Sunday, July 25, 2010

الكلمات الحسان في بيان علو الرحمن - شبهة لو كان فوق العرش لزم أن يكون أكبر من العرش أو أصغر أو مساويا

بسم الله الرحمن الرحيم
 الشُّبْهَةُ السَّادِسَةُ

لو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ.

اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ «طريقةَ سلفِ الأمَّةِ وأئمَّتها: أنَّهم يصفونَ الله بما وصفَ بهِ نفسهُ وبما وصفهُ بهِ رسولهُ: منْ غيرِ تحريفٍ ولا تعطيلٍ، ولا تكييفٍ ولا تمثيلٍ: إثباتٌ بلا تمثيلٍ، وتنزيهٌ بلا تعطيلٍ، إثباتُ الصفاتِ، ونفيُّ مماثلةِ المخلوقاتِ، قال تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] فهذا ردٌّ على الممثِّلةِ {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] ردٌّ على المعطِّلةِ»[477]. وهذهِ: معالجةٌ: لسقمِ الأوهامِ، ودواءٌ لداءِ الأسقامِ، وشفاءٌ لأوامِ الجهلِ: على وجهِ الكمالِ والتمامِ[478].

ومنْ فهمَ هذه الآيةَ الكريمةَ حقَّ فهمها، وتدبَّرها حقَّ تدبُّرها مشى بها عندَ اختلافِ المختلفينَ في الصِّفاتِ على طريقةٍ بيضاءَ واضحةٍ، ويزدادُ بصيرةً إذا تأمَّلَ معنى قولهِ: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فإنَّ هذا الإثباتَ بعدَ ذلكَ النَّفيَّ للمثلِ، قَدِ اشتملَ على بردِ اليقينِ، وشفاءِ الصُّدورِ، وانثلاجِ القلوبِ.

فاقدرْ يا طالبَ الحقِّ قدرَ هذهِ الحجَّةِ النيِّرةِ، والبرهانِ القويِّ، فإنَّك تحطِّمُ بها كثيرًا مِنَ البدعِ، وتهشِّمُ بها رؤوسًا مِنَ الضلالةِ، وترغِمُ بها آنافَ طوائفَ مِنَ القاصرينَ المتكلِّفينَ، والمتكلِّمينَ المتأوِّلينَ، ولا سيِّما إذا ضممتَ إليهِ قولَ الله سبحانهُ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا} [طه: 110] فإنَّكَ حينئذٍ قدْ أخذتَ بطرفي حبلِ ما يسمُّونهُ علمُ الكلامِ وعلمُ أصولِ الدِّينِ[479].

والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ أنْ يقالَ:

إنَّ الله سبحانه وتعالى الموصوفَ بصفاتِ المجدِ والكبرياءِ والعظمةِ والجلالِ، «أكْبرُ منْ كلِّ شيءٍ ذاتًا وقدْرًا ومعنًى وعزَّةً وجلالةً، فهوَ أكْبرُ مِنْ كلِّ شيءٍ في ذاتهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ كمَا هوَ فوقَ كلِّ شيءٍ، وعالٍ على كلِّ شيءٍ، وأعظمُ مِنْ كلِّ شيءٍ، وأجلُّ منْ كلِّ شيءٍ في ذاتهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ[480]. فهوَ الحيُّ القيُّومُ الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ في حياتهِ وقيُّوميَّتهِ، العليُّ الذي ليسَ كمثلهِ شيءٌ في علوِّهِ بلْ هوَ منفردٌ بذاتهِ وصفاتهِ عنْ مماثلةِ مخلوقاتهِ، فلهُ أعظمُ المباينةِ وأجلُّها وأكملُها كما لهُ منْ كلِّ صفةِ كمالٍ أعظمُها وأكملُها»[481].

والقائلُ الذي قالَ: لو كانَ الله فوقَ العرشِ للزمَ إمَّا أنْ يكونَ أكبرَ مِنَ العرشِ أو أصغرَ أو مساويًا، وكلُّ ذلكَ مِنَ المحالِ، ونحو ذلكَ مِنَ الكلامِ: فإنَّه لمْ يفهمْ منْ كونِ الله على العرشِ إلَّا ما يثبتُ لأيِّ جسمٍ كانَ على أيِّ جسمٍ كانَ، وهذا اللازمُ تابعٌ لهذا المفهومِ، أمَّا استواءٌ يليقُ بجلالِ الله تعالى ويختصُّ بهِ، فلا يلزمهُ شيءٌ مِنَ اللَّوازمِ الباطلةِ، التي يجبُ نفيهَا، كما يلزمُ منْ سائرِ الأجسامِ. وصارَ هذا مثلُ قولِ الممثِّلِ: إذا كان مستويًا على العرشِ فهوَ مماثلٌ لاستواءِ الإنسانِ على السريرِ أو الفلكِ، إذْ لا يُعلمُ الاستواءُ إلَّا هكذا فإنَّ كليهما مثَّلَ وكليهما عطَّلَ حقيقةَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ، وامتازَ الأوَّلُ بتعطيلِ كلِّ اسمٍ للاستواء الحقيقيِّ، وامتازَ الثاني بإثباتِ استواءٍ هوَ منْ خصائصِ المخلوقينَ[482].

«وحينئذٍ فنفاةُ العلوِّ همْ بينَ أمرينِ: إنْ سلَّموا أنَّه على العرشِ مَعَ أنَّهُ ليسَ بجسمٍ ولا متحيِّزٍ بطلَ كلُّ دليلٍ لهم على نفي علوِّه على عـرشهِ؛ فـإنَّـهـم إنَّما بنوا ذلكَ على أنَّ علوَّهُ على العرشِ مستلزمٌ لكونهِ جسمًا متحيِّزًا، واللازمُ منتفٍ فينتفي الملزومُ؛ فإذا لم تثبت الملازمةُ لم يكنْ لهم دليلٌ على النفي، ولا يبقى للنُّصوصِ الواردةِ في الكتابِ والسُّنَّةِ بإثباتِ علوِّهِ على العالمِ ما يعارضهَا، وهذا هوَ المطلوبُ»[483].

واعلمْ أنَّهُ ليسَ في العقلِ الصَّريحِ ولا في شيءٍ مِنَ النَّقلِ الصَّحيحِ ما يوجبُ مخالفةَ الطريقَ السَّلفيةَ أصلًا.

ثمَّ المخالفونَ للكتابِ والسُّنَّةِ وسلفِ الأمَّةِ - مِنَ المتأوِّلينَ لهذا البابِ - في أمرٍ مريجٍ؛ فإنَّ منْ أنكرَ الرؤيةَ يزعمُ أنَّ العقلَ يحيلُهَا، وأنَّهُ مضطرٌ فيهَا إلى التأويلِ، ... ومنْ يزعمُ أنَّ الله ليسَ فوقَ العرشِ؛ يزعمُ أنَّ العقلَ أحالَ ذلكَ وأنَّهُ مضطرٌ إلى التأويلِ.

ويكفيكَ دليلًا على فسادِ قولِ هؤلاءِ: أنَّه ليسَ لواحدٍ منهم قاعدةٌ مستمرةٌ فيما يحيلهُ العقلُ، بلْ منهمْ منْ يزعمُ أنَّ العقلَ جوَّزَ وأوجبَ، ما يدَّعي الآخرُ أنَّ العقلَ أحالهُ[484]. يعرفُ هذا كلُّ منصفٍ، ومنْ أنكرهُ فليصفِّ فهمهُ وعقلهُ عنْ شوائبِ التعصُّبِ والتمذهُّبِ؛ فإنَّهُ إنْ فعلَ ذلك أسفرَ الصبحُ لعينيهِ[485].

والعجبُ أنَّ مِنْ هؤلاءِ مَنْ يصرِّحُ بأنَّ عقلَهُ إذا عارضَهُ الحديثُ - لا سيَّما في أخبارِ الصِّفاتِ - حملَ الحديثَ على عقلهِ وصرَّحَ بتقديمهِ على الحديثِ، وجعلَ عقلهُ ميزانًا للحديثِ. فليتَ شعري هلْ عقلهُ هذا كان مصرَّحًا بتقديمهِ في الشَّريعةِ المحمَّديةِ، فيكونُ من السبيلِ المأمورِ باتباعهِ، أمْ هوَ عقلٌ مبتدعٌ جاهلٌ ضالٌ حائرٌ خارجٌ عَنِ السَّبيلِ؟![486].

و«إنَّ عقلَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم أكملُ عقولِ أهلِ الأرضِ على الإطلاقِ، فلوْ وزنَ عقلهُ بعقولهم، لرجحَ بها كلِّها، وقدْ أخبر - سبحانهُ - أنَّهُ قبلَ الوحيِ لمْ يكنْ يدري الإيمانَ، كمَا لمْ يكنْ يدري الكتابَ. فقالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا} [الشورى: 52]. فإذا كانَ أعقلُ خلقِ اللهِ على الإطلاقِ إنَّما حصلَ لهُ الهدى بالوحيِ، كمَا قالَ تعالى: {قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنْ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي} [سبأ: 50]. فكيفَ يحصلُ لسفهاءِ العقولِ وأخفاءِ الأحلامِ وفراشِ الألبابِ، الاهتداءُ إلى حقائقِ الإيمانِ بمجرَّدِ عقولهم دونَ نصوصِ الأنبياءِ: {لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا * تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا *} [مريم: 89، 90]»[487].

ثمَّ نقولُ للجميعِ: بعقلِ مَنْ منكم يوزنُ كلامُ الله ورسولهِ؟! وأيُّ عقولكم تُجعلُ معيارًا لهُ؟! فما وافقهُ قُبِلَ وأُقِرَّ عَلَى ظاهرهِ وما خالفَه رُدَّ أو أوِّلَ أو فُوِّض[488].

ونحنُ نقولُ: إذا تعارضَ النَّقلُ وهذه العقولُ أُخِذَ بالنَّقلِ الصَّريحِ ورُمِيَ بهذهِ العقولِ تحتَ الأقدامِ وحطَّتْ حيثُ حَطَّها الله وحَطَّ أصحابها[489].

فقبحًا لهاتيك العقولِ فإنَّها            عقالٌ على أصْحابها ووبال[490]

ورحمَ اللهُ الإمامَ مالكَ بنَ أنسٍ حيثُ قالَ: «كلَّما جاءنا رجلٌ أجدلَ منْ رجلٍ تركنا ما نزلَ به جبرائيلُ على محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم لجدلهِ»[491].

وفي ختام الردِّ على الشُّبهةِ المذكورةِ نقولُ للمشتغلينَ بعلمِ الكلامِ «إذا علمَ الإنسانُ بالعقلِ أنَّ هذا رسولُ الله وعلمَ أنَّهُ أخبرَ بشيءٍ، ووجدَ في عقلهِ ما ينافي خبرهُ، كان الواجبُ عليه أنْ يسلِّم لما أخبر بهِ الصَّادقُ الذي هو أعلمُ منهُ، وينقادُ لهُ ويتَّهمُ عقلَهُ، ويعلَمُ أنَّ عقلَهُ بالنِّسبةِ إليهِ أقلُّ منْ عقلِ أجهلِ الخلقِ بالنسبةِ إليهِ هوَ، وأنَّ التَّفاوتَ الذي بينهما في العلمِ والمعرفةِ بالله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ ودينهِ أعظمُ بكثيرٍ كثيرٍ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ منْ لا خبرةَ لهُ بصناعةِ الطبِّ، ومنْ هو أعلمُ أهلِ زمانهِ بها. فيالله العجبُ إذا كان عقلهُ يوجبُ عليهِ أنْ ينقادَ لطبيبٍ يهوديٍّ فيما يخبرُ بهِ منْ قوى الأدويةِ والأغذيةِ والأشربةِ والأضمدةِ والمسهِّلاتِ وصفاتهَا وكميَّاتها ودرجاتها، مَعَ ما عليهِ في ذلكَ من الكَلَفَة والألمِ ومقاساةِ المكروهاتِ، لظنِّه أنَّ هذا أعلمُ بهذا الشَّأنِ منهُ، وأنَّهُ إذا صدَّقهُ كانَ في تصديقهِ حصولُ الشِّفاءِ والعافيةِ، مَعَ علمهِ بأنَّه يخطىءُ كثيرًا، وأنَّ كثيرًا مِنَ النَّاسِ لا يشفى بما يصفهُ الطبيبُ، بلْ يكونُ استعمالهُ لما يصفهُ سببًا منْ أسبابِ هلاكهِ، وأنَّ أسبابَ الموتِ أغلاطُ الأطباءِ، فكمْ لهمْ منْ قتيلٍ أسكنوهُ المقابرَ بغلطهم وخطئهم؟ وإنْ كان خطأُ الطبيبِ إصابةَ المقاديرِ، وكيفَ لا يسلكُ هذا المسلكَ مَعَ الرسل «صلواتُ الله وسلامهُ عليهم» وهمُ الصَّادقونَ المصْدقون؟ ولا يجوزُ أن يكونَ خبرهم على خلافِ ما أخبروا بهِ والذين عارضوا أقوالهم بعقولهم عندهم مِنَ الجهلِ والضَّلالِ المركَّبِ والبسيطِ ما لا يحصيهِ إلَّا منْ هوَ بكلِّ شيءٍ محيط[492].

 

No comments:

Post a Comment