بسم الله الرحمن الرحيم
الشُّبْهَةُ الخَامِسَةُ
لو كانَ مَوْصُوفًا بالعُلُوِّ لكانَ جسمًا، ولو كانَ جسمًا لكان مماثلًا لِسَائِرِ الأَجْسَامِ، واللهُ قد نَفَى عنه المِثْلَ[459].
أقول وبالله التوفيق: هنا ثلاثُ مقدِّماتٍ حصلَ فيها التَّلبيسُ:
أحدُها: كونُ كلِّ عالٍ جسمًا.
والثاني: كونُ الأجسامِ متماثلةٌ.
والثالثُ: كونُ هذا التماثلِ هو المرادُ بالمثلِ في لغةِ العربِ التي نزلَ بها القرآن[460].
والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ:
الأولُ:
قَدِ ادَّعيتَ أيُّها الجهميُّ أنَّ ظاهرَ القرآنِ، الذي هوَ حجَّةُ الله على عبادهِ، والذي هو خيرُ الكلامِ، وأصْدقُهُ، وأحْسنُهُ، وأفْصحُهُ، وهوَ الذي هدى الله بهِ عبادَهُ، وجعلَهُ شفاءً لما في الصُّدورِ، وهدًى ورحمةً للمؤمنينَ، ولمْ ينزلْ كتابٌ مِنَ السَّماءِ أهدى منهُ، ولا أحْسنَ ولا أكْملَ، فانتهكْتَ حرمتَهُ، وادَّعيتَ أنَّ ظاهرَهُ يستلزمُ التَّشبيهَ والتَّجسيم[461]. وهذا الإلزامُ إنَّما هوَ لمنْ جاءَ بالنُّصوصِ الدَّالةِ على علوِّ الله على العرشِ، وتكلَّم بهَا، ودعَا الأمَّةَ إلى الإيمانِ بهَا ومعْرفتِهَا، ونهاهم عنْ تحْريفِهَا وتبديلِهَا.
يَا قَوْمُ واللهِ العَظِيـمِ أَسَأْتُـمُ بِأَئِمَّةِ الإسْلاَمِ ظَنَّ الشَّانِ
مَا ذَنْبُهُمْ وَنَبِيُّهُمْ قَدْ قَالَ مَا قَالوا كَذَلكَ مُنْزِلُ الفُرْقَانِ
مَـا الذَّنـبُ إلاّ للنصُوصِ لَديكمُ إِذْ جَسَّمَتْ بَلْ شَبَّهتْ صِنْفَـانِ
مَا ذنْبُ مَنْ قَدْ قَـالَ مَا نَطَقَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ عُـدْوَان[462]
الثاني:
نحنُ أثبتنا لله غايةَ الكمالِ، ونعوتَ الجلالِ، ووصفناهُ بكلِّ صفةِ كمالٍ فإنْ لزمَ منْ هذا تجسيمٌ، أو تشبيهٌ لم يكنْ هذا نقصًا، ولا عيبًا، ولا ذمًَّا، بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، فإنَّ لازمَ الحقِّ حقٌ، وما لزمَ منْ إثباتِ كمالِ الرَّبِّ ليسَ بنقصٍ، وأمَّا أنتم فنفيتم عنهُ صفاتِ الكمالِ، ولا ريبَ أنَّ لازمَ هذا النَّفيِّ وصفهُ بأضدادها مِنَ العيوبِ، والنَّقائصِ، فما سوَّى الله ولا رسولهُ ولا عقلاءُ عبادهِ بينَ منْ نفى كمالَهُ المقدَّسَ حذرًا مِنَ التجسيمِ، وبينَ منْ أثبتَ كمالَهُ الأعظمَ وصفاته العلى بلوازمِ ذلكَ كائنةً ما كانت[463].
لاَ تَجْعَلُوا الإِثْبَاتَ تَشْبِيهًا لَهُ يَا فِرْقَةَ التَّشْبِيهِ وَالطُّغْيَانِ
كَمْ تَرْتَقُونَ بِسُلَّمِ التَّنْزِيهِ لِلْتَّـ ـعْطِيلِ تَرْوِيجًا عَلَى العُمْيَانِ
فَاللهُ أكْبَرُ أنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ كِصِفَاتِنَا جَلَّ العَظِيمُ الشَّانِ
هَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ لاَ إثْبَاتُ أوْ صَافِ كَمَالٍ فَمَا هُمَا سِيَّانِ[464]
سَمَّيْتُمُ التَّحْرِيفَ تَأوِيلًا كَذَا التَّـ ـعْطِيلَ تَنْزِيهًا هُمَا لَقَبَانِ
وَأضَفتُم أمرًا إلَى ذَا ثَالِثًا شَرًّا وَأَقْبَحَ مِنْهُ ذَا بُهْتَانِ
فَجَعَلْتُم الإِثْبَاتَ تَجْسِيمًا وَتَشْـ بيهًا وَذَا مِنْ أقْبَحِ العُدْوَانِ
فَقَلَبْتُمُ تِلْكَ الحَقَائِقَ مِثْلَ مَا قُلِبَتْ قُلُوبُكُمُ عَنِ الإِيمَانِ
وَجَـعَلْتُمُ الممـدُوحَ مَذْمُومًا كَذَا بالعكْس حَتَّى اسْتَكْمَلَ اللَّبْسَانِ[465]
الثالثُ:
ماذا تعنونَ بقولكم «لو كانَ فوقَ العرشِ لكانَ جسمًا»؟ أتعنونَ بهِ أنَّهُ ما يتضمَّنُ مماثلةَ الله لشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ في شيءٍ منْ صفاتهِ؛ فاللهُ سبحانهُ منزَّهٌ عنْ أنْ يوصفَ بشيءٍ مِنَ الصِّفاتِ المختصَّةِ بالمخلوقينَ، وكلُّ ما اختصَّ بالمخلوقِ فهوَ صفةُ نقصٍ، والله تعالى منزَّهٌ عَنْ كلِّ نقصٍ ومستحقٌّ لغايةِ الكمالِ، وليسَ لهُ مثلٌ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ فهوَ منزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ مطلقًا، ومنزَّهٌ في الكمالِ أنْ يكونَ لهُ مثلٌ، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * َلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص 1 - 4]، فبيَّنَ أنَّهُ أحدٌ صمدٌ، واسمهُ الأحدُ يتضمَّنُ نفيَّ المثلِ، واسمهُ الصَّمدُ يتضمَّنُ جميعَ صفاتِ الكمالِ[466].
وإذا كانَ اللهُ ليسَ منْ جنسِ الماءِ والهواءِ، ولا الرُّوحِ المنفوخةِ فينا، ولا منْ جنسِ الملائكةِ، ولا الأفلاكِ، فلأن لا يكونَ منْ جنسِ بدنِ الإنسانِ ولحمهِ وعصبهِ وعظامهِ، ويدهِ ورجلهِ ووجههِ، وغيرِ ذلكَ منْ أعضائهِ وأبعاضهِ، أولى وأحرى[467].
وإنْ أردتم بالجسمِ المركَّبِ وهوَ مَا كانَ مفترقًا فركَّبهُ غيرهُ، كمَا تُركَّبُ المصنوعاتُ مِنَ: الأطعمةِ، والثيابِ والأبنيةِ، ونحو ذلكَ منْ أجزائها المفترقةِ. والله تعالى أجلُّ وأعظم منْ أنْ يُوصفَ بذلكَ، بلْ منْ مخلوقاتهِ ما لا يُوصفُ بذلكَ، ومنْ قالَ ذلكَ[468] فهوَ منْ أكفرِ النَّاسِ وأضلِّهم وأجهلهم وأشدِّهم محاربةً لله.
وإنْ أردتم بهِ «أنَّ الرَّبَّ مركَّبٌ مؤلَّفٌ بمعنى أنَّهُ يقبلُ التفريقَ والانقسامَ والتجزئةَ، فهذا منْ أكفرِ النَّاسِ وأجهلهم»[469].
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يوصفُ بالصِّفاتِ، ويُرى بالأبصارِ، ويتكلَّمُ، ويُكَلَّمُ، ويسمعُ، ويبصرُ، ويرضى، ويغضبُ، فهذه المعاني ثابتةٌ للرَّبِّ تعالى وهوَ موصوفٌ بها، فلا ننفيها عنهُ بتسميتكم للموصوفِ بها جسمًا، ولا نردُّ ما أخبرَ بهِ الصَّادقُ عنِ الله وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ لتسميةِ أعداءِ الحديثِ لنا حشويةٌ. ولا نجحدُ صفاتِ خالقنا وعلوَّهُ على خلقهِ واستواءهُ على عرشهِ؛ لتسميةِ الفرعونيَّةِ المعطِّلةِ لمنْ أثبتَ ذلكَ مجسِّمًا مشبِّهًا.
فإن كانَ تجسيمًا ثبوتُ استوائِهِ على عَرْشِهِ إني إذًا لَمُجَسِّمُ
وإنْ كانَ تشبيهًا ثبوتُ صِفَاتِهِ فمن ذلكَ التَّشْبِيهِ لا أَتَكَتَّمُ
وإنْ كان تنزيهًا جحودُ استوائِهِ وأوصافِهِ أو كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ
فعَـنْ ذلكَ التَّنْزِيهِ نَزَّهْتُ رَبَّنا بِتَوْفِيقِـهِ واللهُ أَعْلَـى وأَعْلَـمُ
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يُشارُ إليهِ إشارةٌ حيَّةٌ، فقدْ أشارَ إليهِ أعرفُ الخلقِ بهِ بأصبعهِ رافعًا لها إلى السَّماءِ، يُشْهدُ الجمعَ الأعظمَ مشيرًا لهُ.وإنْ أردتم بالجسمِ ما يقالُ أينَ هو؟ فقدْ سألَ أعلمُ الخلقِ بهِ عنهُ بأينَ منبِّهًا على علوِّهِ على عرشهِ.
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يلحقهُ «مِنْ» و«إِلىَ» فقدْ نزلَ جبريلُ منْ عندهِ، ونزل كلامهُ منْ عندهِ، وعرجَ برسولهِ صلى الله عليه وسلم إليهِ، وإليهِ يصعدُ الكلمُ الطيِّبُ، وعندهُ المسيحُ رفعَ إليهِ.
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يكونُ فوقَ غيرهِ، ومستويًا على غيرهِ، فهو سبحانه وتعالى فوقَ عبادهِ مستوٍ على عرشهِ.
الرابعُ:
لاَ يلزمُ منِ استواءِ الله عَلَى عرشهِ، أنْ يكونَ جسمًا بالمعنى الَّذي اصطلحوا عليهِ، لاَ عقلًا وَلاَ سمعًا إلَّا بالدَّعاوى الكاذبةِ. فدعوى هَذَا اللُّزومِ عينُ البهتِ والكذبِ الصُّراحِ؛ بل العرشُ خلقٌ مِنْ خلقهِ، ولا يلزمُ مِنْ كونِهِ فوقَ السَّمواتِ كلِّها أنْ يكونَ مركَّبًا مِنَ الجواهرِ الفردةِ ولا مِنَ المادَّةِ والصُّورةِ ولا مماثلًا لغيرهِ مِنَ الأجْسامِ، وكذلكَ جبريلُ مخلوقٌ مِنْ مخلوقاتهِ وهوَ ذو قوَّةٍ وحياةٍ وسمعٍ وبصرٍ وأجنحةٍ ويصعدُ وينزلُ ويُرى بالأبصارِ، ولا يلزمُ مِنْ وصفهِ بذلكَ أنْ يكونَ مركَّبًا مِنَ الجواهرِ الفردةِ، ولا مِنَ المادَّةِ والصُّورةِ، ولا أنْ يكونَ جسمهُ مماثلًا لأجْسامِ الشياطينِ، فدعونَا منْ هَذَا الفشرِ[470] والهذيانِ، والدَّعاوى الكاذبةِ. والتَّفاوتُ الذي بينَ اللهِ وخلقهِ أعْظمُ مِنَ التَّفاوتِ الذي بينَ جسمِ العرشِ وجسمِ الثرى والهواءِ والماءِ، وأعْظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ أجْسامِ الملائكةِ وأجْسامِ الشياطينِ، والعاقلُ إذا أطلقَ على جسمٍ صفةً مِنْ صفاتِهِ - وعندهُ منْ كلِّ وجهٍ موصوفٌ بتلكَ الصِّفةِ - لمْ يلزمْ منْ ذلكَ تماثلهَا؛ فإذا أطْلقَ على الرجيعِ، الذي قدْ بلغَ غايةَ الخبثِ، أنَّهُ جسمٌ قائمٌ بنفسهِ ذو رائحةٍ ولونٍ، وأطلقَ ذلكَ على المسكِ، لمْ يقلْ ذو حسٍ سليمٍ ولا عقلٍ مستقيمٍ، إنَّهما متماثلانِ، وأينَ التَّفاوتُ الذي بينهمَا مِنَ التَّفاوتِ الذي بين اللهِ وخلقهِ، فكمْ تلبِّسونَ وكمْ تدلِّسونَ وتموِّهونَ؟!
فكيفَ يجوزُ بعدَ هذا أنْ يقالَ: إذا كانَ الرحمنُ فوقَ العرشِ أنْ يكونَ مماثلًا لخلقهِ؟! والله تعالى ليسَ كمثلهِ شيءٌ في ذاتهِ ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ. حتَّى لَوْ قدِّرَ لزومُ ذَلِكَ كلِّهِ لكانَ التزامهُ أسهلَ مِنْ تعطيلِ علوِّهِ عَلَى عرشهِ، وجعلهِ بمنزلةِ المعدومِ الممتنعِ، الَّذي لاَ هوَ داخلَ العالمِ وَلاَ خارجهُ[471].
عطَّلْتُمُ السَّبع السموات العـلا والعَرْشَ أخْليتُم مـنَ الرحمـن[472]
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
قَدْ عَطَّلَ الرَّحْمَنُ أفْئِدَةً لَهُمْ مِنْ كُلِّ مَعْرِفَةٍ وَمِنْ إيمَانِ
إذْ عَطَّلُـوا الرَّحْمَنَ مِنْ أوصَافِهِ وَالعَـرْشَ أخْلَوْهُ مِنَ الرَّحْمنِ[473]
أيُّها المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ: إنَّ نفيَكم لعلوِّ الله تعالى على العرشِ بدعوى التَّجسيمِ، خطأٌ فِي اللَّفظِ والمعنى، وجنايةٌ عَلَى ألفاظِ الوحي.
أمَّا اللَّفظيُّ: فتسميتكم علوَّ اللهِ على العرشِ تجسيمًا وتشبيهًا وتحيُّزًا. وتواصيتم بهذا المكرِ الكبَّارِ إلى نفيِ ما دلَّ عليهِ الوحيُ، والعقلُ، والفطرةُ؛ فكذبتم عَلَى القرآنِ، وعلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وعلى اللُّغةِ، ووضعتم لصفاتِهِ ألفاظًا منكمْ بدأتْ وإليكمْ تعودُ.
وأمَّا خطأكمْ فِي المعنى: فنفيُكم، وتعطيلكم لعلوِّ الرحمنِ بواسطةِ هذهِ التسميةِ والألقابِ، فنفيتم المعنى الحقَّ وسمَّيتموهُ بالاسمِ المنكرِ، وكنتم فِي ذلكَ بمنزلةِ منْ سمعَ أنَّ فِي العسلِ شفاءً ولمْ يرهُ، فسأل عنهُ فقيلَ لهُ: مائعٌ رقيقٌ أصفرٌ يشبهُ العذرةَ تتقيَّأهُ الزنابيرُ، ومنْ لمْ يعرفِ العسلَ ينفرُ عنهُ بهذا التَّعريفِ، ومَنْ عرفهُ وذاقهُ لم يزدهُ هذا التَّعريفُ عندهُ إلَّا محبَّةً لهُ، ورغبةً فيهِ، وما أحسنَ مَا قَالَ القائلُ:
تَقُولُ هذا جَنْي النَّحْلِ تَمْدَحُهُ وإنْ تَشَاءُ قُلْتَ ذا قَيءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وذَمًّا وما جَاوَزتَ وَصْفَهُما والحقُّ قد يَعْتَرِيهِ سُـوءُ تَعْبِيرِ
أفيظنُّ الجاهلونَ أنَّا نجحدُ علوَّ اللهِ عَلَى عرشهِ، لأسماءٍ سمُّوها، هم وسلفهم، مَا أنزلَ الله بها منْ سلطانٍ، وألقابٍ وضعوهَا مِنْ تلقاءِ أنفسهم، لمْ يأتِ بها سنَّةٌ وَلاَ قرآنٌ، وشبهاتٍ قذفتْ بها قلوبٌ، مَا استنارتْ بنورِ الوحي، وَلاَ خالطتهَا بشاشةُ الإيمانِ، وخيالاتٍ هي بتخييلاتِ الممرورينَ، وأصحابِ الهوسِ، أشبهُ منها بقضايا العقلِ والبرهانِ، ووهمياتٍ نسبتهَا إلى العقلِ الصَّحيحِ كنسبةِ السَّرابِ إلى الأبصارِ فِي القيعانِ.
فدعونَا منْ هذه الدعاوي الباطلةِ، التي لا تفيدُ إلَّا تضييعَ الزمانِ، وإتعابَ الأذهانِ، وكثرةَ الهذيانِ، وحاكمونَا إلى الوحي، لا إلى «نخالةِ الأفكارِ، وزبالةِ الأذْهانِ وعفارةِ الآراءِ، ووساوسِ الصُّدورِ، التي لا حقيقةَ لهَا في التَّحقيقِ، ولا تثبتُ على قدمِ الحقِّ والتَّصْديقِ، فملأتم بها الأوراقَ سوادًا، والقلوبَ شكوكًا، والعالَم فسادًا»[474].
يَا قَوْمَنَا وَاللهِ إنَّ لِقَوْلِنَا ألْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ ألفَانِ
عَقْلًا وَنَقْلًا مَعْ صَرِيحِ الفِطْرَةِ الـ أولَى وَذَوْقِ حَلاَوَةِ الإِيمَانِ
كُلٌّ يَدُلُّ بأنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ السَّمَاءِ مُبَاينُ الأكوَانِ
أتَـرَوْنَ أنَّـا تَـارِكُو ذَا كُلِّـهِ لِجَعَاجِـع التَّعْطِيـلِ والهَذَيَانِ[475]
وهذهِ الشُّبهةُ قدْ تكلَّمنا عليها «بالاستقصاءِ حتَّى يتبيَّنُ أنَّها مِنَ القولِ الهراءِ فهاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين»[476].
لو كانَ مَوْصُوفًا بالعُلُوِّ لكانَ جسمًا، ولو كانَ جسمًا لكان مماثلًا لِسَائِرِ الأَجْسَامِ، واللهُ قد نَفَى عنه المِثْلَ[459].
أقول وبالله التوفيق: هنا ثلاثُ مقدِّماتٍ حصلَ فيها التَّلبيسُ:
أحدُها: كونُ كلِّ عالٍ جسمًا.
والثاني: كونُ الأجسامِ متماثلةٌ.
والثالثُ: كونُ هذا التماثلِ هو المرادُ بالمثلِ في لغةِ العربِ التي نزلَ بها القرآن[460].
والجوابُ على الشُّبهةِ المذكورةِ منْ وجوهٍ:
الأولُ:
قَدِ ادَّعيتَ أيُّها الجهميُّ أنَّ ظاهرَ القرآنِ، الذي هوَ حجَّةُ الله على عبادهِ، والذي هو خيرُ الكلامِ، وأصْدقُهُ، وأحْسنُهُ، وأفْصحُهُ، وهوَ الذي هدى الله بهِ عبادَهُ، وجعلَهُ شفاءً لما في الصُّدورِ، وهدًى ورحمةً للمؤمنينَ، ولمْ ينزلْ كتابٌ مِنَ السَّماءِ أهدى منهُ، ولا أحْسنَ ولا أكْملَ، فانتهكْتَ حرمتَهُ، وادَّعيتَ أنَّ ظاهرَهُ يستلزمُ التَّشبيهَ والتَّجسيم[461]. وهذا الإلزامُ إنَّما هوَ لمنْ جاءَ بالنُّصوصِ الدَّالةِ على علوِّ الله على العرشِ، وتكلَّم بهَا، ودعَا الأمَّةَ إلى الإيمانِ بهَا ومعْرفتِهَا، ونهاهم عنْ تحْريفِهَا وتبديلِهَا.
يَا قَوْمُ واللهِ العَظِيـمِ أَسَأْتُـمُ بِأَئِمَّةِ الإسْلاَمِ ظَنَّ الشَّانِ
مَا ذَنْبُهُمْ وَنَبِيُّهُمْ قَدْ قَالَ مَا قَالوا كَذَلكَ مُنْزِلُ الفُرْقَانِ
مَـا الذَّنـبُ إلاّ للنصُوصِ لَديكمُ إِذْ جَسَّمَتْ بَلْ شَبَّهتْ صِنْفَـانِ
مَا ذنْبُ مَنْ قَدْ قَـالَ مَا نَطَقَتْ بِهِ مِنْ غَيْرِ تَحْرِيفٍ وَلاَ عُـدْوَان[462]
الثاني:
نحنُ أثبتنا لله غايةَ الكمالِ، ونعوتَ الجلالِ، ووصفناهُ بكلِّ صفةِ كمالٍ فإنْ لزمَ منْ هذا تجسيمٌ، أو تشبيهٌ لم يكنْ هذا نقصًا، ولا عيبًا، ولا ذمًَّا، بوجهٍ مِنَ الوجوهِ، فإنَّ لازمَ الحقِّ حقٌ، وما لزمَ منْ إثباتِ كمالِ الرَّبِّ ليسَ بنقصٍ، وأمَّا أنتم فنفيتم عنهُ صفاتِ الكمالِ، ولا ريبَ أنَّ لازمَ هذا النَّفيِّ وصفهُ بأضدادها مِنَ العيوبِ، والنَّقائصِ، فما سوَّى الله ولا رسولهُ ولا عقلاءُ عبادهِ بينَ منْ نفى كمالَهُ المقدَّسَ حذرًا مِنَ التجسيمِ، وبينَ منْ أثبتَ كمالَهُ الأعظمَ وصفاته العلى بلوازمِ ذلكَ كائنةً ما كانت[463].
لاَ تَجْعَلُوا الإِثْبَاتَ تَشْبِيهًا لَهُ يَا فِرْقَةَ التَّشْبِيهِ وَالطُّغْيَانِ
كَمْ تَرْتَقُونَ بِسُلَّمِ التَّنْزِيهِ لِلْتَّـ ـعْطِيلِ تَرْوِيجًا عَلَى العُمْيَانِ
فَاللهُ أكْبَرُ أنْ تَكُونَ صِفَاتُهُ كِصِفَاتِنَا جَلَّ العَظِيمُ الشَّانِ
هَذَا هُوَ التَّشْبِيهُ لاَ إثْبَاتُ أوْ صَافِ كَمَالٍ فَمَا هُمَا سِيَّانِ[464]
سَمَّيْتُمُ التَّحْرِيفَ تَأوِيلًا كَذَا التَّـ ـعْطِيلَ تَنْزِيهًا هُمَا لَقَبَانِ
وَأضَفتُم أمرًا إلَى ذَا ثَالِثًا شَرًّا وَأَقْبَحَ مِنْهُ ذَا بُهْتَانِ
فَجَعَلْتُم الإِثْبَاتَ تَجْسِيمًا وَتَشْـ بيهًا وَذَا مِنْ أقْبَحِ العُدْوَانِ
فَقَلَبْتُمُ تِلْكَ الحَقَائِقَ مِثْلَ مَا قُلِبَتْ قُلُوبُكُمُ عَنِ الإِيمَانِ
وَجَـعَلْتُمُ الممـدُوحَ مَذْمُومًا كَذَا بالعكْس حَتَّى اسْتَكْمَلَ اللَّبْسَانِ[465]
الثالثُ:
ماذا تعنونَ بقولكم «لو كانَ فوقَ العرشِ لكانَ جسمًا»؟ أتعنونَ بهِ أنَّهُ ما يتضمَّنُ مماثلةَ الله لشيءٍ مِنَ المخلوقاتِ في شيءٍ منْ صفاتهِ؛ فاللهُ سبحانهُ منزَّهٌ عنْ أنْ يوصفَ بشيءٍ مِنَ الصِّفاتِ المختصَّةِ بالمخلوقينَ، وكلُّ ما اختصَّ بالمخلوقِ فهوَ صفةُ نقصٍ، والله تعالى منزَّهٌ عَنْ كلِّ نقصٍ ومستحقٌّ لغايةِ الكمالِ، وليسَ لهُ مثلٌ في شيءٍ منْ صفاتِ الكمالِ فهوَ منزَّهٌ عَنِ النَّقْصِ مطلقًا، ومنزَّهٌ في الكمالِ أنْ يكونَ لهُ مثلٌ، كما قال تعالى: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * َلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ *} [الإخلاص 1 - 4]، فبيَّنَ أنَّهُ أحدٌ صمدٌ، واسمهُ الأحدُ يتضمَّنُ نفيَّ المثلِ، واسمهُ الصَّمدُ يتضمَّنُ جميعَ صفاتِ الكمالِ[466].
وإذا كانَ اللهُ ليسَ منْ جنسِ الماءِ والهواءِ، ولا الرُّوحِ المنفوخةِ فينا، ولا منْ جنسِ الملائكةِ، ولا الأفلاكِ، فلأن لا يكونَ منْ جنسِ بدنِ الإنسانِ ولحمهِ وعصبهِ وعظامهِ، ويدهِ ورجلهِ ووجههِ، وغيرِ ذلكَ منْ أعضائهِ وأبعاضهِ، أولى وأحرى[467].
وإنْ أردتم بالجسمِ المركَّبِ وهوَ مَا كانَ مفترقًا فركَّبهُ غيرهُ، كمَا تُركَّبُ المصنوعاتُ مِنَ: الأطعمةِ، والثيابِ والأبنيةِ، ونحو ذلكَ منْ أجزائها المفترقةِ. والله تعالى أجلُّ وأعظم منْ أنْ يُوصفَ بذلكَ، بلْ منْ مخلوقاتهِ ما لا يُوصفُ بذلكَ، ومنْ قالَ ذلكَ[468] فهوَ منْ أكفرِ النَّاسِ وأضلِّهم وأجهلهم وأشدِّهم محاربةً لله.
وإنْ أردتم بهِ «أنَّ الرَّبَّ مركَّبٌ مؤلَّفٌ بمعنى أنَّهُ يقبلُ التفريقَ والانقسامَ والتجزئةَ، فهذا منْ أكفرِ النَّاسِ وأجهلهم»[469].
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يوصفُ بالصِّفاتِ، ويُرى بالأبصارِ، ويتكلَّمُ، ويُكَلَّمُ، ويسمعُ، ويبصرُ، ويرضى، ويغضبُ، فهذه المعاني ثابتةٌ للرَّبِّ تعالى وهوَ موصوفٌ بها، فلا ننفيها عنهُ بتسميتكم للموصوفِ بها جسمًا، ولا نردُّ ما أخبرَ بهِ الصَّادقُ عنِ الله وأسمائهِ وصفاتهِ وأفعالهِ لتسميةِ أعداءِ الحديثِ لنا حشويةٌ. ولا نجحدُ صفاتِ خالقنا وعلوَّهُ على خلقهِ واستواءهُ على عرشهِ؛ لتسميةِ الفرعونيَّةِ المعطِّلةِ لمنْ أثبتَ ذلكَ مجسِّمًا مشبِّهًا.
فإن كانَ تجسيمًا ثبوتُ استوائِهِ على عَرْشِهِ إني إذًا لَمُجَسِّمُ
وإنْ كانَ تشبيهًا ثبوتُ صِفَاتِهِ فمن ذلكَ التَّشْبِيهِ لا أَتَكَتَّمُ
وإنْ كان تنزيهًا جحودُ استوائِهِ وأوصافِهِ أو كَوْنِهِ يَتَكَلَّمُ
فعَـنْ ذلكَ التَّنْزِيهِ نَزَّهْتُ رَبَّنا بِتَوْفِيقِـهِ واللهُ أَعْلَـى وأَعْلَـمُ
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يُشارُ إليهِ إشارةٌ حيَّةٌ، فقدْ أشارَ إليهِ أعرفُ الخلقِ بهِ بأصبعهِ رافعًا لها إلى السَّماءِ، يُشْهدُ الجمعَ الأعظمَ مشيرًا لهُ.وإنْ أردتم بالجسمِ ما يقالُ أينَ هو؟ فقدْ سألَ أعلمُ الخلقِ بهِ عنهُ بأينَ منبِّهًا على علوِّهِ على عرشهِ.
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يلحقهُ «مِنْ» و«إِلىَ» فقدْ نزلَ جبريلُ منْ عندهِ، ونزل كلامهُ منْ عندهِ، وعرجَ برسولهِ صلى الله عليه وسلم إليهِ، وإليهِ يصعدُ الكلمُ الطيِّبُ، وعندهُ المسيحُ رفعَ إليهِ.
وإنْ أردتم بالجسمِ ما يكونُ فوقَ غيرهِ، ومستويًا على غيرهِ، فهو سبحانه وتعالى فوقَ عبادهِ مستوٍ على عرشهِ.
الرابعُ:
لاَ يلزمُ منِ استواءِ الله عَلَى عرشهِ، أنْ يكونَ جسمًا بالمعنى الَّذي اصطلحوا عليهِ، لاَ عقلًا وَلاَ سمعًا إلَّا بالدَّعاوى الكاذبةِ. فدعوى هَذَا اللُّزومِ عينُ البهتِ والكذبِ الصُّراحِ؛ بل العرشُ خلقٌ مِنْ خلقهِ، ولا يلزمُ مِنْ كونِهِ فوقَ السَّمواتِ كلِّها أنْ يكونَ مركَّبًا مِنَ الجواهرِ الفردةِ ولا مِنَ المادَّةِ والصُّورةِ ولا مماثلًا لغيرهِ مِنَ الأجْسامِ، وكذلكَ جبريلُ مخلوقٌ مِنْ مخلوقاتهِ وهوَ ذو قوَّةٍ وحياةٍ وسمعٍ وبصرٍ وأجنحةٍ ويصعدُ وينزلُ ويُرى بالأبصارِ، ولا يلزمُ مِنْ وصفهِ بذلكَ أنْ يكونَ مركَّبًا مِنَ الجواهرِ الفردةِ، ولا مِنَ المادَّةِ والصُّورةِ، ولا أنْ يكونَ جسمهُ مماثلًا لأجْسامِ الشياطينِ، فدعونَا منْ هَذَا الفشرِ[470] والهذيانِ، والدَّعاوى الكاذبةِ. والتَّفاوتُ الذي بينَ اللهِ وخلقهِ أعْظمُ مِنَ التَّفاوتِ الذي بينَ جسمِ العرشِ وجسمِ الثرى والهواءِ والماءِ، وأعْظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ أجْسامِ الملائكةِ وأجْسامِ الشياطينِ، والعاقلُ إذا أطلقَ على جسمٍ صفةً مِنْ صفاتِهِ - وعندهُ منْ كلِّ وجهٍ موصوفٌ بتلكَ الصِّفةِ - لمْ يلزمْ منْ ذلكَ تماثلهَا؛ فإذا أطْلقَ على الرجيعِ، الذي قدْ بلغَ غايةَ الخبثِ، أنَّهُ جسمٌ قائمٌ بنفسهِ ذو رائحةٍ ولونٍ، وأطلقَ ذلكَ على المسكِ، لمْ يقلْ ذو حسٍ سليمٍ ولا عقلٍ مستقيمٍ، إنَّهما متماثلانِ، وأينَ التَّفاوتُ الذي بينهمَا مِنَ التَّفاوتِ الذي بين اللهِ وخلقهِ، فكمْ تلبِّسونَ وكمْ تدلِّسونَ وتموِّهونَ؟!
فكيفَ يجوزُ بعدَ هذا أنْ يقالَ: إذا كانَ الرحمنُ فوقَ العرشِ أنْ يكونَ مماثلًا لخلقهِ؟! والله تعالى ليسَ كمثلهِ شيءٌ في ذاتهِ ولا في صفاتهِ ولا في أفعالهِ. حتَّى لَوْ قدِّرَ لزومُ ذَلِكَ كلِّهِ لكانَ التزامهُ أسهلَ مِنْ تعطيلِ علوِّهِ عَلَى عرشهِ، وجعلهِ بمنزلةِ المعدومِ الممتنعِ، الَّذي لاَ هوَ داخلَ العالمِ وَلاَ خارجهُ[471].
عطَّلْتُمُ السَّبع السموات العـلا والعَرْشَ أخْليتُم مـنَ الرحمـن[472]
قالَ ابنُ القيِّم رحمه الله:
قَدْ عَطَّلَ الرَّحْمَنُ أفْئِدَةً لَهُمْ مِنْ كُلِّ مَعْرِفَةٍ وَمِنْ إيمَانِ
إذْ عَطَّلُـوا الرَّحْمَنَ مِنْ أوصَافِهِ وَالعَـرْشَ أخْلَوْهُ مِنَ الرَّحْمنِ[473]
أيُّها المشتغلونَ بعلمِ الكلامِ: إنَّ نفيَكم لعلوِّ الله تعالى على العرشِ بدعوى التَّجسيمِ، خطأٌ فِي اللَّفظِ والمعنى، وجنايةٌ عَلَى ألفاظِ الوحي.
أمَّا اللَّفظيُّ: فتسميتكم علوَّ اللهِ على العرشِ تجسيمًا وتشبيهًا وتحيُّزًا. وتواصيتم بهذا المكرِ الكبَّارِ إلى نفيِ ما دلَّ عليهِ الوحيُ، والعقلُ، والفطرةُ؛ فكذبتم عَلَى القرآنِ، وعلى الرسولِ صلى الله عليه وسلم، وعلى اللُّغةِ، ووضعتم لصفاتِهِ ألفاظًا منكمْ بدأتْ وإليكمْ تعودُ.
وأمَّا خطأكمْ فِي المعنى: فنفيُكم، وتعطيلكم لعلوِّ الرحمنِ بواسطةِ هذهِ التسميةِ والألقابِ، فنفيتم المعنى الحقَّ وسمَّيتموهُ بالاسمِ المنكرِ، وكنتم فِي ذلكَ بمنزلةِ منْ سمعَ أنَّ فِي العسلِ شفاءً ولمْ يرهُ، فسأل عنهُ فقيلَ لهُ: مائعٌ رقيقٌ أصفرٌ يشبهُ العذرةَ تتقيَّأهُ الزنابيرُ، ومنْ لمْ يعرفِ العسلَ ينفرُ عنهُ بهذا التَّعريفِ، ومَنْ عرفهُ وذاقهُ لم يزدهُ هذا التَّعريفُ عندهُ إلَّا محبَّةً لهُ، ورغبةً فيهِ، وما أحسنَ مَا قَالَ القائلُ:
تَقُولُ هذا جَنْي النَّحْلِ تَمْدَحُهُ وإنْ تَشَاءُ قُلْتَ ذا قَيءُ الزَّنَابِيرِ
مَدْحًا وذَمًّا وما جَاوَزتَ وَصْفَهُما والحقُّ قد يَعْتَرِيهِ سُـوءُ تَعْبِيرِ
أفيظنُّ الجاهلونَ أنَّا نجحدُ علوَّ اللهِ عَلَى عرشهِ، لأسماءٍ سمُّوها، هم وسلفهم، مَا أنزلَ الله بها منْ سلطانٍ، وألقابٍ وضعوهَا مِنْ تلقاءِ أنفسهم، لمْ يأتِ بها سنَّةٌ وَلاَ قرآنٌ، وشبهاتٍ قذفتْ بها قلوبٌ، مَا استنارتْ بنورِ الوحي، وَلاَ خالطتهَا بشاشةُ الإيمانِ، وخيالاتٍ هي بتخييلاتِ الممرورينَ، وأصحابِ الهوسِ، أشبهُ منها بقضايا العقلِ والبرهانِ، ووهمياتٍ نسبتهَا إلى العقلِ الصَّحيحِ كنسبةِ السَّرابِ إلى الأبصارِ فِي القيعانِ.
فدعونَا منْ هذه الدعاوي الباطلةِ، التي لا تفيدُ إلَّا تضييعَ الزمانِ، وإتعابَ الأذهانِ، وكثرةَ الهذيانِ، وحاكمونَا إلى الوحي، لا إلى «نخالةِ الأفكارِ، وزبالةِ الأذْهانِ وعفارةِ الآراءِ، ووساوسِ الصُّدورِ، التي لا حقيقةَ لهَا في التَّحقيقِ، ولا تثبتُ على قدمِ الحقِّ والتَّصْديقِ، فملأتم بها الأوراقَ سوادًا، والقلوبَ شكوكًا، والعالَم فسادًا»[474].
يَا قَوْمَنَا وَاللهِ إنَّ لِقَوْلِنَا ألْفٌ تَدُلُّ عَلَيْهِ بَلْ ألفَانِ
عَقْلًا وَنَقْلًا مَعْ صَرِيحِ الفِطْرَةِ الـ أولَى وَذَوْقِ حَلاَوَةِ الإِيمَانِ
كُلٌّ يَدُلُّ بأنَّهُ سُبْحَانَهُ فَوْقَ السَّمَاءِ مُبَاينُ الأكوَانِ
أتَـرَوْنَ أنَّـا تَـارِكُو ذَا كُلِّـهِ لِجَعَاجِـع التَّعْطِيـلِ والهَذَيَانِ[475]
وهذهِ الشُّبهةُ قدْ تكلَّمنا عليها «بالاستقصاءِ حتَّى يتبيَّنُ أنَّها مِنَ القولِ الهراءِ فهاتوا برهانكم إنْ كنتم صادقين»[476].
No comments:
Post a Comment