بسم الله الرحمن الرحيم
الشُّبهاتُ الواردةُ على صفَّةِ النزولِ
قبلَ البدءِ بذكرِ الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ النزولِ والردِّ عليها أذكرُ كلامًا نفيسًا يزيلُ كثيرًا منَ الشُّبهاتِ في هذا البابِ وغيرهِ.
اعلمْ رحمكَ اللهُ بأنَّ صفاتِ الله لا يتوهَّمُ فيها شيءٌ منْ خصائصِ المخلوقينَ لا في لفظهَا ولا في ثبوتِ معناهَا. فإثباتهَا للرَّبِّ تعالى لا محذورَ فيهِ بوجهٍ، بلْ تثبتُ لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، ولا يشابههم، فمنْ نفاها عنهُ لإطلاقهَا على المخلوقِ ألحدَ في أسمائهِ، وجحدَ صفاتِ كمالهِ. ومنْ أثبتهَا على وجهٍ يماثلُ فيها خلقهُ فقدْ شبَّههُ بخلقهِ، ومنْ شبَّهَ الله بخلقهِ فقدْ كفرَ، ومنْ أثبتهَا لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، بلْ كما يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ فقد برىءَ من فرثِ التَّشبيهِ ودمِ التَّعطيلِ، وهذا طريقُ أهلِ السنَّةِ.
فما لزمَ الصفَّة لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيهُ عَنِ الله كما يلزمُ حياةُ العبدِ منَ النَّومِ والسِّنةِ والحاجةِ إلى الغذاءِ والمرضِ والموتِ، وكذلكَ علمهُ محفوفٌ بنقصينِ: جهلٌ سابقٌ، ونسيانٌ لاحقٌ؛ وكذلكَ ما يلزمُ إرادتهُ عنْ حركةِ نفسهِ في جلبِ ما ينتفعُ بهِ ودفعِ ما يتضررُ بهِ، وكذلكَ ما يلزمُ علوُّهُ من احتياجهِ إلى ما هو عالٍ عليهِ وكونهِ محمولًا بهِ مفتقرًا إليهِ محاطًا بهِ، كلُّ هذا يجبُ نفيهُ عنِ القدُّوسِ السَّلامِ - تباركَ وتعالى ـ.
فإذا أحطتَ بهذهِ القاعدةِ خبرًا وعقلتهَا كما ينبغي خلصتَ مِنَ الآفتينِ اللتينِ هما أصلُ بلاءِ المتكلِّمينَ، آفةُ التَّعطيلِ وآفةُ التَّشبيهِ، فإنَّكَ إذا وفَّيتَ هذا المقامَ حقَّهُ أثبتَ لله الأسماءَ الحسنى والصفِّاتِ العلى حقيقةً، فخلصتَ مِنَ التَّعطيلِ ونفيتَ عنهَا خصائصَ المخلوقينَ ومشابهتهم فخلصتَ مِنَ التَّشبيهِ.
فعليكَ بمراعاةِ هذا الأصلِ والاعتصامِ بهِ، واجعلهُ جُنَّتَكَ التي ترجعُ إليهَا في كلِّ ما يطلقُ على الرَّبِّ تعالى وعلى العبدِ[648].
وبعدَ هذا الكلامِ النَّفيسِ نذكرُ شبهاتِ القومِ ونأتي عليهَا مِنَ القواعدِ بإذنِ العليِّ الأعلى الكبيرِ المتعالِ سبحانه وتعالى.
الشُّبهةُ الأولى
الليلُ ينتقلُ منْ مكانٍ إلى آخرَ فثلثُ الليلِ مثلًا في الشَّرقِ ينتقلُ حتَّى يكونَ في الغربِ، ويختلفُ الزمنُ فكيفَ نوفِّقُ بينَ هذا وبينَ تقييدِ نزولِ الله عزَّ وجلَّ بثلثِ الليلِ؟
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: ومعلومٌ بالضَّرورةِ منْ دينِ الإسلامِ قبحُ هذا الاعتراضِ، وأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ الرَّاشدينَ لَوْ سمعوا مَنْ يعترضُ بهِ لما ناظروهُ، بلْ بادروا إلى عقوبتهِ وإلحاقهِ بزمرةِ المخالفينَ المنافقينَ المكذِّبينَ[649].
وقال شيخُ الإسلام۴: وهذا إنما قالوهُ لتخيلهم من نزولهِ ما يتخيلونهُ من نزولِ أحدهم، وهذا عينُ التمثيل، ثمَّ إنهم بعدَ ذلك جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم، الذي لا يمكنهُ أن يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عن جمعهِ، وقد جاءتُ الأحاديثُ بأنَّهُ يحاسبُ خلقهُ يومَ القيامة كلٌّ منهم يراهُ مخليًا بهِ يتجلَّى ويناجيهِ، لا يرى أنهُ متخليًّا لغيرهِ ولا مخاطبًا لغيرهِ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ العَبدُ: الحَمدُ لله رب العالمين يقولُ اللهُ: حمدنِي عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال اللهُ: أثنى عليَّ عبدي»[650].
فكلٌّ منَ الناسِ يناجيهِ، واللهُ تعالى يقولُ لكلٍّ منهم ذلكَ، ولا يشغلهُ شأنٌ عن شأنٍ[651].
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: والليلُ يختلفُ فيكونُ ثلثهُ بالمشرقِ قبلَ أنْ يكونَ ثلثهُ بالمغربِ، ونزولهُ الذي أخبرَ بهِ رسولهُ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، وإلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، لا يشغلهُ شأنٌ عنْ شأنٍ، وكذلكَ قربُهُ مِنَ الدَّاعي المتقرِّبِ إليهِ والسَّاجدِ لكلِّ واحدٍ بحسبهِ حيثُ كانَ وأينَ كانَ. والرَّجلانِ يسجدانِ في موضعٍ واحدٍ ولكلِّ واحدٍ قربٌ يخصُّهُ لا يشركهُ فيهِ الآخرُ.
والنُّصوصُ الواردةُ فيها الهدى والشِّفاءُ، والذي بلَّغها بلاغًا مبينًا، هو أعلمُ الخلقِ بربِّهِ وأنصحهم لخلقهِ وأحسنهم بيانًا، وأعظمُ بلاغًا، فلا يمكنُ أحدٌ أنْ يعلمَ ويقولَ مثلَ ما علمهُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقالهُ. وكلُّ منْ منَّ الله عليهِ ببصيرةٍ في قلبهِ تكونُ معهُ معرفةٌ بهذا، قالَ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 6]. وقال في ضدِّهم: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الأنعام: 39][652].
وقال العلَّامةُ ابنُ عثيمين رحمه الله: وأوردَ المتأخرونَ الذينَ عرفوا أنَّ الأرضَ كرويةٌ وأنَّ الشمسَ تدورُ عَلَى الأرضِ إشكالًا؛ قالوا: كيفَ ينزلُ فِي ثلثِ الليلِ؟! وثلثُ الليلِ إِذَا انتقلَ عَنِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ذهبَ إلى أوروبا وما قاربها؟! أفيكونُ نازلًا دائمًا؟![653].
فنقولُ: إنَّهُ لا إشكالَ في ذلكَ بحمدِ الله تعالى، فإنَّ هذا الحديثَ منْ صفاتِ الله تعالى الفعليةِ، والواجبُ علينا نحوَ صفاتِ الله تعالى سواءٌ كانت ذاتيةً كالوجهِ واليدينِ، أم معنويةً كالحياةِ والعلمِ، أمْ فعليةً كالاستواءِ على العرشِ والنزولِ إلى السَّماء الدُّنيا، فالواجبُ علينا نحوهَا مَا يلي:
أ - الإيمانُ بهَا على مَا جاءتْ بهِ النُّصوصُ مِنَ المعاني والحقائقِ اللائقةِ بالله تعالى.
ب - الكفُّ عنْ محاولةِ تكييفها تصوُّرًا في الذهنِ، أو تعبيرًا في النُّطقِ؛ لأنَّ ذلكَ مِنَ القولِ على الله تعالى بلا علمٍ، وقدْ حرَّمهُ الله تعالى في قولهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعراف: 33]، وفي قولهِ تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا *} [الإسراء: 36].
ولأنَّ الله تعالى أعظمُ وأجَلُّ مِنْ أنْ يدركَ المخلوقُ كنهَ صفاتهِ وكيفيتهَا، ولأنَّ الشيءَ لا يمكنُ إدراكهُ إلَّا بمشاهدتهِ أو مشاهدةِ نظيرهِ أو الخبرِ الصَّادقِ عنهُ، وكلُّ ذلكَ منتفٍ بالنِّسبةِ لكيفيةِ صفاتِ الله تعالى.
ج - الكفُّ عنْ تمثيلها بصفاتِ المخلوقينَ سواءٌ كانَ ذلكَ تصوُّرًا في الذِّهنِ أم تعبيرًا في النُّطقِ، لقولهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فإذا علمتَ هذا الواجبَ نحوَ صفاتِ الله تعالى، لمْ يبقَ إشكالٌ في حديثِ النزولِ، ولا غيرهِ مِنْ صفاتِ الله تعالى، وذلكَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أمَّتهُ أنَّ الله تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ، مخاطبًا بذلكَ جميعَ أمَّتهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربهَا، وخبرهُ هذا منْ علمِ الغيبِ الذي أظهرهُ الله تعالى عليهِ، والذي أظهرهُ عليه - وهو الله تعالى - عالمٌ بتغيُّرِ الزمنِ على الأرضِ، وأنَّ ثلثَ الليلِ عندَ قومٍ يكونُ نصفَ النَّهارِ عندَ آخرينَ مثلًا.
وإذا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخاطبُ الأمَّةَ جميعًا بهذا الحديثِ الذي خصَّصَ فيهِ نزولَ الله تباركَ وتعالى بثلثِ الليلِ الآخرِ فإنَّه يكونُ عامًّا لجميعِ الأمَّةِ، فمنْ كانوا في الثلثِ الآخرِ مِنَ الليلِ تحقَّقَ عندهم النزولُ الإلهيُّ، وقلنا لهم: هذا وقتُ نزولِ الله تعالى بالنِّسبةِ إليكم، ومنْ لم يكونوا في الوقتِ فليسَ ثمَّ نزولُ الله تعالى بالنِّسبةِ إليهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حدَّدَ نزولَ الله تعالى إلى السَّماء الدُّنيا بوقتٍ خاصٍّ، فمتَّى كانَ ذلكَ الوقتُ كانَ النزولُ ومتى انتهى انتهى النزولُ، وليسَ في ذلكَ أيُّ إشكالٍ، وهذا وإنْ كانَ الذِّهنُ قدْ لا يتصوَّرهُ بالنسبةِ إلى نزولِ المخلوقِ، لكن نزولَ الله تعالى ليسَ كنزولِ خلقهِ حتَّى يقاسُ به ويجعل ما كانَ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى المخلوقِ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى الخالقِ.
فمثلًا: إذا طلعَ الفجرُ بالنِّسبةِ إلينا وابتدأَ ثلثُ الليلِ بالنِّسبةِ إلى منْ كانوا غربًا قلنا: إنَّ وقتَ النزولِ الإلهيِّ بالنِّسبةِ إلينا قَدِ انتهى، وبالنِّسبةِ إلى أولئكَ قَدِ ابتدأَ، وهذا في غايةِ الإمكانِ بالنِّسبةِ إلى صفاتِ الله تعالى، فإنَّ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][654].
وقالَ الشَّيْخُ محمَّدُ بنُ خليل الهرَّاس رحمه الله: «المعطِّلةُ يشككونَ في حديثِ النزولِ، ويقولونَ: إنَّ علمَ الهيئةِ أثبتَ أنَّ الأرضَ في دورانها حولَ الشَّمسِ[655] - وحولَ نفسهَا - تحدثُ مشارقَ ومغاربَ في كلِّ لحظةٍ، ومعنى هذا أنَّهُ في كلِّ لحظةٍ يكونُ هناكَ ثلثُ ليلٍ آخر على سطحِ الأرضِ، وهذا يقتضي أنْ يكونَ الله عزَّ وجلَّ صاعدًا نازلًا في كلِّ لحظةٍ، ونحنُ نقولُ لهؤلاءِ: إنَّ الخبرَ قدْ صحَّ رغمَ أنوفكمْ، وكلامكمْ هذا ليسَ طعنًا في صحَّةِ الخبرِ، ولكنَّهُ تجهيلٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وإلحادٌ في حديثهِ»[656].
وهذا القولُ هو ما يجبُ أنْ يكونَ في نفسِ كلِّ أحدٍ، وهو أنْ لا يتشرَّبَ بدعَ المبتدعينَ وتضليلاتهم، بل يعتصمُ بالكتابِ والسنَّةِ، ويؤمنُ بما جاءَ عَنِ الله وعَنْ رسولهِ صلى الله عليه وسلم ممَّا صحَّ عنهُ، وستكونُ هذهِ الخيالاتُ والوساوسُ التي يلقونها، أوهنَ عندهُ منْ بيتِ العنكبوتِ، وإنْ لم يعرفِ الردَّ على كلامهمْ بالتَّفصيلِ، ويكونُ قائلًا بلسانِ حالهِ ومقالهِ: آمنتُ بما جاءَ عَنِ الله على مرادِ الله، وبما جاءَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مرادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجدهُ في عقلي منْ وساوسَ أرمي بهِ عرضَ الحائطِ ولا أبالي. فالله تعالى أعلمُ بنفسهِ منْ غيرهِ، ورسولهُ أعلمُ بربِّهِ ممَّا سواهُ، وأخشاهم لهُ، وأفصحهمْ وأبلغهمْ وأعظمهمْ بيانًا للمعنى الذي يريدُ أن يعلِّمهم إيَّاهُ. فإذا قلنا: كلامُهُ لا بدَّ منْ صرفهِ عنْ ظاهرهِ لكنَّا قدْ طعنَّا إمَّا في نصحهِ وحرصهِ على أمَّتهِ، وإمَّا في بيانهِ وفصاحتهِ، وإمَّا في علمهِ بربِّه، وكلٌّ منها باطلٌ وكافٍ في الطعنِ فيهِ صلى الله عليه وسلم، حاشاهُ منْ ذلكَ.
واللهُ تعالى يثبِّتنا على الحقِّ ويعصمنَا مِنَ الزيغِ والبدعِ والردِّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ نلقاهُ إنَّه هو البرُّ الرَّحيم[657].
الشبهةُ الثانيةُ
قالَ الرازيُّ: «إنْ كانَ المقصودُ من النزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا أنْ يسمعَ نداؤهُ، فهذا المقصودُ ما حصلَ، وإنْ كانَ المقصودُ مجرَّدَ النِّداءِ، سواءٌ سمعناهُ أو لمْ نسمعهُ، فهذا ممَّا لا حاجةَ فيهِ إلى النزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على العرشِ، ومثالهُ: أنْ يريدَ مَنْ في المشرقِ إسماعَ منْ في المغربِ ومناداتهِ، فيتقدَّمُ إلى جهةِ المغربِ بأقدامٍ معدودةٍ، ثمَّ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّهُ لا يسمعهُ البتةَ، فههنا تكونُ تلكَ الخطواتُ عملًا باطلًا، وعبثًا فاسدًا، فيكونُ كفعلِ المجانينَ، فعلمنَا أنَّ ذلكَ غيرُ لائقٍ بحكمةِ الله تعالى»[658].
إنَّ هذا الكلامَ تلبيسٌ على العوامِ، وتمويهٌ على الجهَّالِ، وكذبٌ ظاهرٌ.
والردُّ عليهِ منْ وجوهٍ.
الوجهُ الأوَّلُ:
هذا الكلامُ يعتبرُ مصادمةٌ صريحةٌ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واعتراضٌ واضحٌ عليهِ، فإنَّهُ هو الذي قالَ: «ينزلُ ربُّنا - تبارك وتعالى - إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ ويقولُ: مَنْ يدعُوني فأستجيبَ لهُ، منْ يسألني فأعطيهُ، منْ يستغفرُني فأغفرَ لهُ».
وكلُّ منْ عارضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ فهوَ منْ خلفاءِ الشَّيطانِ وأتباعِهِ فنعوذُ باللهِ مِنَ الخِذْلانِ، نسألُهُ التَّوفيقَ والعصمةَ منْ هذا البلاءِ الذي ما رُميَ العبدُ بشرٍّ منهُ، وأنْ يَلْقَى الله بذنوبِ الخلائقِ كلِّها ما خلا الإشراكَ بهِ أسلمُ لهُ منْ أنْ يلقى اللهَ وقدْ عَارَضَ نصوصَ أنبيائِهِ برأْيِهِ ورأيِ بني جنسِهِ. وهلْ طردَ الله تعالى إبليسَ ولعنهُ وأحلَّ عليه سخطَهُ وغضبَهُ إلَّا حيثُ عَارضَ النَّصَّ بالرأيِ والقياسِ ثمَّ قدَّمهُ عليهِ؟ واللهُ يعلمُ أن شُبَهَ عدوِّ الله مَعَ كونها داحضةً باطلةً أقوى منْ كثيرٍ منْ شُبَهِ المعارضينَ لنصوصِ الأنبياءِ بآرائهم وعقولِهم، فالعالمُ يَتَدَبَّرُ سِرَّ تكريرِ الله تعالى لهذهِ القصّةِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وليحذرْ أنْ يكونَ لهُ نصيبٌ منْ هذا الرأيِ والقياسِ وهوَ لا يشعرُ[659].
الثاني:
قولُهُ: «إنْ كانَ المقصودُ مِنَ النُّزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا أنْ يسمعَ نداؤهُ، فهذا المقصودُ ما حصلَ».
فيقالُ: لو كانَ ذلكَ هوَ المقصودُ لسمعناهُ، فإنَّهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ وإنَّما المقصودُ مِنَ النِّداءِ حكمٌ عظيمةٌ يعلمها اللهُ - جلَّ وعلا - ونحنُ وإنْ لمْ نسمعْ كلامَ الله تعالى هذا بآذاننا، إلَّا أنَّا آمنَّا بذلكَ حتَّى لكأنَّ القائمَ في ذلكَ الوقتِ - الثلثُ الأخيرُ - كأنَّهُ يسمعُ أنَّهُ تعالى ينادي بذلكَ النِّداءِ، وذلكَ لعلمنَا أنَّهُ صلى الله عليه وسلم لا ينطقُ عَنِ الهوى، إنْ هوَ إلَّا وحيٌ يوحى، وهذا الخبرُ قدْ تواترَ عنهُ صلى الله عليه وسلم، ومِنَ الحكمِ التي نعلمهَا منْ هذا النِّداءِ العظيمِ: هوَ إقبالُ العبدِ بكليَّتهِ على ربِّه في هذا الوقتِ، والإلحاحُ عليهِ في الدعاءِ، والشعورُ بقربهِ وفضلهِ، فيجدُ قائمُ الليلِ مِنْ حلاوةَ المناجاةِ، وطيبِ الذِّكرِ واليقينِ بإجابةِ الدُّعاءِ مَا لا يجدهُ في غيرِ هذا الوقتِ، يعلمُ ذلكَ ضرورةً قُوَّامُ الليلِ، ولذلكَ فإنَّ قُوَّامَ الليلِ يكثرونَ مِنَ الاستغفارِ والذِّكرِ والدُّعاءِ في وقتِ السَّحرِ أشدَّ ممَّا قبلهُ، لعلمهمْ أنَّ وقتَ النزولِ يمتدُّ إلى طلوعِ الفجرِ، ولذلكَ ينتظرُ عبادُ الرحمنِ تلكَ السَّاعاتِ القليلةِ بفارغِ الصبرِ.
الثالثُ:
أنَّهُ مِنْ عادةِ الملوكِ الكرماءِ، والسَّادةِ الرُّحماءِ، إذا أرادوا أنْ يكرموا أهلَ بلدٍ، أنْ يحلُّوا عليهم قريبًا منْ بلادهمْ، أو في ديارِهِمْ، ليكرموهم بما يريدونَ، ويَسْمَعُوا حاجاتِهم، ويلبُّوا رغباتِهمْ، ولوْ عرضنَا على العقلِ مَلِكَينِ أرادا أنْ يكرما أهلَ بلدٍ، أحَدهمَا جاءَ إلى أهلِ هذا البلدِ بنفسهِ وسمِعَ حاجاتهمْ، وأكرمهمْ في بلادهمْ، ولبَّى طلباتهم، والآخرُ أرسلَ أحدَ وزرائهِ أوْ أرسلَ رسالةً مَعَ أحدِ جنودهِ، بما يريدُ أنْ يكرمهم بهِ، لقطعَ العقلُ بأنَّ الأوَّلَ أكرمُ وأجَلُّ وأعظمُ في الإكرامِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ كلَّ كمالٍ في المخلوقِ لا نقصَ فيهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ فالخالقُ أولى بهِ، وواهبُ الكمالِ أحقُّ بهِ، فالرَّبُّ تعالى، ينزلُ بنفسهِ إلى أدنى سماءٍ وهي السَّماءُ الدُّنيا، وهوَ فوقَ عرشهِ، وهي أقربُ السَّمواتِ إلى قُوَّامِ الليلِ، ويقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري»، فهلْ هذا إلَّا عينُ الكمالِ، مع أنَّهُ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فمَا أجهلَ الإنسانَ بربِّهِ، وبكرمهِ، وبعظمِ فضلهِ، فللهِ الحمدُ كمَا ينبغي لجلالِ وجههِ وعظيمِ سلطانهِ.
وبهذا يعلم أنَّ قولَهُ: بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على عرشهِ، سوءُ أدبٍ مَعَ الله تعالى.
الرابعُ:
أنَّ هؤلاءِ المعطِّلةِ كلّهم أنكروا أنْ يكونَ لله تعالى كلامٌ بحرفٍ وصوتٍ! فكيفَ يمكنُ لهم أنْ يسمعوا نداءَ الله تعالى؟! وكيفَ يقرعُ صوتَ الله تعالى أسماعهم؟! لأنَّهم قائلونَ ببدعةِ الكلام النفسيِّ الذي ليس بحرفٍ ولا بصوتٍ فهم أبشعُ حالًا وأشنعُ بدعةً في بابِ تعطيلِ صفةِ الكلامِ من الجهمِيَّةِ الأولى؛ لأنَّ الجهميَّةَ الأولى كانوا يقولونَ ببدعةِ خلقِ القرآنِ فقطْ، وأمَّا هؤلاءِ المعطِّلةِ فهمْ يقولونَ مَعَ القولِ ببدعةِ خلقِ القرآنِ، ببدعةِ القولِ بالكلامِ النفسيِّ. فخرقوا بذلكَ إجماعَ أهلِ السنَّةِ، وأتوا بما لا يقرُّه عقلٌ صريحٌ، ولا نقلٌ صحيح، ولا لغةٌ، ولا عرفٌ ولا إجماعٌ.
الخامسُ:
أنَّ هؤلاءِ المعطِّلة لكثيرٍ مِنَ الصِّفاتِ ولا سيَّما صفةَ النزولِ، قد أوَّلُوا حديثَ النزولِ وحرَّفوه إلى: نزولِ الملكِ، فيقولونَ: إنَّ الله لا ينزلُ بنفسهِ، بلْ ينزلُ ملكٌ مِنَ الملائكةِ بأمرهِ، فينادي هذا الملكُ ويقولُ: «منْ يدعوني..، منْ يسألني...، منْ يستغفرني...».
أقولُ: إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، وأنَّ الملكَ ينزلُ وينادي فهلْ أهلُ التأويلِ سمعوا نداءَ هذا الملكِ؟!
وهل طرقَ صوتُ هذا الملكِ الذي ينزلُ وينادي أسماعَهم؟!
وإذا لم يسمعوا نداءَ هذا الملكِ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولِ هذا الملكِ وندائهِ؟!
ونحنُ نقلبُ كلامهم عليهم ونقولُ لهم: وإذا كانَ نزولُ هذا الملكِ مِنَ السَّماءِ الدنيا ليسمعنَا نداءهُ، فهذا الملكُ لم يسمعنا نداءهُ وصوتهُ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولهِ.
ولقدْ كانَ يمكنُ هذا الملكُ أنْ ينادينا وهو في السَّماءِ..، وهل هذا إلَّا مثلُ منْ يريدُ - وهو بالمشرقِ - إسماعَ شخصٍ في المغربِ، فتقدَّمَ إلى المغربِ بخطواتٍ معدودةٍ، وأخذَ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّه لا يسمعُ نداءهُ، فيكونُ نقلهُ الأقدامِ عَمَلًا باطلًا، وسَعْيهُ نحوَ المغربِ عبثًا صرفًا، لا فائدةَ فيهِ، وكيفَ يستقِّرُ مثلُ هذا في قلبِ عاقلٍ؟[660].
وقدْ سدَّ هؤلاءِ المؤوِّلةُ على النَّاسِ طريقَ معرفةِ ربِّهم عزَّ وجلّ، فحرموهمْ منْ خيرٍ عظيمٍ، بلْ منْ أعظمِ عَلَمٍ في الوجودِ، فاللهُ الموعدُ.
الشبهةُ الثالثةُ
النزولُ نقلةٌ والنقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيلزمها لوازم تمتنعُ في حقِّ الله تعالى.
لا تغترَّ أيُّها النَّاظرُ بهذهِ التلفيقاتِ المزوَّقةِ، والكلماتِ المدبَّجة، والعباراتِ المبهرجةِ. فإنَّها كلماتٌ خاليةٌ مِنَ التَّحقيقِ عاريةٌ مِنَ التَّوفيقِ.
والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأوَّل:
نقولُ: هذا جدالٌ بالباطلِ لا يرتضيهِ مَنْ هو عارفٌ بكيفيَّةِ الاستدلالاتِ، وعالمٌ بمداركِ الشَّرعِ والمدلولاتِ، «وليسَ بمانعٍ منَ القولِ بحقيقةِ النزولِ!!
هل أنتمْ أعلمُ بما يستحقُّه الله عزَّ وجلَّ منْ أصحابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؟!
فليسَ إجلالنا لله كإجْلالِ الصَّحابةِ ولا قريبًا منهُ.
وليسَ حرصنَا على العلمِ بصفاتِ الله كحرصِ الصَّحابةِ، وهم ما قالوا هذه الاحتمالاتِ أبدًا، قالوا: سمعنا وآمنَّا وقبلنا وصدَّقنا.
وأنتمْ أيُّها الخالفونَ المخالفونَ تأتونَ الآنَ وتجادلونَ بالباطلِ وتقولونَ: كيفَ؟! وكيفَ؟!»[661].
الوجهُ الثاني:
إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، وأفصحُ الخلقِ في بيانِ الحقِّ، وأحْرصُ الخلقِ على هدايةِ الخلقِ، فما بيَّنهُ منْ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ هو الغايةُ في هذا البابِ «فإذا كانَ كذلكَ كانَ المتَحذْلِقُ والمنكِرُ عَلَيهِ مِنْ أضَلِّ النَّاسِ، وأجهلهمْ وأسوَئهمْ أدبًا، بل يجبُ تأديبهُ وتعزيرهُ، ويجبُ أنْ يصانَ كلامُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الظنونِ الباطلةِ، والاعتقاداتِ الفاسدةِ»[662].
الوجهُ الثالثُ:
ليسَ فِي القولِ بلازمِ النزولِ محذورٌ البتَّةَ، وَلاَ يستلزمُ ذلكَ نقصًا وَلاَ سلبَ كمالٍ، بلْ هوَ الكمالُ نفسُهُ.وهذهِ الأفعالُ كمالٌ ومدحٌ، فهي حقٌّ دالٌّ عليهِ النَّقلُ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ.
وقولنا: إنَّه نزولٌ لا محذورَ فيهِ، فإنَّه ليسَ كانتقالِ الأجسامِ منْ مكانٍ إلى مكانٍ كَمَا قلتم: إنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وحياتَهُ وقدرتَهُ وإرادتَهُ ليستْ كصفاتِ الأجسامِ، فليسَ كمثلهِ شيءٌ فِي ذاتهِ وَلاَ فِي صفاتهِ وَلاَ فِي أفعالهِ.
ونحنُ لم نتقدَّم بينَ يديِّ الله ورسولهِ، بلْ أثبتنا لله ما أثبتهُ لنفسهِ وأثبتهُ لهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم. فألزمتم أنتم منْ أثبتَ ذلكَ القولَ بالانتقالِ، ومعلومٌ أنَّ هذا الإلزامَ إنَّما هو إلزامٌ لله ورسولهِ، فإنَّا لمْ نتعدَّ ما وصفَ بهِ نفسهُ، فكأنَّكمْ قلتمْ: منْ أثبتَ لهُ نزولًا لزمهُ وصفهُ بالانتقالِ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم هوَ الذي أثبتَ ذلكَ لله فهوَ حقٌّ بلا ريبٍ.
فكانَ جوابنا: إنَّ الانتقالَ إنْ لزمَ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ من إثباتهِ ضرورةً، إذْ لازمُ الحقِّ حقٌّ، وإنْ لم يكنْ ذلكَ لازمًا لهُ، فأنتم معترضونَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كاذبونَ عليهِ، متقدِّمونَ بينَ يديهِ، فبطلَ إلزامكم.
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: لا نسلِّمُ لزومهُ؛ فإنَّ نزولَهُ ليسَ كنزولِ المخلوقينَ، ولهذا نقلَ عنْ جماعةٍ من الأئمَّةِ: أنَّهُ ينزلُ، ولا يخلو منهُ العرشُ[663].
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: الصَّوابُ في حديثِ النزولِ ونحوه ما قالهُ مالكٌ وأقرانُه يمرُّ كمَا جاءَ بلا كيفيَّةٍ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ، ونفيُ الانتقالِ وإثباتُهُ عبارةٌ محدثةٌ، فإنْ ثبتَتْ في الأثرِ رويناهَا ونطقنا بهَا، وإنْ نفيتْ في الأثرِ نطقنا بالنَّفيِ، وإلَّا لزمنا السُّكوتَ وآمنَّا بما ثبتَ في الكتابِ والسنَّةِ على مقتضاه[664].
وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: والأحسنُ في هذا البابِ مراعاةُ ألفاظِ النُّصوصِ. فالألفاظُ التي جاءَ بها الكتابُ والسنَّةُ في الإثباتِ تثبتُ، والتي جاءتْ بالنَّفيِ تنفى. والألفاظُ المجملةُ كلفظِ «الحركةِ» و«النزولِ» و«الانتقالِ» يجبُ أنْ يقالَ فيهَا: أنَّهُ منزَّهُ عنْ مماثلةِ المخلوقينَ منْ كلِّ وجهٍ، لا يماثلُ المخلوقَ لا في نزولٍ، ولا في حركةٍ، ولا انتقالٍ ولا زوالٍ، ولا غيرِ ذلكَ[665]. وهذه سبيلُ مَنِ اعتصمَ بالعروةِ الوثقى[666].
الوجهُ الرابعُ:
يقالُ لهم: ربُّ العالمينَ إمَّا أنْ يقبلَ الاتصافَ بالإتيانِ والمجيءِ والنزولِ وجنسِ الحركةِ، وإمَّا أنْ لا يقبلهُ؛ فإنْ لمْ يقبلْهُ كانتِ الأجسامُ التي تقبلُ الحركةَ ولم تتحرَّكْ أكملَ منهُ؛ وإنْ قبلَ ذلكَ ولمْ يفعلهُ كانَ ما يتحرَّكُ أكملَ منهُ؛ فإنَّ الحركةَ كمالٌ للمتحرِّك، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يمكنهُ أنْ يتحرَّكَ بنفسهِ أكملُ ممَّنْ لا يمكنهُ التحرُّكُ، وما يقبلُ الحركةَ أكملُ ممَّنْ لا يقبلهَا[667].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «ومنْ نزَّههُ عنْ نزولهِ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، ودنوهِ عشيةَ عرفةَ منْ أهلِ الموقفِ، ومجيئهِ يومَ القيامةِ للقضاءِ بينَ عبادهِ، فرارًا منْ تشبيههِ بالأجسامِ، فقد شبَّههُ بالجمادِ الذي لا يتصرَّفُ ولا يفعلُ ولا يجيءُ ولا يأتي ولا ينزلُ»[668].
الوجهُ الخامسُ:
أنْ يقالَ: النزولُ والصُّعودُ والمجيءُ والإتيانُ، ونحو ذلكَ ممَّا هوَ منْ أنواعِ جنسِ الحركةِ لا نسلِّمُ أنَّهُ مخصوصٌ بالجسمِ الصناعيِّ الذي يتكلَّمُ المتكلِّمونَ فِي إثباتهِ ونفيهِ، بلْ يوصفُ بهِ ما هو أعمُّ منْ ذلكَ. ثمَّ هنا طريقانِ:
(أحدُهما): إنَّ هذه الأمورَ توصفُ بها الأجسامُ والأعراضُ فيقالُ: جاءَ البردُ، وجاءَ الحرُّ، وجاءتِ الحُمَّى، وهيَ أعراضٌ. وبهِ يُعْلمُ أنَّ أنواعَ جنسِ الحركةِ كالنزولِ ونحوه ليسَ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيجوزُ أنْ يوصفَ بهَا الله مَعَ أنَّهُ ليسَ بجسمٍ.
(الطريقُ الثاني): أنْ يقالَ: المجيءُ والإتيانُ والصُّعودُ والنُّزولُ توصفُ بهِ روحُ الإنسانِ التي تفارقهُ بالموتِ، وتسمَّى النَّفسُ، وتوصفُ بهِ الملائكةُ. وليسَ نزولُ الرُّوحِ وصعودهَا منْ جنسِ نزولِ البدنِ وصعودهِ، فإنَّ روحَ المؤمنِ تصعدُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ تهبطُ إلى الأرضِ فيما بينَ قبضهَا ووضعِ الميِّتِ فِي قبرهِ. وهذا زمنٌ يسيرٌ لا يصعدُ البدنُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ ينزلُ إلى الأرضِ فِي مثلِ هذا الزمانِ[669].
وإذا كانتِ الروحُ تعرجُ مِنَ النَّائمِ إلى السَّمَاءِ مَعَ أنَّهَا فِي البدَنِ كَمَا قَالَ تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]، عُلِمَ أنَّهُ ليس عروجُهَا منْ جنسِ عروجِ البدنِ الذي يمتنعُ هذا فيهِ.
وعروجُ الملائكةِ ونزولُهَا منْ جنسِ عروجِ الرُّوحِ ونزولها، لا منْ جنسِ عروجِ البدنِ ونزولهِ.
و«نزولُ» الرَّبِّ عزَّ وجلَّ فوقَ هذَا كلِّهُ وأجلُّ من هذا كلِّهِ؛ فإنَّهُ تَعَالَى أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ مِنْ مماثلةِ مخلوقٍ بمخلوقٍ.
وإذا عرفَ هَذَا: فإنَّ للملائكةِ منْ ذلكَ ما يليقُ بهم، وأنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى: هو أكملُ وأعلى وأتمُّ منْ هذا كلِّهِ[670]، وأولى بالإمكانِ، وأبعدُ عنْ مماثلةِ نزولِ الأجسامِ، بلْ نزولهُ لا يماثلُ نزولَ الملائكةِ وأرواحِ بني آدمَ[671].
ومنْ ظنَّ أنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ لا يكون إلَّا مثلَ ما توصفُ بهِ أبدانُ بني آدم؛ فغلطهُ أعظمُ منْ غلطِ منْ ظنَّ أنَّ ما توصفُ بهِ الرُّوحُ مثل ما توصفُ بهِ الأبدانُ[672].
وخلاصةُ هذهِ الشبهةِ وما تدورُ عليهِ عندَ جميعِ منْ يحتجُّ بها سواءٌ مِنَ الجهميَّةِ أو مِنْ غيرهمْ «إنَّ النزولَ نقلةٌ، والنُّقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ فيلزمهَا لوازمٌ تمتنعُ في حقِّ اللهِ تعالى»، وهذهِ اللوازمُ التي يذكرونها تلزمُ فيمنْ ليسَ بإلهٍ، وربٍّ للخلقِ. والله سبحانه وتعالى «منزَّهٌ أنْ تكونَ صفاتهُ مثلَ صفاتِ الخلقِ كما كانَ منزَّهًا أنْ تكونَ ذاتُهُ مثلَ ذواتِ الخلقِ فمجيئهُ وإتيانهُ ونزولهُ على حسبِ ما يليقُ بصفاتهِ منْ غيرِ تشبيهٍ وكيفٍ»[673].
وما أحسنَ قول الشاعرِ:
الرَّبُّ ربٌّ وإنْ تنزَّل والعبدُ عبدٌ، وإنْ ترقَّى![674]
الشبهةُ الرابعةُ
قالَ السَّقَّافُ: لا يمكنُ أنْ ينزلَ بذاتهِ كما تتخيَّلُ المجسِّمةُ إلى السَّماء الدنيا؛ لأَنَّ في ذلكَ حلولُ الخالقِ في المخلوقِ، وهوَ كفرٌ بواحٌ[675].
اعلمْ - سلَّمكَ الله مِنَ الشبهاتِ والشهواتِ - بأنَّ «الأوهامَ الباطلةَ والعقولَ الفاسدةَ لمَّا فهمتْ منْ نزولِ الرَّبِّ مَا يُفهمُ منْ نزولِ المخلوقِ - وهو أنْ يفرغَ مكانًا ويشغلَ مكانًا - نفتْ حقيقةَ ذلكَ فوقعتْ فِي محذورينِ: محذورُ التَّشبيهِ ومحذورُ التَّعطيلِ. ولوْ علمتْ هذهِ العقولُ الضعيفةُ أنَّ نزولَهُ سُبْحَانهُ لا يشبهُ نزولَ المخلوقِ كَمَا أنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وعلمَهُ وحياتَهُ كذلك. وإذا كانَ نزولًا لَيْسَ كمثلهِ نزولٌ فكيفَ تنفِي حقيقتَهُ»؟![676].
والكلماتُ المذكورةُ باطلةٌ وعنْ حلى التحقيقِ عاريةٌ.
وزَعْمُ السَّقَّافِ أَنَّ مَنْ قالَ ينزلُ بذاتهِ أنَّهُ مجسمٌ حلوليُّ: قولٌ بلا علمٍ وكذبٌ وافتراءٌ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
والسَّقَّافُ وأمثالهُ لمْ يفهموا منْ نزولِ الخالقِ إلى السَّماءِ الدنيا إلَّا كمَا فهموا منْ نزولِ المخلوقاتِ، «وهذا عينُ التمثيلِ، ثَّم إنَّهم بعدَ ذلكَ جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم الذي لا يمكنهُ أنْ يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عنْ جمعهِ»[677]. وكذبوا في هذا الفهمِ، وضلُّوا في هذا الظنِّ والوهمِ الكاسدِ.
فإنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: «يطوي الله عزَّ وجلَّ السمواتِ يومَ القيامةِ ثمَّ يأخذهنَّ بيدهِ اليمنى، ثمَّ يقول: أنا الملكُ. أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتكبِّرونَ؟ ُثمَّ يطوي الأرضينَ بشمالهِ ثمَّ يقولُ: أنا الملكُ أينَ الجبَّارونَ أينَ المتكبرونَ؟!»[678].
فمنْ هذهِ عظمتهُ، كيفَ يحصرهُ مخلوقٌ مِنَ المخلوقاتِ. سماءٌ أو غيرُ سماءٍ؟! حتَّى يقال: إنَّهُ إذا نزلَ إلى السماء الدنيا صارَ العرشُ فوقهُ، أو يصيرُ شيءٌ مِنَ المخلوقاتِ يحصرهُ ويحيطُ بهِ سبحانه وتعالى[679].
واللهُ - ولله المثلُ الأعلى - أعظمُ منْ أنْ يظنَّ ذلكَ بهِ، وإنَّما يظنُّهُ الذينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67][680].
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: العليُّ الأعلى العظيمُ، فهو أعلى منْ كلِّ شيءٍ، وأعظمُ منْ كلِّ شيءٍ. فلا يكونُ نزولهُ وإتيانهُ بحيثُ تكونُ المخلوقاتُ تحيطُ بهِ، أو تكونُ أعظمَ منهُ وأكبرَ، وهذا ممتنعٌ[681].
فالمخلوقُ إذا نزلَ من علوٍّ إلى سفلٍ زالَ وصفهُ بالعلوِّ وتبدَّلَ إلى وصفهِ بالسُّفولِ، وصارَ غيرهُ أعلى منهُ.
والرَّبُّ تعالى لا يكونُ شيءٌ أعلى منهُ قطُّ، بلْ هوَ العليُّ الأعلى، ولا يزالُ هوَ العليُّ الأعلى مع أنَّهُ يقربُ إلى عبادهِ ويدنو منهم، وينزلُ إلى حيثُ شاءَ، ويأتي كما شاءَ. وهو في ذلكَ العليُّ الأعلى، الكبيرُ المتعال، عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّهِ.
فهذا وإنْ لمْ يتَّصفْ بهِ غيرهُ فلعجزِ المخلوقِ أنْ يجمعَ بينَ هذا وهذا. كمَا يعجزُ أنْ يكونَ هو الأولَ والآخرَ والظاهرَ والباطنَ[682].
وقَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ونزولهُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا سلامٌ ممَّا يضادُّ علوَّهُ، وسلامٌ مما يضادُّ غناهُ وكمالهُ، سلامٌ منْ كلِّ ما يتوهَّمُ معطِّلٌ أو مشبِّهٌ، وسلامٌ منْ أنْ يصيرَ تحتَ شيءٍ أو محصورًا في شيءٍ. تعالى الله ربُّنا عن كلِّ ما يضادُّ كمالَهُ[683].
فتبيَّنَ بهذا الكلامِ النفيسِ، بطلانُ ما ذكرهُ السَّقافُ؛ وأنَّهُ مبنيٌّ على شفا جرفٍ هارٍ منَ الخيالاتِ والأوهامِ.
وليتأمَّل السَّقافُ وأمثالهُ منْ أهلِ الكلامِ الأثرَ التالي:
قالَ محمَّدُ بنُ حاتمٍ المظفريُّ: سمعتُ عمرو بن محمد يقولُ: كانَ أبو معاوية الضريرُ يحدِّثُ هارونَ الرشيد، فحدثَّهُ بحديثِ أبي هريرةَ: «احتجَّ آدمُ وموسى»[684] فقالَ عليُّ بنُ جعفرٍ: كيفَ هذا وبينَ آدمَ وموسى ما بينهما؟! قالَ: فوثبَ بهِ هارونُ وقالَ: يحدِّثكَ عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضهُ بكيفَ؟! فما زالَ يقولُ حتَّى سكتَ عنهُ[685].
قالَ المحدِّثُ الصابونيُّ معقِّبًا: هكذا ينبغي للمرءِ أنْ يعظِّمَ أخبارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبولِ والتسليمِ والتَّصديقِ، وينكرُ أشدَّ الإنكارِ على منْ يسلكُ فيها غيرَ هذا الطريقِ الذي سلكهُ هارونُ الرشيدُ رحمه الله معَ مَنِ اعترضَ على الخبرِ الصَّحيحِ الذي سمعهُ بـ«كيف»؟! على طريقِ الإنكارِ لهُ، والابتعادِ عنهُ، ولمْ يتلقَّهُ بالقبولِ كمَا يجبُ أنْ يتلقَّى جميعُ ما يردُ مِنَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
جعلنا الله سبحانهُ مِنَ الذينَ يستمعونَ القولَ ويتَّبعونَ أحسنهُ ويتمسَّكونَ في دنياهم مدَّةَ حياتهم بالكتابِ والسنَّةِ، وجنَّبنا الأهواءَ المضلَّةَ والآراءَ المضمحلةَ والأسواءَ المذلَّةَ، فضلًا منهُ ومنَّةً[686].
وفي ختامِ الرَّدِّ على الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ التنزيلِ نقولُ وبالله التَّوفيق: إنَّ «الحقَّ الحقيقَ الذي ينبغي عليهِ التَّعويلُ أنْ نؤمنُ بما وصلَ إلينا عنْ طريقِ محمَّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنَّ الله ينزلُ إلى السّمَاء الدُنْيَا حينَ يبقى الثلثُ الآخرُ مِنَ الليلِ، ويقولُ: منْ يدعوني فأستجيبَ له؟ منْ يسألني فأعطيهُ؟ منْ يستغفرني فأغفرَ له؟!
ولا يغترُّ بما فاهَ بهِ: جمعٌ منْ أهلِ الكلامِ، ورهطٌ منْ أصحابِ الأوهامِ؛ النَّاكبونَ عنِ الصِّراطِ السويِّ، والمنهجِ النبويِّ. الجامدونَ على سيرِ المنطقيينَ والمتفلسفينَ، فإنَّهم بمعزلٍ عنْ طريقةِ السَّلفِ الصَّالحينَ، وعلى مراحلَ شاسعةٍ عنْ منهاجِ المتقينَ، الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ وممَّا رزقناهم ينفقونَ.
فدعْ عنكَ نهبًا صيحَ في حجراتهِ وهاتِ حديثًا ما حديثُ الرواحلِ»[687].
* * *
أَسْئِلَةٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ
السؤالُ الأوَّلُ:
هل نقولُ ينزلُ بذاتهِ؟
والجوابْ أنْ يقالَ: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ ربُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا..» خبرٌ وقعَ عنْ نفسِ ذاتِ الله تعالى لا عنْ غيرهِ. فإذا قلتَ: جاءَ محمَّدٌ، أي بنفسهِ جاءَ، لا مجرَّد أمرهِ وقصدهِ ونحو ذلكَ، ولله المثلُ الأعلى.
فقولهُ تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، هوَ خبرٌ عن ذاتِ الرَّبِّ تعالى فلا يحتاجُ المخبرُ أنْ يقولَ خالقُ كلِّ شيءٍ بذاتهِ. وقوله: {اللَّهُ رَبُّكُمْ} [يونس: 32]، قدْ علمَ أنَّ الخبرَ عنْ نفسِ ذاتهِ. وكذلكَ جميعُ ما أخبرَ الله بهِ عنْ نفسهِ إنَّما هوَ خبرٌ عنْ ذاتهِ.
فلا حاجةَ بنا أنْ نقولَ: استوى على عرشه بذاتهِ[688]، وينزلُ إلى السَّماءِ بذاتهِ، كما لا نحتاجُ أنْ نقولَ خلقَ بذاتهِ، وقدَّرَ بذاتهِ، وسمعَ وتكلَّمَ بذاتهِ، وإنَّما قالَ أئمَّةُ السنَّةِ ذلكَ إبطالًا لقولِ المعطِّلةِ[689].
وممَّنْ صرَّحَ بالنزولِ بالذَّاتِ: الإمامُ ابنُ حامدٍ[690] والإمامُ عبدُ الجليلِ كوتاهُ.
قالَ الذهبي ُّرحمه الله: «قالَ السَّمعانيُّ: لما وردتُ أصبهانَ كانَ - كوتاهُ - ما يخرجُ منْ دارهِ إلَّا لحاجةٍ مهمَّةٍ، كانَ شيخهُ إسماعيلُ الحافظُ هجرهُ، ومنعهُ مِنْ حضورِ مجلسهِ لمسألةٍ جرتْ في النزولِ، وكانَ كوتاهُ يقولُ: النزولُ بالذَّاتِ، فأنكرَ إسماعيلُ هذا وأمرهُ بالرُّجوعِ عنهُ فمَا فعلَ»[691].
وهوَ في الحقيقةِ يوافقهُ على اعتقادهِ، لكن أنكرَ إطلاقَ اللَّفظِ لعدمِ الأثرِ بهِ[692].
قالَ الذهبيُّ معلِّقًا على قولِ كوتاه السَّابق: «ومسألةُ النزولِ فالإيمانُ بهِ واجبٌ، وتركُ الخوضِ في لوازمهِ أولى، وهوَ سبيلُ السَّلفِ، فما قالَ هذا: نزولهُ بذاتهِ، إلَّا إرغامًا لمنْ تأوَّلهُ، وقالَ: نزولهُ إلى السَّماءِ الدُّنيا بالعلمِ فقط، نعوذُ بالله منْ مراءٍ في الدِّينِ، وكذا قولهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] ونحوهُ، فنقولُ: جاءَ وينزلُ وننتهي عَنِ القولِ ينزلُ بذاتهِ، كما لا نقولُ ينزلُ بعلمهِ، بلْ نسكتُ ولا نتفاصحُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم بعباراتٍ مبتدعةٍ، والله أعلمُ»[693].
والمقصودُ: أنَّ الأحاديثَ صريحةٌ في إطلاقِ لفظِ النزولِ، ولم يردْ فيها لفظةُ «بذاتهِ» فمنْ أطلقها إنَّما أرادَ بها الردَّ على الجهميَّةِ والمعطِّلةِ والمفوِّضةِ، ومنْ لمْ يطلقها فقدْ وقفَ مَعَ النُّصوصِ، مع إقرارهِ بإثبات معنى النزولِ.
السؤال الثاني:
كيفَ نجمعُ بينَ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تفتحُ أبوابُ السّمَاءِ نصفَ الليلِ، فينادي منادٍ: هلْ منْ داعٍ فيستجابُ لهُ؟ هلْ منْ سائلٍ فيُعطى؟ هلْ منْ مكروبٍ فيفرَّج عنهُ؟ فلا يبقى مسلمٌ يدعو بدعوةٍ إلَّا استجابَ اللهُ تعالى لهُ؛ إلَّا زانيةً تَسْعَى بفَرْجِها، أَوْ عَشّارًا»[694]. وحديثِ النزولِ؟
قلنا: وأيُّ منافاةٍ بينَ هَذَا وبينَ قولهِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا فيقولُ» وهلْ يسوغُ أنْ يقالَ إنَّ المنادي يقولُ: «أنا الملكُ» ويقولُ: «لاَ أسألُ عن عبادي غيري» ويقولُ: «منْ يستغفرني فأغفرَ لهُ؟» وأيُّ بُعْدٍ فِي أنْ يأمرَ مناديًا ينادي «هلْ منْ سائلٍ فيستجابَ له؟» ثمَّ يقولُ هو سبحانهُ: «من يسأَلُني فأستجيبَ لَهُ؟» وهلْ هذا إلَّا أبلغُ فِي الكرمِ والإحسانِ: أنْ يأمرَ مناديهُ يقولُ ذلكَ، ويقولهُ سبحانهُ بنفسهِ؟ وتتصادقُ الرواياتُ كلُّها عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصدِّقُ بعضَهَا، ونكذِّبُ مَا هوَ أصحُّ منهُ، وباللهِ تعالى التوفيق[695].
السؤالُ الثالثُ:
كيفَ نجمعُ بين علوِّ الله على العرشِ ونزولهِ إلى السَّماءِ الدُّنيا؟
لا تعارضَ بينَ نزولهِ تعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا في الثلثِ الأخيرِ منْ كلِّ ليلةٍ مع اختلافِ الأقطارِ، وبينَ استوائهِ عزَّ وجلَّ على العرشِ؛ لأنَّهُ سبحانهُ لا يشبهُ خلقهُ في شيءٍ منْ صفاتهِ، ففي الإمكانِ أن ينزلَ كمَا يشاءُ نزولًا يليقُ بجلالهِ في ثلثِ الليلِ الأخيرِ بالنسبةِ إلى كلِّ قطرٍ، ولا ينافي ذلكَ علوَّهُ واستواءهُ على العرش، لأننا في ذلكَ لا نعلمَ كيفيَّةَ النزولِ، ولا كيفيَّةَ الاستواءِ، بلْ ذلكَ مختصٌّ بهِ سبحانهُ، بخلافِ المخلوقِ فإنَّهُ يستحيلُ في حقِّهِ أنْ ينزلَ في مكانٍ ويوجدُ بمكانٍ آخر في تلكَ اللحظةِ كمَا هو معلومٌ، إلَّا الله عزَّ وجلَّ، فهوَ على كلِّ شيءٍ قدير. ولا يقاسُ ولا يمثَّلُ بهم لقوله عزَّ وجلَّ: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]، وقولهِ سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][696].
قال إسْحاق بنُ راهويه رحمه الله (238هـ): دخلتُ على ابنِ طاهرٍ فقال: ما هذه الأحاديث؟ تروونَ أنَّ الله ينْزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا؟ قلتُ: نعمْ، رواها الثقاتُ الذينَ يروونَ الأحْكامَ. فقالَ: ينْزلُ ويدعُ عرْشهُ؟ فقلتُ: يقْدرُ أنْ ينزلَ منْ غيرِ أنْ يخلوَ منهُ العرشُ؟ قال: نعمْ. قلتُ: فلمَ تتكلَّم في هذَا[697].
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: وعبدُ الله بنُ طاهرٍ - وهوَ منْ خيارِ منْ وليَ الأمرَ بخراسان - كانَ يعْرفُ أنَّ اللهَ فَوْقَ العَرْشِ، وأشْكلَ عليهِ أنَّهُ ينزلُ لتوهمهِ أنَّ ذلكَ يقْتضي أنْ يخْلوَ منهُ العرشُ، فأقرَّهُ الإمامُ إسحاقُ على أنَّهُ فوقَ العرشِ، وقالَ لهُ: يقدرُ أنْ ينزلَ منْ غيرِ أنْ يخلوَ منهُ العرشُ؟ فقالَ لهُ الأميرُ: نعمْ. فقالَ لهُ إسْحاق: لمَ تتكلَّمْ في هذا؟
يقولُ: فإذا كانَ قادرًا على ذلكَ لمْ يلزمْ من نزولهِ خلوُّ العرشِ منهُ، فلا يجوزُ أنْ يعترضَ على النزولِ بأنَّه يلْزمُ منهُ خلوُّ العرشِ، وكان هذا أهْونَ من اعْتراضِ منْ يقولُ: ليسَ فوقَ العرشِ شيءٌ، فينكرُ هذا وهذا[698].
وممَّا ذكرنا يتضحُ لكَ أنَّهُ لا تعارضَ بينَ نزولِ الله تبارك وتعالى واستوائهِ على العرشِ.
السؤالُ الرابعُ:
ما يستفادُ مِنْ حديثِ النزولِ؟
يستفادُ منْ حديثِ النزولِ ما يلي:
أولًا: إثْباتُ العلوِّ لله مِنْ قولِهِ: «ينزلُ».
ثانيًا: إثْباتُ الأفْعالِ الاخْتياريةِ التي هِيَ الصِّفاتُ الفعليةُ مِنْ قولهِ: «ينزلُ حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ».
ثالثًا: إثْباتُ القولِ للهِ منْ قولهِ: «يقولُ».
رابعًا: إثْباتُ الكرمِ للهِ عزَّ وجلَّ مِنْ قولهِ: «منْ يدْعوني... منْ يسألني... منْ يستغفرني..».
وفيهِ مِنَ النَّاحيةِ المسْلكيةِ:
أنَّهُ ينبغي للإنْسانِ أنْ يغتنمَ هذَا الجزءَ مِنَ الليلِ، فيسألُ الله عزَّ وجلَّ ويدْعوهُ ويسْتغْفرهُ، ما دامَ الرَّبُّ سبحانهُ يقولُ: «منْ يدعوني.. من يستغفرني...» و (منْ): للتشويقِ؛ فينبغي لنَا أنْ نستغلَّ هذهِ الفرصةَ؛ لأنَّهُ ليسَ لكَ مِنَ العمرِ إلَّا ما أمْضيتهُ في طاعةِ الله، وستمرُّ بكَ الأيَّامُ؛ فإذا نزلَ بكَ الموتُ؛ فكأنَّكَ ولدتَ تلكَ الساعة، وكلُّ ما مضى ليسَ بشيءٍ[699].
قال العلامة ابن قدامة المقْدسيُّ رحمه الله (620هـ): وتيقَّظْ في ساعاتِ الأسْحارِ عنْدَ نزولِ الجبَّارِ، وأحْضِرْ بقلبك قولَ العزيزِ الغفَّارِ: «هلْ منْ سائلٍ فأعْطيهُ؟ هلْ منْ داعٍ فأسْتجيبَ لهُ؟ هلْ منْ مسْتغفرٍ فأغْفرَ له؟»[700].
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله - عنْ وقتِ النزولِ -: « إنَّهُ وقتُ قسمِ الغنائمِ، وتفريقِ الجوائزِ، فمستقلٌّ ومستكثرٌ ومحرومٌ»[701].
وقال صدِّيق حسن خان رحمه الله: «وقتُ نزول الرَّبِّ إلى السَّماء الدُّنيا أشرفُ أوقاتِ الصَّلواتِ والأذكارِ والدَّعواتِ. فمنْ وفِّقَ فيهِ لذلكَ فقدْ فازَ فوزًا عظيمًا، ومنْ حُرِمَهُ فقدْ حُرِمَ خيرًا كثيرًا»[702].
فالمتقون يقومون في الثلثِ الأخير من الليلِ للصلاةِ والذِّكر والاستغفارِ والدعاء «فما يطلعُ فجرُ الأجرِ إلَّا وقدْ حازَ القومُ الغنيمةَ، وفازوا بالفخرِ، وحمِدوا عند الصَّباحِ السُّرى، وما عندَ أهلِ الغفلةِ والنَّومِ خبرٌ ممَّا جرى»[703].
يا نفسُ قومي فقدْ نامَ الورى إنْ تصنعي الخيرَ فذو العرشِ يرى
وأنتِ يا عينُ دعي عنكِ الكرى عندَ الصَّباحِ يُحْمَدُ القومُ السُّرى[704]
أَسْئِلَةٌ وأَجْوِبَتُهَا السؤالُ الأولُ
اخْتَلَفَ رجلانِ فِي الاعْتِقَادِ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌ. وَقَالَ الآخَرُ: إنَّ الله لاَ يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ فِبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُهُ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: مَنِ اعتقدَ أنَّ الله تعالى فِي جوفِ السَّمَاواتِ محصورٌ محاطٌ بهِ، أو مفتقرٌ إِلَى العرشِ، أَوْ غيرِ العرشِ - مِنَ المخلوقاتِ - أَوْ أَنَّ استواءَهُ عَلَى عرشهِ كاستواءِ المخلوقِ عَلَى كرسيِّهِ؛ فَهُوَ ضالٌّ مبتدعٌ جاهلٌ.
ومَنِ اعتقدَ أنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَات إلهٌ يعبدُ، وَلاَ عَلَى العرشِ ربٌّ يصلَّى لَهُ ويسجدُ، وأنَّ محمَّدًا لَمْ يعرجْ بِهِ إِلَى ربِّهِ، وَلاَ نزلَ القرآنُ منْ عندهِ، فَهُوَ معطِّلٌ فرعونيٌّ، ضالٌّ مبتدعٌ؛ فإنَّ فرعونَ كذَّبَ موسى في أنَّ ربَّه فوقَ السَّموات، وقالَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].
ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، صدَّق موسى عليه السلام، أنَّ ربَّهُ تعالى فوقَ السَّمواتِ، فلمَّا كانَ ليلة المعراجِ، وعرجَ بهِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وفرضَ عليهِ خمسينَ صلاةً؛ ذكرَ أنَّهُ رجعَ إلى موسى وقالَ لهُ: ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التَّخفيفَ لأمَّتكَ.
فمنْ وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمَّدًا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهوَ ضالٌّ؛ ومَنْ مثَّلَ اللهَ تعالى وشَبَّهَهُ بخلقهِ، فهو ضَالٌّ.
والقائلُ الذي قالَ: منْ لَمْ يعتقدْ أَنَّ الله فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضالٌّ، إنْ أرادَ بذلكَ منْ لاَ يعتقد أنَّ الله فِي جوفِ السَّمَاء، بحيثُ تحصرُهُ وتحيطُ بِهِ فَقَدْ أخطأَ.وإنْ أرادَ بذلكَ منْ لَمْ يعتقدْ مَا جاءَ بِهِ الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عَلَيهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، مِنْ أنَّ الله تعالى فَوْقَ سماواته عَلَى عرشهِ، بائنٌ منْ خلقهِ، فَقَدْ أصابَ؛ فإنَّه منْ لَمْ يعتقدْ ذَلِكَ يكونُ مكذِّبًا للرسولِ صلى الله عليه وسلم، متَّبعًا غيرَ سبيلِ المؤمنينَ؛ بلْ يكونُ فِي الحقيقةِ معطِّلًا لربِّهِ نافيًا لَهُ؛ فَلاَ يكونُ لَهُ فِي الحقيقةِ إلهٌ يعبدهُ، وَلاَ ربٌّ يسألهُ، ويقصدهُ. وهذا قولُ الجهميَّةِ ونحوهمْ منْ أتباعِ فرعونَ المعطِّل.
واللهُ سبحانهُ قدْ فطرَ العبادَ - عربهم و عجمهم - على أنَّهم إذا دعوهُ توجَّهتْ قلوبهم إلى العلوِّ، ولا يقصدونَهُ تحتَ أرجلهمْ، ولهذا قَالَ بعضُ العارفينَ: مَا قَالَ عارفٌ قطٌّ: يَا الله!! إِلَّا وجدَ فِي قلبهِ - قبلَ أَنْ يتحرَّكَ لسانهُ - معنًى يطلبُ العلوَّ، لاَ يلتفتُ يمنةً وَلاَ يسرةً.
وأمَّا القائلُ الذي يقولُ: «إنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في مكانٍ» إنْ أرادَ بهِ أنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في جوفِ المخلوقاتِ، وأنَّه لا يحتاجُ إلى شيءٍ منها، فقدْ أصابَ، وإنْ أرادَ أنَّ الله سبحانه وتعالى ليسَ فوقَ السمواتِ، ولا هوَ مستوٍ على العرشِ استواءً لائقًا بذاتهِ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لم يعرجْ بهِ إلى اللهِ تعالى؛ فهذا جهميٌّ فرعونيٌّ معطِّلٌ.
ومنشأُ الضَّلالِ أنْ يظنَّ الظانُّ أنَّ صفاتِ الرَّبِّ سبحانهُ كصفاتِ خلقهِ، فيظنُّ أنَّ الله تعالى على عرشهِ، كالملكِ المخلوقِ على سريرهِ؛ فهذا تمثيلٌ وضلالٌ، وذلكَ أنَّ الملِكَ مفتقرٌ إلى سريره، ولو زالَ سريرهُ لسقطَ، واللهُ عزَّ وجلَّ غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواه محتاجٌ إليه، وهوُ حاملٌ العرشَ وحملةَ العرشِ، وعلوُّه عليهِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ الله تعالى قدْ جعلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلًا، وجعلَ العالي غنيًّا عَنِ السَّافلِ، كمَا جعلَ الهواءَ فوقَ الأرضِ، وليسَ هو مفتقرًا إليهَا، وجعلَ السَّماءَ فوقَ الهواءِ، وليسَتْ محتاجةً إليهِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهمَا أولى أنْ يكون غنيًّا عَنِ العرشِ، وسائرِ المخلوقاتِ، وإنْ كانَ عاليًا عليهَا سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًّا كبيرًا.
والنَّاسُ في هذا البابِ ثلاثةُ أصنافٍ: أهلُ الحلولِ والاتحادِ، وأهلُ النَّفيِ والجحودِ، وأهلُ الإيمانِ والتَّوحيدِ والسنَّةِ.
فأهلُ الحلولِ يقولونَ: إنَّه بذاتهِ في كلِّ مكانٍ، وقدْ يقولونَ بالاتحادِ والوحدةِ فيقولونَ: وجودُ المخلوقاتِ وجودُ الخالقِ...
وأمَّا أهلُ النَّفيِ والجحودِ فيقولونَ: لا هوَ داخلُ العالمِ ولا خارجٌ ولا مباينٌ لهُ ولا حالٌّ فيهِ، ولا فوقَ العالمِ ولا فيهِ، ولا ينزلُ منهُ شيءٌ، ولا يصعدُ إليهِ شيءٌ، ونحو ذلكَ. وهذا قولُ متكلِّمةِ الجهميَّةِ المعطلِّةِ، كمَّا أنَّ الأوَّلَ قولُ عبَّادِ الجهميَّةِ؛ فمتكلِّمةُ الجهميَّةِ لا يعبدونَ شيئًا، ومتعبِّدةُ الجهميَّةِ يعبدونَ كلَّ شيءٍ، وكلامهم يرجعُ إلى التَّعطيلِ والجحودِ الذي هو قولُ فرعونَ.
وقدْ علمَ أنَّ الله تعالى كانَ قبلَ أنْ يخلقَ السَّمواتِ والأرضَ ثمَّ خلقهما؛ فإمَّا إنْ يكونَ دخلَ فيهما وهذا حلولٌ باطلٌ، وإمَّا أنْ يكونَا دخلا فيهِ وهوَ أبطلُ وأبطلُ، وإمَّا أنْ يكونَ الله سبحانهُ بائنًا عنهما لم يدخلْ فيهما ولمْ يدخلا فيهِ، وهذا قولُ أهلِ الحقِّ والتَّوحيدِ والسنَّةِ.
ولأهلِ الجحودِ والتَّعطيلِ في هذا البابِ شبهاتٍ[705]، يعارضونَ بها كتابَ الله عزَّ وجلَّ وسنَّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتهَا، ومَا فطرَ الله تعالى عليهِ عبادهُ، وما دلَّتْ عليهِ الدلائلُ العقليةُ الصحيحةُ؛ فإنَّ هذهِ الأدلَّةَ كلَّها متَّفقةٌ على أنَّ الله تعالى فوقَ مخلوقاتهِ، عالٍ عليهَا، قدْ فطرَ اللهُ تعالى على ذلكَ العجائزَ والأعرابَ والصبيانَ في الكتَّابِ؛ كما فطرهمْ على الإقرارِ بالخالقِ تعالى.
وقدْ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحيحِ: «كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هل تُحِسُّونَ فيها منْ جدعاءَ» ثمَّ قالَ أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إنْ شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30][706].
وهذا معنى قولِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه الله: «عليكَ بدينِ الأعرابِ والصبيانِ في الكتَّابِ، وعليكَ بما فَطَرَهُمُ اللهُ تعالى عليه»؛ فإنَّ الله سبحانهُ فطرَ عبادهُ على الحقِّ، والرسلُ بعثوا بتكميلِ الفطرةِ وتقريرهَا، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرهَا.
وأمَّا أعداءُ الرُّسلِ كالجهميَّةِ الفرعونيَّةِ ونحوهم: فيريدونَ أنْ يغيِّروا فطرةَ الله تعالى ودينَهُ عزَّ وجلَّ، ويوردونَ على النَّاسِ شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ، لا يفهمُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مقصودَهُمْ بها، ولا يحسنُ أنْ يجيبهم. وأصلُ ضلالهم تكلُّمهمْ بكلماتٍ مجملةٍ؛ لا أصلَ لها في كتابِ الله تعالى؛ولا سنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ ولا قالها أحدٌ منْ أئمَّةِ المسلمينَ، كلفظِ التحيُّزِ والجسمِ والجهةِ ونحو ذلك.
فمنْ كانَ عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومنْ لمْ يكنْ عارفًا بذلكَ فليعرضْ عنْ كلامهمْ، ولا يقبلُ إلَّا ما جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ، كمَا قالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ومنْ يتكلَّمُ في الله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ بما يخالفُ الكتابَ والسنةَ فهوَ مِنَ الخائضينَ في آياتِ الله تعالى بالباطلِ.
وكثيرٌ منْ هؤلاءِ ينسبُ إلى أئمَّةِ المسلمينَ ما لمْ يقولوه؛ فينسبونَ إلى الشافعيِّ، وأحمدَ بن حنبلٍ ومالكٍ، وأبي حنيفة؛ مِنَ الاعتقاداتِ ما لم يقولوا، ويقولونَ لمنِ اتبعهم: هذَا اعتقادُ الإمامِ الفلانيِّ؛ فإذا طولبوا بالنَّقلِ الصَّحيح عَنِ الأئمَّة تبيَّنَ كذبهم.
وقالَ الشَّافعيُّ: حُكْمِي في أهلِ الكلامِ: أن يُضربوا بالجَرِيدِ والنِّعالِ، ويُطافُ بهم في القَبَائِلِ والعَشَائِرِ، ويقالُ: هذا جزاءُ مَنْ تَركَ الكتابَ والسُّنَّةَ، وأقبلَ على الكَلاَمِ.
قالَ أبو يوسفَ القاضي: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بالكلام تَزَنْدَقَ.
قالَ أحمد: ما ارْتَدَى أحدٌ بالكَلاَمِ فَأَفْلَحَ.
قال بعضُ العلماءِ: المُعَطِّلُ يعبدُ عدمًا، والمُمَثِّلُ يعبدُ صنمًا. المعطِّل أعمى، والممثِّل أعشى[707]؛ ودينُ الله بين الغالي فيهِ والجافي عنهُ.
وقدْ قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] والسنَّةُ في الإسلامِ كالإسلامِ في المللِ. والحمدُ لله ربِّ العالمين[708].
السؤالُ الثاني
إذا كانَ الله تعالى إنَّما استوى على العرشِ بعدَ أنْ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيَّامٍ، فقبلَ ذلكَ لمْ يكنْ على العرشِ؟
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: الاسْتِوَاءُ علوٌّ خاصٌّ، فكلُّ مستوٍ عَلَى شيءٍ عالٍ عَلَيهِ، وليسَ كلُّ عالٍ عَلَى شيءٍ مستوٍ عَلَيهِ.
ولهذا لاَ يقالُ لكلِّ مَا كانَ عاليًا على غيرهِ أنَّهُ مستوٍ عليهِ، واستوى عليهِ؛ ولكن كلُّ ما قيلَ فيهِ أنَّه استوى على غيرِه، فإنَّهُ عالٍ عَلَيهِ.
والذي أخبرَ اللهُ أنَّهُ كانَ بعدَ خلق السَّماواتِ والأرضِ «الاستواءُ» لا مطلقُ العلوِّ، مَعَ أنَّهُ يجوزُ أنَّهُ كانَ مستويًا عليهِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ لمَّا كانَ عرشهُ على الماءِ، ثمَّ لمَّا خلقَ هذا العالمَ كانَ عاليًا عليهِ ولمْ يكنْ مستويًا عليهِ، فلمَّا خلقَ هذا العالمَ استوى عليهِ.
فالأصلُ أنَّ علوَّهُ على المخلوقاتِ وصفٌ لازمٌ لهُ، كمَا أنَّ عظمتَهُ وكبرياءهُ وقدرتهُ كذلكَ، وأمَّا «الاستواءُ» فهو فعلٌ يفعلهُ سبحانه وتعالى بمشيئتهِ وقدرتهِ، ولهذا قالَ فيهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى} [يونس: 3].
ولهذا كانَ الاستواءُ مِنَ الصفاتِ السَّمعيةِ المعلومةِ بالخبرِ، وأمَّا علوُّه على المخلوقاتِ فهوَ عندَ أئمَّةِ أهلِ الإثباتِ من الصِّفاتِ العقليةِ المعلومةِ بالعقلِ مَعَ السمعِ[709].
السؤالُ الثالث
ما هو التعليقُ على قولِ الدسوقي: «أصولُ الكفرِ ستةٌ - وعدَّ خمسةً منها ثمَّ قال: سادسًا: التمسكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّدِ ظواهِرِ الكتابِ والسنَّةِ من غير عَرْضِها على البراهينِ العقليَّةِ والقواطعِ الشرعيةِ... إلى أن قال: والتمسُّكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّد ظواهرِ الكتابِ والسنةِ من غير بصيرةٍ في العقلِ وهو أصلُ ضلاَلةِ الحَشَوِيَّةِ، فقالوا بالتَّشبيه والتَّجسيم والجهةِ عملًا بظاهرِ قولهِ تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]»[710].
ويا للهِ العجبُ! كيفَ كانَ الصَّحابةُ والتَّابعونَ قبلَ وضعِ هذهِ القوانينِ التي أتى اللهُ بنيانها مِنَ القواعدِ وقبلَ استخراج هذه الآراءِ والمقاييسِ والأوضاعِ هل كانوا مهتدينَ مكتفينَ بالنُّصوصِ أمْ كانوا على خلافِ ذلكَ؟ حتَّى جاء المتأخرونُ فكانوا أعلمَ منهم وأهدى وأضبطَ للشَّريعة منهم وأعلمَ باللهِ وأسمائهِ وصفاتهِ وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منهم؟ فواللهِ لأنْ يلقى الله عبدهُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الإشراك لخيرٌ منْ أنْ يلقاهُ بهذا الظنِّ الفاسدِ والاعتقادِ الباطلِ[711].
والقولُ بأنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يصدرُ البتةَ عنْ عالمٍ بكتابِ الله وسنَّةِ رسوله وإنَّما يصدرُ عمَّن لا علمَ لهُ بالكتابِ والسـنَّـةِ أصـلًا، لأنَّه لجهلهِ بهما يعتقدُ ظاهرهما كفرًا والواقعُ في نفسِ الأمرِ أنَّ ظاهرهما بعيدٌ ممَّا ظنَّه أشدَّ منْ بعدِ الشمسِ مِنَ اللمسِ[712].
وهذا يتبيَّن منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
ينبغي أنْ يعلمَ بأنَّ كلَّ ما أخبرَ الله بهِ فهوَ حقٌّ، ويستحيلُ أنْ يلزمَ عليهِ باطلٌ.
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ الذي يقول: إنَّ الأخذَ بظاهرِ قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] يلزمُ منهُ الكفرُ والتشبيهُ والضَّلالُ. أنَّ إلزامهُ هذا اعتراضٌ صريحٌ على منْ أخبرَ بالاستواءِ وهو الله جلَّ وعلا[713].
الوجهُ الثاني:
لا شكَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، عالمٌ كلَّ العِلْمِ، بأنَّ الظاهرَ المتبادرَ ممَّا مدحَ الله بهِ نفسه، في آياتِ الصِّفاتِ هو التنزيهُ التَّامُّ عنْ صفاتِ الخلقِ، ولو كان يخطرُ في ذهنهِ أنَّ ظاهرهُ لا يليقُ، لأنَّهُ تشبيهٌ بصفاتِ الخلقِ، لظهرَ التحذيرُ منهُ ومنْ أصحابهِ وتواترَ أعظمَ ممَّا حذَّروا مِنَ الدَّجالِ الأعورِ الكذَّابِ، ولبادرَ كلَّ المبادرةِ إلى بيانِ ذلكَ، لأنَّه لا يجوزُ في حقِّهِ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ إليهِ، ولا سيَّما في العقائدِ، ولا سيَّما فيما ظاهرهُ الكفرُ والتشبيهُ. ولو أخَّرَ البيانَ لكانَ قدْ كلَّفَ العبادَ ما لا سبيلَ إليهِ[714].
ألا ترى أنَّ المتكلِّمينَ لمَّا اعتقدوا قبحَ هذه الظواهرِ تواترَ عنهمُ التَّحذيرُ عنهَا والتأويلُ لها وصنَّفوا في ذلكَ وأيقظوا الغافلينَ، وعلَّموا الجاهلينَ، وكفَّروا المخالفينَ، وأشاعوا ذلكَ بينَ المسلمينَ؛ بل بينَ العالمينَ. فكانَ أحقَّ منهم بذلك سيِّدُ المرسلينَ، وقدماءُ السابقينَ، وأنصارُ الدِّينِ[715].
الوجهُ الثالثُ:
لوْ علمَ الأئمَّةُ أنَّ حملَ النُّصوصِ على ظاهرهَا كفرٌ لوجبَ عليهم تبيينُ ذلكَ، وتحذيرُ الأمَّةِ منهُ؛ فإنَّ ذلكَ من تمامِ نصيحةِ المسلمينَ، فكيفَ كانوا ينصحونَ الأمَّةَ فيما يتعلَّقُ بالأحكام العمليةِ ويَدَعونَ نصيحتهم فيما يتعلَّقُ بأصولِ الإعتقاداتِ!! هذا من أبطلِ الباطلِ[716].
الوجهُ الرابعُ:
إنَّ القولَ المذكورَ يتضمنُ الظنَّ السَّيِّءَ بالله تباركَ وتعالى.
ومنْ ظنَّ بالله سبحانه وتعالى أنَّه أَخبرَ عنْ نفسهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ بما ظاهرهُ باطلٌ، وتشْبيهٌ، وتمْثيلٌ، وتركَ الحقَّ، لمْ يخبرْ بهِ، وإنَّما رمزَ إليهِ رموزًا بعيدةً، وأشارَ إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لمْ يصرِّحْ بهِ، وصرَّح دائمًا بالتَّشبيهِ والتمثيلِ والباطلِ، وأرادَ منْ خلقهِ أنْ يُتْعِبوا أذْهانهم وقواهم وأفْكارهمْ في تحريفِ كلامهِ عنْ مواضعهِ، وتأويلهِ على غيرِ تأويلهِ، ويتطلَّبوا لهُ وجوهَ الاحتمالاتِ المستكرهةِ، والتأويلاتِ التي هي بالألغازِ والأحاجي أشْبهُ منها بالكشفِ والبيانِ[717]، وأحالهمْ في معْرفةِ أسْمائهِ وصفاتهِ على عقولهمْ وآرائهمْ، لا على كتابهِ، بلْ أرادَ منهمْ أنْ لا يحْملوا كلامهُ على ما يعْرِفونَ منْ خطابهمْ ولغتهم، معَ قدْرتهِ على أنْ يصرِّحَ لهمْ بالحقِّ الذي ينبغي التَّصْريحُ بهِ، ويريحهمْ مِنَ الألفاظِ التي توقعهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، فلمْ يفعلْ، بلْ سلكَ بهمْ خلافَ طريقِ الهدى والبيانِ، فقدْ ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، فإنَّه إنْ قالَ: إنَّهُ غيرُ قادرٍ على التعْبيرِ عَنِ الحقِّ باللفظِ الصَّريحِ الذي عبَّر بهِ هوَ وسلفُهُ، فقدْ ظنَّ بقدْرتهِ العجزَ، وإنْ قالَ: إنَّهُ قادرٌ ولمْ يبيِّنْ، وعدَلَ عنِ البيانِ، وعَنِ التَّصْريحِ بالحقِّ إلى ما يوْهمُ، بلْ يُوقِعُ في الباطلِ المحالِ، والاعْتقادِ الفاسدِ، فقدْ ظنَّ بحكمتهِ ورحمتهِ ظنَّ السَّوء، وظنَّ أنَّهُ هوَ وسلفهُ عبَّروا عَنِ الحقِّ بصريحهِ دونَ اللهِ ورسولهِ، وأنَّ الهدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأمَّا كلامُ الله، فإنَّما يؤخذُ منْ ظاهرهِ التَّشبيهُ، والتَّمثيلُ، والضَّلالُ، وظاهرُ كلامِ المتهوِّكين[718] الحيارى، هوَ الهدى والحقُّ، وهذا منْ أسوإ الظنِّ بالله، فكلُّ هؤلاءِ مِنَ الظَّانينَ بالله ظنَّ السَّوء، ومِنَ الظَّانينَ بهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهليةِ[719].
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ الذينَ يقولونَ: إنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يعلمونَ ما هيَ الظواهرُ وأنَّهم يعتقدونَ شيئًا ظاهر النص. والواقع أنَّ النَّص لا يدلُّ عليهِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ فضلًا عنْ أنْ يكونَ ظاهره.فبنوا باطلًا على باطلٍ، ولا شكَّ أنَّ الباطلَ لا يُبنى عليه إلَّا الباطل.ولو تصوَّروا معاني ظواهرِ الكتابِ والسنَّةِ على حقيقتها لمنعهم ذلكَ، منْ أن يقولوا ما قالوا.
وأصولُ الكفرِ يجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يحذرَ منها كلَّ الحذرِ، ويتباعدَ منها كلَّ التباعدِ ويتجنبُ أسبابها كلَّ الاجتنابِ، فيلزمُ على هذا القولِ المنكرِ الشنيعِ وجوبُ التباعدِ مِنَ الأخذِ بظواهرِ الوحي.
فتنفيرُ النَّاسِ وإبعادهم عنْ كتابِ الله، وسنَّةِ رسولهِ، بدعوى أنَّ الأخذَ بظواهرِهما منْ أصولِ الكفرِ هو منْ أشنعِ الباطلِ وأعظمهِ كما ترى.
وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبيَّنُ أنَّ منْ أعظمِ أسبابِ الضَّلالِ، ادِّعاء أنَّ ظواهرَ الكتابِ والسنَّةِ دالَّةٌ على معانٍ قبيحةٍ، ليستْ بلائقةٍ.والواقعُ في نفسِ الأمرِ بُعدهَا وبراءتها منْ ذلكَ.
فنوصي «أنفسنا وإخواننا المسلمينَ بتقوى الله تعالى وعدمِ التهجُّم على الله تعالى وعلى كتابهِ بالدَّعاوى الباطلةِ والتمسُّكِ بنورِ الوحيِ الصحيحِ في المعتقدِ وغيرهِ، لأنَّ السلامةَ متحققةٌ في اتِّباع الوحي وليستْ متحققةً في شيءٍ غيره:
ونَهْجُ سبيلي واضحٌ لمن اهْتَدَى ولكنَّها الأهواءُ عَمَتْ فَأَعْمَتْ»[720]
وكلامُ الدسوقي «مع كونهِ ظلمًا لنا، يا ليتهُ كان كلامًا صحيحًا مستقيمًا، فكنَّا نحلله من حقِّنا ويستفادُ ما فيهِ مِنَ العلمِ!! ولكن فيهِ منْ تحريفِ كتابِ الله والإلحادِ في آياته وأسمائه، والكذبِ والظلمِ، والعدوان الذي يتعلق بحقوقِ اللهِ مما فيه؛ لكنْ إنْ عفونا عنْ حقِّنا، فحقُّ اللهِ إليهِ لا إلى غيرهِ»[721].
السؤالُ الرابعُ
ما معنى قول السَّلفِ: أمِرُّوهَا كما جاءتْ بلا كيفٍ؟
قولهمْ رضي الله عنهم: «أمرُّوها كما جاءت» ردٌّ على المعطِّلة، وقولهمْ: «بلا كيفٍ» ردٌّ على الممثِّلةِ.
وسأل رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [ طه: 5] كيفَ استوى؟ فقال: «الاستواءُ غيرُ مجْهولٍ، الكيفُ غيرُ معْقولٍ، ومِنَ الله الرسالة، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التَّصْديقُ»[722].
وقال رجلٌ للإمامِ مالكٍ: يا أبا عبدِ الله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] كيفَ استوى؟ قال: «الكيفُ غيرُ معْقولٍ، والاستواءُ منهُ غيرُ مجْهولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسُّؤالُ عنهُ بدعةٌ»[723].
فقولُ ربيعةَ ومالكٍ: «الاسْتواءُ غيرُ مجْهولٍ، والكيفُ غيرُ معْقولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ» موافقٌ لقولِ الباقينَ: «أمِرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ»؛ فإنَّما نفوا علمَ الكيفيَّةِ، ولمْ ينْفوا حقيقةَ الصِّفةِ.
ولو كانَ القومُ قدْ آمنوا باللَّفظِ المجرَّدِ منْ غيرِ فهمٍ لمعْناه على ما يليقُ بالله؛ لما قالوا: «أمرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ»؛ فإنَّ الاسْتواءَ حينئذٍ لا يكونُ معْلومًا؛ بلْ مجْهولًا بمنْزلةِ حروفِ المعجمِ.
وأيضًا؛ فإنَّه لا يحْتاجُ إلى نفيِ علمِ الكيفيَّةِ إذا لمْ يفهمْ عَنِ اللَّفظِ معنًى؛ وإنَّما يحْتاجُ إلى نفيِ علمِ الكيفيَّةِ إذا أثْبتت الصِّفاتُ.
وأيضًا؛ فإنَّ منْ ينْفي علوَّ الله على العرشِ والنزولَ لا يحْتاجُ أنْ يقولَ: بلا كيفٍ! فمنْ قال: إنَّ الله ليس على العرشِ. لا يحتاجُ أنْ يقولَ: «بلا كيفٍ»، فلو كانَ مذهبُ السَّلفِ التفْويضَ في المعْنى؛ لما قالوا بلا كيفٍ.
وأيضًا؛ فقولهم: «أمرُّوها كما جاءت»: يقتضي إبْقاءُ دلالتهَا على ما هي عليهِ، فإنَّها جاءتْ ألْفاظًا دالةً على معاني؛ فلو كانتْ دلالتهَا منْتفيةً؛ لكانَ الواجبُ أنْ يقالَ: «أمرُّوا لفظهَا مع اعْتقادِ أنَّ المفْهومَ منها غيرُ مرادٍ»، أو «أمرُّوا لفْظَهَا مع اعْتقادِ أنَّ الله لا يوصفُ بما دلَّتْ عليهِ حقيقةً». وحينئذٍ فلا تكونُ قدْ أُمرَّتْ كما جاءتْ، ولا يقال حينئذٍ: بلا كيفٍ؛ إذْ نفيُ الكيفِ عمَّا ليسَ بثابتٍ لغوٌ مِنَ القولِ[724].
فلا يقالُ إنَّ السَّلفَ - رحمهم الله تعالى - تلقَّوا النُّصوصَ فلم يفهموها، ففوَّضوا معناها. ولا يجوزُ أن يشتملَ القرآنُ على ما لا يُعلمُ معناه[725] - حاشاهم منْ ذلكَ - «بل كفُّوا عَنِ الثرثرةِ، والتشدُّقِ، لا عجزًا بحمدِ الله عَنِ الجدالِ والخصامِ، ولا جهلًا بطرقِ الكلامِ، وإنَّما أمسكوا عَنِ الخوضِ في ذلكَ عنْ علمٍ ودرايةٍ، لا عنْ جهلٍ وعمايةٍ»[726].
السؤالُ الخامسُ
كيف استوى على العرش؟
مِنَ المعلومِ أنَّ صفاتِ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتهُ وتلائمُ حقيقتهُ؛ فمنْ لم يفهمْ منْ صفاتِ الرَّبِّ - الذي ليس كمثله شيءٌ - إلَّا ما يناسبُ المخلوق فقدْ ضلَّ في عقلهِ ودينهِ.
فقولُ السَّائلِ: كيفَ استوى؟ بمنزلةِ قولهِ: كيفَ ينزلُ؟ وقولهِ: كيفَ يسمعُ؟ وكيفَ يبصرُ؟ وكيفَ يعلمُ ويقدرُ؟ وكيفَ يخلقُ ويرزقُ؟
فنحنُ نعلمُ معنى الاستواءِ ولا نعلمُ كيفيَّتهُ، ونعلمُ معنى السَّمعِ والبصرِ والعلمِ والقدرةِ، ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ. ونعلم معنى الرَّحمةِ والغضب والرضا والفرحِ والضَّحكِ ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ[727].
قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: «ما صحَّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالهُ فلا يقالُ فيهِ لِمَ وكيفَ»[728].
وقالَ البربهاريُّ رحمه الله: «ولا يقولُ في صفاتِ الربِّ: كيفَ؟ ولمَ؟ إلَّا شاكٌ في الله تبارك وتعالى»[729].
وقالَ الإمامُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ رحمه الله: «وأنَّهُ عزَّ وجلَّ استوى على العَرْشِ، بلا كَيْفٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى انتهى منْ ذلكَ إلى أنَّه استوى على العرشِ، ولم يَذْكُرْ كيفَ كانَ استواؤُهُ»[730].
وقالَ عبدُ العزيز بن يحيى المكي رحمه الله (240هـ) في «الردِّ على الزنادقة والجهمية»: «فقال الجهميُّ: أخبرني كيفَ استوى على العرشِ؟ أهوَ كمَا يُقالُ: استوى فلانٌ على السريرِ، فيكون السريرُ قد حوى فلانًا وحدَهُ إذا كانَ عليهِ، فيلزمكَ أنْ تقولَ: إنَّ العرشَ قدْ حوى الله وحدَهُ إذا كانَ عليه، لأنَّا لا نعقلُ الشَّيءَ على الشيءِ إلَّا هكذا. قالَ: فيُقالُ لهُ: أمَّا قولكَ: كيفَ استوى؟ فإنَّ الله لا يجري عليهِ كيفَ، وقدْ أخبرنَا أنَّهُ استوى على العرشِ، ولم يخبرنا كيفَ استوى، فوجبَ على المؤمنينَ أنْ يصدِّقوا ربَّهم باستوائهِ على العرشِ، وحرَّمَ عليهم أنْ يصفوا كيفَ استوى، لأنَّهُ لمْ يخبرهمْ كيفَ ذلكَ، ولمْ ترهُ العيونُ في الدنيا فتصفهُ بما رأتْ، وحرَّمَ عليهم أنْ يقولوا عليهِ منْ حيثُ لا يعلمونَ، فآمنوا بخبرهِ عَنِ الاستواءِ، ثمَّ ردُّوا علمَ كيفَ استوى إلى الله»[731].
وقال معمر بن أحمد الأصبهانيُّ رحمه الله (418هـ): «جميعُ ما وردَ منَ الأحاديثِ في الصِّفاتِ؛ كلُّ ذلكَ بلا كيفٍ ولا تأويلٍ نؤمنُ بها إيمانَ أهلِ السلامةِ والتسليمِ، ولا نتفكَّرُ في كيفيَّتها، وساحةُ التَّسليمِ لأهلِ السنَّةِ، والسلامةُ واسعةٌ بحمدِ الله ومنِّهِ، وطلبُ السلامةِ في معرفةِ صفات الله عزَّ وجلَّ أوجبُ وأولى، وأقِمنْ وأحرى، فإنَّه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فليسَ كمثلهِ شيءٌ: ينفي كلَّ تشبيهٍ وتمثيلٍ، وهو السميع البصير: ينفي كلَّ تعطيلٍ وتأويلٍ، فهذا مذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ والأثرِ، فمنْ فارقَ مذهبهم فارقَ السنَّةَ، ومنِ اقتدى بهم وافقَ السنَّةَ، ونحنُ بحمدِ الله منَ المقتدينِ بهم، المنتحلينَ لمذاهبهم، القائلينَ بفضلهم، جمعَ اللهُ بيننا وبينهم في الدَّارينِ، فالسنَّةُ طريقتنا، وأهلُ الأثرِ أئمتنا، فأحيانا اللهُ عليها وأماتنا عليها برحمتهِ إنَّهُ قريبٌ مجيبٌ»[732].
وقال الحافظ إسماعيلُ بنُ محمدٍ التيميُّ رحمه الله (535هـ): « الاستواءُ معلومٌ كونهُ مجهولُ كيفيَّتهُ، واستواءُ نوحٍ على السفينةِ معلومٌ كونهُ معلومٌ كيفيَّتهُ؛ لأنَّهُ صفةٌ لهُ، وصفاتُ المخلوقينَ معلومةٌ كيفيَّتها. واستواءُ الله على العرشِ غيرُ معلوم كيفيَّتهُ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يعلمُ كيفيَّةَ صفاتِ الخالقِ؛ لأنَّهُ غيبٌ ولا يعلمُ الغيبَ إلَّا الله، ولأنَّ الخالقَ إذا لمْ يشبه ذاتهُ ذاتَ المخلوقِ لمْ يشبه صفاتهُ صفات المخلوق. فثبتَ أنَّ الاستواءَ معلومٌ، والعلمُ بكيفيَّتهِ معدومٌ، فعلمهُ موكولٌ إلى الله تعالى، كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]»[733].
وقال السفاريني رحمه الله:
سُبْحَانَهُ قَدِ «اسْتَوَى» كَمَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ قَدْ تَعَالَى أَنْ يُحَدَّ[734]
وقدْ قَالَ بعضهم، مخاطبًا للزمخشريِّ، منكرًا عَلَيهِ نفيَ الصِّفاتِ، شعرًا:
قُلْ لِمَنْ يفهمُ عنِّي مَا أقولُ قِصَرَ القَوْلِ فذا شرحٌ يَطُولُ
أَنْتَ لاَ تفهمُ إيَّاك وَلاَ من أنْتَ وَلاَ كيفَ الوُصولُ
لاَ وَلاَ تدري خَفَايا رُكِّبَتْ فيكَ حارَتْ فِي خَبَايَاهَا العُقُولُ
أَنْتَ أَكْلُ الخُبْزِ لاَ تَعْرِفُه كيفَ يجري منكَ أم كيفَ تَبُولُ
أينَ منكَ الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا كيفَ تَسْرِي فيكَ؟ أم كيف تجولُ؟
فإذا كانَتْ طَوايَاكَ التي بين جَنْبَيكَ كذا فِيهَا ضلولُ
كيفَ تَدْرِي مَنْ على العرشِ استوى لاَ تَقُل كَيْفَ اسْتَوَى كَيْفَ النُّزُولُ[735]
وما أحْسن ما قيل:
عَلىَ عرْشِهِ الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ اسْتَوىَ كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ وَالمُصْطَفَى رَوَى
وَذَاكَ اسْتِواءٌ لاَئِقٌ بِجَلاَلِهِ وَأَبْرَأُ مِنْ قَوْلِي لَهُ العرْشُ قَدْ حَوَى
فَمَنْ قَالَ مِثْلَ الفُلْكِ كَانَ اسْتِواَؤُهُ عَلَى جَبَلِ الجودِي مِنْ شَاهِقٍ هَوَى
وَمَنْ يَتَّـبِعْ مَا قَدْ تـَشاَبَهَ يَبْتَغِي بِهِ فِتْنَةً أَوْ يَبْغِي تَأْوِيلَهُ غَوَى
فَلَمْ أَقُلِ اسْتَوْلَى وَلَسْتُ مُكَلَّفًا بِتَأْوِيِلِهِ كَلَّا وَلَمْ أَقُلِ احْتَوَى
ومَنْ قَالَ لي كَيْفَ اسْتَوَى لاَ أُجِيبُهُ بِشَيء سِوَى أَنِّي أَقُولُ لَهُ اسْتَوَى[736]
السؤالُ السادسُ
هل مذهبُ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبُ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ؟
شاعَ عندَ المتأخرينَ مِنَ المتكلِّمينَ: أنَّ طريقةَ السَّلفِ أسلمُ، وأنَّ طريقةَ الخلفِ أحكمُ، وهذا ليس بمستقيمٍ؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ طريقةَ السَّلفِ مجرَّدُ الإيمانِ بألفاظِ القرآنِ والحديثِ منْ غير فقهٍ في ذلكَ، وأنَّ طريقةَ الخلفِ هي استخراجُ معاني النُّصوصِ المصروفةِ عنْ حقائقها بأنواعِ المجازاتِ.
فجمعَ هذا القائلُ بينَ الجهلِ بطريقةِ السَّلفِ، والدَّعوى في طريقةِ الخلفِ.
ثمَّ هذا القولُ إذا تدبَّرهُ الإنسانُ وجدَهُ في غايةِ الجهالةِ؛ بلْ في غايةِ الضَّلالة.
أليسَ هذا صريحًا: أنَّ السَّلفَ كانوا ضالِّينَ عَنِ التوحيدِ والتنزيهِ وعَلِمَهُ المتأخرونَ؟! وهذا فاسدٌ بضرورةِ العلمِ الصحيحِ والدينِ المتينِ... فيصفونَ إخوانهم بالفضيلةِ في العلمِ والبيانِ، والتحقيقِ والعرفانِ، والسَّلفَ بالنَّقصِ في ذلكَ والتقصيرِ فيهِ، أو الخطأ والجهلِ.
ولا ريبَ أنَّ هذا وإنْ لمْ يكنْ تكفيرًا للسَّلفِ، ولا تفسيقًا لهم، كان تجهيلًا لهم وتخطئةً وتضليلًا، ونسبةً لهم إلى الذنوبِ والمعاصي، وإنْ لم يكنْ فسقًا فزعمًا: أنَّ أهلَ القرونِ المفضولة في الشَّريعةِ أعلمُ وأفضلُ منْ أهلِ القرونِ الفاضلةِ.
ومِنَ المعلومِ بالضَّرورةِ لمنْ تدبَّرَ الكتابَ والسنَّةَ، وما اتَّفقَ عليهِ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ منْ جميعِ الطوائفِ: أنَّ خيرَ قرونِ هذهِ الأمَّةِ - في الأعمالِ والأقوالِ، والاعتقادِ وغيرهَا منْ كلِّ فضيلةٍ أنَّ خيرَها -: القرنُ الأوَّلُ، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، كما ثبتَ ذلكَ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ وجهٍ، وأنَّهم أفضلُ مِنَ الخلفِ في كلِّ فضيلةٍ: منْ علمٍ وعملٍ وإيمانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ وعبادةٍ، وأنَّهم أولى بالبيانِ لكلِّ مُشْكِلٍ. هذا لا يدفعهُ إلَّا منْ كابرَ المعلومَ بالضَّرورةِ منْ دينِ الاسلامِ، وأضلَّهُ الله على علمٍ.
هذا وقدْ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي عليكم زمانٌ إلَّا الذي بعدهُ شرٌّ منهُ، حتَّى تلقوا ربَّكم»[737]. فكيفَ يحدثُ لنا زمانٌ فيهِ الخيرُ في أعظمِ المعلوماتِ وهو معرفةُ الله تعالى؟ هذا لا يكونُ أبدًا.
وما أحسن ما قالَ الشافعيُّ رحمه الله في رسالتهِ: «هم فوقنا في كلِّ علمٍ وعقلٍ ودينٍ وفضلٍ، وكلِّ سببٍ يُنالُ به علمٌ أو يدركُ به هدًى، ورأيهم لنا خيرٌ منْ رأينا لأنفسنا»[738].
وقالَ العلَّامةُ الشنقيطيُّ رحمه الله: قولهم: «إنَّ مذهبَ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبَ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ» فنقول:
أوَّلًا: وصفوا مذهبَ السَّلفِ بأنَّهُ أسلمُ، وهي صيغةُ تفضيلٍ مِنَ السَّلامةِ[739] ومَا كانَ يفوقُ غيرهُ ويفضلهُ في السَّلامةِ فلا شكَّ أنَّهُ أعلمُ منهُ وأحكمُ.
ثانيًا: اعلموا أنَّ المؤولينَ ينطبقُ عليهم بيتُ الشافعيِّ رحمه الله:
رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ ومِنَ البِرِّ ما يَكُونُ عُقُوقًا
وإيضاحُ المقارنةِ: أنَّ منْ كانَ على معتقدِ السَّلفِ الصَّالحِ إذا سَمِعِ مثلًا قولَهُ تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] امتلأ قلبهُ مِنَ الإجلالِ والتَّعظيمِ والإكبارِ لصفةِ ربِّ العالمينَ التي مَدَحَ بها نفسَهُ وأثنى عليهِ بهَا، فجزمَ بأنَّ تلكَ الصِّفةِ التي تمدَّحَ بهَا خالقُ السمواتِ والأرضِ بالغةٌ مِنْ غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينهَا وبينَ صفاتِ الخلقِ.
وبإجلالِ تلكَ الصِّفةِ وتعظيمهَا وحملهَا على أشرفِ المعاني اللائقةِ بكمالِ منْ وَصَفَ بهَا نفسَهُ وجلالهُ، يسهلُ على المؤمنِ السَّلفيِّ أنْ يؤمنَ بتلكَ الصِّفةِ، ويثبتها لله كمَا أثبتهَا الله لنفسهِ على أساسِ التنزيهِ.
فيكونُ أوّلًا: منزِّهًا سالمًا منْ أقذارِ التَّشبيهِ.
وثانيًا: مؤمنًا بالصِّفاتِ، مصدِّقًا بها، على أساسِ التَّنزيهِ. فيكونُ سالمًا منْ أقذارِ التَّعطيلِ.
فيجمعُ بينَ التَّنزيهِ والإيمانِ بالصِّفاتِ على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فمعتقدهُ طريقُ سلامةٍ محقَّقةٍ؛ لأنَّهُ مبنيٌّ على ما تضمنتهُ آيةُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] الآية، مِنَ التَّنزيهِ، والإيمانِ بالصِّفاتِ.
فهوَ تنزيهٌ منْ غيرِ تعطيلٍ، وإيمانٌ منْ غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ.
وكلُ هذا طريقُ سلامةٍ محقَّقةٍ، وعملٌ بالقرآنِ.فهذا هوَ مذهبُ السَّلفِ.
وأمَّا ما يسمُّونهُ مذهبُ الخلفِ فالحاملُ لهم فيهِ على نفيِ الصِّفاتِ وتأويلها: هو قصدهم تنزيهُ الله عنْ مشابهةِ الخلقِ.
ولكنَّهمْ في محاولتهم لهذا التنزيهِ وقعوا في ثلاثِ بلايا، ليستْ واحدةً منها إلَّا وهي أكبرُ منْ أختها:
الأولى: منْ هذهِ البلايا الثلاث: أنَّهم إذا سمعوا قولَ الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] زعموا أنَّ ظاهرَ الاستواءِ في الآيةِ هو مشابهةُ استواءِ المخلوقينَ. فتهجَّموا على ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في محكمِ كتابهِ، وادَّعوا عليهِ أنَّ ظاهرَهُ المتبادر منهُ هو التَّشبيهُ بالمخلوقينَ في استوائهم.
فكأنَّهم يقولونَ لله: هذا الاستواءُ الذي أثنيتَ بهِ على نفسكَ في سبع آياتٍ منْ كتابكَ ظاهرهُ قذرٌ نجسٌ لا يليقُ بكَ لأنَّهُ تشبيهٌ بالمخلوقينَ، ولاَ شيءَ مِنَ الكلامِ أقذرُ وأنجسُ منْ تشبيهِ الخالقِ بخلقِه! سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!
وهذهِ هي البَلِيَّةُ الأولى التي هيَ التَّهجُّمُ على نصوصِ الوحيِ وادِّعاءُ أنَّ ظاهرَها تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، وناهيكَ بهَا بليَّة.
ثمَّ لمَّا تقرَّرتْ هذه البليَّةُ في أذهانهمْ، وتقذَّرتْ قلوبهمْ بأقذارِ التَّشبيهِ، اضطروا بسببها إلى نفيِ صفةِ الاستواءِ فرارًا منْ مشابهةِ الخلقِ التي افتروها على نصوصِ القرآن أنَّها هي ظاهرها.
ونفيُ الصِّفةِ التي أثنى الله بها على نفسِهِ منْ غيرِ استنادٍ إلى كتابٍ أو سنةٍ هو البليَّةُ الثانيةُ التي وقعوا فيها.
فحملوا نصوصَ القرآنِ أوَّلًا على معانٍ غيرُ لائقةٍ بالله، ثمَّ نفوهَا منْ أصلهَا، فرارًا مِنَ المحذورِ الذي زعموا.
والبليَّةُ الثالثةُ: أنَّهمْ يفسِّرونَ الصِّفةَ التي نفوهَا بصفةٍ أخرى، منْ تلقاءِ أنفسهم، منْ غيرِ استنادٍ إلى وحيٍ؛ معْ أنَّ الصِّفةَ التي فسَّرها بها هي بالغةٌ غايةَ التَّشبيهِ بالمخلوقينَ. فيقولون {اسْتَوَى} [طه: 5] ظاهرهُ مشابهةُ استواءِ المخلوقينَ. فمعنى {اسْتَوَى} [طه: 5]: استولى، ويستدلون بقولِ الراجزِ في إطلاقِ الاستواءِ على الاستيلاءِ:
قد استوى بِشْرٌ عَلَى العِراقِ من غير سَيفٍ وَدَمٍ مهراقِ
ولا يدرونَ أنَّهم شبَّهوا استيلاءَ الله على عرشهِ الذي زعموهُ باستيلاءِ «بِشْرِ بنِ مروانَ» على العراقِ!!
فأيُّ تشبيهٍ بصفاتِ المخلوقينَ أكبرُ منْ هذا؟! وهلْ يجوزُ لمسلمٍ أنْ يشبِّهَ صفةَ الله التي هي الاستيلاءُ المزعومُ بصفةِ بشرٍ التي هيَ استيلاؤهُ على العراقِ؟
وصفةُ الاستيلاءِ منْ أوغلِ الصِّفاتِ في التَّشبيهِ بصفاتِ المخلوقينَ، لأنَّ فيها التَّشبيهَ باستيلاءِ مالكِ الحمارِ على حمارهِ، ومالكِ الشَّاةِ على شاتهِ ويدخلُ فيها كلُّ مخلوقٍ قهرَ مخلوقًا واستولى عليه.
وفي هذا منْ أنواعِ التَّشبيه ما لا يحصيهِ إلَّا الله.
فإنْ زعمَ مَنْ شَبَّهَ أولًا، وعطَّلَ ثانيًا، وشبَّه ثالثًا أيضًا، أنَّ الاستيلاءَ المزعومَ منزَّهٌ عنْ مشابهةِ استيلاءِ المخلوقينَ.
قلنا لهُ: نحنُ نسألك ونطلبُ منكَ الجوابَ بإنصافٍ: أيُّهمَا أحقُّ بالتَّنزيهِ عنْ مشابهةِ الخلقِ! الاستواءُ الذي مَدَحَ الله بهِ نفسَهُ في محكمِ كتابهِ وهو في نفسِ القرآنِ الذي يتلى، ولتاليهِ بكلِّ حرفٍ منهُ عشرُ حسنَاتٍ، لأنَّهُ كلامُ الله، أمِ الأحقُّ بالتَّنزيهِ هو الاستيلاءُ الذي جئتمْ بهِ منْ تلقاءِ أنفسكمْ منْ غيرِ استنادٍ إلى وحيِ؟.
ولا شَكَّ أنَّ الجوابَ الحقَّ: أنَّ اللَّفظَ الواردَ في القرآنِ أحقُّ بالتَّنزيهِ والحملِ على أشرفِ المعاني وأكملها، منَ اللَّفظِ الذي جاءَ بهِ معطِّلٌ مِنْ كِيسِهِ الخاص، لا مستندَ لهُ مِنَ الوحيِ!
وبهذهِ الكلماتِ القليلةِ يظهرُ لكمُ: «أنَّ مذهبَ السَّلفِ أسلمُ وأحكمُ وأعلمُ»[740] وأهدى إلى الطريق الأقوم. ومذهبُ الخلفِ - الذي هو التأويلُ - بدعةٌ أحدثها المنتحلونَ وتمسَّكَ بها المبطلونَ[741].
السؤالُ السابعُ
هل التحدُّث بآياتِ الصفاتِ وأحاديثها فيه تلبيسٌ على العامَّةِ وفتنةٌ لهم، وفيه تمزيقُ وحدة الأمَّةِ؟
اعلمْ - بارك الله فيك - بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ ينكرونَ على السلفيينَ التحدُّثَ بأحاديثِ الصِّفاتِ، زاعمينَ أنَّهُ فتنةٌ على العامَّةِ، وفيه مِنَ الإضلالِ وتمزيقِ وحدة الأمَّةِ.
وهذا الكلامُ باطلٌ منْ وجهينِ:
الأولُ:
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو آياتِ الصِّفاتِ ويتكلَّمُ بكلامهِ الذي فيهِ خبرٌ عَنِ الله تعالى وصفاتهِ، وكانَ يغشاهُ عليه الحضريُّ والبدويُّ، فلو كانَ بيانُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ تلبيسًا على العامَّةِ لم يتفوَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ منْ ذلكَ.
و«منْ زعمَ: أنَّ إطلاقَ ما أطلقهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الله عزَّ وجلَّ، في مجالسهِ الشريفةِ، ومجامعهِ المنيفةِ ممنوعٌ لنا، ومنهيٌّ عنه؛ فقدْ أتى بابًا كبيرًا، منْ أبوابِ إساءةِ الأدبِ بالله وبرسوله. ولم يَكُنِ الله ولا رسولهُ، قطٌّ: عاجزينَ عنْ أنْ لا يأتيا بهذه الألفاظِ الموهمةِ: للتَّجسيم والتَّشبيه. بلْ قالا مَا يكونُ صريحًا في التَّنزيهِ والتَّقديسِ.
فهذا الزعمُ - منْ أهلِ التَّأويلِ، والكلامِ -: منْ أبطلِ الباطلاتِ، وأنكرِ المنكراتِ.
ونحنُ إذا تلونَا قولَه سبحانهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص: 4] تلاشَتْ شُبَهُ التمثيلِ والتكييفِ، بحذافيرهَا. ولم يبقَ لشيءٍ مِنَ التجسيمِ والتشبيهِ مَسَاغٌ.
فنحنُ نسبِّحهُ ونقدِّسهُ عنْ جميعِ سماتِ النَّقصِ، والزوالِ. ونثبتُ لهُ ما أثبتهُ لنفسهِ المقدَّسة، ووصفهُ بهِ رسولهُ - فيمَا صحَّ عنهُ، روايةً - وهذا هوَ مختارُ جمهورِ السَّلف، ومشربُ الصالحينَ مِنَ الخلفِ. ومنْ خالفَ ذلكَ: فقدْ خالفَ هذه الشريعةَ، بلِ الشرائعَ كلَّها»[742].
الثاني:
القولُ بأنَّ بيانَ صفاتِ الله تعالى بدونِ تعطيلها وبدونِ تحريفِ نصوصها فيهِ إضلالٌ وتمزيقٌ لوحدةِ الأمَّةِ، قولٌ في غايةِ السفاهةِ والفسادِ، فإنَّ المتكلِّمينَ مِنَ الجهميَّةِ المعطِّلةِ هم الذين مزَّقُوا وحدةَ هذهِ الأمَّةِ، وأتوا بضلالِ التَّعطيلِ وإضلالِ التَّحريفِ.
وأمَّا السَّلفيُّون فهم بحمدِ اللهِ يدعونَ النَّاس إلى ما كان عليه سلفُ هذهِ الأمَّةِ ولا يجمعُ شملُ هذهِ الأمَّة إلَّا بتوحيدِ العقيدةِ وتوحيدِ الصُّفوفِ. وهذا لا يمكنُ إلَّا بالتمسُّكِ بالكتابِ والسنَّةِ وما عليهِ أئمَّةُ هذهِ الأمَّةُ في العقائدِ والأعمالِ[743].
ونحنُ نقولُ: لا مخافةَ على العَامَّةِ منْ فهمِ الاستواءِ فهمًا فاسدًا. فإنَّ كتابَ الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم قدْ تلقتهما الأمَّةُ بالقبولِ والتَّسليمِ ولم يُتَطَرَّقْ إلى أذهانِ أحدٍ منهم هذا المفهومُ الخاطئُ، وإنَّما يُخَافُ على العَّامةِ منْ تأويلاتِ أهلِ الكلامِ ودعاويهم الباطلةِ. الذين يرددون في مجالسهم: «كانَ اللهُ ولا مكان وهو الانَ على ما عليهِ كان» و«إنَّ الله خلقَ العرشَ إظْهارًا لقدْرتهِ ولمْ يتخذه مكانًا لذاتهِ» وأمثال هذا الهذيان الذي هوَ منْ وحيِّ الشَّيطانِ.
السؤالُ الثامنُ
هل آياتُ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه؟
اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ أهلَ الكلامِ جعلوا آياتِ الصفاتِ مِنَ المتشابَهِ التي لا يعلمُ معناها إلَّا الله سبحانه وتعالى.
وهذا افتراءٌ قبيحٌ، وبهتٌ صريحٌ، وكذبٌ شنيعٌ، وتقوُّلٌ فظيعٌ، وضلالٌ وإضْلالٌ. وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ في كتابهِ العزيزِ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا *} [محمد: 24]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *} [ص: 29]، وقال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ *} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء: 82].
فالله سبحانه وتعالى «قدْ أمرَ بتدبُّر القرآنِ مطلقًا، ولم يستثن منهُ شيئًا لا يتدبَّر، ولا قالَ: لا تدبَّروا المتشابه، والتدبُّر بدونِ الفهمِ ممتنعٌ، ولو كانَ مِنَ القرآنِ ما لا يُتَدبَّر لم يعرفْ، فإنَّ الله لم يميِّز المتشابه بحدٍ ظاهرٍ حتَّى يجتنبَ تدبُّرُه»[744].
الثاني:
أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ القرآنَ بأنَّه: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، ووصفهُ بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقالَ تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
فلمَّا أخبرَ سبحانه وتعالى بأنَّ القرآنَ شفاءٌ، وهدىً، ورحمةٌ، ونورٌ، ومبينٌ، ولم يستثنِ منهُ شيئًا دلَّ على أنَّهُ كلَّهُ كذلكَ، وأنَّهُ ممَّا يمكنُ فهمُ معناه، ولو لمْ يمكنْ فهمُ معناه لمْ تتحقَّقْ فيهِ هذهِ الصفاتُ[745].
الثالثُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [يوسف: 2]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [الزخرف: 3].
فبيَّن سبحانهُ أنَّهُ أنزلهُ عربيًّا ليعقلَ، والعقلُ لا يكونُ إلَّا معَ العلمِ بمعانيه[746].
الرابعُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ *} [البقرة: 78].
فالله تعالى قدْ ذَمَّ هؤلاءِ الذينَ لا يعرفونَ الكتابَ إلَّا تلاوةً دونَ فهمِ معانيهِ، كما ذمَّ الذين يحرِّفون الكلمَ عنْ مواضعهِ منْ بعد ما عقلوهُ وهم يعلمونَ، فإنَّه سبحانه وتعالى قالَ عقبَ الآيةِ السابقةِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ *} [البقرة: 79].
فهذا يدلُّ على أنَّ كلا النوعينِ مذمومٌ: الجاهلُ الذي لا يفهمُ معاني النُّصوصِ، والكاذبُ الذي يحرِّفُ الكلمَ عنْ مواضعهِ[747].
والمقصودُ أنَّ الله سبحانه وتعالى ذمَّ منْ لا يعرفُ منْ كتابهِ إلَّا مجرَّد التلاوةِ دونَ فقهٍ ولا فهمٍ لمعانيهِ، وأنَّ ذلكَ منْ خصالِ اليهودِ.
ولذلكَ فإنَّ الله تعالى يقولُ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45 - 46].
وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].
فلو «كان المؤمنون لا يفقهونهُ أيضًا لكانوا مشاركينَ للكفَّارِ والمنافقينَ فيما ذمَّهمُ الله تعالى بهِ»[748].
الخامسُ:
أنَّهُ تعالى ذمَّ منْ لمْ يكنْ حظُّهُ مِنَ السَّماعِ إلَّا سماع الصَّوتِ دونَ فهمِ المعنى واتِّباعهِ، فقالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *} [البقرة: 171]، وقالَ تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا *} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ *} [محمد: 16].
فمنْ جعلَ السَّابقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلةِ الكفَّارِ والمنافقينَ فيما ذمَّهم الله تعالى عليه[749].
السادسُ:
أنَّ الله تعالى قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
ولوْ لمْ يكنِ القرآنُ مفهومًا ومعلومًا لمْ يكنْ كافيًا ولمْ يكنْ برهانًا.
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ومِنَ المحالِ أن يكونَ الكتابُ الذي يخالفهُ صريحُ العقلِ كافيًا، وإنما يكون كافيًا لمنْ قدَّمهُ على كلِّ معقولٍ ورأيٍّ وقياسٍ وذوقٍ، وحقيقةٍ وسياسةٍ، فهذا الكتابُ في حقِّهِ كافٍ لهُ، كما أنَّهُ إنَّما يكونُ رحمةً وذكرى لهُ دونَ غيرهِ، وأمَّا منْ أعرضَ عنهُ أو عارضهُ بآراءِ الرجالِ فليس بكافٍ لهُ ولا هو في حقِّهِ هدًى ولا رحمةً، بلْ هوَ مِنَ الذين آمنوا بالباطلِ وكفروا بالله[750].
السابعُ:
قولُهُ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
فإنَّهُ يدلُّ على أنَّهُ يبيِّنُ للنَّاسِ جميعَ ما نُزِّلَ إليهم فيكونُ جميعُ المنزل مبينًا عنه يمكنُ معرفتهُ وفهمهُ، وقولُهُ تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] يدلُّ على ذلكَ، فإنَّ التفكُّرَ طريقٌ إلى العلمِ وما لا يمكنُ العلمُ بهِ لا يؤمرَ بالتفكُّرِ فيهِ.
الثامنُ:
قولُهُ تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *} [الأعراف: 3]، وقولُهُ تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106].
ومعلومٌ أنَّ اتباعَ ما أمرهم الله تعالى مِنَ الكتاب والحكمة إنَّما يمكنُ بعدَ فهمهِ وتصوُّرِ معناه، ومَا كانَ مِنَ الكلامِ لا يمكنُ أحدًا فهمهُ لمْ يمكن اتباعهُ، بلْ كانَ الذي يسمعهُ كالذي لا يسمعُ إلَّا دعاءً ونداءً، وإنَّما الاتباعُ لمعاني الكلامِ.
التاسعُ:
قولُهُ تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
ومعلومٌ أنَّ حكمَ الله بالكتابِ أو حكمَ الكتابِ بين المختلفين لا يمكنُ إلَّا إذا عرفوا ما حكمَ بهِ مِنَ الكتابِ، وما تضمَّنهُ الكتابُ مِنَ الحكمِ، وذلكَ إنَّما يمكنُ إذا كانَ ممَّا يمكنُ فهمُ معناهُ وتصوُّرُ المرادُ بهِ دونَ ما يمتنعُ ذلكَ منهُ.
العاشرُ:
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
قال المفسِّرونَ: لو جعلهُ قرآنًا أعجميًا لأنكروا ذلكَ، وقالوا: هلَّا بَيَّنْتَ آياتهِ بلغةِ العربِ لنفهمهُ، أقرآنٌ أعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ؟![751].
فقدْ بيَّن سبحانه وتعالى أنَّه لو جعلهُ أعجميًا لأنكروهُ، فجعلهُ عربيًا ليفهمَ معناهُ، وليندفعَ مثلُ هذا القولِ، ومعلومٌ أنَّه لو كان أعجميًا لأمكنهم التَّوصلُ إلى فهمهِ بأنْ يترجمَ لهم مترجمٌ، إمَّا أنْ يسمعَهُ مِنَ الرسولِ ويترجمهُ، أو يحفظهُ لهم أعجميًا ثمَّ يترجمهُ لهم، كما أنَّ مِنَ العجمِ منْ يحفظُ القرآنَ عربيًا ولا يفهمُ، ويُتَرْجَمُ لهُ، وأمَّا إذا كان عربيًا لا يمكنُ أحدًا أنْ يفهمهُ لا الرسولُ ولا المرسلُ إليهم فإنكارُ هذا أعظمُ منْ إنكارِ كونهِ أعجميًا، وإذا كان الله تعالى قدْ بيَّن أنَّه لا يفعلُ الأوَّلَ فهوَ ألَّا يفعل هذا أولى وأحرى.
الحادي عَشَرَ:
أنَّ الله تعالى وصفَ آياتِ القرآنِ بقولهِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وقولُهُ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1].
وما لا يمكن فهمهُ فإنَّهُ لم يُحْكَمْ، ولم يُفَصَّلْ، ولم يبَيَّنْ.
الثاني عَشَرَ:
أنَّ الله مدحَ القرآنَ وبيَّنَ اشتماله على علمهِ، كمَا قالَ سبحانه وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166].
وإذا كانَ كذلكَ دلَّ على أنَّ ما فيهِ منَ العلمِ لمْ يستأثرِ الله تعالى بهِ بلْ أنزلهُ إلى عبادهِ وعلَّمهم إيَّاه، وهوَ منْ علمهِ الذي قالَ فيهِ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وهذا لا يكونُ إلَّا إذا أمكنَ فهمُ معناه، وإلَّا فاللَّفظُ الذي لا يمكنُ فهمُ معناه لا علمَ فيهِ لأحدٍ، ومثلُ هذا قولُهُ تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14].
الثَّالِثُ عَشَرَ:
وأيضًا فالكلامُ إنَّما المقصودُ بهِ الإفهامُ، فإذا لمْ يُقصدْ بهِ ذلكَ كان عبثًا وباطلًا، والله تعالى قدْ نزَّهَ نفسَهُ عنْ فعلِ الباطلِ والعبثِ. فكيفَ يقولُ الباطلَ والعبثَ ويتكلَّمُ بكلامٍ ينزلهُ على خلقهِ لا يريدُ بهِ إفهامهم؟![752].
الرابع عَشَرَ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّى العربَ بالقرآنِ، ولوْ لمْ تكنْ معانيه معلومةً لديهم لمْ يصحَّ أنْ يتحدَّاهم بهِ.
الخامس عَشَرَ:
إنَّ الصَّحابةَ والتَّابِعينَ قد تكلَّموا في معاني آياتِ الصفاتِ بل قدْ فَسَّروا جميعَ القرآنِ وعلِموا معانيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالسَّلفُ مِنَ الصَّحابةِ والتابعينَ وسائرِ الأمَّةِ قدْ تكلَّموا في جميعِ نصوصِ القرآنِ: آياتُ الصفاتِ وغيرهَا، وفسَّروها بما يوافقُ دلالتها وبيانها، ورووا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً توافقُ القرآنَ، وأئمَّةُ الصَّحابةِ في هذا أعظمُ منْ غيرهم»[753].
قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: «والله الذي لا إلَه غيرُه ما أنزلت سورةٌ منْ كتابِ الله إلَّا أنا أعلمُ أينَ أنزلتْ، ولا أنزلتْ آيةٌ منْ كتابِ الله إلَّا أنَا أعلمُ فيما أنزلتْ، ولو أعلمُ أحدًا أعلَمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبلُ لركِبْتُ إليه»[754].
وقال رضي الله عنه: «كُنَّا إذا تَعَلَّمْنَا من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرَ آيات مِنَ القرآنِ لم نتعلَّم مِنَ العشرِ الذي نزلت بعدها حتَّى نعلم ما فيه»[755].
فالصَّحابة رضي الله عنهم نقلوا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يتعلَّمُون منهُ التفسيرَ مَعَ التلاوةِ، ولم يذكرْ أحدٌ منهم عنه قطٌ أنه امتنع من تفسير آية[756].
فمنْ قالَ إنَّ جبريلَ عليه السلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم والصَّحابةَ والتابعينَ وسلفَ الأمَّةِ كانوا يقرءونَ نصوصَ الصِّفاتِ ولا يعرفونَ لها معنًى بلْ معناها ممَّا استأثرَ الله بهِ فقدْ كذبَ على القومِ، والنُّقولُ المتواترةُ عنهم تكذِّب هذا الزعمَ[757].
السَّادس عَشَرَ:
قولُهُ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 5]. فلولاَ أنَّهم عرفوا معنى ما أنزلَ كيفَ عرفوا أنَّه حقٌ أو باطلٌ، وهل يحكمُ على كلامٍ لم يُتَصَوَّر معناه أنَّهُ حقٌّ أو باطلٌ؟[758].
السابعُ عَشَرَ:
قولُهُ تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ *} [الطارق: 13] أي: فاصلٌ يفصلُ بينَ الحقِّ والباطلِ، فكيفَ يكونُ فصلًا إذا لم يكنْ إلى معرفةِ معناه سبيلٌ؟[759].
الثامنُ عَشَرَ:
أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَسَّرَ القرآنَ للذِّكرِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} [القمر: 17]. وتيسيرهُ للذِّكرِ يتضمَّنُ أنواعًا مِنَ التيسيرِ:
إحداها: تيسيرُ ألفاظهِ للحفظِ.
الثاني: تيسيرُ معانيهِ للفهمِ.
الثالث: تيسيرُ أوامرهِ ونواهيهِ للامتثالِ.
ومعلومٌ أنَّه لو كانَ بألفاظٍ لا يفهمهَا المخاطَبُ، لم يكنْ ميسَّرًا لهُ، بلْ كانَ معسَّرًا عليهِ، فهكذا إذا أريدَ مِنَ المخاطَبِ أنْ يفهمَ مِنْ ألفاظهِ ما لا يدلُّ عليهِ مِنَ المعاني، أو يدلُّ على خلافهِ فهذا منْ أشدِّ التعسيرِ، وهوَ منافٍ للتيسيرِ؛ فإنَّه لا شيءَ أعسرُ على الأمَّةِ منْ أنْ يرادَ منهمْ أن يفهموا منْ آياتِ الصِّفاتِ ما لا تدلُ عليهِ، بل تَدلُّ على خلافهِ ويقولُ: اعلموا يا عبادي أنِّي أردتُ منكم أنْ تعلموا أنِّي لستُ فوقَ العالمِ، ولا تحتَهُ، ولا فوقَ عرشي، ولا ترفعُ الأيدي إليَّ ولا يعرجُ إليَّ شيءٌ، ولا ينزلُ منْ عندي شيءٌ منْ قولي: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. ومن قولي: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. ومنْ قولي: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. ومنْ قولي: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. ومنْ قولي: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]. ومنْ قولي: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. ومنْ قولي: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. ومنْ قولي: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. ومنْ قولي: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. ومنْ قولي: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].
فإنَّكم إذا فهمتم منْ هذهِ الألفاظِ حقائقهَا وظواهرهَا فهمتم خلافَ مرادي منها، بلْ مرادي منكم أنْ تفهموا منها ما يدلُّ على خلافِ حقائقهَا وظواهرهَا. فأيُّ تيسيرٍ يكونُ هناكَ وأيُّ تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصلْ بذلكَ، ومعـلومٌ أنَّ خطابَ الرجلِ بما لا يفهمهُ إلَّا بترجمةٍ أيسرُ عليهِ منْ خطابهِ بما كلِّفَ أنْ يفهمَ منهُ خلافَ موضوعهِ وحقيقتهِ بكثيرٍ. فإنَّ تيسيرَ القرآنِ منافٍ لطريقةِ النُّفاةِ المحرِّفِينَ أعظمُ منافاةٍ[760]. الذينَ يقولونَ إنَّ آياتِ الصِّفاتِ ظاهرهَا التَّشْبيهُ فنفوِّضُ أو نؤوِّلُ، كمَا قالَ قائلهم:
وكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تَنْزِيها
فمنْ تدبَّرَ القرآنَ، وعرفَ مقصودَ القرآنِ: تبيَّن لهُ المرادُ، وعرفَ الهدى والرسالةَ، وعرفَ السَّدادَ مِنَ الانحرافِ والاعوجاجِ[761]، وتبيَّنَ لهُ بُطْلانُ قولِ منْ يقولُ: إنَّ آياتِ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه.
والحَقُّ أَبْلَجُ لا تَزِيغُ سَبِيلُهُ والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابِ[762]
قبلَ البدءِ بذكرِ الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ النزولِ والردِّ عليها أذكرُ كلامًا نفيسًا يزيلُ كثيرًا منَ الشُّبهاتِ في هذا البابِ وغيرهِ.
اعلمْ رحمكَ اللهُ بأنَّ صفاتِ الله لا يتوهَّمُ فيها شيءٌ منْ خصائصِ المخلوقينَ لا في لفظهَا ولا في ثبوتِ معناهَا. فإثباتهَا للرَّبِّ تعالى لا محذورَ فيهِ بوجهٍ، بلْ تثبتُ لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، ولا يشابههم، فمنْ نفاها عنهُ لإطلاقهَا على المخلوقِ ألحدَ في أسمائهِ، وجحدَ صفاتِ كمالهِ. ومنْ أثبتهَا على وجهٍ يماثلُ فيها خلقهُ فقدْ شبَّههُ بخلقهِ، ومنْ شبَّهَ الله بخلقهِ فقدْ كفرَ، ومنْ أثبتهَا لهُ على وجهٍ لا يماثلُ فيها خلقهُ، بلْ كما يليقُ بجلالهِ وعظمتهِ فقد برىءَ من فرثِ التَّشبيهِ ودمِ التَّعطيلِ، وهذا طريقُ أهلِ السنَّةِ.
فما لزمَ الصفَّة لإضافتها إلى العبدِ وجبَ نفيهُ عَنِ الله كما يلزمُ حياةُ العبدِ منَ النَّومِ والسِّنةِ والحاجةِ إلى الغذاءِ والمرضِ والموتِ، وكذلكَ علمهُ محفوفٌ بنقصينِ: جهلٌ سابقٌ، ونسيانٌ لاحقٌ؛ وكذلكَ ما يلزمُ إرادتهُ عنْ حركةِ نفسهِ في جلبِ ما ينتفعُ بهِ ودفعِ ما يتضررُ بهِ، وكذلكَ ما يلزمُ علوُّهُ من احتياجهِ إلى ما هو عالٍ عليهِ وكونهِ محمولًا بهِ مفتقرًا إليهِ محاطًا بهِ، كلُّ هذا يجبُ نفيهُ عنِ القدُّوسِ السَّلامِ - تباركَ وتعالى ـ.
فإذا أحطتَ بهذهِ القاعدةِ خبرًا وعقلتهَا كما ينبغي خلصتَ مِنَ الآفتينِ اللتينِ هما أصلُ بلاءِ المتكلِّمينَ، آفةُ التَّعطيلِ وآفةُ التَّشبيهِ، فإنَّكَ إذا وفَّيتَ هذا المقامَ حقَّهُ أثبتَ لله الأسماءَ الحسنى والصفِّاتِ العلى حقيقةً، فخلصتَ مِنَ التَّعطيلِ ونفيتَ عنهَا خصائصَ المخلوقينَ ومشابهتهم فخلصتَ مِنَ التَّشبيهِ.
فعليكَ بمراعاةِ هذا الأصلِ والاعتصامِ بهِ، واجعلهُ جُنَّتَكَ التي ترجعُ إليهَا في كلِّ ما يطلقُ على الرَّبِّ تعالى وعلى العبدِ[648].
وبعدَ هذا الكلامِ النَّفيسِ نذكرُ شبهاتِ القومِ ونأتي عليهَا مِنَ القواعدِ بإذنِ العليِّ الأعلى الكبيرِ المتعالِ سبحانه وتعالى.
الشُّبهةُ الأولى
الليلُ ينتقلُ منْ مكانٍ إلى آخرَ فثلثُ الليلِ مثلًا في الشَّرقِ ينتقلُ حتَّى يكونَ في الغربِ، ويختلفُ الزمنُ فكيفَ نوفِّقُ بينَ هذا وبينَ تقييدِ نزولِ الله عزَّ وجلَّ بثلثِ الليلِ؟
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: ومعلومٌ بالضَّرورةِ منْ دينِ الإسلامِ قبحُ هذا الاعتراضِ، وأنَّ الرَّسولَ صلى الله عليه وسلم وخلفاءَهُ الرَّاشدينَ لَوْ سمعوا مَنْ يعترضُ بهِ لما ناظروهُ، بلْ بادروا إلى عقوبتهِ وإلحاقهِ بزمرةِ المخالفينَ المنافقينَ المكذِّبينَ[649].
وقال شيخُ الإسلام۴: وهذا إنما قالوهُ لتخيلهم من نزولهِ ما يتخيلونهُ من نزولِ أحدهم، وهذا عينُ التمثيل، ثمَّ إنهم بعدَ ذلك جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم، الذي لا يمكنهُ أن يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عن جمعهِ، وقد جاءتُ الأحاديثُ بأنَّهُ يحاسبُ خلقهُ يومَ القيامة كلٌّ منهم يراهُ مخليًا بهِ يتجلَّى ويناجيهِ، لا يرى أنهُ متخليًّا لغيرهِ ولا مخاطبًا لغيرهِ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ العَبدُ: الحَمدُ لله رب العالمين يقولُ اللهُ: حمدنِي عبدي، وإذا قال: الرحمن الرحيم، قال اللهُ: أثنى عليَّ عبدي»[650].
فكلٌّ منَ الناسِ يناجيهِ، واللهُ تعالى يقولُ لكلٍّ منهم ذلكَ، ولا يشغلهُ شأنٌ عن شأنٍ[651].
وقَالَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّة رحمه الله: والليلُ يختلفُ فيكونُ ثلثهُ بالمشرقِ قبلَ أنْ يكونَ ثلثهُ بالمغربِ، ونزولهُ الذي أخبرَ بهِ رسولهُ صلى الله عليه وسلم إلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، وإلى السَّماءِ هؤلاءِ في ثلثِ ليلهم، لا يشغلهُ شأنٌ عنْ شأنٍ، وكذلكَ قربُهُ مِنَ الدَّاعي المتقرِّبِ إليهِ والسَّاجدِ لكلِّ واحدٍ بحسبهِ حيثُ كانَ وأينَ كانَ. والرَّجلانِ يسجدانِ في موضعٍ واحدٍ ولكلِّ واحدٍ قربٌ يخصُّهُ لا يشركهُ فيهِ الآخرُ.
والنُّصوصُ الواردةُ فيها الهدى والشِّفاءُ، والذي بلَّغها بلاغًا مبينًا، هو أعلمُ الخلقِ بربِّهِ وأنصحهم لخلقهِ وأحسنهم بيانًا، وأعظمُ بلاغًا، فلا يمكنُ أحدٌ أنْ يعلمَ ويقولَ مثلَ ما علمهُ الرسول صلى الله عليه وسلم وقالهُ. وكلُّ منْ منَّ الله عليهِ ببصيرةٍ في قلبهِ تكونُ معهُ معرفةٌ بهذا، قالَ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 6]. وقال في ضدِّهم: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ *} [الأنعام: 39][652].
وقال العلَّامةُ ابنُ عثيمين رحمه الله: وأوردَ المتأخرونَ الذينَ عرفوا أنَّ الأرضَ كرويةٌ وأنَّ الشمسَ تدورُ عَلَى الأرضِ إشكالًا؛ قالوا: كيفَ ينزلُ فِي ثلثِ الليلِ؟! وثلثُ الليلِ إِذَا انتقلَ عَنِ المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، ذهبَ إلى أوروبا وما قاربها؟! أفيكونُ نازلًا دائمًا؟![653].
فنقولُ: إنَّهُ لا إشكالَ في ذلكَ بحمدِ الله تعالى، فإنَّ هذا الحديثَ منْ صفاتِ الله تعالى الفعليةِ، والواجبُ علينا نحوَ صفاتِ الله تعالى سواءٌ كانت ذاتيةً كالوجهِ واليدينِ، أم معنويةً كالحياةِ والعلمِ، أمْ فعليةً كالاستواءِ على العرشِ والنزولِ إلى السَّماء الدُّنيا، فالواجبُ علينا نحوهَا مَا يلي:
أ - الإيمانُ بهَا على مَا جاءتْ بهِ النُّصوصُ مِنَ المعاني والحقائقِ اللائقةِ بالله تعالى.
ب - الكفُّ عنْ محاولةِ تكييفها تصوُّرًا في الذهنِ، أو تعبيرًا في النُّطقِ؛ لأنَّ ذلكَ مِنَ القولِ على الله تعالى بلا علمٍ، وقدْ حرَّمهُ الله تعالى في قولهِ: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ *} [الأعراف: 33]، وفي قولهِ تعالى: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولًا *} [الإسراء: 36].
ولأنَّ الله تعالى أعظمُ وأجَلُّ مِنْ أنْ يدركَ المخلوقُ كنهَ صفاتهِ وكيفيتهَا، ولأنَّ الشيءَ لا يمكنُ إدراكهُ إلَّا بمشاهدتهِ أو مشاهدةِ نظيرهِ أو الخبرِ الصَّادقِ عنهُ، وكلُّ ذلكَ منتفٍ بالنِّسبةِ لكيفيةِ صفاتِ الله تعالى.
ج - الكفُّ عنْ تمثيلها بصفاتِ المخلوقينَ سواءٌ كانَ ذلكَ تصوُّرًا في الذِّهنِ أم تعبيرًا في النُّطقِ، لقولهِ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فإذا علمتَ هذا الواجبَ نحوَ صفاتِ الله تعالى، لمْ يبقَ إشكالٌ في حديثِ النزولِ، ولا غيرهِ مِنْ صفاتِ الله تعالى، وذلكَ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبرَ أمَّتهُ أنَّ الله تعالى ينزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ، مخاطبًا بذلكَ جميعَ أمَّتهِ في مشارقِ الأرضِ ومغاربهَا، وخبرهُ هذا منْ علمِ الغيبِ الذي أظهرهُ الله تعالى عليهِ، والذي أظهرهُ عليه - وهو الله تعالى - عالمٌ بتغيُّرِ الزمنِ على الأرضِ، وأنَّ ثلثَ الليلِ عندَ قومٍ يكونُ نصفَ النَّهارِ عندَ آخرينَ مثلًا.
وإذا كانَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم يخاطبُ الأمَّةَ جميعًا بهذا الحديثِ الذي خصَّصَ فيهِ نزولَ الله تباركَ وتعالى بثلثِ الليلِ الآخرِ فإنَّه يكونُ عامًّا لجميعِ الأمَّةِ، فمنْ كانوا في الثلثِ الآخرِ مِنَ الليلِ تحقَّقَ عندهم النزولُ الإلهيُّ، وقلنا لهم: هذا وقتُ نزولِ الله تعالى بالنِّسبةِ إليكم، ومنْ لم يكونوا في الوقتِ فليسَ ثمَّ نزولُ الله تعالى بالنِّسبةِ إليهم، والنبيُّ صلى الله عليه وسلم حدَّدَ نزولَ الله تعالى إلى السَّماء الدُّنيا بوقتٍ خاصٍّ، فمتَّى كانَ ذلكَ الوقتُ كانَ النزولُ ومتى انتهى انتهى النزولُ، وليسَ في ذلكَ أيُّ إشكالٍ، وهذا وإنْ كانَ الذِّهنُ قدْ لا يتصوَّرهُ بالنسبةِ إلى نزولِ المخلوقِ، لكن نزولَ الله تعالى ليسَ كنزولِ خلقهِ حتَّى يقاسُ به ويجعل ما كانَ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى المخلوقِ مستحيلًا بالنِّسبةِ إلى الخالقِ.
فمثلًا: إذا طلعَ الفجرُ بالنِّسبةِ إلينا وابتدأَ ثلثُ الليلِ بالنِّسبةِ إلى منْ كانوا غربًا قلنا: إنَّ وقتَ النزولِ الإلهيِّ بالنِّسبةِ إلينا قَدِ انتهى، وبالنِّسبةِ إلى أولئكَ قَدِ ابتدأَ، وهذا في غايةِ الإمكانِ بالنِّسبةِ إلى صفاتِ الله تعالى، فإنَّ الله تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][654].
وقالَ الشَّيْخُ محمَّدُ بنُ خليل الهرَّاس رحمه الله: «المعطِّلةُ يشككونَ في حديثِ النزولِ، ويقولونَ: إنَّ علمَ الهيئةِ أثبتَ أنَّ الأرضَ في دورانها حولَ الشَّمسِ[655] - وحولَ نفسهَا - تحدثُ مشارقَ ومغاربَ في كلِّ لحظةٍ، ومعنى هذا أنَّهُ في كلِّ لحظةٍ يكونُ هناكَ ثلثُ ليلٍ آخر على سطحِ الأرضِ، وهذا يقتضي أنْ يكونَ الله عزَّ وجلَّ صاعدًا نازلًا في كلِّ لحظةٍ، ونحنُ نقولُ لهؤلاءِ: إنَّ الخبرَ قدْ صحَّ رغمَ أنوفكمْ، وكلامكمْ هذا ليسَ طعنًا في صحَّةِ الخبرِ، ولكنَّهُ تجهيلٌ للرسولِ صلى الله عليه وسلم وإلحادٌ في حديثهِ»[656].
وهذا القولُ هو ما يجبُ أنْ يكونَ في نفسِ كلِّ أحدٍ، وهو أنْ لا يتشرَّبَ بدعَ المبتدعينَ وتضليلاتهم، بل يعتصمُ بالكتابِ والسنَّةِ، ويؤمنُ بما جاءَ عَنِ الله وعَنْ رسولهِ صلى الله عليه وسلم ممَّا صحَّ عنهُ، وستكونُ هذهِ الخيالاتُ والوساوسُ التي يلقونها، أوهنَ عندهُ منْ بيتِ العنكبوتِ، وإنْ لم يعرفِ الردَّ على كلامهمْ بالتَّفصيلِ، ويكونُ قائلًا بلسانِ حالهِ ومقالهِ: آمنتُ بما جاءَ عَنِ الله على مرادِ الله، وبما جاءَ عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم على مرادِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجدهُ في عقلي منْ وساوسَ أرمي بهِ عرضَ الحائطِ ولا أبالي. فالله تعالى أعلمُ بنفسهِ منْ غيرهِ، ورسولهُ أعلمُ بربِّهِ ممَّا سواهُ، وأخشاهم لهُ، وأفصحهمْ وأبلغهمْ وأعظمهمْ بيانًا للمعنى الذي يريدُ أن يعلِّمهم إيَّاهُ. فإذا قلنا: كلامُهُ لا بدَّ منْ صرفهِ عنْ ظاهرهِ لكنَّا قدْ طعنَّا إمَّا في نصحهِ وحرصهِ على أمَّتهِ، وإمَّا في بيانهِ وفصاحتهِ، وإمَّا في علمهِ بربِّه، وكلٌّ منها باطلٌ وكافٍ في الطعنِ فيهِ صلى الله عليه وسلم، حاشاهُ منْ ذلكَ.
واللهُ تعالى يثبِّتنا على الحقِّ ويعصمنَا مِنَ الزيغِ والبدعِ والردِّ على رسولِ الله صلى الله عليه وسلم إلى أنْ نلقاهُ إنَّه هو البرُّ الرَّحيم[657].
الشبهةُ الثانيةُ
قالَ الرازيُّ: «إنْ كانَ المقصودُ من النزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا أنْ يسمعَ نداؤهُ، فهذا المقصودُ ما حصلَ، وإنْ كانَ المقصودُ مجرَّدَ النِّداءِ، سواءٌ سمعناهُ أو لمْ نسمعهُ، فهذا ممَّا لا حاجةَ فيهِ إلى النزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا، بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على العرشِ، ومثالهُ: أنْ يريدَ مَنْ في المشرقِ إسماعَ منْ في المغربِ ومناداتهِ، فيتقدَّمُ إلى جهةِ المغربِ بأقدامٍ معدودةٍ، ثمَّ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّهُ لا يسمعهُ البتةَ، فههنا تكونُ تلكَ الخطواتُ عملًا باطلًا، وعبثًا فاسدًا، فيكونُ كفعلِ المجانينَ، فعلمنَا أنَّ ذلكَ غيرُ لائقٍ بحكمةِ الله تعالى»[658].
إنَّ هذا الكلامَ تلبيسٌ على العوامِ، وتمويهٌ على الجهَّالِ، وكذبٌ ظاهرٌ.
والردُّ عليهِ منْ وجوهٍ.
الوجهُ الأوَّلُ:
هذا الكلامُ يعتبرُ مصادمةٌ صريحةٌ لقولِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم واعتراضٌ واضحٌ عليهِ، فإنَّهُ هو الذي قالَ: «ينزلُ ربُّنا - تبارك وتعالى - إلى سماءِ الدُّنيا كلَّ ليلةٍ ويقولُ: مَنْ يدعُوني فأستجيبَ لهُ، منْ يسألني فأعطيهُ، منْ يستغفرُني فأغفرَ لهُ».
وكلُّ منْ عارضَ نصوصَ الأنبياءِ بقياسِهِ ورأيِهِ فهوَ منْ خلفاءِ الشَّيطانِ وأتباعِهِ فنعوذُ باللهِ مِنَ الخِذْلانِ، نسألُهُ التَّوفيقَ والعصمةَ منْ هذا البلاءِ الذي ما رُميَ العبدُ بشرٍّ منهُ، وأنْ يَلْقَى الله بذنوبِ الخلائقِ كلِّها ما خلا الإشراكَ بهِ أسلمُ لهُ منْ أنْ يلقى اللهَ وقدْ عَارَضَ نصوصَ أنبيائِهِ برأْيِهِ ورأيِ بني جنسِهِ. وهلْ طردَ الله تعالى إبليسَ ولعنهُ وأحلَّ عليه سخطَهُ وغضبَهُ إلَّا حيثُ عَارضَ النَّصَّ بالرأيِ والقياسِ ثمَّ قدَّمهُ عليهِ؟ واللهُ يعلمُ أن شُبَهَ عدوِّ الله مَعَ كونها داحضةً باطلةً أقوى منْ كثيرٍ منْ شُبَهِ المعارضينَ لنصوصِ الأنبياءِ بآرائهم وعقولِهم، فالعالمُ يَتَدَبَّرُ سِرَّ تكريرِ الله تعالى لهذهِ القصّةِ مرَّةً بعدَ مرَّةٍ، وليحذرْ أنْ يكونَ لهُ نصيبٌ منْ هذا الرأيِ والقياسِ وهوَ لا يشعرُ[659].
الثاني:
قولُهُ: «إنْ كانَ المقصودُ مِنَ النُّزولِ مِنَ العرشِ إلى السَّماءِ الدُّنيا أنْ يسمعَ نداؤهُ، فهذا المقصودُ ما حصلَ».
فيقالُ: لو كانَ ذلكَ هوَ المقصودُ لسمعناهُ، فإنَّهُ تعالى على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ وإنَّما المقصودُ مِنَ النِّداءِ حكمٌ عظيمةٌ يعلمها اللهُ - جلَّ وعلا - ونحنُ وإنْ لمْ نسمعْ كلامَ الله تعالى هذا بآذاننا، إلَّا أنَّا آمنَّا بذلكَ حتَّى لكأنَّ القائمَ في ذلكَ الوقتِ - الثلثُ الأخيرُ - كأنَّهُ يسمعُ أنَّهُ تعالى ينادي بذلكَ النِّداءِ، وذلكَ لعلمنَا أنَّهُ صلى الله عليه وسلم لا ينطقُ عَنِ الهوى، إنْ هوَ إلَّا وحيٌ يوحى، وهذا الخبرُ قدْ تواترَ عنهُ صلى الله عليه وسلم، ومِنَ الحكمِ التي نعلمهَا منْ هذا النِّداءِ العظيمِ: هوَ إقبالُ العبدِ بكليَّتهِ على ربِّه في هذا الوقتِ، والإلحاحُ عليهِ في الدعاءِ، والشعورُ بقربهِ وفضلهِ، فيجدُ قائمُ الليلِ مِنْ حلاوةَ المناجاةِ، وطيبِ الذِّكرِ واليقينِ بإجابةِ الدُّعاءِ مَا لا يجدهُ في غيرِ هذا الوقتِ، يعلمُ ذلكَ ضرورةً قُوَّامُ الليلِ، ولذلكَ فإنَّ قُوَّامَ الليلِ يكثرونَ مِنَ الاستغفارِ والذِّكرِ والدُّعاءِ في وقتِ السَّحرِ أشدَّ ممَّا قبلهُ، لعلمهمْ أنَّ وقتَ النزولِ يمتدُّ إلى طلوعِ الفجرِ، ولذلكَ ينتظرُ عبادُ الرحمنِ تلكَ السَّاعاتِ القليلةِ بفارغِ الصبرِ.
الثالثُ:
أنَّهُ مِنْ عادةِ الملوكِ الكرماءِ، والسَّادةِ الرُّحماءِ، إذا أرادوا أنْ يكرموا أهلَ بلدٍ، أنْ يحلُّوا عليهم قريبًا منْ بلادهمْ، أو في ديارِهِمْ، ليكرموهم بما يريدونَ، ويَسْمَعُوا حاجاتِهم، ويلبُّوا رغباتِهمْ، ولوْ عرضنَا على العقلِ مَلِكَينِ أرادا أنْ يكرما أهلَ بلدٍ، أحَدهمَا جاءَ إلى أهلِ هذا البلدِ بنفسهِ وسمِعَ حاجاتهمْ، وأكرمهمْ في بلادهمْ، ولبَّى طلباتهم، والآخرُ أرسلَ أحدَ وزرائهِ أوْ أرسلَ رسالةً مَعَ أحدِ جنودهِ، بما يريدُ أنْ يكرمهم بهِ، لقطعَ العقلُ بأنَّ الأوَّلَ أكرمُ وأجَلُّ وأعظمُ في الإكرامِ، ومِنَ المعلومِ أنَّ كلَّ كمالٍ في المخلوقِ لا نقصَ فيهِ بوجهٍ مِنَ الوجوهِ فالخالقُ أولى بهِ، وواهبُ الكمالِ أحقُّ بهِ، فالرَّبُّ تعالى، ينزلُ بنفسهِ إلى أدنى سماءٍ وهي السَّماءُ الدُّنيا، وهوَ فوقَ عرشهِ، وهي أقربُ السَّمواتِ إلى قُوَّامِ الليلِ، ويقولُ: «لا أسألُ عنْ عبادي أحدًا غيري»، فهلْ هذا إلَّا عينُ الكمالِ، مع أنَّهُ تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فمَا أجهلَ الإنسانَ بربِّهِ، وبكرمهِ، وبعظمِ فضلهِ، فللهِ الحمدُ كمَا ينبغي لجلالِ وجههِ وعظيمِ سلطانهِ.
وبهذا يعلم أنَّ قولَهُ: بلْ كانَ يمكنهُ أنْ ينادينا وهو على عرشهِ، سوءُ أدبٍ مَعَ الله تعالى.
الرابعُ:
أنَّ هؤلاءِ المعطِّلةِ كلّهم أنكروا أنْ يكونَ لله تعالى كلامٌ بحرفٍ وصوتٍ! فكيفَ يمكنُ لهم أنْ يسمعوا نداءَ الله تعالى؟! وكيفَ يقرعُ صوتَ الله تعالى أسماعهم؟! لأنَّهم قائلونَ ببدعةِ الكلام النفسيِّ الذي ليس بحرفٍ ولا بصوتٍ فهم أبشعُ حالًا وأشنعُ بدعةً في بابِ تعطيلِ صفةِ الكلامِ من الجهمِيَّةِ الأولى؛ لأنَّ الجهميَّةَ الأولى كانوا يقولونَ ببدعةِ خلقِ القرآنِ فقطْ، وأمَّا هؤلاءِ المعطِّلةِ فهمْ يقولونَ مَعَ القولِ ببدعةِ خلقِ القرآنِ، ببدعةِ القولِ بالكلامِ النفسيِّ. فخرقوا بذلكَ إجماعَ أهلِ السنَّةِ، وأتوا بما لا يقرُّه عقلٌ صريحٌ، ولا نقلٌ صحيح، ولا لغةٌ، ولا عرفٌ ولا إجماعٌ.
الخامسُ:
أنَّ هؤلاءِ المعطِّلة لكثيرٍ مِنَ الصِّفاتِ ولا سيَّما صفةَ النزولِ، قد أوَّلُوا حديثَ النزولِ وحرَّفوه إلى: نزولِ الملكِ، فيقولونَ: إنَّ الله لا ينزلُ بنفسهِ، بلْ ينزلُ ملكٌ مِنَ الملائكةِ بأمرهِ، فينادي هذا الملكُ ويقولُ: «منْ يدعوني..، منْ يسألني...، منْ يستغفرني...».
أقولُ: إذا كانَ الأمرُ كذلكَ، وأنَّ الملكَ ينزلُ وينادي فهلْ أهلُ التأويلِ سمعوا نداءَ هذا الملكِ؟!
وهل طرقَ صوتُ هذا الملكِ الذي ينزلُ وينادي أسماعَهم؟!
وإذا لم يسمعوا نداءَ هذا الملكِ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولِ هذا الملكِ وندائهِ؟!
ونحنُ نقلبُ كلامهم عليهم ونقولُ لهم: وإذا كانَ نزولُ هذا الملكِ مِنَ السَّماءِ الدنيا ليسمعنَا نداءهُ، فهذا الملكُ لم يسمعنا نداءهُ وصوتهُ، فأيُّ فائدةٍ منْ نزولهِ.
ولقدْ كانَ يمكنُ هذا الملكُ أنْ ينادينا وهو في السَّماءِ..، وهل هذا إلَّا مثلُ منْ يريدُ - وهو بالمشرقِ - إسماعَ شخصٍ في المغربِ، فتقدَّمَ إلى المغربِ بخطواتٍ معدودةٍ، وأخذَ يناديهِ، وهو يعلمُ أنَّه لا يسمعُ نداءهُ، فيكونُ نقلهُ الأقدامِ عَمَلًا باطلًا، وسَعْيهُ نحوَ المغربِ عبثًا صرفًا، لا فائدةَ فيهِ، وكيفَ يستقِّرُ مثلُ هذا في قلبِ عاقلٍ؟[660].
وقدْ سدَّ هؤلاءِ المؤوِّلةُ على النَّاسِ طريقَ معرفةِ ربِّهم عزَّ وجلّ، فحرموهمْ منْ خيرٍ عظيمٍ، بلْ منْ أعظمِ عَلَمٍ في الوجودِ، فاللهُ الموعدُ.
الشبهةُ الثالثةُ
النزولُ نقلةٌ والنقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيلزمها لوازم تمتنعُ في حقِّ الله تعالى.
لا تغترَّ أيُّها النَّاظرُ بهذهِ التلفيقاتِ المزوَّقةِ، والكلماتِ المدبَّجة، والعباراتِ المبهرجةِ. فإنَّها كلماتٌ خاليةٌ مِنَ التَّحقيقِ عاريةٌ مِنَ التَّوفيقِ.
والردُّ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأوَّل:
نقولُ: هذا جدالٌ بالباطلِ لا يرتضيهِ مَنْ هو عارفٌ بكيفيَّةِ الاستدلالاتِ، وعالمٌ بمداركِ الشَّرعِ والمدلولاتِ، «وليسَ بمانعٍ منَ القولِ بحقيقةِ النزولِ!!
هل أنتمْ أعلمُ بما يستحقُّه الله عزَّ وجلَّ منْ أصحابِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم؟!
فليسَ إجلالنا لله كإجْلالِ الصَّحابةِ ولا قريبًا منهُ.
وليسَ حرصنَا على العلمِ بصفاتِ الله كحرصِ الصَّحابةِ، وهم ما قالوا هذه الاحتمالاتِ أبدًا، قالوا: سمعنا وآمنَّا وقبلنا وصدَّقنا.
وأنتمْ أيُّها الخالفونَ المخالفونَ تأتونَ الآنَ وتجادلونَ بالباطلِ وتقولونَ: كيفَ؟! وكيفَ؟!»[661].
الوجهُ الثاني:
إنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم أعلمُ الخلقِ بالحقِّ، وأنصحُ الخلقِ للخلقِ، وأفصحُ الخلقِ في بيانِ الحقِّ، وأحْرصُ الخلقِ على هدايةِ الخلقِ، فما بيَّنهُ منْ أسماءِ اللهِ وصفاتهِ هو الغايةُ في هذا البابِ «فإذا كانَ كذلكَ كانَ المتَحذْلِقُ والمنكِرُ عَلَيهِ مِنْ أضَلِّ النَّاسِ، وأجهلهمْ وأسوَئهمْ أدبًا، بل يجبُ تأديبهُ وتعزيرهُ، ويجبُ أنْ يصانَ كلامُ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عَنِ الظنونِ الباطلةِ، والاعتقاداتِ الفاسدةِ»[662].
الوجهُ الثالثُ:
ليسَ فِي القولِ بلازمِ النزولِ محذورٌ البتَّةَ، وَلاَ يستلزمُ ذلكَ نقصًا وَلاَ سلبَ كمالٍ، بلْ هوَ الكمالُ نفسُهُ.وهذهِ الأفعالُ كمالٌ ومدحٌ، فهي حقٌّ دالٌّ عليهِ النَّقلُ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ.
وقولنا: إنَّه نزولٌ لا محذورَ فيهِ، فإنَّه ليسَ كانتقالِ الأجسامِ منْ مكانٍ إلى مكانٍ كَمَا قلتم: إنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وحياتَهُ وقدرتَهُ وإرادتَهُ ليستْ كصفاتِ الأجسامِ، فليسَ كمثلهِ شيءٌ فِي ذاتهِ وَلاَ فِي صفاتهِ وَلاَ فِي أفعالهِ.
ونحنُ لم نتقدَّم بينَ يديِّ الله ورسولهِ، بلْ أثبتنا لله ما أثبتهُ لنفسهِ وأثبتهُ لهُ رسولُه صلى الله عليه وسلم. فألزمتم أنتم منْ أثبتَ ذلكَ القولَ بالانتقالِ، ومعلومٌ أنَّ هذا الإلزامَ إنَّما هو إلزامٌ لله ورسولهِ، فإنَّا لمْ نتعدَّ ما وصفَ بهِ نفسهُ، فكأنَّكمْ قلتمْ: منْ أثبتَ لهُ نزولًا لزمهُ وصفهُ بالانتقالِ، والرسولُ صلى الله عليه وسلم هوَ الذي أثبتَ ذلكَ لله فهوَ حقٌّ بلا ريبٍ.
فكانَ جوابنا: إنَّ الانتقالَ إنْ لزمَ منْ إثباتِ ما أثبتهُ الله تعالى ورسولُه صلى الله عليه وسلم، فلا بدَّ من إثباتهِ ضرورةً، إذْ لازمُ الحقِّ حقٌّ، وإنْ لم يكنْ ذلكَ لازمًا لهُ، فأنتم معترضونَ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم كاذبونَ عليهِ، متقدِّمونَ بينَ يديهِ، فبطلَ إلزامكم.
قال ابنُ رجبٍ رحمه الله: لا نسلِّمُ لزومهُ؛ فإنَّ نزولَهُ ليسَ كنزولِ المخلوقينَ، ولهذا نقلَ عنْ جماعةٍ من الأئمَّةِ: أنَّهُ ينزلُ، ولا يخلو منهُ العرشُ[663].
وقالَ الحافظُ الذهبيُّ رحمه الله: الصَّوابُ في حديثِ النزولِ ونحوه ما قالهُ مالكٌ وأقرانُه يمرُّ كمَا جاءَ بلا كيفيَّةٍ، ولازمُ الحقِّ حقٌّ، ونفيُ الانتقالِ وإثباتُهُ عبارةٌ محدثةٌ، فإنْ ثبتَتْ في الأثرِ رويناهَا ونطقنا بهَا، وإنْ نفيتْ في الأثرِ نطقنا بالنَّفيِ، وإلَّا لزمنا السُّكوتَ وآمنَّا بما ثبتَ في الكتابِ والسنَّةِ على مقتضاه[664].
وقالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: والأحسنُ في هذا البابِ مراعاةُ ألفاظِ النُّصوصِ. فالألفاظُ التي جاءَ بها الكتابُ والسنَّةُ في الإثباتِ تثبتُ، والتي جاءتْ بالنَّفيِ تنفى. والألفاظُ المجملةُ كلفظِ «الحركةِ» و«النزولِ» و«الانتقالِ» يجبُ أنْ يقالَ فيهَا: أنَّهُ منزَّهُ عنْ مماثلةِ المخلوقينَ منْ كلِّ وجهٍ، لا يماثلُ المخلوقَ لا في نزولٍ، ولا في حركةٍ، ولا انتقالٍ ولا زوالٍ، ولا غيرِ ذلكَ[665]. وهذه سبيلُ مَنِ اعتصمَ بالعروةِ الوثقى[666].
الوجهُ الرابعُ:
يقالُ لهم: ربُّ العالمينَ إمَّا أنْ يقبلَ الاتصافَ بالإتيانِ والمجيءِ والنزولِ وجنسِ الحركةِ، وإمَّا أنْ لا يقبلهُ؛ فإنْ لمْ يقبلْهُ كانتِ الأجسامُ التي تقبلُ الحركةَ ولم تتحرَّكْ أكملَ منهُ؛ وإنْ قبلَ ذلكَ ولمْ يفعلهُ كانَ ما يتحرَّكُ أكملَ منهُ؛ فإنَّ الحركةَ كمالٌ للمتحرِّك، ومعلومٌ أنَّ مَنْ يمكنهُ أنْ يتحرَّكَ بنفسهِ أكملُ ممَّنْ لا يمكنهُ التحرُّكُ، وما يقبلُ الحركةَ أكملُ ممَّنْ لا يقبلهَا[667].
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: «ومنْ نزَّههُ عنْ نزولهِ كلَّ ليلةٍ إلى سماءِ الدنيا، ودنوهِ عشيةَ عرفةَ منْ أهلِ الموقفِ، ومجيئهِ يومَ القيامةِ للقضاءِ بينَ عبادهِ، فرارًا منْ تشبيههِ بالأجسامِ، فقد شبَّههُ بالجمادِ الذي لا يتصرَّفُ ولا يفعلُ ولا يجيءُ ولا يأتي ولا ينزلُ»[668].
الوجهُ الخامسُ:
أنْ يقالَ: النزولُ والصُّعودُ والمجيءُ والإتيانُ، ونحو ذلكَ ممَّا هوَ منْ أنواعِ جنسِ الحركةِ لا نسلِّمُ أنَّهُ مخصوصٌ بالجسمِ الصناعيِّ الذي يتكلَّمُ المتكلِّمونَ فِي إثباتهِ ونفيهِ، بلْ يوصفُ بهِ ما هو أعمُّ منْ ذلكَ. ثمَّ هنا طريقانِ:
(أحدُهما): إنَّ هذه الأمورَ توصفُ بها الأجسامُ والأعراضُ فيقالُ: جاءَ البردُ، وجاءَ الحرُّ، وجاءتِ الحُمَّى، وهيَ أعراضٌ. وبهِ يُعْلمُ أنَّ أنواعَ جنسِ الحركةِ كالنزولِ ونحوه ليسَ منْ خصائصِ الأجسامِ، فيجوزُ أنْ يوصفَ بهَا الله مَعَ أنَّهُ ليسَ بجسمٍ.
(الطريقُ الثاني): أنْ يقالَ: المجيءُ والإتيانُ والصُّعودُ والنُّزولُ توصفُ بهِ روحُ الإنسانِ التي تفارقهُ بالموتِ، وتسمَّى النَّفسُ، وتوصفُ بهِ الملائكةُ. وليسَ نزولُ الرُّوحِ وصعودهَا منْ جنسِ نزولِ البدنِ وصعودهِ، فإنَّ روحَ المؤمنِ تصعدُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ تهبطُ إلى الأرضِ فيما بينَ قبضهَا ووضعِ الميِّتِ فِي قبرهِ. وهذا زمنٌ يسيرٌ لا يصعدُ البدنُ إلى فوقَ السَّماواتِ ثمَّ ينزلُ إلى الأرضِ فِي مثلِ هذا الزمانِ[669].
وإذا كانتِ الروحُ تعرجُ مِنَ النَّائمِ إلى السَّمَاءِ مَعَ أنَّهَا فِي البدَنِ كَمَا قَالَ تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً} [الزمر: 42]، عُلِمَ أنَّهُ ليس عروجُهَا منْ جنسِ عروجِ البدنِ الذي يمتنعُ هذا فيهِ.
وعروجُ الملائكةِ ونزولُهَا منْ جنسِ عروجِ الرُّوحِ ونزولها، لا منْ جنسِ عروجِ البدنِ ونزولهِ.
و«نزولُ» الرَّبِّ عزَّ وجلَّ فوقَ هذَا كلِّهُ وأجلُّ من هذا كلِّهِ؛ فإنَّهُ تَعَالَى أبعدُ عنْ مماثلةِ كلِّ مخلوقٍ مِنْ مماثلةِ مخلوقٍ بمخلوقٍ.
وإذا عرفَ هَذَا: فإنَّ للملائكةِ منْ ذلكَ ما يليقُ بهم، وأنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ تبارك وتعالى: هو أكملُ وأعلى وأتمُّ منْ هذا كلِّهِ[670]، وأولى بالإمكانِ، وأبعدُ عنْ مماثلةِ نزولِ الأجسامِ، بلْ نزولهُ لا يماثلُ نزولَ الملائكةِ وأرواحِ بني آدمَ[671].
ومنْ ظنَّ أنَّ ما يوصفُ بهِ الرَّبُّ عزَّ وجلَّ لا يكون إلَّا مثلَ ما توصفُ بهِ أبدانُ بني آدم؛ فغلطهُ أعظمُ منْ غلطِ منْ ظنَّ أنَّ ما توصفُ بهِ الرُّوحُ مثل ما توصفُ بهِ الأبدانُ[672].
وخلاصةُ هذهِ الشبهةِ وما تدورُ عليهِ عندَ جميعِ منْ يحتجُّ بها سواءٌ مِنَ الجهميَّةِ أو مِنْ غيرهمْ «إنَّ النزولَ نقلةٌ، والنُّقلةُ منْ خصائصِ الأجسامِ فيلزمهَا لوازمٌ تمتنعُ في حقِّ اللهِ تعالى»، وهذهِ اللوازمُ التي يذكرونها تلزمُ فيمنْ ليسَ بإلهٍ، وربٍّ للخلقِ. والله سبحانه وتعالى «منزَّهٌ أنْ تكونَ صفاتهُ مثلَ صفاتِ الخلقِ كما كانَ منزَّهًا أنْ تكونَ ذاتُهُ مثلَ ذواتِ الخلقِ فمجيئهُ وإتيانهُ ونزولهُ على حسبِ ما يليقُ بصفاتهِ منْ غيرِ تشبيهٍ وكيفٍ»[673].
وما أحسنَ قول الشاعرِ:
الرَّبُّ ربٌّ وإنْ تنزَّل والعبدُ عبدٌ، وإنْ ترقَّى![674]
الشبهةُ الرابعةُ
قالَ السَّقَّافُ: لا يمكنُ أنْ ينزلَ بذاتهِ كما تتخيَّلُ المجسِّمةُ إلى السَّماء الدنيا؛ لأَنَّ في ذلكَ حلولُ الخالقِ في المخلوقِ، وهوَ كفرٌ بواحٌ[675].
اعلمْ - سلَّمكَ الله مِنَ الشبهاتِ والشهواتِ - بأنَّ «الأوهامَ الباطلةَ والعقولَ الفاسدةَ لمَّا فهمتْ منْ نزولِ الرَّبِّ مَا يُفهمُ منْ نزولِ المخلوقِ - وهو أنْ يفرغَ مكانًا ويشغلَ مكانًا - نفتْ حقيقةَ ذلكَ فوقعتْ فِي محذورينِ: محذورُ التَّشبيهِ ومحذورُ التَّعطيلِ. ولوْ علمتْ هذهِ العقولُ الضعيفةُ أنَّ نزولَهُ سُبْحَانهُ لا يشبهُ نزولَ المخلوقِ كَمَا أنَّ سمعَهُ وبصرَهُ وعلمَهُ وحياتَهُ كذلك. وإذا كانَ نزولًا لَيْسَ كمثلهِ نزولٌ فكيفَ تنفِي حقيقتَهُ»؟![676].
والكلماتُ المذكورةُ باطلةٌ وعنْ حلى التحقيقِ عاريةٌ.
وزَعْمُ السَّقَّافِ أَنَّ مَنْ قالَ ينزلُ بذاتهِ أنَّهُ مجسمٌ حلوليُّ: قولٌ بلا علمٍ وكذبٌ وافتراءٌ: {إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ} [النحل: 116].
والسَّقَّافُ وأمثالهُ لمْ يفهموا منْ نزولِ الخالقِ إلى السَّماءِ الدنيا إلَّا كمَا فهموا منْ نزولِ المخلوقاتِ، «وهذا عينُ التمثيلِ، ثَّم إنَّهم بعدَ ذلكَ جعلوهُ كالواحدِ العاجزِ منهم الذي لا يمكنهُ أنْ يجمعَ منَ الأفعالِ ما يعجزُ غيرهُ عنْ جمعهِ»[677]. وكذبوا في هذا الفهمِ، وضلُّوا في هذا الظنِّ والوهمِ الكاسدِ.
فإنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67].
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهُ قالَ: «يطوي الله عزَّ وجلَّ السمواتِ يومَ القيامةِ ثمَّ يأخذهنَّ بيدهِ اليمنى، ثمَّ يقول: أنا الملكُ. أينَ الجبَّارونَ؟ أينَ المتكبِّرونَ؟ ُثمَّ يطوي الأرضينَ بشمالهِ ثمَّ يقولُ: أنا الملكُ أينَ الجبَّارونَ أينَ المتكبرونَ؟!»[678].
فمنْ هذهِ عظمتهُ، كيفَ يحصرهُ مخلوقٌ مِنَ المخلوقاتِ. سماءٌ أو غيرُ سماءٍ؟! حتَّى يقال: إنَّهُ إذا نزلَ إلى السماء الدنيا صارَ العرشُ فوقهُ، أو يصيرُ شيءٌ مِنَ المخلوقاتِ يحصرهُ ويحيطُ بهِ سبحانه وتعالى[679].
واللهُ - ولله المثلُ الأعلى - أعظمُ منْ أنْ يظنَّ ذلكَ بهِ، وإنَّما يظنُّهُ الذينَ {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ *} [الزمر: 67][680].
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: العليُّ الأعلى العظيمُ، فهو أعلى منْ كلِّ شيءٍ، وأعظمُ منْ كلِّ شيءٍ. فلا يكونُ نزولهُ وإتيانهُ بحيثُ تكونُ المخلوقاتُ تحيطُ بهِ، أو تكونُ أعظمَ منهُ وأكبرَ، وهذا ممتنعٌ[681].
فالمخلوقُ إذا نزلَ من علوٍّ إلى سفلٍ زالَ وصفهُ بالعلوِّ وتبدَّلَ إلى وصفهِ بالسُّفولِ، وصارَ غيرهُ أعلى منهُ.
والرَّبُّ تعالى لا يكونُ شيءٌ أعلى منهُ قطُّ، بلْ هوَ العليُّ الأعلى، ولا يزالُ هوَ العليُّ الأعلى مع أنَّهُ يقربُ إلى عبادهِ ويدنو منهم، وينزلُ إلى حيثُ شاءَ، ويأتي كما شاءَ. وهو في ذلكَ العليُّ الأعلى، الكبيرُ المتعال، عليٌّ في دنوِّه، قريبٌ في علوِّهِ.
فهذا وإنْ لمْ يتَّصفْ بهِ غيرهُ فلعجزِ المخلوقِ أنْ يجمعَ بينَ هذا وهذا. كمَا يعجزُ أنْ يكونَ هو الأولَ والآخرَ والظاهرَ والباطنَ[682].
وقَالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ونزولهُ كلَّ ليلةٍ إلى السَّماءِ الدُّنيا سلامٌ ممَّا يضادُّ علوَّهُ، وسلامٌ مما يضادُّ غناهُ وكمالهُ، سلامٌ منْ كلِّ ما يتوهَّمُ معطِّلٌ أو مشبِّهٌ، وسلامٌ منْ أنْ يصيرَ تحتَ شيءٍ أو محصورًا في شيءٍ. تعالى الله ربُّنا عن كلِّ ما يضادُّ كمالَهُ[683].
فتبيَّنَ بهذا الكلامِ النفيسِ، بطلانُ ما ذكرهُ السَّقافُ؛ وأنَّهُ مبنيٌّ على شفا جرفٍ هارٍ منَ الخيالاتِ والأوهامِ.
وليتأمَّل السَّقافُ وأمثالهُ منْ أهلِ الكلامِ الأثرَ التالي:
قالَ محمَّدُ بنُ حاتمٍ المظفريُّ: سمعتُ عمرو بن محمد يقولُ: كانَ أبو معاوية الضريرُ يحدِّثُ هارونَ الرشيد، فحدثَّهُ بحديثِ أبي هريرةَ: «احتجَّ آدمُ وموسى»[684] فقالَ عليُّ بنُ جعفرٍ: كيفَ هذا وبينَ آدمَ وموسى ما بينهما؟! قالَ: فوثبَ بهِ هارونُ وقالَ: يحدِّثكَ عَنِ الرسول صلى الله عليه وسلم وتعارضهُ بكيفَ؟! فما زالَ يقولُ حتَّى سكتَ عنهُ[685].
قالَ المحدِّثُ الصابونيُّ معقِّبًا: هكذا ينبغي للمرءِ أنْ يعظِّمَ أخبارَ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ويقابلها بالقبولِ والتسليمِ والتَّصديقِ، وينكرُ أشدَّ الإنكارِ على منْ يسلكُ فيها غيرَ هذا الطريقِ الذي سلكهُ هارونُ الرشيدُ رحمه الله معَ مَنِ اعترضَ على الخبرِ الصَّحيحِ الذي سمعهُ بـ«كيف»؟! على طريقِ الإنكارِ لهُ، والابتعادِ عنهُ، ولمْ يتلقَّهُ بالقبولِ كمَا يجبُ أنْ يتلقَّى جميعُ ما يردُ مِنَ الرسولِ صلى الله عليه وسلم.
جعلنا الله سبحانهُ مِنَ الذينَ يستمعونَ القولَ ويتَّبعونَ أحسنهُ ويتمسَّكونَ في دنياهم مدَّةَ حياتهم بالكتابِ والسنَّةِ، وجنَّبنا الأهواءَ المضلَّةَ والآراءَ المضمحلةَ والأسواءَ المذلَّةَ، فضلًا منهُ ومنَّةً[686].
وفي ختامِ الرَّدِّ على الشُّبهاتِ الواردةِ على حديثِ التنزيلِ نقولُ وبالله التَّوفيق: إنَّ «الحقَّ الحقيقَ الذي ينبغي عليهِ التَّعويلُ أنْ نؤمنُ بما وصلَ إلينا عنْ طريقِ محمَّدٍ رسول الله صلى الله عليه وسلم، بأنَّ الله ينزلُ إلى السّمَاء الدُنْيَا حينَ يبقى الثلثُ الآخرُ مِنَ الليلِ، ويقولُ: منْ يدعوني فأستجيبَ له؟ منْ يسألني فأعطيهُ؟ منْ يستغفرني فأغفرَ له؟!
ولا يغترُّ بما فاهَ بهِ: جمعٌ منْ أهلِ الكلامِ، ورهطٌ منْ أصحابِ الأوهامِ؛ النَّاكبونَ عنِ الصِّراطِ السويِّ، والمنهجِ النبويِّ. الجامدونَ على سيرِ المنطقيينَ والمتفلسفينَ، فإنَّهم بمعزلٍ عنْ طريقةِ السَّلفِ الصَّالحينَ، وعلى مراحلَ شاسعةٍ عنْ منهاجِ المتقينَ، الذينَ يؤمنونَ بالغيبِ وممَّا رزقناهم ينفقونَ.
فدعْ عنكَ نهبًا صيحَ في حجراتهِ وهاتِ حديثًا ما حديثُ الرواحلِ»[687].
* * *
أَسْئِلَةٌ مُهِمَّةٌ تَتَعَلَّقُ بِحَدِيثِ النُّزُولِ
السؤالُ الأوَّلُ:
هل نقولُ ينزلُ بذاتهِ؟
والجوابْ أنْ يقالَ: إنَّ قوله صلى الله عليه وسلم: «يَنْزِلُ ربُّنَا تبارك وتعالى كُلَّ ليلةٍ إلى السماءِ الدُّنيا..» خبرٌ وقعَ عنْ نفسِ ذاتِ الله تعالى لا عنْ غيرهِ. فإذا قلتَ: جاءَ محمَّدٌ، أي بنفسهِ جاءَ، لا مجرَّد أمرهِ وقصدهِ ونحو ذلكَ، ولله المثلُ الأعلى.
فقولهُ تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، هوَ خبرٌ عن ذاتِ الرَّبِّ تعالى فلا يحتاجُ المخبرُ أنْ يقولَ خالقُ كلِّ شيءٍ بذاتهِ. وقوله: {اللَّهُ رَبُّكُمْ} [يونس: 32]، قدْ علمَ أنَّ الخبرَ عنْ نفسِ ذاتهِ. وكذلكَ جميعُ ما أخبرَ الله بهِ عنْ نفسهِ إنَّما هوَ خبرٌ عنْ ذاتهِ.
فلا حاجةَ بنا أنْ نقولَ: استوى على عرشه بذاتهِ[688]، وينزلُ إلى السَّماءِ بذاتهِ، كما لا نحتاجُ أنْ نقولَ خلقَ بذاتهِ، وقدَّرَ بذاتهِ، وسمعَ وتكلَّمَ بذاتهِ، وإنَّما قالَ أئمَّةُ السنَّةِ ذلكَ إبطالًا لقولِ المعطِّلةِ[689].
وممَّنْ صرَّحَ بالنزولِ بالذَّاتِ: الإمامُ ابنُ حامدٍ[690] والإمامُ عبدُ الجليلِ كوتاهُ.
قالَ الذهبي ُّرحمه الله: «قالَ السَّمعانيُّ: لما وردتُ أصبهانَ كانَ - كوتاهُ - ما يخرجُ منْ دارهِ إلَّا لحاجةٍ مهمَّةٍ، كانَ شيخهُ إسماعيلُ الحافظُ هجرهُ، ومنعهُ مِنْ حضورِ مجلسهِ لمسألةٍ جرتْ في النزولِ، وكانَ كوتاهُ يقولُ: النزولُ بالذَّاتِ، فأنكرَ إسماعيلُ هذا وأمرهُ بالرُّجوعِ عنهُ فمَا فعلَ»[691].
وهوَ في الحقيقةِ يوافقهُ على اعتقادهِ، لكن أنكرَ إطلاقَ اللَّفظِ لعدمِ الأثرِ بهِ[692].
قالَ الذهبيُّ معلِّقًا على قولِ كوتاه السَّابق: «ومسألةُ النزولِ فالإيمانُ بهِ واجبٌ، وتركُ الخوضِ في لوازمهِ أولى، وهوَ سبيلُ السَّلفِ، فما قالَ هذا: نزولهُ بذاتهِ، إلَّا إرغامًا لمنْ تأوَّلهُ، وقالَ: نزولهُ إلى السَّماءِ الدُّنيا بالعلمِ فقط، نعوذُ بالله منْ مراءٍ في الدِّينِ، وكذا قولهُ: {وَجَاءَ رَبُّكَ} [الفجر: 22] ونحوهُ، فنقولُ: جاءَ وينزلُ وننتهي عَنِ القولِ ينزلُ بذاتهِ، كما لا نقولُ ينزلُ بعلمهِ، بلْ نسكتُ ولا نتفاصحُ على الرسولِ صلى الله عليه وسلم بعباراتٍ مبتدعةٍ، والله أعلمُ»[693].
والمقصودُ: أنَّ الأحاديثَ صريحةٌ في إطلاقِ لفظِ النزولِ، ولم يردْ فيها لفظةُ «بذاتهِ» فمنْ أطلقها إنَّما أرادَ بها الردَّ على الجهميَّةِ والمعطِّلةِ والمفوِّضةِ، ومنْ لمْ يطلقها فقدْ وقفَ مَعَ النُّصوصِ، مع إقرارهِ بإثبات معنى النزولِ.
السؤال الثاني:
كيفَ نجمعُ بينَ قولِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «تفتحُ أبوابُ السّمَاءِ نصفَ الليلِ، فينادي منادٍ: هلْ منْ داعٍ فيستجابُ لهُ؟ هلْ منْ سائلٍ فيُعطى؟ هلْ منْ مكروبٍ فيفرَّج عنهُ؟ فلا يبقى مسلمٌ يدعو بدعوةٍ إلَّا استجابَ اللهُ تعالى لهُ؛ إلَّا زانيةً تَسْعَى بفَرْجِها، أَوْ عَشّارًا»[694]. وحديثِ النزولِ؟
قلنا: وأيُّ منافاةٍ بينَ هَذَا وبينَ قولهِ: «يَنْزِلُ رَبُّنَا فيقولُ» وهلْ يسوغُ أنْ يقالَ إنَّ المنادي يقولُ: «أنا الملكُ» ويقولُ: «لاَ أسألُ عن عبادي غيري» ويقولُ: «منْ يستغفرني فأغفرَ لهُ؟» وأيُّ بُعْدٍ فِي أنْ يأمرَ مناديًا ينادي «هلْ منْ سائلٍ فيستجابَ له؟» ثمَّ يقولُ هو سبحانهُ: «من يسأَلُني فأستجيبَ لَهُ؟» وهلْ هذا إلَّا أبلغُ فِي الكرمِ والإحسانِ: أنْ يأمرَ مناديهُ يقولُ ذلكَ، ويقولهُ سبحانهُ بنفسهِ؟ وتتصادقُ الرواياتُ كلُّها عنْ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ولا نصدِّقُ بعضَهَا، ونكذِّبُ مَا هوَ أصحُّ منهُ، وباللهِ تعالى التوفيق[695].
السؤالُ الثالثُ:
كيفَ نجمعُ بين علوِّ الله على العرشِ ونزولهِ إلى السَّماءِ الدُّنيا؟
لا تعارضَ بينَ نزولهِ تعالى إلى السَّماءِ الدُّنيا في الثلثِ الأخيرِ منْ كلِّ ليلةٍ مع اختلافِ الأقطارِ، وبينَ استوائهِ عزَّ وجلَّ على العرشِ؛ لأنَّهُ سبحانهُ لا يشبهُ خلقهُ في شيءٍ منْ صفاتهِ، ففي الإمكانِ أن ينزلَ كمَا يشاءُ نزولًا يليقُ بجلالهِ في ثلثِ الليلِ الأخيرِ بالنسبةِ إلى كلِّ قطرٍ، ولا ينافي ذلكَ علوَّهُ واستواءهُ على العرش، لأننا في ذلكَ لا نعلمَ كيفيَّةَ النزولِ، ولا كيفيَّةَ الاستواءِ، بلْ ذلكَ مختصٌّ بهِ سبحانهُ، بخلافِ المخلوقِ فإنَّهُ يستحيلُ في حقِّهِ أنْ ينزلَ في مكانٍ ويوجدُ بمكانٍ آخر في تلكَ اللحظةِ كمَا هو معلومٌ، إلَّا الله عزَّ وجلَّ، فهوَ على كلِّ شيءٍ قدير. ولا يقاسُ ولا يمثَّلُ بهم لقوله عزَّ وجلَّ: {فَلاَ تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ} [النحل: 74]، وقولهِ سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11][696].
قال إسْحاق بنُ راهويه رحمه الله (238هـ): دخلتُ على ابنِ طاهرٍ فقال: ما هذه الأحاديث؟ تروونَ أنَّ الله ينْزلُ إلى السَّماءِ الدُّنيا؟ قلتُ: نعمْ، رواها الثقاتُ الذينَ يروونَ الأحْكامَ. فقالَ: ينْزلُ ويدعُ عرْشهُ؟ فقلتُ: يقْدرُ أنْ ينزلَ منْ غيرِ أنْ يخلوَ منهُ العرشُ؟ قال: نعمْ. قلتُ: فلمَ تتكلَّم في هذَا[697].
قال شيخُ الإسلامِ رحمه الله: وعبدُ الله بنُ طاهرٍ - وهوَ منْ خيارِ منْ وليَ الأمرَ بخراسان - كانَ يعْرفُ أنَّ اللهَ فَوْقَ العَرْشِ، وأشْكلَ عليهِ أنَّهُ ينزلُ لتوهمهِ أنَّ ذلكَ يقْتضي أنْ يخْلوَ منهُ العرشُ، فأقرَّهُ الإمامُ إسحاقُ على أنَّهُ فوقَ العرشِ، وقالَ لهُ: يقدرُ أنْ ينزلَ منْ غيرِ أنْ يخلوَ منهُ العرشُ؟ فقالَ لهُ الأميرُ: نعمْ. فقالَ لهُ إسْحاق: لمَ تتكلَّمْ في هذا؟
يقولُ: فإذا كانَ قادرًا على ذلكَ لمْ يلزمْ من نزولهِ خلوُّ العرشِ منهُ، فلا يجوزُ أنْ يعترضَ على النزولِ بأنَّه يلْزمُ منهُ خلوُّ العرشِ، وكان هذا أهْونَ من اعْتراضِ منْ يقولُ: ليسَ فوقَ العرشِ شيءٌ، فينكرُ هذا وهذا[698].
وممَّا ذكرنا يتضحُ لكَ أنَّهُ لا تعارضَ بينَ نزولِ الله تبارك وتعالى واستوائهِ على العرشِ.
السؤالُ الرابعُ:
ما يستفادُ مِنْ حديثِ النزولِ؟
يستفادُ منْ حديثِ النزولِ ما يلي:
أولًا: إثْباتُ العلوِّ لله مِنْ قولِهِ: «ينزلُ».
ثانيًا: إثْباتُ الأفْعالِ الاخْتياريةِ التي هِيَ الصِّفاتُ الفعليةُ مِنْ قولهِ: «ينزلُ حينَ يبقى ثلثُ الليلِ الآخرِ».
ثالثًا: إثْباتُ القولِ للهِ منْ قولهِ: «يقولُ».
رابعًا: إثْباتُ الكرمِ للهِ عزَّ وجلَّ مِنْ قولهِ: «منْ يدْعوني... منْ يسألني... منْ يستغفرني..».
وفيهِ مِنَ النَّاحيةِ المسْلكيةِ:
أنَّهُ ينبغي للإنْسانِ أنْ يغتنمَ هذَا الجزءَ مِنَ الليلِ، فيسألُ الله عزَّ وجلَّ ويدْعوهُ ويسْتغْفرهُ، ما دامَ الرَّبُّ سبحانهُ يقولُ: «منْ يدعوني.. من يستغفرني...» و (منْ): للتشويقِ؛ فينبغي لنَا أنْ نستغلَّ هذهِ الفرصةَ؛ لأنَّهُ ليسَ لكَ مِنَ العمرِ إلَّا ما أمْضيتهُ في طاعةِ الله، وستمرُّ بكَ الأيَّامُ؛ فإذا نزلَ بكَ الموتُ؛ فكأنَّكَ ولدتَ تلكَ الساعة، وكلُّ ما مضى ليسَ بشيءٍ[699].
قال العلامة ابن قدامة المقْدسيُّ رحمه الله (620هـ): وتيقَّظْ في ساعاتِ الأسْحارِ عنْدَ نزولِ الجبَّارِ، وأحْضِرْ بقلبك قولَ العزيزِ الغفَّارِ: «هلْ منْ سائلٍ فأعْطيهُ؟ هلْ منْ داعٍ فأسْتجيبَ لهُ؟ هلْ منْ مسْتغفرٍ فأغْفرَ له؟»[700].
وقالَ ابنُ القيِّمِ رحمه الله - عنْ وقتِ النزولِ -: « إنَّهُ وقتُ قسمِ الغنائمِ، وتفريقِ الجوائزِ، فمستقلٌّ ومستكثرٌ ومحرومٌ»[701].
وقال صدِّيق حسن خان رحمه الله: «وقتُ نزول الرَّبِّ إلى السَّماء الدُّنيا أشرفُ أوقاتِ الصَّلواتِ والأذكارِ والدَّعواتِ. فمنْ وفِّقَ فيهِ لذلكَ فقدْ فازَ فوزًا عظيمًا، ومنْ حُرِمَهُ فقدْ حُرِمَ خيرًا كثيرًا»[702].
فالمتقون يقومون في الثلثِ الأخير من الليلِ للصلاةِ والذِّكر والاستغفارِ والدعاء «فما يطلعُ فجرُ الأجرِ إلَّا وقدْ حازَ القومُ الغنيمةَ، وفازوا بالفخرِ، وحمِدوا عند الصَّباحِ السُّرى، وما عندَ أهلِ الغفلةِ والنَّومِ خبرٌ ممَّا جرى»[703].
يا نفسُ قومي فقدْ نامَ الورى إنْ تصنعي الخيرَ فذو العرشِ يرى
وأنتِ يا عينُ دعي عنكِ الكرى عندَ الصَّباحِ يُحْمَدُ القومُ السُّرى[704]
أَسْئِلَةٌ وأَجْوِبَتُهَا السؤالُ الأولُ
اخْتَلَفَ رجلانِ فِي الاعْتِقَادِ؛ فَقَالَ أَحَدُهُمَا: مَنْ لَمْ يَعْتَقِدْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضَالٌ. وَقَالَ الآخَرُ: إنَّ الله لاَ يَنْحَصِرُ فِي مَكَانٍ فِبَيِّنُوا لَنَا مَا نَتَّبِعُهُ وَمَا الصَّوَابُ فِي ذَلِكَ؟
قالَ شيخُ الاسلامِ رحمه الله: مَنِ اعتقدَ أنَّ الله تعالى فِي جوفِ السَّمَاواتِ محصورٌ محاطٌ بهِ، أو مفتقرٌ إِلَى العرشِ، أَوْ غيرِ العرشِ - مِنَ المخلوقاتِ - أَوْ أَنَّ استواءَهُ عَلَى عرشهِ كاستواءِ المخلوقِ عَلَى كرسيِّهِ؛ فَهُوَ ضالٌّ مبتدعٌ جاهلٌ.
ومَنِ اعتقدَ أنَّهُ لَيْسَ فَوْقَ السَّمَاوَات إلهٌ يعبدُ، وَلاَ عَلَى العرشِ ربٌّ يصلَّى لَهُ ويسجدُ، وأنَّ محمَّدًا لَمْ يعرجْ بِهِ إِلَى ربِّهِ، وَلاَ نزلَ القرآنُ منْ عندهِ، فَهُوَ معطِّلٌ فرعونيٌّ، ضالٌّ مبتدعٌ؛ فإنَّ فرعونَ كذَّبَ موسى في أنَّ ربَّه فوقَ السَّموات، وقالَ: {وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَاهَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الأَسْبَابَ * أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لأََظُنُّهُ كَاذِبًا} [غافر: 36 - 37].
ونبيُّنا محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم، صدَّق موسى عليه السلام، أنَّ ربَّهُ تعالى فوقَ السَّمواتِ، فلمَّا كانَ ليلة المعراجِ، وعرجَ بهِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ؛ وفرضَ عليهِ خمسينَ صلاةً؛ ذكرَ أنَّهُ رجعَ إلى موسى وقالَ لهُ: ارجعْ إلى ربِّكَ فاسألهُ التَّخفيفَ لأمَّتكَ.
فمنْ وافقَ فرعونَ وخالفَ موسى ومحمَّدًا عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ، فهوَ ضالٌّ؛ ومَنْ مثَّلَ اللهَ تعالى وشَبَّهَهُ بخلقهِ، فهو ضَالٌّ.
والقائلُ الذي قالَ: منْ لَمْ يعتقدْ أَنَّ الله فِي السّمَاءِ فَهُوَ ضالٌّ، إنْ أرادَ بذلكَ منْ لاَ يعتقد أنَّ الله فِي جوفِ السَّمَاء، بحيثُ تحصرُهُ وتحيطُ بِهِ فَقَدْ أخطأَ.وإنْ أرادَ بذلكَ منْ لَمْ يعتقدْ مَا جاءَ بِهِ الكتابُ والسنَّةُ، واتَّفقَ عَلَيهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، مِنْ أنَّ الله تعالى فَوْقَ سماواته عَلَى عرشهِ، بائنٌ منْ خلقهِ، فَقَدْ أصابَ؛ فإنَّه منْ لَمْ يعتقدْ ذَلِكَ يكونُ مكذِّبًا للرسولِ صلى الله عليه وسلم، متَّبعًا غيرَ سبيلِ المؤمنينَ؛ بلْ يكونُ فِي الحقيقةِ معطِّلًا لربِّهِ نافيًا لَهُ؛ فَلاَ يكونُ لَهُ فِي الحقيقةِ إلهٌ يعبدهُ، وَلاَ ربٌّ يسألهُ، ويقصدهُ. وهذا قولُ الجهميَّةِ ونحوهمْ منْ أتباعِ فرعونَ المعطِّل.
واللهُ سبحانهُ قدْ فطرَ العبادَ - عربهم و عجمهم - على أنَّهم إذا دعوهُ توجَّهتْ قلوبهم إلى العلوِّ، ولا يقصدونَهُ تحتَ أرجلهمْ، ولهذا قَالَ بعضُ العارفينَ: مَا قَالَ عارفٌ قطٌّ: يَا الله!! إِلَّا وجدَ فِي قلبهِ - قبلَ أَنْ يتحرَّكَ لسانهُ - معنًى يطلبُ العلوَّ، لاَ يلتفتُ يمنةً وَلاَ يسرةً.
وأمَّا القائلُ الذي يقولُ: «إنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في مكانٍ» إنْ أرادَ بهِ أنَّ الله تعالى لا ينحصرُ في جوفِ المخلوقاتِ، وأنَّه لا يحتاجُ إلى شيءٍ منها، فقدْ أصابَ، وإنْ أرادَ أنَّ الله سبحانه وتعالى ليسَ فوقَ السمواتِ، ولا هوَ مستوٍ على العرشِ استواءً لائقًا بذاتهِ، وليسَ هناكَ إلهٌ يعبدُ، ومحمَّدٌ صلى الله عليه وسلم لم يعرجْ بهِ إلى اللهِ تعالى؛ فهذا جهميٌّ فرعونيٌّ معطِّلٌ.
ومنشأُ الضَّلالِ أنْ يظنَّ الظانُّ أنَّ صفاتِ الرَّبِّ سبحانهُ كصفاتِ خلقهِ، فيظنُّ أنَّ الله تعالى على عرشهِ، كالملكِ المخلوقِ على سريرهِ؛ فهذا تمثيلٌ وضلالٌ، وذلكَ أنَّ الملِكَ مفتقرٌ إلى سريره، ولو زالَ سريرهُ لسقطَ، واللهُ عزَّ وجلَّ غنيٌّ عَنِ العرشِ، وعنْ كلِّ شيءٍ، وكلُّ ما سواه محتاجٌ إليه، وهوُ حاملٌ العرشَ وحملةَ العرشِ، وعلوُّه عليهِ لا يوجبُ افتقارَهُ إليهِ، فإنَّ الله تعالى قدْ جعلَ المخلوقاتِ عاليًا وسافلًا، وجعلَ العالي غنيًّا عَنِ السَّافلِ، كمَا جعلَ الهواءَ فوقَ الأرضِ، وليسَ هو مفتقرًا إليهَا، وجعلَ السَّماءَ فوقَ الهواءِ، وليسَتْ محتاجةً إليهِ. فالعليُّ الأعلى ربُّ السمواتِ والأرضِ وما بينهمَا أولى أنْ يكون غنيًّا عَنِ العرشِ، وسائرِ المخلوقاتِ، وإنْ كانَ عاليًا عليهَا سبحانه وتعالى عمَّا يقولُ الظالمونَ علوًّا كبيرًا.
والنَّاسُ في هذا البابِ ثلاثةُ أصنافٍ: أهلُ الحلولِ والاتحادِ، وأهلُ النَّفيِ والجحودِ، وأهلُ الإيمانِ والتَّوحيدِ والسنَّةِ.
فأهلُ الحلولِ يقولونَ: إنَّه بذاتهِ في كلِّ مكانٍ، وقدْ يقولونَ بالاتحادِ والوحدةِ فيقولونَ: وجودُ المخلوقاتِ وجودُ الخالقِ...
وأمَّا أهلُ النَّفيِ والجحودِ فيقولونَ: لا هوَ داخلُ العالمِ ولا خارجٌ ولا مباينٌ لهُ ولا حالٌّ فيهِ، ولا فوقَ العالمِ ولا فيهِ، ولا ينزلُ منهُ شيءٌ، ولا يصعدُ إليهِ شيءٌ، ونحو ذلكَ. وهذا قولُ متكلِّمةِ الجهميَّةِ المعطلِّةِ، كمَّا أنَّ الأوَّلَ قولُ عبَّادِ الجهميَّةِ؛ فمتكلِّمةُ الجهميَّةِ لا يعبدونَ شيئًا، ومتعبِّدةُ الجهميَّةِ يعبدونَ كلَّ شيءٍ، وكلامهم يرجعُ إلى التَّعطيلِ والجحودِ الذي هو قولُ فرعونَ.
وقدْ علمَ أنَّ الله تعالى كانَ قبلَ أنْ يخلقَ السَّمواتِ والأرضَ ثمَّ خلقهما؛ فإمَّا إنْ يكونَ دخلَ فيهما وهذا حلولٌ باطلٌ، وإمَّا أنْ يكونَا دخلا فيهِ وهوَ أبطلُ وأبطلُ، وإمَّا أنْ يكونَ الله سبحانهُ بائنًا عنهما لم يدخلْ فيهما ولمْ يدخلا فيهِ، وهذا قولُ أهلِ الحقِّ والتَّوحيدِ والسنَّةِ.
ولأهلِ الجحودِ والتَّعطيلِ في هذا البابِ شبهاتٍ[705]، يعارضونَ بها كتابَ الله عزَّ وجلَّ وسنَّةَ رسولهِ صلى الله عليه وسلم، وما أجمعَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتهَا، ومَا فطرَ الله تعالى عليهِ عبادهُ، وما دلَّتْ عليهِ الدلائلُ العقليةُ الصحيحةُ؛ فإنَّ هذهِ الأدلَّةَ كلَّها متَّفقةٌ على أنَّ الله تعالى فوقَ مخلوقاتهِ، عالٍ عليهَا، قدْ فطرَ اللهُ تعالى على ذلكَ العجائزَ والأعرابَ والصبيانَ في الكتَّابِ؛ كما فطرهمْ على الإقرارِ بالخالقِ تعالى.
وقدْ قالَ النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم في الحديثِ الصَّحيحِ: «كلُّ مولودٍ يولدُ على الفطرة فأبواه يهوِّدانه أو ينصِّرانه أو يمجِّسانه كما تُنْتِجُ البهيمةُ بهيمةً جمعاءَ هل تُحِسُّونَ فيها منْ جدعاءَ» ثمَّ قالَ أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إنْ شئتم: {فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ} [الروم: 30][706].
وهذا معنى قولِ عمرَ بنِ عبدِ العزيزِ رحمه الله: «عليكَ بدينِ الأعرابِ والصبيانِ في الكتَّابِ، وعليكَ بما فَطَرَهُمُ اللهُ تعالى عليه»؛ فإنَّ الله سبحانهُ فطرَ عبادهُ على الحقِّ، والرسلُ بعثوا بتكميلِ الفطرةِ وتقريرهَا، لا بتحويلِ الفطرةِ وتغييرهَا.
وأمَّا أعداءُ الرُّسلِ كالجهميَّةِ الفرعونيَّةِ ونحوهم: فيريدونَ أنْ يغيِّروا فطرةَ الله تعالى ودينَهُ عزَّ وجلَّ، ويوردونَ على النَّاسِ شبهاتٍ بكلماتٍ مشتبهاتٍ، لا يفهمُ كثيرٌ مِنَ النَّاسِ مقصودَهُمْ بها، ولا يحسنُ أنْ يجيبهم. وأصلُ ضلالهم تكلُّمهمْ بكلماتٍ مجملةٍ؛ لا أصلَ لها في كتابِ الله تعالى؛ولا سنَّةِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم؛ ولا قالها أحدٌ منْ أئمَّةِ المسلمينَ، كلفظِ التحيُّزِ والجسمِ والجهةِ ونحو ذلك.
فمنْ كانَ عارفًا بحلِّ شبهاتهم بيَّنها، ومنْ لمْ يكنْ عارفًا بذلكَ فليعرضْ عنْ كلامهمْ، ولا يقبلُ إلَّا ما جاءَ بهِ الكتابُ والسنَّةُ، كمَا قالَ تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [الأنعام: 68]. ومنْ يتكلَّمُ في الله تعالى وأسمائهِ وصفاتهِ بما يخالفُ الكتابَ والسنةَ فهوَ مِنَ الخائضينَ في آياتِ الله تعالى بالباطلِ.
وكثيرٌ منْ هؤلاءِ ينسبُ إلى أئمَّةِ المسلمينَ ما لمْ يقولوه؛ فينسبونَ إلى الشافعيِّ، وأحمدَ بن حنبلٍ ومالكٍ، وأبي حنيفة؛ مِنَ الاعتقاداتِ ما لم يقولوا، ويقولونَ لمنِ اتبعهم: هذَا اعتقادُ الإمامِ الفلانيِّ؛ فإذا طولبوا بالنَّقلِ الصَّحيح عَنِ الأئمَّة تبيَّنَ كذبهم.
وقالَ الشَّافعيُّ: حُكْمِي في أهلِ الكلامِ: أن يُضربوا بالجَرِيدِ والنِّعالِ، ويُطافُ بهم في القَبَائِلِ والعَشَائِرِ، ويقالُ: هذا جزاءُ مَنْ تَركَ الكتابَ والسُّنَّةَ، وأقبلَ على الكَلاَمِ.
قالَ أبو يوسفَ القاضي: مَنْ طَلَبَ الدِّينَ بالكلام تَزَنْدَقَ.
قالَ أحمد: ما ارْتَدَى أحدٌ بالكَلاَمِ فَأَفْلَحَ.
قال بعضُ العلماءِ: المُعَطِّلُ يعبدُ عدمًا، والمُمَثِّلُ يعبدُ صنمًا. المعطِّل أعمى، والممثِّل أعشى[707]؛ ودينُ الله بين الغالي فيهِ والجافي عنهُ.
وقدْ قالَ تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} [البقرة: 143] والسنَّةُ في الإسلامِ كالإسلامِ في المللِ. والحمدُ لله ربِّ العالمين[708].
السؤالُ الثاني
إذا كانَ الله تعالى إنَّما استوى على العرشِ بعدَ أنْ خلقَ السماواتِ والأرضَ في ستةِ أيَّامٍ، فقبلَ ذلكَ لمْ يكنْ على العرشِ؟
قالَ شيخُ الإسلامِ رحمه الله: الاسْتِوَاءُ علوٌّ خاصٌّ، فكلُّ مستوٍ عَلَى شيءٍ عالٍ عَلَيهِ، وليسَ كلُّ عالٍ عَلَى شيءٍ مستوٍ عَلَيهِ.
ولهذا لاَ يقالُ لكلِّ مَا كانَ عاليًا على غيرهِ أنَّهُ مستوٍ عليهِ، واستوى عليهِ؛ ولكن كلُّ ما قيلَ فيهِ أنَّه استوى على غيرِه، فإنَّهُ عالٍ عَلَيهِ.
والذي أخبرَ اللهُ أنَّهُ كانَ بعدَ خلق السَّماواتِ والأرضِ «الاستواءُ» لا مطلقُ العلوِّ، مَعَ أنَّهُ يجوزُ أنَّهُ كانَ مستويًا عليهِ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ لمَّا كانَ عرشهُ على الماءِ، ثمَّ لمَّا خلقَ هذا العالمَ كانَ عاليًا عليهِ ولمْ يكنْ مستويًا عليهِ، فلمَّا خلقَ هذا العالمَ استوى عليهِ.
فالأصلُ أنَّ علوَّهُ على المخلوقاتِ وصفٌ لازمٌ لهُ، كمَا أنَّ عظمتَهُ وكبرياءهُ وقدرتهُ كذلكَ، وأمَّا «الاستواءُ» فهو فعلٌ يفعلهُ سبحانه وتعالى بمشيئتهِ وقدرتهِ، ولهذا قالَ فيهِ: {ثُمَّ اسْتَوَى} [يونس: 3].
ولهذا كانَ الاستواءُ مِنَ الصفاتِ السَّمعيةِ المعلومةِ بالخبرِ، وأمَّا علوُّه على المخلوقاتِ فهوَ عندَ أئمَّةِ أهلِ الإثباتِ من الصِّفاتِ العقليةِ المعلومةِ بالعقلِ مَعَ السمعِ[709].
السؤالُ الثالث
ما هو التعليقُ على قولِ الدسوقي: «أصولُ الكفرِ ستةٌ - وعدَّ خمسةً منها ثمَّ قال: سادسًا: التمسكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّدِ ظواهِرِ الكتابِ والسنَّةِ من غير عَرْضِها على البراهينِ العقليَّةِ والقواطعِ الشرعيةِ... إلى أن قال: والتمسُّكُ في أصولِ العقائدِ بمجرَّد ظواهرِ الكتابِ والسنةِ من غير بصيرةٍ في العقلِ وهو أصلُ ضلاَلةِ الحَشَوِيَّةِ، فقالوا بالتَّشبيه والتَّجسيم والجهةِ عملًا بظاهرِ قولهِ تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} [الملك: 16]»[710].
ويا للهِ العجبُ! كيفَ كانَ الصَّحابةُ والتَّابعونَ قبلَ وضعِ هذهِ القوانينِ التي أتى اللهُ بنيانها مِنَ القواعدِ وقبلَ استخراج هذه الآراءِ والمقاييسِ والأوضاعِ هل كانوا مهتدينَ مكتفينَ بالنُّصوصِ أمْ كانوا على خلافِ ذلكَ؟ حتَّى جاء المتأخرونُ فكانوا أعلمَ منهم وأهدى وأضبطَ للشَّريعة منهم وأعلمَ باللهِ وأسمائهِ وصفاتهِ وما يجبُ لهُ وما يمتنعُ عليهِ منهم؟ فواللهِ لأنْ يلقى الله عبدهُ بكلِّ ذنبٍ ما خلا الإشراك لخيرٌ منْ أنْ يلقاهُ بهذا الظنِّ الفاسدِ والاعتقادِ الباطلِ[711].
والقولُ بأنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يصدرُ البتةَ عنْ عالمٍ بكتابِ الله وسنَّةِ رسوله وإنَّما يصدرُ عمَّن لا علمَ لهُ بالكتابِ والسـنَّـةِ أصـلًا، لأنَّه لجهلهِ بهما يعتقدُ ظاهرهما كفرًا والواقعُ في نفسِ الأمرِ أنَّ ظاهرهما بعيدٌ ممَّا ظنَّه أشدَّ منْ بعدِ الشمسِ مِنَ اللمسِ[712].
وهذا يتبيَّن منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
ينبغي أنْ يعلمَ بأنَّ كلَّ ما أخبرَ الله بهِ فهوَ حقٌّ، ويستحيلُ أنْ يلزمَ عليهِ باطلٌ.
ولا يخفى على أحدٍ أنَّ الذي يقول: إنَّ الأخذَ بظاهرِ قوله تعالى: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] يلزمُ منهُ الكفرُ والتشبيهُ والضَّلالُ. أنَّ إلزامهُ هذا اعتراضٌ صريحٌ على منْ أخبرَ بالاستواءِ وهو الله جلَّ وعلا[713].
الوجهُ الثاني:
لا شكَّ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، عالمٌ كلَّ العِلْمِ، بأنَّ الظاهرَ المتبادرَ ممَّا مدحَ الله بهِ نفسه، في آياتِ الصِّفاتِ هو التنزيهُ التَّامُّ عنْ صفاتِ الخلقِ، ولو كان يخطرُ في ذهنهِ أنَّ ظاهرهُ لا يليقُ، لأنَّهُ تشبيهٌ بصفاتِ الخلقِ، لظهرَ التحذيرُ منهُ ومنْ أصحابهِ وتواترَ أعظمَ ممَّا حذَّروا مِنَ الدَّجالِ الأعورِ الكذَّابِ، ولبادرَ كلَّ المبادرةِ إلى بيانِ ذلكَ، لأنَّه لا يجوزُ في حقِّهِ تأخيرُ البيانِ عنْ وقتِ الحاجةِ إليهِ، ولا سيَّما في العقائدِ، ولا سيَّما فيما ظاهرهُ الكفرُ والتشبيهُ. ولو أخَّرَ البيانَ لكانَ قدْ كلَّفَ العبادَ ما لا سبيلَ إليهِ[714].
ألا ترى أنَّ المتكلِّمينَ لمَّا اعتقدوا قبحَ هذه الظواهرِ تواترَ عنهمُ التَّحذيرُ عنهَا والتأويلُ لها وصنَّفوا في ذلكَ وأيقظوا الغافلينَ، وعلَّموا الجاهلينَ، وكفَّروا المخالفينَ، وأشاعوا ذلكَ بينَ المسلمينَ؛ بل بينَ العالمينَ. فكانَ أحقَّ منهم بذلك سيِّدُ المرسلينَ، وقدماءُ السابقينَ، وأنصارُ الدِّينِ[715].
الوجهُ الثالثُ:
لوْ علمَ الأئمَّةُ أنَّ حملَ النُّصوصِ على ظاهرهَا كفرٌ لوجبَ عليهم تبيينُ ذلكَ، وتحذيرُ الأمَّةِ منهُ؛ فإنَّ ذلكَ من تمامِ نصيحةِ المسلمينَ، فكيفَ كانوا ينصحونَ الأمَّةَ فيما يتعلَّقُ بالأحكام العمليةِ ويَدَعونَ نصيحتهم فيما يتعلَّقُ بأصولِ الإعتقاداتِ!! هذا من أبطلِ الباطلِ[716].
الوجهُ الرابعُ:
إنَّ القولَ المذكورَ يتضمنُ الظنَّ السَّيِّءَ بالله تباركَ وتعالى.
ومنْ ظنَّ بالله سبحانه وتعالى أنَّه أَخبرَ عنْ نفسهِ وصفاتهِ وأفْعالهِ بما ظاهرهُ باطلٌ، وتشْبيهٌ، وتمْثيلٌ، وتركَ الحقَّ، لمْ يخبرْ بهِ، وإنَّما رمزَ إليهِ رموزًا بعيدةً، وأشارَ إليه إشاراتٍ مُلْغِزةً لمْ يصرِّحْ بهِ، وصرَّح دائمًا بالتَّشبيهِ والتمثيلِ والباطلِ، وأرادَ منْ خلقهِ أنْ يُتْعِبوا أذْهانهم وقواهم وأفْكارهمْ في تحريفِ كلامهِ عنْ مواضعهِ، وتأويلهِ على غيرِ تأويلهِ، ويتطلَّبوا لهُ وجوهَ الاحتمالاتِ المستكرهةِ، والتأويلاتِ التي هي بالألغازِ والأحاجي أشْبهُ منها بالكشفِ والبيانِ[717]، وأحالهمْ في معْرفةِ أسْمائهِ وصفاتهِ على عقولهمْ وآرائهمْ، لا على كتابهِ، بلْ أرادَ منهمْ أنْ لا يحْملوا كلامهُ على ما يعْرِفونَ منْ خطابهمْ ولغتهم، معَ قدْرتهِ على أنْ يصرِّحَ لهمْ بالحقِّ الذي ينبغي التَّصْريحُ بهِ، ويريحهمْ مِنَ الألفاظِ التي توقعهمْ في اعْتقادِ الباطلِ، فلمْ يفعلْ، بلْ سلكَ بهمْ خلافَ طريقِ الهدى والبيانِ، فقدْ ظنَّ به ظنَّ السَّوءِ، فإنَّه إنْ قالَ: إنَّهُ غيرُ قادرٍ على التعْبيرِ عَنِ الحقِّ باللفظِ الصَّريحِ الذي عبَّر بهِ هوَ وسلفُهُ، فقدْ ظنَّ بقدْرتهِ العجزَ، وإنْ قالَ: إنَّهُ قادرٌ ولمْ يبيِّنْ، وعدَلَ عنِ البيانِ، وعَنِ التَّصْريحِ بالحقِّ إلى ما يوْهمُ، بلْ يُوقِعُ في الباطلِ المحالِ، والاعْتقادِ الفاسدِ، فقدْ ظنَّ بحكمتهِ ورحمتهِ ظنَّ السَّوء، وظنَّ أنَّهُ هوَ وسلفهُ عبَّروا عَنِ الحقِّ بصريحهِ دونَ اللهِ ورسولهِ، وأنَّ الهدى والحقَّ في كلامهم وعباراتهم. وأمَّا كلامُ الله، فإنَّما يؤخذُ منْ ظاهرهِ التَّشبيهُ، والتَّمثيلُ، والضَّلالُ، وظاهرُ كلامِ المتهوِّكين[718] الحيارى، هوَ الهدى والحقُّ، وهذا منْ أسوإ الظنِّ بالله، فكلُّ هؤلاءِ مِنَ الظَّانينَ بالله ظنَّ السَّوء، ومِنَ الظَّانينَ بهِ غيرَ الحقِّ ظنَّ الجاهليةِ[719].
الوجهُ الخامسُ:
أنَّ الذينَ يقولونَ: إنَّ الأخذَ بظاهرِ الكتابِ والسنَّةِ منْ أصولِ الكفرِ لا يعلمونَ ما هيَ الظواهرُ وأنَّهم يعتقدونَ شيئًا ظاهر النص. والواقع أنَّ النَّص لا يدلُّ عليهِ بحالٍ مِنَ الأحوالِ فضلًا عنْ أنْ يكونَ ظاهره.فبنوا باطلًا على باطلٍ، ولا شكَّ أنَّ الباطلَ لا يُبنى عليه إلَّا الباطل.ولو تصوَّروا معاني ظواهرِ الكتابِ والسنَّةِ على حقيقتها لمنعهم ذلكَ، منْ أن يقولوا ما قالوا.
وأصولُ الكفرِ يجبُ على كلِّ مسلمٍ أن يحذرَ منها كلَّ الحذرِ، ويتباعدَ منها كلَّ التباعدِ ويتجنبُ أسبابها كلَّ الاجتنابِ، فيلزمُ على هذا القولِ المنكرِ الشنيعِ وجوبُ التباعدِ مِنَ الأخذِ بظواهرِ الوحي.
فتنفيرُ النَّاسِ وإبعادهم عنْ كتابِ الله، وسنَّةِ رسولهِ، بدعوى أنَّ الأخذَ بظواهرِهما منْ أصولِ الكفرِ هو منْ أشنعِ الباطلِ وأعظمهِ كما ترى.
وهذا كما ترى، وبما ذكرنا يتبيَّنُ أنَّ منْ أعظمِ أسبابِ الضَّلالِ، ادِّعاء أنَّ ظواهرَ الكتابِ والسنَّةِ دالَّةٌ على معانٍ قبيحةٍ، ليستْ بلائقةٍ.والواقعُ في نفسِ الأمرِ بُعدهَا وبراءتها منْ ذلكَ.
فنوصي «أنفسنا وإخواننا المسلمينَ بتقوى الله تعالى وعدمِ التهجُّم على الله تعالى وعلى كتابهِ بالدَّعاوى الباطلةِ والتمسُّكِ بنورِ الوحيِ الصحيحِ في المعتقدِ وغيرهِ، لأنَّ السلامةَ متحققةٌ في اتِّباع الوحي وليستْ متحققةً في شيءٍ غيره:
ونَهْجُ سبيلي واضحٌ لمن اهْتَدَى ولكنَّها الأهواءُ عَمَتْ فَأَعْمَتْ»[720]
وكلامُ الدسوقي «مع كونهِ ظلمًا لنا، يا ليتهُ كان كلامًا صحيحًا مستقيمًا، فكنَّا نحلله من حقِّنا ويستفادُ ما فيهِ مِنَ العلمِ!! ولكن فيهِ منْ تحريفِ كتابِ الله والإلحادِ في آياته وأسمائه، والكذبِ والظلمِ، والعدوان الذي يتعلق بحقوقِ اللهِ مما فيه؛ لكنْ إنْ عفونا عنْ حقِّنا، فحقُّ اللهِ إليهِ لا إلى غيرهِ»[721].
السؤالُ الرابعُ
ما معنى قول السَّلفِ: أمِرُّوهَا كما جاءتْ بلا كيفٍ؟
قولهمْ رضي الله عنهم: «أمرُّوها كما جاءت» ردٌّ على المعطِّلة، وقولهمْ: «بلا كيفٍ» ردٌّ على الممثِّلةِ.
وسأل رجلٌ ربيعةَ بن أبي عبد الرحمن فقال: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [ طه: 5] كيفَ استوى؟ فقال: «الاستواءُ غيرُ مجْهولٍ، الكيفُ غيرُ معْقولٍ، ومِنَ الله الرسالة، وعلى الرسولِ البلاغُ، وعلينا التَّصْديقُ»[722].
وقال رجلٌ للإمامِ مالكٍ: يا أبا عبدِ الله: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5] كيفَ استوى؟ قال: «الكيفُ غيرُ معْقولٍ، والاستواءُ منهُ غيرُ مجْهولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ، والسُّؤالُ عنهُ بدعةٌ»[723].
فقولُ ربيعةَ ومالكٍ: «الاسْتواءُ غيرُ مجْهولٍ، والكيفُ غيرُ معْقولٍ، والإيمانُ بهِ واجبٌ» موافقٌ لقولِ الباقينَ: «أمِرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ»؛ فإنَّما نفوا علمَ الكيفيَّةِ، ولمْ ينْفوا حقيقةَ الصِّفةِ.
ولو كانَ القومُ قدْ آمنوا باللَّفظِ المجرَّدِ منْ غيرِ فهمٍ لمعْناه على ما يليقُ بالله؛ لما قالوا: «أمرُّوها كما جاءتْ بلا كيفٍ»؛ فإنَّ الاسْتواءَ حينئذٍ لا يكونُ معْلومًا؛ بلْ مجْهولًا بمنْزلةِ حروفِ المعجمِ.
وأيضًا؛ فإنَّه لا يحْتاجُ إلى نفيِ علمِ الكيفيَّةِ إذا لمْ يفهمْ عَنِ اللَّفظِ معنًى؛ وإنَّما يحْتاجُ إلى نفيِ علمِ الكيفيَّةِ إذا أثْبتت الصِّفاتُ.
وأيضًا؛ فإنَّ منْ ينْفي علوَّ الله على العرشِ والنزولَ لا يحْتاجُ أنْ يقولَ: بلا كيفٍ! فمنْ قال: إنَّ الله ليس على العرشِ. لا يحتاجُ أنْ يقولَ: «بلا كيفٍ»، فلو كانَ مذهبُ السَّلفِ التفْويضَ في المعْنى؛ لما قالوا بلا كيفٍ.
وأيضًا؛ فقولهم: «أمرُّوها كما جاءت»: يقتضي إبْقاءُ دلالتهَا على ما هي عليهِ، فإنَّها جاءتْ ألْفاظًا دالةً على معاني؛ فلو كانتْ دلالتهَا منْتفيةً؛ لكانَ الواجبُ أنْ يقالَ: «أمرُّوا لفظهَا مع اعْتقادِ أنَّ المفْهومَ منها غيرُ مرادٍ»، أو «أمرُّوا لفْظَهَا مع اعْتقادِ أنَّ الله لا يوصفُ بما دلَّتْ عليهِ حقيقةً». وحينئذٍ فلا تكونُ قدْ أُمرَّتْ كما جاءتْ، ولا يقال حينئذٍ: بلا كيفٍ؛ إذْ نفيُ الكيفِ عمَّا ليسَ بثابتٍ لغوٌ مِنَ القولِ[724].
فلا يقالُ إنَّ السَّلفَ - رحمهم الله تعالى - تلقَّوا النُّصوصَ فلم يفهموها، ففوَّضوا معناها. ولا يجوزُ أن يشتملَ القرآنُ على ما لا يُعلمُ معناه[725] - حاشاهم منْ ذلكَ - «بل كفُّوا عَنِ الثرثرةِ، والتشدُّقِ، لا عجزًا بحمدِ الله عَنِ الجدالِ والخصامِ، ولا جهلًا بطرقِ الكلامِ، وإنَّما أمسكوا عَنِ الخوضِ في ذلكَ عنْ علمٍ ودرايةٍ، لا عنْ جهلٍ وعمايةٍ»[726].
السؤالُ الخامسُ
كيف استوى على العرش؟
مِنَ المعلومِ أنَّ صفاتِ كلِّ موصوفٍ تناسبُ ذاتهُ وتلائمُ حقيقتهُ؛ فمنْ لم يفهمْ منْ صفاتِ الرَّبِّ - الذي ليس كمثله شيءٌ - إلَّا ما يناسبُ المخلوق فقدْ ضلَّ في عقلهِ ودينهِ.
فقولُ السَّائلِ: كيفَ استوى؟ بمنزلةِ قولهِ: كيفَ ينزلُ؟ وقولهِ: كيفَ يسمعُ؟ وكيفَ يبصرُ؟ وكيفَ يعلمُ ويقدرُ؟ وكيفَ يخلقُ ويرزقُ؟
فنحنُ نعلمُ معنى الاستواءِ ولا نعلمُ كيفيَّتهُ، ونعلمُ معنى السَّمعِ والبصرِ والعلمِ والقدرةِ، ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ. ونعلم معنى الرَّحمةِ والغضب والرضا والفرحِ والضَّحكِ ولا نعلمَ كيفيَّةَ ذلكَ[727].
قالَ الإمامُ الشافعيُّ رحمه الله: «ما صحَّ أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالهُ فلا يقالُ فيهِ لِمَ وكيفَ»[728].
وقالَ البربهاريُّ رحمه الله: «ولا يقولُ في صفاتِ الربِّ: كيفَ؟ ولمَ؟ إلَّا شاكٌ في الله تبارك وتعالى»[729].
وقالَ الإمامُ أبو بكرٍ الإسماعيليُّ رحمه الله: «وأنَّهُ عزَّ وجلَّ استوى على العَرْشِ، بلا كَيْفٍ؛ فإنَّ اللهَ تعالى انتهى منْ ذلكَ إلى أنَّه استوى على العرشِ، ولم يَذْكُرْ كيفَ كانَ استواؤُهُ»[730].
وقالَ عبدُ العزيز بن يحيى المكي رحمه الله (240هـ) في «الردِّ على الزنادقة والجهمية»: «فقال الجهميُّ: أخبرني كيفَ استوى على العرشِ؟ أهوَ كمَا يُقالُ: استوى فلانٌ على السريرِ، فيكون السريرُ قد حوى فلانًا وحدَهُ إذا كانَ عليهِ، فيلزمكَ أنْ تقولَ: إنَّ العرشَ قدْ حوى الله وحدَهُ إذا كانَ عليه، لأنَّا لا نعقلُ الشَّيءَ على الشيءِ إلَّا هكذا. قالَ: فيُقالُ لهُ: أمَّا قولكَ: كيفَ استوى؟ فإنَّ الله لا يجري عليهِ كيفَ، وقدْ أخبرنَا أنَّهُ استوى على العرشِ، ولم يخبرنا كيفَ استوى، فوجبَ على المؤمنينَ أنْ يصدِّقوا ربَّهم باستوائهِ على العرشِ، وحرَّمَ عليهم أنْ يصفوا كيفَ استوى، لأنَّهُ لمْ يخبرهمْ كيفَ ذلكَ، ولمْ ترهُ العيونُ في الدنيا فتصفهُ بما رأتْ، وحرَّمَ عليهم أنْ يقولوا عليهِ منْ حيثُ لا يعلمونَ، فآمنوا بخبرهِ عَنِ الاستواءِ، ثمَّ ردُّوا علمَ كيفَ استوى إلى الله»[731].
وقال معمر بن أحمد الأصبهانيُّ رحمه الله (418هـ): «جميعُ ما وردَ منَ الأحاديثِ في الصِّفاتِ؛ كلُّ ذلكَ بلا كيفٍ ولا تأويلٍ نؤمنُ بها إيمانَ أهلِ السلامةِ والتسليمِ، ولا نتفكَّرُ في كيفيَّتها، وساحةُ التَّسليمِ لأهلِ السنَّةِ، والسلامةُ واسعةٌ بحمدِ الله ومنِّهِ، وطلبُ السلامةِ في معرفةِ صفات الله عزَّ وجلَّ أوجبُ وأولى، وأقِمنْ وأحرى، فإنَّه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فليسَ كمثلهِ شيءٌ: ينفي كلَّ تشبيهٍ وتمثيلٍ، وهو السميع البصير: ينفي كلَّ تعطيلٍ وتأويلٍ، فهذا مذهبُ أهلِ السنَّةِ والجماعةِ والأثرِ، فمنْ فارقَ مذهبهم فارقَ السنَّةَ، ومنِ اقتدى بهم وافقَ السنَّةَ، ونحنُ بحمدِ الله منَ المقتدينِ بهم، المنتحلينَ لمذاهبهم، القائلينَ بفضلهم، جمعَ اللهُ بيننا وبينهم في الدَّارينِ، فالسنَّةُ طريقتنا، وأهلُ الأثرِ أئمتنا، فأحيانا اللهُ عليها وأماتنا عليها برحمتهِ إنَّهُ قريبٌ مجيبٌ»[732].
وقال الحافظ إسماعيلُ بنُ محمدٍ التيميُّ رحمه الله (535هـ): « الاستواءُ معلومٌ كونهُ مجهولُ كيفيَّتهُ، واستواءُ نوحٍ على السفينةِ معلومٌ كونهُ معلومٌ كيفيَّتهُ؛ لأنَّهُ صفةٌ لهُ، وصفاتُ المخلوقينَ معلومةٌ كيفيَّتها. واستواءُ الله على العرشِ غيرُ معلوم كيفيَّتهُ؛ لأنَّ المخلوقَ لا يعلمُ كيفيَّةَ صفاتِ الخالقِ؛ لأنَّهُ غيبٌ ولا يعلمُ الغيبَ إلَّا الله، ولأنَّ الخالقَ إذا لمْ يشبه ذاتهُ ذاتَ المخلوقِ لمْ يشبه صفاتهُ صفات المخلوق. فثبتَ أنَّ الاستواءَ معلومٌ، والعلمُ بكيفيَّتهِ معدومٌ، فعلمهُ موكولٌ إلى الله تعالى، كما قال: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7]»[733].
وقال السفاريني رحمه الله:
سُبْحَانَهُ قَدِ «اسْتَوَى» كَمَا وَرَدَ مِنْ غَيْرِ كَيْفٍ قَدْ تَعَالَى أَنْ يُحَدَّ[734]
وقدْ قَالَ بعضهم، مخاطبًا للزمخشريِّ، منكرًا عَلَيهِ نفيَ الصِّفاتِ، شعرًا:
قُلْ لِمَنْ يفهمُ عنِّي مَا أقولُ قِصَرَ القَوْلِ فذا شرحٌ يَطُولُ
أَنْتَ لاَ تفهمُ إيَّاك وَلاَ من أنْتَ وَلاَ كيفَ الوُصولُ
لاَ وَلاَ تدري خَفَايا رُكِّبَتْ فيكَ حارَتْ فِي خَبَايَاهَا العُقُولُ
أَنْتَ أَكْلُ الخُبْزِ لاَ تَعْرِفُه كيفَ يجري منكَ أم كيفَ تَبُولُ
أينَ منكَ الرُّوحُ فِي جَوْهَرِهَا كيفَ تَسْرِي فيكَ؟ أم كيف تجولُ؟
فإذا كانَتْ طَوايَاكَ التي بين جَنْبَيكَ كذا فِيهَا ضلولُ
كيفَ تَدْرِي مَنْ على العرشِ استوى لاَ تَقُل كَيْفَ اسْتَوَى كَيْفَ النُّزُولُ[735]
وما أحْسن ما قيل:
عَلىَ عرْشِهِ الرَّحْمَنُ سُبْحَانَهُ اسْتَوىَ كَمَا أَخْبَرَ القُرْآنُ وَالمُصْطَفَى رَوَى
وَذَاكَ اسْتِواءٌ لاَئِقٌ بِجَلاَلِهِ وَأَبْرَأُ مِنْ قَوْلِي لَهُ العرْشُ قَدْ حَوَى
فَمَنْ قَالَ مِثْلَ الفُلْكِ كَانَ اسْتِواَؤُهُ عَلَى جَبَلِ الجودِي مِنْ شَاهِقٍ هَوَى
وَمَنْ يَتَّـبِعْ مَا قَدْ تـَشاَبَهَ يَبْتَغِي بِهِ فِتْنَةً أَوْ يَبْغِي تَأْوِيلَهُ غَوَى
فَلَمْ أَقُلِ اسْتَوْلَى وَلَسْتُ مُكَلَّفًا بِتَأْوِيِلِهِ كَلَّا وَلَمْ أَقُلِ احْتَوَى
ومَنْ قَالَ لي كَيْفَ اسْتَوَى لاَ أُجِيبُهُ بِشَيء سِوَى أَنِّي أَقُولُ لَهُ اسْتَوَى[736]
السؤالُ السادسُ
هل مذهبُ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبُ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ؟
شاعَ عندَ المتأخرينَ مِنَ المتكلِّمينَ: أنَّ طريقةَ السَّلفِ أسلمُ، وأنَّ طريقةَ الخلفِ أحكمُ، وهذا ليس بمستقيمٍ؛ لأنَّه ظنَّ أنَّ طريقةَ السَّلفِ مجرَّدُ الإيمانِ بألفاظِ القرآنِ والحديثِ منْ غير فقهٍ في ذلكَ، وأنَّ طريقةَ الخلفِ هي استخراجُ معاني النُّصوصِ المصروفةِ عنْ حقائقها بأنواعِ المجازاتِ.
فجمعَ هذا القائلُ بينَ الجهلِ بطريقةِ السَّلفِ، والدَّعوى في طريقةِ الخلفِ.
ثمَّ هذا القولُ إذا تدبَّرهُ الإنسانُ وجدَهُ في غايةِ الجهالةِ؛ بلْ في غايةِ الضَّلالة.
أليسَ هذا صريحًا: أنَّ السَّلفَ كانوا ضالِّينَ عَنِ التوحيدِ والتنزيهِ وعَلِمَهُ المتأخرونَ؟! وهذا فاسدٌ بضرورةِ العلمِ الصحيحِ والدينِ المتينِ... فيصفونَ إخوانهم بالفضيلةِ في العلمِ والبيانِ، والتحقيقِ والعرفانِ، والسَّلفَ بالنَّقصِ في ذلكَ والتقصيرِ فيهِ، أو الخطأ والجهلِ.
ولا ريبَ أنَّ هذا وإنْ لمْ يكنْ تكفيرًا للسَّلفِ، ولا تفسيقًا لهم، كان تجهيلًا لهم وتخطئةً وتضليلًا، ونسبةً لهم إلى الذنوبِ والمعاصي، وإنْ لم يكنْ فسقًا فزعمًا: أنَّ أهلَ القرونِ المفضولة في الشَّريعةِ أعلمُ وأفضلُ منْ أهلِ القرونِ الفاضلةِ.
ومِنَ المعلومِ بالضَّرورةِ لمنْ تدبَّرَ الكتابَ والسنَّةَ، وما اتَّفقَ عليهِ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ منْ جميعِ الطوائفِ: أنَّ خيرَ قرونِ هذهِ الأمَّةِ - في الأعمالِ والأقوالِ، والاعتقادِ وغيرهَا منْ كلِّ فضيلةٍ أنَّ خيرَها -: القرنُ الأوَّلُ، ثمَّ الذين يلونهم، ثمَّ الذين يلونهم، كما ثبتَ ذلكَ عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم منْ غيرِ وجهٍ، وأنَّهم أفضلُ مِنَ الخلفِ في كلِّ فضيلةٍ: منْ علمٍ وعملٍ وإيمانٍ وعقلٍ ودينٍ وبيانٍ وعبادةٍ، وأنَّهم أولى بالبيانِ لكلِّ مُشْكِلٍ. هذا لا يدفعهُ إلَّا منْ كابرَ المعلومَ بالضَّرورةِ منْ دينِ الاسلامِ، وأضلَّهُ الله على علمٍ.
هذا وقدْ قال صلى الله عليه وسلم: «لا يأتي عليكم زمانٌ إلَّا الذي بعدهُ شرٌّ منهُ، حتَّى تلقوا ربَّكم»[737]. فكيفَ يحدثُ لنا زمانٌ فيهِ الخيرُ في أعظمِ المعلوماتِ وهو معرفةُ الله تعالى؟ هذا لا يكونُ أبدًا.
وما أحسن ما قالَ الشافعيُّ رحمه الله في رسالتهِ: «هم فوقنا في كلِّ علمٍ وعقلٍ ودينٍ وفضلٍ، وكلِّ سببٍ يُنالُ به علمٌ أو يدركُ به هدًى، ورأيهم لنا خيرٌ منْ رأينا لأنفسنا»[738].
وقالَ العلَّامةُ الشنقيطيُّ رحمه الله: قولهم: «إنَّ مذهبَ السَّلفِ أسلمُ، ومذهبَ الخلفِ أحكمُ وأعلمُ» فنقول:
أوَّلًا: وصفوا مذهبَ السَّلفِ بأنَّهُ أسلمُ، وهي صيغةُ تفضيلٍ مِنَ السَّلامةِ[739] ومَا كانَ يفوقُ غيرهُ ويفضلهُ في السَّلامةِ فلا شكَّ أنَّهُ أعلمُ منهُ وأحكمُ.
ثانيًا: اعلموا أنَّ المؤولينَ ينطبقُ عليهم بيتُ الشافعيِّ رحمه الله:
رَامَ نَفْعًا فَضَرَّ مِنْ غَيرِ قَصْدٍ ومِنَ البِرِّ ما يَكُونُ عُقُوقًا
وإيضاحُ المقارنةِ: أنَّ منْ كانَ على معتقدِ السَّلفِ الصَّالحِ إذا سَمِعِ مثلًا قولَهُ تعالى: {عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طه: 5] امتلأ قلبهُ مِنَ الإجلالِ والتَّعظيمِ والإكبارِ لصفةِ ربِّ العالمينَ التي مَدَحَ بها نفسَهُ وأثنى عليهِ بهَا، فجزمَ بأنَّ تلكَ الصِّفةِ التي تمدَّحَ بهَا خالقُ السمواتِ والأرضِ بالغةٌ مِنْ غاياتِ الكمالِ والجلالِ ما يقطعُ علائقَ أوهامِ المشابهةِ بينهَا وبينَ صفاتِ الخلقِ.
وبإجلالِ تلكَ الصِّفةِ وتعظيمهَا وحملهَا على أشرفِ المعاني اللائقةِ بكمالِ منْ وَصَفَ بهَا نفسَهُ وجلالهُ، يسهلُ على المؤمنِ السَّلفيِّ أنْ يؤمنَ بتلكَ الصِّفةِ، ويثبتها لله كمَا أثبتهَا الله لنفسهِ على أساسِ التنزيهِ.
فيكونُ أوّلًا: منزِّهًا سالمًا منْ أقذارِ التَّشبيهِ.
وثانيًا: مؤمنًا بالصِّفاتِ، مصدِّقًا بها، على أساسِ التَّنزيهِ. فيكونُ سالمًا منْ أقذارِ التَّعطيلِ.
فيجمعُ بينَ التَّنزيهِ والإيمانِ بالصِّفاتِ على نحو {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11].
فمعتقدهُ طريقُ سلامةٍ محقَّقةٍ؛ لأنَّهُ مبنيٌّ على ما تضمنتهُ آيةُ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] الآية، مِنَ التَّنزيهِ، والإيمانِ بالصِّفاتِ.
فهوَ تنزيهٌ منْ غيرِ تعطيلٍ، وإيمانٌ منْ غيرِ تشبيهٍ ولا تمثيلٍ.
وكلُ هذا طريقُ سلامةٍ محقَّقةٍ، وعملٌ بالقرآنِ.فهذا هوَ مذهبُ السَّلفِ.
وأمَّا ما يسمُّونهُ مذهبُ الخلفِ فالحاملُ لهم فيهِ على نفيِ الصِّفاتِ وتأويلها: هو قصدهم تنزيهُ الله عنْ مشابهةِ الخلقِ.
ولكنَّهمْ في محاولتهم لهذا التنزيهِ وقعوا في ثلاثِ بلايا، ليستْ واحدةً منها إلَّا وهي أكبرُ منْ أختها:
الأولى: منْ هذهِ البلايا الثلاث: أنَّهم إذا سمعوا قولَ الله تعالى: {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3] زعموا أنَّ ظاهرَ الاستواءِ في الآيةِ هو مشابهةُ استواءِ المخلوقينَ. فتهجَّموا على ما وصفَ اللهُ بهِ نفسَهُ في محكمِ كتابهِ، وادَّعوا عليهِ أنَّ ظاهرَهُ المتبادر منهُ هو التَّشبيهُ بالمخلوقينَ في استوائهم.
فكأنَّهم يقولونَ لله: هذا الاستواءُ الذي أثنيتَ بهِ على نفسكَ في سبع آياتٍ منْ كتابكَ ظاهرهُ قذرٌ نجسٌ لا يليقُ بكَ لأنَّهُ تشبيهٌ بالمخلوقينَ، ولاَ شيءَ مِنَ الكلامِ أقذرُ وأنجسُ منْ تشبيهِ الخالقِ بخلقِه! سبحانكَ هذا بهتانٌ عظيمٌ!
وهذهِ هي البَلِيَّةُ الأولى التي هيَ التَّهجُّمُ على نصوصِ الوحيِ وادِّعاءُ أنَّ ظاهرَها تشبيهُ الخالقِ بالمخلوقِ، وناهيكَ بهَا بليَّة.
ثمَّ لمَّا تقرَّرتْ هذه البليَّةُ في أذهانهمْ، وتقذَّرتْ قلوبهمْ بأقذارِ التَّشبيهِ، اضطروا بسببها إلى نفيِ صفةِ الاستواءِ فرارًا منْ مشابهةِ الخلقِ التي افتروها على نصوصِ القرآن أنَّها هي ظاهرها.
ونفيُ الصِّفةِ التي أثنى الله بها على نفسِهِ منْ غيرِ استنادٍ إلى كتابٍ أو سنةٍ هو البليَّةُ الثانيةُ التي وقعوا فيها.
فحملوا نصوصَ القرآنِ أوَّلًا على معانٍ غيرُ لائقةٍ بالله، ثمَّ نفوهَا منْ أصلهَا، فرارًا مِنَ المحذورِ الذي زعموا.
والبليَّةُ الثالثةُ: أنَّهمْ يفسِّرونَ الصِّفةَ التي نفوهَا بصفةٍ أخرى، منْ تلقاءِ أنفسهم، منْ غيرِ استنادٍ إلى وحيٍ؛ معْ أنَّ الصِّفةَ التي فسَّرها بها هي بالغةٌ غايةَ التَّشبيهِ بالمخلوقينَ. فيقولون {اسْتَوَى} [طه: 5] ظاهرهُ مشابهةُ استواءِ المخلوقينَ. فمعنى {اسْتَوَى} [طه: 5]: استولى، ويستدلون بقولِ الراجزِ في إطلاقِ الاستواءِ على الاستيلاءِ:
قد استوى بِشْرٌ عَلَى العِراقِ من غير سَيفٍ وَدَمٍ مهراقِ
ولا يدرونَ أنَّهم شبَّهوا استيلاءَ الله على عرشهِ الذي زعموهُ باستيلاءِ «بِشْرِ بنِ مروانَ» على العراقِ!!
فأيُّ تشبيهٍ بصفاتِ المخلوقينَ أكبرُ منْ هذا؟! وهلْ يجوزُ لمسلمٍ أنْ يشبِّهَ صفةَ الله التي هي الاستيلاءُ المزعومُ بصفةِ بشرٍ التي هيَ استيلاؤهُ على العراقِ؟
وصفةُ الاستيلاءِ منْ أوغلِ الصِّفاتِ في التَّشبيهِ بصفاتِ المخلوقينَ، لأنَّ فيها التَّشبيهَ باستيلاءِ مالكِ الحمارِ على حمارهِ، ومالكِ الشَّاةِ على شاتهِ ويدخلُ فيها كلُّ مخلوقٍ قهرَ مخلوقًا واستولى عليه.
وفي هذا منْ أنواعِ التَّشبيه ما لا يحصيهِ إلَّا الله.
فإنْ زعمَ مَنْ شَبَّهَ أولًا، وعطَّلَ ثانيًا، وشبَّه ثالثًا أيضًا، أنَّ الاستيلاءَ المزعومَ منزَّهٌ عنْ مشابهةِ استيلاءِ المخلوقينَ.
قلنا لهُ: نحنُ نسألك ونطلبُ منكَ الجوابَ بإنصافٍ: أيُّهمَا أحقُّ بالتَّنزيهِ عنْ مشابهةِ الخلقِ! الاستواءُ الذي مَدَحَ الله بهِ نفسَهُ في محكمِ كتابهِ وهو في نفسِ القرآنِ الذي يتلى، ولتاليهِ بكلِّ حرفٍ منهُ عشرُ حسنَاتٍ، لأنَّهُ كلامُ الله، أمِ الأحقُّ بالتَّنزيهِ هو الاستيلاءُ الذي جئتمْ بهِ منْ تلقاءِ أنفسكمْ منْ غيرِ استنادٍ إلى وحيِ؟.
ولا شَكَّ أنَّ الجوابَ الحقَّ: أنَّ اللَّفظَ الواردَ في القرآنِ أحقُّ بالتَّنزيهِ والحملِ على أشرفِ المعاني وأكملها، منَ اللَّفظِ الذي جاءَ بهِ معطِّلٌ مِنْ كِيسِهِ الخاص، لا مستندَ لهُ مِنَ الوحيِ!
وبهذهِ الكلماتِ القليلةِ يظهرُ لكمُ: «أنَّ مذهبَ السَّلفِ أسلمُ وأحكمُ وأعلمُ»[740] وأهدى إلى الطريق الأقوم. ومذهبُ الخلفِ - الذي هو التأويلُ - بدعةٌ أحدثها المنتحلونَ وتمسَّكَ بها المبطلونَ[741].
السؤالُ السابعُ
هل التحدُّث بآياتِ الصفاتِ وأحاديثها فيه تلبيسٌ على العامَّةِ وفتنةٌ لهم، وفيه تمزيقُ وحدة الأمَّةِ؟
اعلمْ - بارك الله فيك - بأنَّ المشتغلينَ بعلمِ الكلامِ ينكرونَ على السلفيينَ التحدُّثَ بأحاديثِ الصِّفاتِ، زاعمينَ أنَّهُ فتنةٌ على العامَّةِ، وفيه مِنَ الإضلالِ وتمزيقِ وحدة الأمَّةِ.
وهذا الكلامُ باطلٌ منْ وجهينِ:
الأولُ:
أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يتلو آياتِ الصِّفاتِ ويتكلَّمُ بكلامهِ الذي فيهِ خبرٌ عَنِ الله تعالى وصفاتهِ، وكانَ يغشاهُ عليه الحضريُّ والبدويُّ، فلو كانَ بيانُ توحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ تلبيسًا على العامَّةِ لم يتفوَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم بشيءٍ منْ ذلكَ.
و«منْ زعمَ: أنَّ إطلاقَ ما أطلقهُ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم على الله عزَّ وجلَّ، في مجالسهِ الشريفةِ، ومجامعهِ المنيفةِ ممنوعٌ لنا، ومنهيٌّ عنه؛ فقدْ أتى بابًا كبيرًا، منْ أبوابِ إساءةِ الأدبِ بالله وبرسوله. ولم يَكُنِ الله ولا رسولهُ، قطٌّ: عاجزينَ عنْ أنْ لا يأتيا بهذه الألفاظِ الموهمةِ: للتَّجسيم والتَّشبيه. بلْ قالا مَا يكونُ صريحًا في التَّنزيهِ والتَّقديسِ.
فهذا الزعمُ - منْ أهلِ التَّأويلِ، والكلامِ -: منْ أبطلِ الباطلاتِ، وأنكرِ المنكراتِ.
ونحنُ إذا تلونَا قولَه سبحانهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص: 4] تلاشَتْ شُبَهُ التمثيلِ والتكييفِ، بحذافيرهَا. ولم يبقَ لشيءٍ مِنَ التجسيمِ والتشبيهِ مَسَاغٌ.
فنحنُ نسبِّحهُ ونقدِّسهُ عنْ جميعِ سماتِ النَّقصِ، والزوالِ. ونثبتُ لهُ ما أثبتهُ لنفسهِ المقدَّسة، ووصفهُ بهِ رسولهُ - فيمَا صحَّ عنهُ، روايةً - وهذا هوَ مختارُ جمهورِ السَّلف، ومشربُ الصالحينَ مِنَ الخلفِ. ومنْ خالفَ ذلكَ: فقدْ خالفَ هذه الشريعةَ، بلِ الشرائعَ كلَّها»[742].
الثاني:
القولُ بأنَّ بيانَ صفاتِ الله تعالى بدونِ تعطيلها وبدونِ تحريفِ نصوصها فيهِ إضلالٌ وتمزيقٌ لوحدةِ الأمَّةِ، قولٌ في غايةِ السفاهةِ والفسادِ، فإنَّ المتكلِّمينَ مِنَ الجهميَّةِ المعطِّلةِ هم الذين مزَّقُوا وحدةَ هذهِ الأمَّةِ، وأتوا بضلالِ التَّعطيلِ وإضلالِ التَّحريفِ.
وأمَّا السَّلفيُّون فهم بحمدِ اللهِ يدعونَ النَّاس إلى ما كان عليه سلفُ هذهِ الأمَّةِ ولا يجمعُ شملُ هذهِ الأمَّة إلَّا بتوحيدِ العقيدةِ وتوحيدِ الصُّفوفِ. وهذا لا يمكنُ إلَّا بالتمسُّكِ بالكتابِ والسنَّةِ وما عليهِ أئمَّةُ هذهِ الأمَّةُ في العقائدِ والأعمالِ[743].
ونحنُ نقولُ: لا مخافةَ على العَامَّةِ منْ فهمِ الاستواءِ فهمًا فاسدًا. فإنَّ كتابَ الله وسنَّة نبيِّه صلى الله عليه وسلم قدْ تلقتهما الأمَّةُ بالقبولِ والتَّسليمِ ولم يُتَطَرَّقْ إلى أذهانِ أحدٍ منهم هذا المفهومُ الخاطئُ، وإنَّما يُخَافُ على العَّامةِ منْ تأويلاتِ أهلِ الكلامِ ودعاويهم الباطلةِ. الذين يرددون في مجالسهم: «كانَ اللهُ ولا مكان وهو الانَ على ما عليهِ كان» و«إنَّ الله خلقَ العرشَ إظْهارًا لقدْرتهِ ولمْ يتخذه مكانًا لذاتهِ» وأمثال هذا الهذيان الذي هوَ منْ وحيِّ الشَّيطانِ.
السؤالُ الثامنُ
هل آياتُ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه؟
اعلمْ رحمكَ الله بأنَّ أهلَ الكلامِ جعلوا آياتِ الصفاتِ مِنَ المتشابَهِ التي لا يعلمُ معناها إلَّا الله سبحانه وتعالى.
وهذا افتراءٌ قبيحٌ، وبهتٌ صريحٌ، وكذبٌ شنيعٌ، وتقوُّلٌ فظيعٌ، وضلالٌ وإضْلالٌ. وهذا يتبيَّنُ منْ وجوهٍ:
الوجهُ الأولُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قالَ في كتابهِ العزيزِ: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا *} [محمد: 24]، وقال تعالى: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الألْبَابِ *} [ص: 29]، وقال تبارك وتعالى: {أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ *} [المؤمنون: 68]، وقال تعالى: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا *} [النساء: 82].
فالله سبحانه وتعالى «قدْ أمرَ بتدبُّر القرآنِ مطلقًا، ولم يستثن منهُ شيئًا لا يتدبَّر، ولا قالَ: لا تدبَّروا المتشابه، والتدبُّر بدونِ الفهمِ ممتنعٌ، ولو كانَ مِنَ القرآنِ ما لا يُتَدبَّر لم يعرفْ، فإنَّ الله لم يميِّز المتشابه بحدٍ ظاهرٍ حتَّى يجتنبَ تدبُّرُه»[744].
الثاني:
أنَّ الله سبحانه وتعالى وصفَ القرآنَ بأنَّه: {وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدىً وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ} [يونس: 57]، ووصفهُ بقوله: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ} [المائدة: 15]، وقالَ تعالى: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء: 9].
فلمَّا أخبرَ سبحانه وتعالى بأنَّ القرآنَ شفاءٌ، وهدىً، ورحمةٌ، ونورٌ، ومبينٌ، ولم يستثنِ منهُ شيئًا دلَّ على أنَّهُ كلَّهُ كذلكَ، وأنَّهُ ممَّا يمكنُ فهمُ معناه، ولو لمْ يمكنْ فهمُ معناه لمْ تتحقَّقْ فيهِ هذهِ الصفاتُ[745].
الثالثُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [يوسف: 2]، وقال: {إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ *} [الزخرف: 3].
فبيَّن سبحانهُ أنَّهُ أنزلهُ عربيًّا ليعقلَ، والعقلُ لا يكونُ إلَّا معَ العلمِ بمعانيه[746].
الرابعُ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى قال: {وَمِنْهُمْ أُمِيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ *} [البقرة: 78].
فالله تعالى قدْ ذَمَّ هؤلاءِ الذينَ لا يعرفونَ الكتابَ إلَّا تلاوةً دونَ فهمِ معانيهِ، كما ذمَّ الذين يحرِّفون الكلمَ عنْ مواضعهِ منْ بعد ما عقلوهُ وهم يعلمونَ، فإنَّه سبحانه وتعالى قالَ عقبَ الآيةِ السابقةِ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيدِيهِمْ وَوَيلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ *} [البقرة: 79].
فهذا يدلُّ على أنَّ كلا النوعينِ مذمومٌ: الجاهلُ الذي لا يفهمُ معاني النُّصوصِ، والكاذبُ الذي يحرِّفُ الكلمَ عنْ مواضعهِ[747].
والمقصودُ أنَّ الله سبحانه وتعالى ذمَّ منْ لا يعرفُ منْ كتابهِ إلَّا مجرَّد التلاوةِ دونَ فقهٍ ولا فهمٍ لمعانيهِ، وأنَّ ذلكَ منْ خصالِ اليهودِ.
ولذلكَ فإنَّ الله تعالى يقولُ: {وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا * وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا} [الإسراء: 45 - 46].
وقال تعالى: {فَمَالِ هَؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} [النساء: 78].
فلو «كان المؤمنون لا يفقهونهُ أيضًا لكانوا مشاركينَ للكفَّارِ والمنافقينَ فيما ذمَّهمُ الله تعالى بهِ»[748].
الخامسُ:
أنَّهُ تعالى ذمَّ منْ لمْ يكنْ حظُّهُ مِنَ السَّماعِ إلَّا سماع الصَّوتِ دونَ فهمِ المعنى واتِّباعهِ، فقالَ: {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ *} [البقرة: 171]، وقالَ تعالى: {أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا *} [الفرقان: 44]، وقال تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ *} [محمد: 16].
فمنْ جعلَ السَّابقينَ الأوَّلِينَ مِنَ المهاجرينَ والأنصارِ والتَّابعينَ لهم بإحسانٍ غير عالمين بمعاني القرآن جعلهم بمنزلةِ الكفَّارِ والمنافقينَ فيما ذمَّهم الله تعالى عليه[749].
السادسُ:
أنَّ الله تعالى قالَ: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى} [العنكبوت: 51]، وقال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا} [النساء: 174].
ولوْ لمْ يكنِ القرآنُ مفهومًا ومعلومًا لمْ يكنْ كافيًا ولمْ يكنْ برهانًا.
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله: ومِنَ المحالِ أن يكونَ الكتابُ الذي يخالفهُ صريحُ العقلِ كافيًا، وإنما يكون كافيًا لمنْ قدَّمهُ على كلِّ معقولٍ ورأيٍّ وقياسٍ وذوقٍ، وحقيقةٍ وسياسةٍ، فهذا الكتابُ في حقِّهِ كافٍ لهُ، كما أنَّهُ إنَّما يكونُ رحمةً وذكرى لهُ دونَ غيرهِ، وأمَّا منْ أعرضَ عنهُ أو عارضهُ بآراءِ الرجالِ فليس بكافٍ لهُ ولا هو في حقِّهِ هدًى ولا رحمةً، بلْ هوَ مِنَ الذين آمنوا بالباطلِ وكفروا بالله[750].
السابعُ:
قولُهُ تعالى: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44].
فإنَّهُ يدلُّ على أنَّهُ يبيِّنُ للنَّاسِ جميعَ ما نُزِّلَ إليهم فيكونُ جميعُ المنزل مبينًا عنه يمكنُ معرفتهُ وفهمهُ، وقولُهُ تعالى: {وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: 44] يدلُّ على ذلكَ، فإنَّ التفكُّرَ طريقٌ إلى العلمِ وما لا يمكنُ العلمُ بهِ لا يؤمرَ بالتفكُّرِ فيهِ.
الثامنُ:
قولُهُ تعالى: {اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ *} [الأعراف: 3]، وقولُهُ تعالى: {اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [الأنعام: 106].
ومعلومٌ أنَّ اتباعَ ما أمرهم الله تعالى مِنَ الكتاب والحكمة إنَّما يمكنُ بعدَ فهمهِ وتصوُّرِ معناه، ومَا كانَ مِنَ الكلامِ لا يمكنُ أحدًا فهمهُ لمْ يمكن اتباعهُ، بلْ كانَ الذي يسمعهُ كالذي لا يسمعُ إلَّا دعاءً ونداءً، وإنَّما الاتباعُ لمعاني الكلامِ.
التاسعُ:
قولُهُ تعالى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ} [البقرة: 213].
ومعلومٌ أنَّ حكمَ الله بالكتابِ أو حكمَ الكتابِ بين المختلفين لا يمكنُ إلَّا إذا عرفوا ما حكمَ بهِ مِنَ الكتابِ، وما تضمَّنهُ الكتابُ مِنَ الحكمِ، وذلكَ إنَّما يمكنُ إذا كانَ ممَّا يمكنُ فهمُ معناهُ وتصوُّرُ المرادُ بهِ دونَ ما يمتنعُ ذلكَ منهُ.
العاشرُ:
قولُهُ تعالى: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
قال المفسِّرونَ: لو جعلهُ قرآنًا أعجميًا لأنكروا ذلكَ، وقالوا: هلَّا بَيَّنْتَ آياتهِ بلغةِ العربِ لنفهمهُ، أقرآنٌ أعجميٌّ ورسولٌ عربيٌّ؟![751].
فقدْ بيَّن سبحانه وتعالى أنَّه لو جعلهُ أعجميًا لأنكروهُ، فجعلهُ عربيًا ليفهمَ معناهُ، وليندفعَ مثلُ هذا القولِ، ومعلومٌ أنَّه لو كان أعجميًا لأمكنهم التَّوصلُ إلى فهمهِ بأنْ يترجمَ لهم مترجمٌ، إمَّا أنْ يسمعَهُ مِنَ الرسولِ ويترجمهُ، أو يحفظهُ لهم أعجميًا ثمَّ يترجمهُ لهم، كما أنَّ مِنَ العجمِ منْ يحفظُ القرآنَ عربيًا ولا يفهمُ، ويُتَرْجَمُ لهُ، وأمَّا إذا كان عربيًا لا يمكنُ أحدًا أنْ يفهمهُ لا الرسولُ ولا المرسلُ إليهم فإنكارُ هذا أعظمُ منْ إنكارِ كونهِ أعجميًا، وإذا كان الله تعالى قدْ بيَّن أنَّه لا يفعلُ الأوَّلَ فهوَ ألَّا يفعل هذا أولى وأحرى.
الحادي عَشَرَ:
أنَّ الله تعالى وصفَ آياتِ القرآنِ بقولهِ: {كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ} [هود: 1]، وقوله: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ} [يونس: 1]، وقولُهُ: {تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ} [الحجر: 1].
وما لا يمكن فهمهُ فإنَّهُ لم يُحْكَمْ، ولم يُفَصَّلْ، ولم يبَيَّنْ.
الثاني عَشَرَ:
أنَّ الله مدحَ القرآنَ وبيَّنَ اشتماله على علمهِ، كمَا قالَ سبحانه وتعالى: {لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ} [النساء: 166].
وإذا كانَ كذلكَ دلَّ على أنَّ ما فيهِ منَ العلمِ لمْ يستأثرِ الله تعالى بهِ بلْ أنزلهُ إلى عبادهِ وعلَّمهم إيَّاه، وهوَ منْ علمهِ الذي قالَ فيهِ: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ} [البقرة: 255]، وهذا لا يكونُ إلَّا إذا أمكنَ فهمُ معناه، وإلَّا فاللَّفظُ الذي لا يمكنُ فهمُ معناه لا علمَ فيهِ لأحدٍ، ومثلُ هذا قولُهُ تعالى: {فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ} [هود: 14].
الثَّالِثُ عَشَرَ:
وأيضًا فالكلامُ إنَّما المقصودُ بهِ الإفهامُ، فإذا لمْ يُقصدْ بهِ ذلكَ كان عبثًا وباطلًا، والله تعالى قدْ نزَّهَ نفسَهُ عنْ فعلِ الباطلِ والعبثِ. فكيفَ يقولُ الباطلَ والعبثَ ويتكلَّمُ بكلامٍ ينزلهُ على خلقهِ لا يريدُ بهِ إفهامهم؟![752].
الرابع عَشَرَ:
أنَّ الله سبحانه وتعالى تحدَّى العربَ بالقرآنِ، ولوْ لمْ تكنْ معانيه معلومةً لديهم لمْ يصحَّ أنْ يتحدَّاهم بهِ.
الخامس عَشَرَ:
إنَّ الصَّحابةَ والتَّابِعينَ قد تكلَّموا في معاني آياتِ الصفاتِ بل قدْ فَسَّروا جميعَ القرآنِ وعلِموا معانيه.
قال شيخ الإسلام رحمه الله: «فالسَّلفُ مِنَ الصَّحابةِ والتابعينَ وسائرِ الأمَّةِ قدْ تكلَّموا في جميعِ نصوصِ القرآنِ: آياتُ الصفاتِ وغيرهَا، وفسَّروها بما يوافقُ دلالتها وبيانها، ورووا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أحاديثَ كثيرةً توافقُ القرآنَ، وأئمَّةُ الصَّحابةِ في هذا أعظمُ منْ غيرهم»[753].
قال ابنُ مسعود رضي الله عنه: «والله الذي لا إلَه غيرُه ما أنزلت سورةٌ منْ كتابِ الله إلَّا أنا أعلمُ أينَ أنزلتْ، ولا أنزلتْ آيةٌ منْ كتابِ الله إلَّا أنَا أعلمُ فيما أنزلتْ، ولو أعلمُ أحدًا أعلَمَ مني بكتاب الله تبلغه الإبلُ لركِبْتُ إليه»[754].
وقال رضي الله عنه: «كُنَّا إذا تَعَلَّمْنَا من النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عشرَ آيات مِنَ القرآنِ لم نتعلَّم مِنَ العشرِ الذي نزلت بعدها حتَّى نعلم ما فيه»[755].
فالصَّحابة رضي الله عنهم نقلوا عَنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّهم كانوا يتعلَّمُون منهُ التفسيرَ مَعَ التلاوةِ، ولم يذكرْ أحدٌ منهم عنه قطٌ أنه امتنع من تفسير آية[756].
فمنْ قالَ إنَّ جبريلَ عليه السلام ومحمدًا صلى الله عليه وسلم والصَّحابةَ والتابعينَ وسلفَ الأمَّةِ كانوا يقرءونَ نصوصَ الصِّفاتِ ولا يعرفونَ لها معنًى بلْ معناها ممَّا استأثرَ الله بهِ فقدْ كذبَ على القومِ، والنُّقولُ المتواترةُ عنهم تكذِّب هذا الزعمَ[757].
السَّادس عَشَرَ:
قولُهُ تعالى: {وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِيَ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ *} [سبأ: 5]. فلولاَ أنَّهم عرفوا معنى ما أنزلَ كيفَ عرفوا أنَّه حقٌ أو باطلٌ، وهل يحكمُ على كلامٍ لم يُتَصَوَّر معناه أنَّهُ حقٌّ أو باطلٌ؟[758].
السابعُ عَشَرَ:
قولُهُ تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ *} [الطارق: 13] أي: فاصلٌ يفصلُ بينَ الحقِّ والباطلِ، فكيفَ يكونُ فصلًا إذا لم يكنْ إلى معرفةِ معناه سبيلٌ؟[759].
الثامنُ عَشَرَ:
أنَّ اللهَ سبحانه وتعالى يَسَّرَ القرآنَ للذِّكرِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ *} [القمر: 17]. وتيسيرهُ للذِّكرِ يتضمَّنُ أنواعًا مِنَ التيسيرِ:
إحداها: تيسيرُ ألفاظهِ للحفظِ.
الثاني: تيسيرُ معانيهِ للفهمِ.
الثالث: تيسيرُ أوامرهِ ونواهيهِ للامتثالِ.
ومعلومٌ أنَّه لو كانَ بألفاظٍ لا يفهمهَا المخاطَبُ، لم يكنْ ميسَّرًا لهُ، بلْ كانَ معسَّرًا عليهِ، فهكذا إذا أريدَ مِنَ المخاطَبِ أنْ يفهمَ مِنْ ألفاظهِ ما لا يدلُّ عليهِ مِنَ المعاني، أو يدلُّ على خلافهِ فهذا منْ أشدِّ التعسيرِ، وهوَ منافٍ للتيسيرِ؛ فإنَّه لا شيءَ أعسرُ على الأمَّةِ منْ أنْ يرادَ منهمْ أن يفهموا منْ آياتِ الصِّفاتِ ما لا تدلُ عليهِ، بل تَدلُّ على خلافهِ ويقولُ: اعلموا يا عبادي أنِّي أردتُ منكم أنْ تعلموا أنِّي لستُ فوقَ العالمِ، ولا تحتَهُ، ولا فوقَ عرشي، ولا ترفعُ الأيدي إليَّ ولا يعرجُ إليَّ شيءٌ، ولا ينزلُ منْ عندي شيءٌ منْ قولي: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه: 5]. ومن قولي: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50]. ومنْ قولي: {تَعْرُجُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج: 4]. ومنْ قولي: {بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ} [النساء: 158]. ومنْ قولي: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ} [غافر: 15]. ومنْ قولي: {وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ} [البقرة: 255]. ومنْ قولي: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى *} [الأعلى: 1]. ومنْ قولي: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك: 16]. ومنْ قولي: {تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 42]. ومنْ قولي: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ} [النحل: 102].
فإنَّكم إذا فهمتم منْ هذهِ الألفاظِ حقائقهَا وظواهرهَا فهمتم خلافَ مرادي منها، بلْ مرادي منكم أنْ تفهموا منها ما يدلُّ على خلافِ حقائقهَا وظواهرهَا. فأيُّ تيسيرٍ يكونُ هناكَ وأيُّ تعقيدٍ وتعسيرٍ لم يحصلْ بذلكَ، ومعـلومٌ أنَّ خطابَ الرجلِ بما لا يفهمهُ إلَّا بترجمةٍ أيسرُ عليهِ منْ خطابهِ بما كلِّفَ أنْ يفهمَ منهُ خلافَ موضوعهِ وحقيقتهِ بكثيرٍ. فإنَّ تيسيرَ القرآنِ منافٍ لطريقةِ النُّفاةِ المحرِّفِينَ أعظمُ منافاةٍ[760]. الذينَ يقولونَ إنَّ آياتِ الصِّفاتِ ظاهرهَا التَّشْبيهُ فنفوِّضُ أو نؤوِّلُ، كمَا قالَ قائلهم:
وكُلُّ نَصٍّ أَوْهَمَ التَّشْبِيهَا أَوِّلْهُ أو فَوِّضْ ورُمْ تَنْزِيها
فمنْ تدبَّرَ القرآنَ، وعرفَ مقصودَ القرآنِ: تبيَّن لهُ المرادُ، وعرفَ الهدى والرسالةَ، وعرفَ السَّدادَ مِنَ الانحرافِ والاعوجاجِ[761]، وتبيَّنَ لهُ بُطْلانُ قولِ منْ يقولُ: إنَّ آياتِ الصِّفاتِ مِنَ المتشابَه.
والحَقُّ أَبْلَجُ لا تَزِيغُ سَبِيلُهُ والحَقُّ يَعْرِفُهُ ذوُو الأَلْبَابِ[762]
No comments:
Post a Comment