Tuesday, July 6, 2010

أفعال الله وقيام الحوادث - مختار الطيباوي


بسم الله الرحمن الرحيم

جواب الأخ بن حسين حسين عن مسألة قيام الحوادث

الحمد لله وحده و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده، وبعد.
سأل أخونا الفاضل قائلا:
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أرجو أن تكون بخير سؤالي بارك الله فيكم هو عن قاعدة يجعلها أهل الكلام من المسلمات التي ينطلقون منها في إثبات الباري -جل وعلى -وهي: ما تقوم به الحوادث فهو حادث و ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث أرجو منكم تفنيد ودحض هذه القاعدة على شكل نقاط ولكم مني جزيل الشكر والسلام عليكم ورحمة الله".
الجواب:
وعليك السلام ورحمة الله وبركاته ،فهذا جواب مختصر لسؤالك :
من طرق المتكلمين لإثبات وجود الله تعالى طريقة إثبات حدوث الأجسام والذوات،أي إذا ثبت كونها محدثة فهذا يعني أن لها محدثا هو الله تعالى .
و لإثبات حدوث الأجسام يثبتون حدوث الأعراض وهي الصفات الزائلة للأجسام كالحركة والسكون، وهذه طريقة المعتزلة وزعيمها عند الأشاعرة أبو المعالي الجويني،وصيغة هذا المسلك عندهم هي: أجسام العالم محدثة ، وكل محدث فله محدث.
والحقيقة هذا من المعارف الفطرية المغروسة في الناس، فكلهم يعرف أن لكل مصنوع صانع، ولكل متحرك محرك، ولكل مدفوع دافع ،ولكل مطعوم طاعم،ولكل ضاحك مضحك، وغير ذلك، فلكل مفعول فاعل.
و هذا المسلك ـ دليل الأعراض ـ قاد المتكلمين إلى نفي صفات الله ، و أفعاله القائمة به ،إما غالبيتها كما هو الحال عند المعتزلة ، أو بعضا منها كما هو الحال عند الأشاعرة ، أي إنهم نفوها بناء على قولهم بنفي قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى ، ولكنهم أدرجوا في الحوادث الصفات الاختيارية، فأدرجوا ما يقوم بالرب فيما يقوم بالمخلوق، وسمّوا الكل: حوادث، وهذا تلبيس شديد نبينه عندما نصحح هذه القاعدة ، فالكلام عندهم قديم ، وهو لا يتكلم بمشيئته ،متى شاء ، وكيف شاء، لأنه لو تكلم الآن ، لكان هذا الكلام حادثا ،وهو لا تقوم به الحوادث.
لما وقع النزاع بين المبتدعة في مسألة حدوث العالم ،و إثبات وجود الله ، قالت الجهمية و المعتزلة ومن وافقهم : مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث.
ثم استدلوا بهذه الحجة المخالفة للعقل و الشرع على حدوث الأجسام ، فقالوا: إن الأجسام لا تخلو عن الحوادث ،و الحوادث عندهم مثلا :هي الصفات التي تحدث لها فالسماء مثلا تراها في الصباح حمراء ثم تصير زرقاء، فهذا تغير يقوم بها يدل على أنها مخلوقة،كذلك الإنسان يكون قصيرا ثم يطول ،أو يكون جالسا ثم يقوم ،أو يكون جائعا ثم يأكل فيشبع ، وغير ذلك فهذه حوادث لا يخل منها جسمه ،وهي تدل على أنه محدث،ولذلك قالوا: ومالا يخلو عن الحوادث فهو حادث، فلو سلمنا أن المقدمة الوحيدة التي بنوا عليها هذه النتيجة ، وهي قولهم: الأجسام لا تخلو عن الحوادث ، صحيحة لأنها تتعلق بمعين هو المخلوق ، فإن قولهم: مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث ، بهذا الإطلاق غير صحيح إذا سموا قيام الأفعال الاختيارية بالله ككونه يتكلم متى يشاء، و يخلق متى يشاء، حوادث ، لينفوها لأن الحوادث التي أطلقوها على الأجسام علمنا أن الله يحدثها فيهم ، أما ما يقوم بذات الله سبحانه وتعالى فهو يفعل بذاته ما يشاء و لم يفعله به غيره ، فإن استدلوا على قيام الحوادث بالأجسام على حدوثها ،اعتمادا منهم على قضية فطرية وهي لكل صانع مصنوع ، لم يجز لهم تسمية ما يقوم بذات الله حوادث وفقا لهذه القضية .
فهذه المقدمة و إن كانت صحيحة ركبوا عليها نتيجة غير صحيحة تكلفوها ، ولم تدل عليها هذه المقدمة أبدا.
 
نقد هذه القاعدة وتصحيحها وبيان ما يترتب على القول بها:
فالناس بإزاء هذا الأمر على ثلاثة أقوال:
الفريق الأول قال: مالا يخلو عن الحوادث فهو حادث ،و بامتناع حوادث لا أول لها مطلقا،وهؤلاء هم : المعتزلة و بعض الكرامية و الأشعرية، ومن دخل معهم من الفقهاء.
الفريق الثاني قال: ولكن يجوز دوام الحوادث مطلقا ، وليس كل ما قارن حادثا بعد حادث لا إلى أول يجب أن يكون حادثا ، بل يجوز أن يكون قديما سواء كان واجبا بنفسه أو بغيره وهذا قول القائلين بقدم العالم ،كأرسطو ،و أتباعه كابن سينا،فكون الفلك محدث لا يعني انه ليس بقديم ، فهؤلاء يقولون بقدم المحدث المعين.


تصحيح قاعدة:ما لا يخلو من الحوادث فهو حادث.
الفريق الثالث: قالوا: إن كان المستلزم للحوادث ممكنا بنفسه ، و أنه هو الذي يسمى مفعولا ومعلولا ومربوبا ونحو ذلك من العبارات و جب أن يكون حادثا ،و إن كان واجبا بنفسه لم يجز أن يكون حادثا ، وهذا قول أئمة أهل الملل و أساطين الفلاسفة ، وهو قول: جماهير أهل الحديث ، وهؤلاء يصححون هذه القاعدة فيقولون تصحيحا لهذه القاعدة:

1 ـ ما لا يخلو عن الحوادث المخلوقة فيه فهو محدث:
مالا يخلو عن الحوادث وهو ممكن بنفسه فهو حادث ،أو مالا يخلو عن الحوادث وهو معلول أو مفعول أو مبتدع أو مصنوع فهو حادث ، لأنه إذا كان مفعولا مستلزما للحوادث امتنع أن يكون قديما، فإن القديم المعلول لا يكون قديما إلا إذا كان له موجب قديم بذاته يستلزم معلوله، بحيث يكون معه أزليا لا يتأخر عنه ، وهذا ممتنع.
لأنه كونه مفعولا ينافي كونه قديما ، بل قدمه ينافي كونه ممكنا ، فلا يكون ممكنا إلا ما كان محدثا .

2 ـ ذات الله مستلزمة لصفاته ليست مبدعة لها:
فإذا قلنا: ذاته سبحانه وتعالى مقتض تام للصفة ، سواء كانت صفة كلام أو خلق أو غير ذلك كان المعنى أن الذات مستلزمة للصفة ، ليس المراد بذلك أن الذات مبدعة للصفة حتى نسمي ما يقوم به من أفعال حوادث .

3 ـ معنى المحدث و القديم عند المتكلمين مخالف لمعناهما في القرآن:
مما يجب ضبطه قبل ولوج علم الكلام معاني المصطلحات ،فمن الناس من يحمل ما يسمع من كلام على عرفه هو، لا على مقصود السلف ولغتهم ،كما أصاب كثيرا منهم في قوله تعالى:{ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث}الأنبياء، ظنوا أن المحدث و القديم في لغة العرب التي نزل بها القران،هو المحدث و القديم في اصطلاح المتكلمين،وهو مالا أول لوجوده،وما لم يسبقه عدم، فكل ما كان بعد العدم فهو عندهم محدث،وكل ما كان لوجوده ابتداء فهو عندهم محدث،ثم تنازعوا فيما تقدم على غيره: هل يسمى قديما حقيقة أو مجازا؟على قولين لهم.
أما اللغة التي نزل بها القرآن فالقديم فيها خلاف المحدث، وهما من الأمور النسبية ، فالشيء المتقدم على غيره قديم بالنسبة إلى ذلك المحدث، والمتأخر محدث بالنسبة إلى ذلك القديم ، وإن كانا كلاهما محدثين بالنسبة إلى من تقدمهما، وقديمين بالنسبة إلى من تقدماه، ولم يوجد في لغة القرآن لفظ" القديم" مستعملا إلا فيما يقدم على غيره، وإن كان موجودا بعد عدمه، لكن ما لم يزل موجودا هو أحق بالقدم.
و المقصود أنه مستعمل في القرآن فيما تقدم على غيره كقوله تعالى :{ حتى عاد كالعرجون القديم} يس،وقوله تعالى:{قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم}يوسف، وقوله:{ وإذ لم يهتدوا به فسيقولون هذا إفك قديم} الأحقاف، وقوله تعالى:{ أفرأيتم ما كنتم تعبدون *أنتم و آباؤكم الأقدمون} الشعراء، فالمحدث يقابل هذا القديم.
وكان القرآن ينزل شيئا فشيئا، فما تقدم نزوله فهو متقدم على ما تأخر نزوله، وما تأخر نزوله محدث بالنسبة إلى ذلك المتقدم، ولهذا قال:{ ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث} فدل أن الذكر منه محدث، ومنه ما ليس بمحدث.{ الصفدية:85/2}.

قيام الحوادث:
قلت: وعلى هذا الأساس يجب فهم قيام الحوادث بذاته سبحانه وتعالى لا على اصطلاح المتكلمين، فصفة الكلام صفة أزلية لا أول لها ،و لكن آحادها محدثة بمعنى أن تكلم الله في عهد النبي صلى الله عليه وسلم محدث بالنسبة إلى كلامه إلى عيسى و كلامه لعيسى محدث بالنسبة لكلامه لموسى ، كذلك كلامه يوم القيامة لعباده كما جاءت به النصوص محدث بالنسبة لكلامه للنبي صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج ، فكلامه سبحانه وتعالى لنبينا صلى الله عليه وسلم ليلة المعراج محدث بالنسبة لما سبقه من كلام الله للأنبياء الذين كانوا قبل نبينا صلى الله عليه وسلم، قديم بالنسبة لما سيأتي بعده من كلام الله.
و بناء على أصلهم هذا في حدوث العالم ،قال كثير منهم: الكلام لا يكون إلا بمشيئة المتكلم وقدرته، فيكون حادثا كغيره من الحوادث، ثم قالت طائفة : والرب لا تقوم به الحوادث، فيكون الكلام مخلوقا في غيره، فجعلوا كلامه مخلوقا من المخلوقات،وقد علم الناس أن الخالق لا يتصف بمخلوقاته، فلا يتصف بلون الشجرة التي خلقها خضراء،و لا يتصف بصوت مخلوقاته وروائحهم وحركاتهم ،وعلمهم وقدرتهم وسمعهم وبصرهم ،فلا يجوز أن يتصف بما يخلقه من كلام في غيره،
فلو جاز ذلك لكان كل كلام في الوجود كلامه ، حتى كلام الجمادات للأنبياء، فثبت أن الكلام قائم به وهو صفة له لم يخلقه في غيره.
فلما علم هؤلاء أن الله يتكلم بمشيئته و قدرته ،وعندهم يمتنع حوادث لا أول لها فلزم أن يكون كلامه حادثا بعد أن لم يكن، إذ كونه يتكلم بمشيئته وقدرته يعني أن يتكلم متى شاء و كيف شاء ، فلو تكلم في المستقبل وهذا ما تقتضيه كونه يتكلم بمشيئته وقدرته لكان كلامه هذا في المستقبل حادثا بعد أن لم يكن ،وما قامت به الحوادث عندهم فهو حادث ، فوجب أن يمنعوا أن يكون الكلام قائما به فقالوا : خلقه في غيره، أو وجب أن يقولوا :كلامه قديم فينفوا مشيئته وقدرته على الكلام متى يشاء.
وبهذا تعرف أن القول بحوادث لا أول لها لازم لجميع الطوائف ، خاصة لمن يثبت والقدرة على الكلام وفق المشيئة.
و قد عرفنا أن السلف يقولون:الله يتكلم متى شاء و كيف شاء، أو يقولون :لم يزل ولا يزال الله يتكلم.فافهم هذا.

وهذه المسألة : حوادث لا أول لها شطران أو قسمان:
الشطر الأول :وهو المتعلق بالله سبحانه و تعالى ككونه يتكلم متى شاء و كيف شاء،وانه ليس لكلامه أول ، وهذه منعها المتكلمون لأنها عندهم تقضي أن تقوم به الحوادث ، فمن منعها في هذا الشطر فقد دخلت عليه هذه الشبهة ،وهي كون ما يقوم بذات الله يسميه حادثا، فيجب منع قيام الحوادث بذاته بناء على بدعتهم في الجسم .
الشطر الثاني :وهو المتعلق بالمخلوق أو المحدث في صفة الفعل ، أي كونه يفعل متى شاء و كيف شاء فليس لفعله أول ،وهي ما نسميه دوام الفاعلية لا دوام المفعولات، ولكن كثير من الناس لم يستطع الجمع بين دوام الفاعلية وعدم دوام المفعولات و أشكل عليه ذلك لفساد تصوره ، و معلوم أن الذين قالوا : كلام الله ليس له أول ،أو لم يزل ولا يزال يتكلم بمشيئته وقدرته ـ كما ذكرناه قبل قليل ـ هم الذين فرقوا بين الواجب و الممكن، والخالق و المخلوق ، والغني الذي لا يفتقر إلى غيره ، والفقير الذي لا قوام له إلا بالغني، فقالوا: كل ما قارن الحوادث من الممكنات فهو محدث كائن بعد أن لم يكن، وهو مخلوق مصنوع مربوب، و انه يمتنع أن يكون فيما هو فقير ممكن مربوب شيء قديم ، فضلا عن أن تقارنه حوادث لا أول لها، فكل ما سوى الله محدث بعد أن لم يكن ، ولكن هذا لا يمنع كون الله يفعل شيئا بعد شيء أي ليس لفعله أول و إن كان للمحدث المعين أول وبداية ، و كون الله يفعل شيئا بعد شيء يقتضي دوام فاعليته ،و لكن المحدثات يحدثها شيئا بعد شيء فلزم أن جملتها أو نوعها لا أول له و إن كانت آحادها كل فرد منها مسبوق بكونها لم يكن ثم كان ، فدوام فاعليته لا يستلزم دوام المفعول المعين.

المذاهب في تجدد آحاد الصفات:
الأول ـ قول المعتزلة و الكلابية و الأشعرية وكثير من الحنابلة و من اتبعهم من الفقهاء و الصوفية ،وغيرهم:
أن هذا القسم لا بد أن يلحق بأحد القسمين قبله ـ المضاف إلى الله تعالى { أي إما أنه قديم غير مخلوق كالقسم الأول ، وإما انه مخلوق كالقسم الثاني} فيكون إما قديما قائما به عند من يجوز ذلك وهم الكلابية ،و إما مخلوقا منفصلا عنه ، ويمتنع أن يقوم به نعت أو حال أو فعل، أو شيء ليس بقديم ، ويسمون هذه المسألة : حلول الحوادث بذاته {...} و يسميها آخرون: فعل الذات بالذات، أو في الذات، وهؤلاء ظنوا أن تجويز ذلك يستلزم حدوثه، لأن دليلهم على حدوث الأجسام هو قيام الحوادث بها ، فلو قامت بالله للزم إما حدوثه أو بطلان العلم بحدوث العالم ، لأنهم أوقفوا العلم بحدوثه على دليل الأعراض.
و المخالف لهم يقول: دليل حدوث العالم امتناع خلوه من الحوادث،وكونه لا يسبقها، وأما إذا جاز أن يسبقها لم يكن في قيامها به ما يدل على الحدوث.

و الحمد لله رب العالمين و الصلاة و السلام على من لا نبيّ بعده، و السلام عليكم.
أرزيو/الجزائر في 09 رمضان1430
أخوك مختار الأخضر طيباوي


 

---

No comments:

Post a Comment