادة الأمير المريني يعقوب بن عبد الحق (656 ـ 685 هـ 1258 ـ 1286م). وقد عاقب المرتضي خيانته بإعطاء أمره لتهديم سور رباط تيط الفطر واقتحام حرمة الشيخ. إلا أن شيخ الرباط أظهر معارضة شديدة لقائد المرتضي، أبي القاسم الهنائي المكلف بتعقب الثائر ابن يبروك.
وقد حاول الخليفة أبو دبوس (الذي خلف المرتضي) تأمين مساندة شيوخ رباط تيط بأن أصدر ظهيرا في ربيع الأول من عام 665 هـ (أي بعد ثلاثة اشهر فقط من الحكم) يحملهم فيه علي الكرمة والمبرة والرتبة الدائمة والحماية التي تقيهم ضروب الضيم والمضرة ، فضلا عن إعفائهم من الوظائف المخزنية، والكلف الناشئة، وجميع ما يلزم من المؤن والسخر ، طالبا منهم التصدق بأعشارهم وتفريقها علي المساكين، جريا علي عادتهم في الصلاح. إلا أن محاولته منيت بالفشل، لأن شيوخ تيط مالوا لجانب خصومه السياسيين، واعترفوا مبكرا بسلطة المرينيين الذين لم يترددوا من جانبهم في إقرار ما بظهير أبي دبوس لهم، بل أضافوا إليه امتيازات مادية، وبادروا إلي الاعتراف المبكر لهم بشرف نسبهم، بل قدموهم علي رأس الركب الرسمي للحج في سنة 703 هـ .
يبقي توضيح الدور الذي يمكن أن يكون قد لعبه رباط آسفي في الصراعات التي واجهت الموحدين مع بني مرين. ولو أننا لا نتوفر علي أية إيضاحات تسمح لنا بالجزم بأن أتباع أبي محمد صالح قد مالوا لصالح المرينيين ـ كما حدث مع بني أمغار بتيط ـ فإننا نجد أن الأمير يعقوب بن عبد الحق المريني قد عين أصغر أبناء شيخ آسفي، وهو عيسي (ت. 698 هـ/1299م) لـ ولاية الإمارة ببلد آسفي . ومن المحتمل أن الأمير المريني حاول ـ بهذه المبادرة ـ أن يكافئ أحفاء أبي محمد صالح علي دعمهم له في صراعه مع الموحدين.
وإلي جانب الدور السياسي الذي قد تكون لعبته الطوائف بالمغرب في انحلال السلطة الموحدية وفي الصراع الموحدي المريني خلال النصف الأول من القرن السابع /13م، فإننا نلمس تأثير المتصوفة السياسي كذلك في الثورات ضد الموحدين التي اندلعت خلال نفس الفترة بالأندلس، وخاصة في منطقة الشرق. ونشير بالخصوص إلي الثورة التي حمل لواءها أبو عبد الله محمد بن يوسف بن هود (ت. 635 هـ/1238 م) في منطقة مرسية سنة 625 هـ /1228م، أي بالضبط في فترة أوج التيار الصوفي في هذه المنطقة. وبتحليل أصل هذه الثورة وتطورها ضد الخليفة المأمون، تتبين بعض المؤشرات التي تسمح بافتراض وجود روابط بين ابن هود والجماعات الصوفية لمنطقة مرسية. ولو أنه يصعب معرفة مدي الدور الذي لعبه متصوفة المدينة خلال هذه الفترة، فإننا نتوفر علي معطيات مشتتة، تدفعنا إلي القول ان ابن هود كان يبحث عن دعم أتباع هذا المذهب، ليضفي شرعية علي حكمه. ومما له دلالة أكبر هو أن ابن هود ولَّي علي مرسية عبد العزيز بن عبد المالك بن خطاب (ت. 636 هـ /1238م)، وهو رجــــل تحمل مسؤوليات سياسية، ومال إلي التصوف والزهد. ومن المؤكد أن ثورة ابن هود، وخاصة حملاته لإيقاف الزحف المسيحي علي شرق الأندلس، قد أثارت حماس متصوفة باقي المناطق. فالشيخ الغرناطي أبو إسحاق بن عبيد يس النفزي (ت. 659 هـ/1261 م) يمدح ابن هود في أشعاره، ويحثه فيها لتــوظيف جهوده لصالح الجهاد.
من جهة أخري، كان لتصوف مرسية، خلال هذه الفترة، بعد سياسي لا غبار عليه، ظهر واضحا في حالة محمد بن أحلي (ت .645 هـ /1247م) كما لاحظ ذلك بيير غيشار. فقد تزعم هذا الشيخ جماعة متطرفة من المتصوفة كانت تعمل في منطقة لورقة. وحسب ابن الزبير، كان لمذهب ابن أحلي نزوح عن سنن المسلمين ...من ذلك قولهم بتحليل الخمر وتحليل إنكاح أكثر من أربعة، وأن المكلف إذا بلغ درجة العلماء سقطت عنه التكاليف الشرعية . وبدأ أتباعه في ممارسة الإذاية في الأموال والأبدان والتخويف الشديد لسكان المنطقة. وتحول ابن أحلي ما بين 637 ـ 645 هـ 1240 ـ /1245م إلي والٍ مستقل للورقة بدعم من أتباعه. وامتازت إدارته ـ حسب ابن عبد المالك المراكشي ـ بالعدل والمساواة. من هذه الزاوية يمكن اعتبار ابن أحلي ممثلاً نموذجياً للواجهة السياسية للتصوف في خط ابن قسي، مثله في ذلك مثل عزيز بن خطاب الذي ترك الحياة الصوفية لينصرف لهموم السياسة.

خلاصة القول

إن الموحدين والمتصوفة كانوا في فترة الدعوة التومرتية حلفاء مرحليين في صراعهم ضد الخصم المشترك الذي مثله الفقهاء والمرابطون. ولم يكن أمام خلفاء ابن تومرت سوي العمل علي تجنب المواجهة مع التيار الصوفي وعدم الاصطدام بزعمائه؛ بل العمل علي كسبهم إلي جانب الدعوة الموحدية، أو علي الأقل تحييدهم. فقد كان المتصوفة في أعين الخلفاء الموحدين يشكلون طاقة مناهضة يجب مراقبتها عن كثب، لئلا تتحول إلي قوة مناهضة للدولة، مهددة لاستقرارها ولاستمراريتها. إلا أن سياسة الموحدين تجاه المتصوفة لم تتبع ايقاعاً واحداً. فإذا كانت السياسة المرابطية تجاههم قد اتخذت خطا مستقيماً، وبدأت بالتوتر واستعمال الشدة وانتهت بـ محاولة احتوائهم ، خاصة بعد فشل السلطات في كسر شوكتهم، فإن تموجات سياسة الموحدين تجاههم كانت مختلفة الإيقاع، بحيث انها مرت بأطوار متباينة ومتداخلة في نفس الوقت، من التحالف المرحلي إلي المراقبة و التنقير والصراع المفتوح، مروراً بسياسة الانفتاح والاحتواء والاستقطاب و التدجين ، والإدماج فـــي الدوائر الرسمية ... إلخ.
QP17

المصدر : القدس




 

No comments:

Post a Comment