بسم الله
العنوان | دليل الأعراض عند المتكلمين أصل بلية التعطيل |
المؤلف | عبد الباسط بن يوسف الغريب |
رابط القراءة | << اضغط هنا >> |
رابط التحميل | << اضغط هنا >> |
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
مقدمة
وجود الله عز وجل مغروس في فطر العباد ؛ والتدليل على وجوده سبحانه لا يحتاج إلى نظر واستدلال ؛ بل هو ضروري كما يجده المسلم من نفسه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :فقر المخلوقات إلى الخالق ودلالتها عليه وشهادتها له أمر فطري فطر الله عليه عباده . ثم قرر رحمه الله أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو علم فطري ضروري ...
مجموع الفتاوى (1|47)
وقد أخذت هذه المسألة عند المتكلمين وهي مسألة التدليل على وجود الله بالنظر والاستدلال وخاصة بالدليل المسمى عندهم دليل الأعراض منهجا خطيرا إذ علقوا صحة إيمان العبد على هذا الدليل و علقوا صحة النبوة على هذا الدليل .
وكان هذا الدليل بابا لولوج كثير من الاعتقادات الضالة ؛ وقد التزم لأجله كثير من الفرق مذاهب وأقوال ؛ وتفرع عليه مسائل عديدة .
و يتلخص من مجموع ما انبثق عن هذه المسألة :
1- نفي الأسماء والصفات .
2- إنكار الصفات الفعلية .
3- القول بالجواهر الفردة.
4- العرض لا يبقى زمانين.
5- فناء الجنة والنار.
6- انقطاع حركات أهل الجنة.
7- إنكار الحكمة والإرادة في صفات الله وأفعاله.
8- إنكار علو الله على خلقه.
9- القول بخلق القرآن.
10- تشبيه الله بالمعدوم كقولهم لا داخل العالم ولا خارجه .
11- القول بأن الله اتصف ببعض الصفات بعد أن كان غير قادر على ذلك .
12- إنكار الصفات التي تتعلق بمشيئته واختياره.
13- القول بوحدة الوجود.
14- القول أن وجود الله وجودا مطلقا.
15- إنكار رؤية الله.
16- القول بأن للمعدوم حقيقة ووجود.
17- قولهم إن للماهية حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها.
18- قولهم بإبطال إيمان المقلد .
19- قولهم بقدم العالم
20- قولهم بتماثل الأجسام .
أدلة وجود الله
أما أدلة وجود الله عز وجل فهي كثيرة, منها فطرية وعقلية وحسية وشرعية وغير ذلك .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ثم بعد أن قرر ذلك .
قال : وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديماً لكان إما واجباً بنفسه , وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره , والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه , وإنما واجباً بغيره فيكون المقتضى له موجباً بذاته .... .
"منهاج السنة" (2|270)
وقال شيخ الإسلام : كما قال الشيخ إسماعيل الكورانى لعز الدين بن عبد السلام لما جاء إليه يطلب علم المعرفة وقد سلك الطريقة الكلامية فقال أنتم تقولون إن الله يعرف بالدليل ونحن نقول عرفنا نفسه فعرفناه ,وكما قال نجم الدين الكبرى لابن الخطيب ورفيقه المعتزلى وقد سألاه عن علم اليقين فقال : هو واردات ترد على النفوس تعجز عن ردها .
فأجابهما بأن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر وهو جواب حسن .
مجموع الفتاوى (2|76)
و قال رحمه الله : فإن قيل إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتاً في كل فطرة ؛ فكيف ينكر ذلك كثير من النظار –نظار المسلمين وغيرهم – وهم يدعون أنهم يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الألهية !
فيقال أولاً : أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه العرفة –أي الفطرة- هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمهم من الجهمية والقدرية , وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم.
"مجموع الفتاوى" (16/340)
أصل هذا الدليل
قال الإيجي في المواقف : وهو مذهب جالينوس ؛ لنا في حدوث الأجسام مسالك
المسلك الأول :وهو المشهور الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث . المواقف (2|609)
قال شيخ الإسلام : والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن واتفق العقل والشرع وتلازم الرأى والسمع والمتفلسفة كابن سينا والرازى ومن اتبعهما قالوا إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات وإن الممكن لابد له من واجب قالوا والوجود إما واجب وإما ممكن ؛والممكن لابد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين , وهذه المقالة أحدثها ابن سينا وركبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه ؛فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث وقسمه هو إلى واجب وممكن .وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا بل زعم أنه ممكن وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة بل حذاقهم عرفوا أنه خطأ وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم . وقد بينا فى مواضع أن القدم ووجوب الوجود متلازمان عند عامة العقلاء الأولين والآخرين ولم يعرف عن طائفة منهم نزاع فى ذلك إلا ما أحدثه هؤلاء ؛فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة حدثت بعد أن لم تكن ونشهد عدمها بعد أن كانت وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود ولا قديما أزليا .
مجموع الفتاوى (1|49)
وقال شيخ الإسلام : ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعة صار كل طائفة من النظار تسلك طريقا إلى إثبات معرفته ويظن من يظن أنه لا طريق إلا تلك وهذا غلط محض وهو قول بلا علم .
فإنه من أين للإنسان أنه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق ؟ فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة فلا بد من دليل يدل عليه ,وليس مع النافي دليل يدل على هذا النفي بل الموجود يدل على أن للمعرفة طرقا أخرى وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء بل من عموم الخلق عرفوه بدون تلك الطريق المعينة .
وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون ؛فهذا يستدل بالإمكان وهذا بالحدوث وهذا بالآيات وهذا يستدل بحدوث الذوات وهذا بحدوث الصفات وهذا بحدوث المعين كالإنسان وهذا بحدوثه وحدوث غيره , وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم والجوهر والمحدود والمركب وغير ذلك من العبارت وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث ويقولون كل ما قامت به الصفات محدثا . والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات فكونه جسما ومتميزا وقديما وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزما لكونه محدثا بل وليس ذلك مستلزما عند أرسطو كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وكذلك لم يسلكها كثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه .
ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقا من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود طريقة ابن سينا .
وطريقة ابن سينا لم يسلكها سلفه الفلاسفة كأرسطو وأصحابه بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة بل كثير من الفلاسفة ينازعونه في نفيه لقيام الحوادث والصفات بذات واجب الوجود ويقولولن إنه تقوم به الصفات والإرادات وأن كونه واجبا بنفسه لا ينافي ذلك كما لا ينافي عندهم جميعا كونه قديما .
ولكن ابن سينا وأتباعه لما شاركوا الجهمية في نفي الصفات وشاركوا سلفهم الدهرية في القول بقدوم العالم سلكوا في إثبات رب العالمين طريقا غير طريقة سلفه المشائين كأرسطو وأتباعه الذين أثبتوا العلة الأولى بحركة الفلك الإرادية وأن لها محركا يحركها كحركة المعشوق لعاشقه وهو يحرك الفلك للتشبه بالعلة الأولى فعدل ابن سينا عن تلك الطريقة إلى هذه الطريقة التي سلخها من طريقة أهل الكلام الذين يحتجون بالمحدث على المحدث وهو لا يقول بحدوث العالم فجعل طريقته الاستدلال بالممكن على الواجب ورأى أولئك المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث فقسمه هو إلى واجب وممكن وأثبت الواجب بهذا الطريق ولكن هذا بناء على أن القديم ممكن وله ماهية تقبل الوجود والعدم .
وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم حتى أنه هو تناقض في ذلك فوافق سلفه وجميع العقلاء وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم ثم تناقض هنا كما قد بسط في غير هذا الموضع .
درء التعارض (2|123)
وقال شيخ الإسلام : ونفس ما اشتركوا فيه من إثبات الصانع بطريقة الأعراض وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه فلا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وأن الله يمتنع أن يقال أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته أو يمتنع أن يقال أنه لم يزل فعالا وأنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته مبتدع في الإسلام أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة .
النبوات (1|586)
وقال ابن حجر رحمه الله :
وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا , وقال : إن المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة , وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه , وأنه لا يكفي التقليد في ذلك .
ونقل عن القرطبي صاحب المفهم : ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم :
أحدهما: قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر...
ثانيتها: قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه .
"الفتح" (13/363)
وجه خطأ المتكلمين في هذا الدليل
بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا الدليل لا يحتاج إليه أكثر الناس وإن كان يستأنس به أحيانا,وأن معرفة ضرورية لا تحتاج إلى نظر واستدلال فكيف يعلق بها صحة الإيمان أو صدق النبوة فهذا أمر لا يقبل ؛ كذلك بين رحمه الله أن هذا الدليل كان سببا لظهور كثير من الأقوال والمذاهب الضالة , وهذه الطريق فيه تطويل بلا فائدة واستدلال على الأظهر بالأخفى .
قال شيخ الإسلام : والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع , وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة ؛فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه أو ناقصا لا يحصل المقصود ,وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وإلا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم .
وهذه الطرق التي أخدها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وإنما هو قول مبتدعتهم , وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية : صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية .
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعال فيهم : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك .
درء التعارض(4|215)
وقال شيخ الإسلام : وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها وبتقدير افتقاره إليها ؛ فإبطال التسلسل ممكن فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغنى عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح فلا يحتاج أن يقرر ذلك بأن الحدوث ممكن أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما .
وهذه الطريقة يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم .
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره لكون ذلك أظهر عنده ؛فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي مثل من يكون من شانه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة فإذا كان الكلام طويلا مستغلقاها به وعظمه كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة .
ولهذا لما بنى الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل حصل ما حصل فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد .
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلا بعيدا ضعيفا ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق ولم يبق لأحد طريق إلى العبور وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور ويشعر الناس أنه لا يمكن أحدا أن يعبر إلا بما يصنعه .
أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور كل سور منه يحفظ المدينة فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظا ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو فلم يبق للمدينة سور يحفظها .
فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث وهذا يكفى فيه حدوث الإنسان نفسه أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد من محدث وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث العالم لزم أن المحدث لا بد من محدث ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل .
درء التعارض(2|8)
وقال رحمه الله : واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني أو كل مخلوق فلا بد له من خالق أو كل معلوم فلا بد له من يعلم أو كل أثر فلا بد له من مؤثر ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية وهو حق في نفسه لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب هو أيضا معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية ,وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بأن ؛ فإنه إذا رأى كتابة معينة علم انه لا بد لها من كاتب ,وإذا رأى بنيانا علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون أو يمكن أن تكون ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة , وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض ولا يكون في مكانين وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد وهكذا إذا رأى درهما ونصف درهم علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه .
وكذلك إذا قيل : هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو .
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه وهكذا عامة القضايا الكلية .
فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفة على تلك القضايا الكليات ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه لا يتوقف على علمه بأن كل إنسان لم يحدث نفسه ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة وتلك القضية المعينة صادقة والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطا في العلم بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات , ولهذا لا تجد أحدا يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا البناء لا بد له من باب بل يعلم هذا ضرورة
وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل قد اعتقده طوائف من النظار نظريا حتى أقاموا عليه دليلا : إما بقياس الشمول وإما بقياس التمثيل فالأول قول من يقول : كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياسا على البناء والكتابة .
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن والممكن لا بد له من مرجح لوجوده ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء فلا بد من ترجيح أحد الجانبين
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية بل يجعلها أبين من الثانية التي استدل بها عليها وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة .
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط , وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ وهذا الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن .
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل ,وإن كان ذكر نظائرها حجة لها وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة مع قطع نظرهم عن قضية كلية كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات فكل أحد يعلم أنه هو لم يحدث نفسه ولا أبواه أحداثاه ولا أحد من البشر أحدثه ويعلم أنه لا بد له من محدث فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه ويعلم أنه موجود حي عليم قدير سميع بصير ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيا ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما ومن جعل غيره قادرا كان أولى أن يكون قادرا ويعلم أيضا أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل ومن الاختصاص ما دل على إرادة الفاعل وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها ن كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21
درء التعارض(2|20)
وقال شيخ الإسلام : أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا بل يفضى كل منهما إلى حق ما لكن ليس هو الحق الواجب ,وكثيرا ما يقترن معه الباطل فلا يحصل بكل منهما بمجرده أداء الواجب ولا اجتناب المحرم ولا تحصلان المقصود الذى فيه سعادة العبد من نجاته ونعيمه بعد مبعث الرسول .
مجموع الفتاوى (2|74)
تعظيم المتكلمين لدليل الأعراض
قال شيخ الإسلام : والمقصود هنا أن هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كل مكلف ,وأنه من لم ينظر في هذا الدليل فإما أنه لا يصح إيمانه فيكون كافرا على قول طائفة منهم وإما أن يكون عاصيا على قول آخرين وأما إن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص والأقوال الثلاثة باطلة لأنها مفرعة على أصل باطل وهو أن النظر الذي هو أصل الدين والايمان هو هذا النظر في هذا الدليل .
النبوات (1|255)
وقال أبو الحسين البصري في غرر الأدلة كما نقل عنه شيخ الإسلام : قال : وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم ,وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن نصدق الكذابين وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله فنكون آمنين في المعاد .
درء التعارض (5|33)
وقال الغزالي : من لم يعتقد حدوث الأجسام لا يصل لاعتقاد في الصانع أصلا.
درء التعارض(5|32)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : وأصل منشأ نزاع المسلمين في هذا الباب أن المتكلمين من الجهمية والمعتزلة , ومن اتبعهم سلكوا في إثبات حدوث العالم , وإثبات الصانع طريقاً مبتدعة في الشرع مضطربة في العقل , وأوجبوها , وزعموا أنه لا يمكن معرفة الصانع إلا بها .
وتلك الطريق فيها مقدمات مجملة لها نتائج مجملة فغلط كثير من سالكيها في مقصود الشارع , ومقتضى العقل فلم يفهموا ما جاءت به النصوص النبوية , ولم يحرروا ما اقتضته الدلائل العقلية ؛وذلك أنهم قالوا لا يمكن معرفة الصانع إلا بإثبات حدوث العالم , ولا يمكن إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام.
"مجموع الفتاوى" (12/213)
تأثر الأشاعرة بهذا الدليل
قال الشيخ سفر الحوالي : إن الأشاعرة جعلوا دليل الحدوث والقدم هو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث , وكل حادث فلا بد له من محدث قديم , وأخص صفات هذا القديم مخالفته للحوادث , وعدم حلولها فيه, ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا في مكان إلخ
ثم أطالوا جدا في تقرير هذه القضايا.
"عقيدة الأشاعرة " (37)
المسائل التي انبثقت عن دليل الأعراض على طريقة المتكلمين
يتلخص من مجموع ما انبثق عن هذه المسألة
1-نفي الأسماء والصفات .
2-إنكار الصفات الفعلية .
3-القول بالجواهر الفردة.
4-العرض لا يبقى زمانين.
5-فناء الجنة والنار.
6-انقطاع حركات أهل الجنة.
7-إنكار الحكمة والإرادة في صفات الله وأفعاله.
8-إنكار علو الله على خلقه.
9-القول بخلق القرآن.
10-تشبيه الله بالمعدوم كقولهم لا داخل العالم ولا خارجه .
11-القول بأن الله اتصف ببعض الصفات بعد أن كان غير قادر على ذلك .
12-إنكار الصفات التي تتعلق بمشيئته واختياره.
13-القول بوحدة الوجود.
14-القول أن وجود الله وجودا مطلقا.
15- إنكار رؤية الله.
16-القول بأن للمعدوم حقيقة ووجود.
17-قولهم أن للماهية حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها.
18-قولهم بإبطال إيمان المقلد .
19-قولهم بقدم العالم.
20-قولهم بتماثل الأجسام .
قال شيخ الإسلام : فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلي الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه , ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام ـ ك الأشعري وغيره ـ بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها وذكروا أنها محرمة عندهم بل المحققون علي أنها طريقة باطلة وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقا ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له : إما أن يطلع علي ضعفها ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم فتتكافأ عنده الأدلة أو يرجح هذا تارة وهذا تارة كما هو حال طوائف منهم وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار.
والتزم لأجلها أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة .
والتزم قوم لأجلها كالأشعري وغيره أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك .
والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض ـ كالطعم واللون وغيرها ـ لا يجوز بقاؤها بحال لأنهم احتاجوا إلي جواب النقض الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله مع الاستدلال علي حدوث الأجسام بصفاتها فقالوا : صفات الأجسام أعراض أي أنها تعرض فتزول فلا تبقي بحال بخلاف صفات الله فإنها باقية .
درء التعارض (1|24)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وهذا من أغاليط بعض المتكلمين كغلطهم في قولهم إن الأعراض يمتنع بقاؤها وأن الأجسام متماثلة وأنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة ولا يتميز منها جانب من جانب .
وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى أن الله لم يخلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا خص شيئا من الأجسام بقوى وطبائع وادعى أن كل ما يحدث فإن الفاعل المختار الذي يخص أحد المتماثلين بلا تخصيص أصلا يحدثه وأنكر ما في مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وأمر لأجلها .
الرد على المنطقيين (310)
وقال : والأئمة يذمون الكلام المبتدع فإن أصحابه يخطئون إما في مسائلهم وإما في دلائلهم فكثيرا ما يثبتون دين المسلمين في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على أصول ضعيفة بل فاسدة ويلتزمون لذلك لوازم يخالفون بها السمع الصحيح والعقل الصريح ,وهذا حال الجهمية من المعتزلة وغيرهم حيث أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام ,وأثبتوا ذلك بحدوث صفاتها التي هي الأعراض فاضطرهم ذلك إلى القول بحدوث كل موصوف ؛فنفوا عن الله الصفات وقالوا بأن القرآن مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة وقالوا إنه لا مباين ولا محايث وأمثال ذلك من مقالات النفاة التي تستلزم التعطيل .
الأصفهانية (120)
وقال شيخ الإسلام : فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته إذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم ؛فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة ,والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته وأسماؤه مستلزمة لصفاته فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى .
والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان ؛فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فإنهم لم يثبتوا في نفس الأمر شيئا قديما البتة كما أن المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الإمكان والوجوب وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم لم يثبتوا واجبا بنفسه البتة .
... وقد بسط هذا في مواضع وبين أن كل من نفى صفة مما أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات فلا يمكن القول بموجب أدلة العقول إلا مع القول بصدق الرسول فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول ؛فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول بل من كذبه فليس معه لا عقل ولا سمع كما أخبر الله تعالى عن أهل النار قال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بل قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين ؛فإن إثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الأسماء المشتقة كأسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ,ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم .
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الأسماء وقالوا ليست أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء ,وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الأعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فإنما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الأمور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره .
بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا ...
والمقصود التنبيه على افتراق الأمة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كأصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لم يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما إذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر .
وقال رحمه الله : ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة وهؤلاء أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض وقالوا الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها .
ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل فطرد إماما هذه الطريقة هذا الأصل وهما إمام الجهمية الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي .
ثم إن جهما قال إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنة والنار وأنه يعدم كل ما سوى الله كما كان ما سواه معدوما ,وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهمية وعدوه من كفرهم وقالوا إن الله تعالى يقول إن هذا لرزقنا ماله من نفاد سورة ص 54 وقال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد 35 إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة .
وأما أبو الهذيل فقال إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط فيمكن بقاء الجنة والنار لكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ولا شيء يحدث ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث فيلزم وجود أجسام بلا حوادث فينتقض الأصل الذي أصلوه وهو أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث .
وهذا هو الأصل الذي أصله هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهما من المجسمة الرافضة وغير الرافضة كالكرامية فقالوا بل يجوز ثبوت جسم قديم أزلي لا أول لوجوده وهو خال عن جميع الحوادث وهؤلاء عندهم الجسم القديم الأزلي يخلو عن الحوادث وأما الأجسام المخلوقة فلا تخلو عن الحوادث ويقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لكن لا يقولون إن كل جسم فإنه لا يخلو عن الحوادث .
ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا إن الرب لا تقوم به الصفات ولا الأفعال فإنها أعراض وحوادث وهذه لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة فيلزم أن لا يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك من الصفات بل جميع ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه .
منهاج السنة (1|311)
وقال رحمه الله : ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة من حذاق الطوائف يتبين لهم فسادها كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما ثم الذي يتبين له فسادها إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائرا مضطربا والقائلون بقدم العالم من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم تبين لهم فسادها فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل فيبطلون قول هؤلاء إنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن ويثبتون وجوب دوام نوع الحوادث ويظنون أنهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم وهم أضل وأجهل من أولئك ؛ فإن أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم بل كل ما سوى الله فهو محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة وأن كان الفاعل لم يزل فاعلا لما يشاء ومتكلما بما يشاء ,وصار كثير من أولئك إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين وليس عنده إلا قولهم وقول هؤلاء يميل إلى قول هؤلاء الملاحدة ثم قد يبطن ذلك وقد يظهره لمن يأمنه وابتلى بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف وصاروا يظهرون هذا في قالب المكاشفة ويزعمون أنهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان فأخذوا من نفي الصفات أن صانع العالم لا داخل العالم ولا خارجه ومن قول هؤلاء أن العالم قديم ولم يروا موجودا سوى العالم فقالوا إنه هو الله وقالوا هو الوجود المطلق والوجود واحد وتكلموا في وحدة الوجود وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل وصار حقيقة قولهم الكفر بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيع .
وقال رحمه الله : ونفس ما اشتركوا فيه من إثبات الصانع بطريقة الأعراض وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه فلا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وأن الله يمتنع أن يقال أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته أو يمتنع أن يقال أنه لم يزل فعالا وأنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته مبتدع في الإسلام أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة ولهذا طرداه فقالا بامتناع الحوادث في المستقبل , وقال الجهم بفناء الجنة والنار ,وقال أبو الهذيل بانقطاع حركاتهما كما قد بسط فروع هذا الأصل الذي اشتركوا فيه .
ثم افترقوا بعد ذلك في فروعه فأئمتهم كانوا يقولون كلام الله القرآن وغيره مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب ليس له صفة قامت به لأن ذلك عرض عندهم لا يقوم إلا بجسم , والجسم حادث فقالوا القرآن وغيره من كلام الله مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب فجاء بعدهم مثل ابن كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم من شاركهم في أصل قولهم لكن قالوا بثبوت الصفات لله وأنها قديمة لكن منهم من قال لا تسمى أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية كما يقوله الأشعري وغيره ومنهم من قال تسمى أعراضا وهي قديمة وليس كل عرض حادثا كابن كرام وغيره ثم افترقوا في القرآن وغيره من كلام الله فقال ابن كلاب ومن اتبعه هو صفة من الصفات قديمة كسائر الصفات ثم قال ولا يجوز أن يكون صوتا لأنه لا يبقى ولا معاني متعددة فإنها إن كان لها عدد مقدر فليس قدر بأولى من قدر وإن كانت غير متناهية لزم ثبوت معان في آن واحد لا نهاية لها وهذا ممتنع فقال إنه معنى واحد وهو معنى آية الكرسي وآية الدين والتوراة والإنجيل .
وقال جمهور العقلاء إن تصور هذا القول تصورا تاما يوجب العلم بفساده وقال طائفة بل كلامه قديم العين وهو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية مع أنها مترتبة في نفسها وأن تلك الحروف والأصوات باقية أزلا وأبدا وجمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة وهاتان الطائفتان تقولان إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته .
وقال آخرون كالهشامية والكرامية بل هو متكلم بمشيئته وقدرته وكلامه قائم بذاته ولا يمتنع قيام الحوادث لكن يمتنع أن يكون لم يزل متكلما فإن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها وهو ممتنع فهذه الأربعة في القرآن وكلام الله هي أقوال المشركين في امتناع دوام كون الرب فعالا بمشيئته أو متكلما بمشيئته النبوات (1|590)
وقال الشيخ الإسلام : وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالإمامة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل
ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين أحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة .
وإن عقل الإحداث بغير علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل
الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله .
منهاج السنة (1|145)
وقال شيخ الإسلام : وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة ولم فعل ما فعل وهي مسألة القدر ظهر بها ما كان السلف يقولونه إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه و سلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية مجوس هذه الأمة حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة كما أن التجهم فروع تلك الحجة .
ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم ينجون من هذه الشبهات وكان الذي وقعوا فيه شرا مما وقعت فيه المجوس والقدرية ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم ومن معهم من الفلاسفة شرا من المجوس ومن معهم من القدرية المعتزلة وغيرهم .
والمقصود بيان هذا يقال لهم لا ريب في هذا الوجود المشهود المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب فإن نفس الوجود يستلزم موجودا قديما واجبا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبا قديما أو يكون محدثا أو ممكنا.
بيان تلبيس الجهمية (1|163)
وقال شيخ الإسلام : فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم : لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وذلك على الله محال أو قالوا : لو كان الله تكلم بالقرآن بحيث يكون الكلام قائما به لقامت به الصفات والأفعال وذلك يستلزم أن يكون محلا للأعراض والحوادث وما كان محلا للأعراض والحوادث فهو جسم والله منزه عن ذلك لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع .
فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في بعض بدعتهم وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة .
درء التعارض (1|144)
ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال بناء على هذه الحجة .
قولوا : لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وبذلك استدلوا على حدوث الجسم
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على انتفاء قيام الأفعال به وخالفوهم في قيام الصفات فأثبتوا قيام الصفات به وقالوا : لا نسميها أعراضا لأنها باقية والأعراض لا تبقى .
وأما ابن كرام وأتباعه : فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا كما لم يمتنعوا من تسميته جسما .
وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة لأن القرآن كلام وهو صفة من الصفات , والصفات عندهم لا تقوم به وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم وعندهم لا يجوز قيام فعل به ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة والعلو يقتضي مباينة ومسامته وذلك من صفات الأجسام .
وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما وذلك ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع .
ومن هنا قال هؤلاء : إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول .
وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام .
قالوا : وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات العلم به .
درء التعارض (1|180)
نقل شيخ الإسلام عن ابن الزاغوني فوله : وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء فأما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله )
قال : ( والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول : حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس وسكون القلب إلى معرفة ما يعتقد بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة وبيان ذلك : أنه لو قيل لأحد من العوام : بم عرفت ربك ؟ لقال : بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وإلى السماء كيف رفعت } ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببسيط البيان المليح والتشقيق والغامض الدقيق وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه ,ويقصر عن شرحها بلسانه فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة وأحدهما في الكشف أبسط باعا وأفصح شرحا وهذا يرجع إلى شيء وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به ولا يوصل إلى ذلك في حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه وهذا خلاف ما نص الله عليه .
درء التعارض (4|95)
وقال شيخ الإسلام : في مسألة حدوث العالم فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض وما لا يخلو عنها فهو حادث وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات : الأعراض وإثبات حدوثها وأن الجسم لا يخلو منها وإبطال حوادث لا أول لها فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال : ( وأما الأصل الثالث - وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق : أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده لا كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه )
درء التعارض(1|328)
وقال شيخ الإسلام : وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بأن المبدع علة تامة موجب بذاته هو نفسه يستلزم فساد قولهم فإن العلة التامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها .
فالحوادث مشهودة في العالم فلو كان الصانع موجبا بذاته علة تامة مستلزمة لمعلولها لم يحدث شيء من الحوادث في الوجود إذ الحادث يمتنع أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية فلو كان العالم قديما لكان مبدعة علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها فيلزم من ذلك أن لا يحدث في العالم شيء فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة في الأزل وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم شيء من العالم لكن هذا لا ينفى أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل حيا فعالا لما يشاء .
وعمدة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب .
منهاج السنة (1|148)
وقال شيخ الإسلام : هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها ولا تزال موجودة وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كان تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون وكما تتغير ألوانه وكما تتغير أشكاله وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم .
وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم : أن الرب لم يزل معطلا لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل : الأنبياء وأتباعهم .
درء التعارض(1|464)
وقال أيضا: فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحس والعقل فإنهم يقولون إنا لا نشهد بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها بل كل ما نشهد حدوثه بل كل ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنما تحدث أعراض في الجواهر التي هي باقية لا تستحيل قط بل تجتمع وتتفرق والخلق عندهم الموجود في زماننا إنما هو جمع وتفريق لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه ولا خلق لشيء قائم بنفسه لا إنسان ولا غيره وإنما يخلق أعراضا ويقولون إن كل ما تشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر كل جوهر منها لا يتميز يمينه عن شماله وهذا مخالفة للحس والعقل كالأول ويقول كثير منهم إن الأعراض لا تبقى زمانين ويقولون انه لا يفنى ويعدم في زماننا شيء من الأعيان بل كما لا يحدث شيء من الأعيان لا يفنى شيء من الأعيان فهذا أصل علمهم ودينهم ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم واثبات الصانع وهو مخالف للحس والعقل .
النبوات (2|1099)
وقال شيخ الإسلام : الوجه الثالث : أن يقال : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق ,جسم مطلق بشر الإطلاق, ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان .
ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها المثل الأفلاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا : إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان بل يمتنع أن تكون شرطا في وجود الأعيان فإنها إما أن تكون صفة للأعيان أو جزءا منها .
وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف وجزء الشيء لا يكون خالقا للجملة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعا لغيره من الموجودات بل امتنع أن يكون شرطا في وجود غيره فإذن تكون المحدثات. والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق إن قيل : إن له وجودا في الخارج فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكارا على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجا عن الذهن .
وهم قد قرروا أن العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وقديم ومحدث .
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبني على أصلهم الفاسد وهو أن الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة ويفارقها أخرى .
ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان والوجود بما يكون في الأعيان لكان هذا صحيحا لا ينازع فيه عاقل وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين مثل كونه حيوانا ناطقا وحساسا ومتحركا بالإرادة ونحو ذلك .
درء التعارض(1|168)
وقال : وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى : هل هو ماهيته أم هو زائد على ماهيته ؟ وهل لفظ الوجود مقول بالتواطؤ والتشكيك أو مقول بالاشتراك اللفظي ؟
فقالوا : إن قلنا : إن لفظ الوجود مشترك اشتراكا لفظيا لزم ألا يكون الوجود منقسما إلى واجب وممكن وهذا خاف ما اتفق عليه العقلاء وما يعلم بصريح العقل
وإن قلنا : إنه متواطئ أو مشكك لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فيكون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا والامتياز يكون بالحقائق المختصة فيكون وجود هذا زائدا على ماهيته فيكون الوجود الواجب مفتقرا إلى غيره .
ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه : أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط : أحدها أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فقط .
والثاني : أن وجود الواجب زائد على ماهيته
والثالث : أنه وجود مطلق ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه .
درء التعارض(1|170)
قال شيخ الإسلام : وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم .
منهاج السنة (2|532)
مقدمة
وجود الله عز وجل مغروس في فطر العباد ؛ والتدليل على وجوده سبحانه لا يحتاج إلى نظر واستدلال ؛ بل هو ضروري كما يجده المسلم من نفسه .
يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله :فقر المخلوقات إلى الخالق ودلالتها عليه وشهادتها له أمر فطري فطر الله عليه عباده . ثم قرر رحمه الله أن العلم بأن المحدث لا بد له من محدث هو علم فطري ضروري ...
مجموع الفتاوى (1|47)
وقد أخذت هذه المسألة عند المتكلمين وهي مسألة التدليل على وجود الله بالنظر والاستدلال وخاصة بالدليل المسمى عندهم دليل الأعراض منهجا خطيرا إذ علقوا صحة إيمان العبد على هذا الدليل و علقوا صحة النبوة على هذا الدليل .
وكان هذا الدليل بابا لولوج كثير من الاعتقادات الضالة ؛ وقد التزم لأجله كثير من الفرق مذاهب وأقوال ؛ وتفرع عليه مسائل عديدة .
و يتلخص من مجموع ما انبثق عن هذه المسألة :
1- نفي الأسماء والصفات .
2- إنكار الصفات الفعلية .
3- القول بالجواهر الفردة.
4- العرض لا يبقى زمانين.
5- فناء الجنة والنار.
6- انقطاع حركات أهل الجنة.
7- إنكار الحكمة والإرادة في صفات الله وأفعاله.
8- إنكار علو الله على خلقه.
9- القول بخلق القرآن.
10- تشبيه الله بالمعدوم كقولهم لا داخل العالم ولا خارجه .
11- القول بأن الله اتصف ببعض الصفات بعد أن كان غير قادر على ذلك .
12- إنكار الصفات التي تتعلق بمشيئته واختياره.
13- القول بوحدة الوجود.
14- القول أن وجود الله وجودا مطلقا.
15- إنكار رؤية الله.
16- القول بأن للمعدوم حقيقة ووجود.
17- قولهم إن للماهية حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها.
18- قولهم بإبطال إيمان المقلد .
19- قولهم بقدم العالم
20- قولهم بتماثل الأجسام .
أدلة وجود الله
أما أدلة وجود الله عز وجل فهي كثيرة, منها فطرية وعقلية وحسية وشرعية وغير ذلك .
قال شيخ الإسلام رحمه الله : أما إثبات الصانع فطرقه لا تحصى بل الذي عليه جمهور العلماء أن الإقرار بالصانع فطري ضروري مغروز في الجبلة ثم بعد أن قرر ذلك .
قال : وأما بالعقل فيعلم أن العالم لو كان قديماً لكان إما واجباً بنفسه , وهذا باطل كما تقدم التنبيه عليه من أن كل جزء من أجزاء العالم مفتقر إلى غيره , والمفتقر إلى غيره لا يكون واجباً بنفسه , وإنما واجباً بغيره فيكون المقتضى له موجباً بذاته .... .
"منهاج السنة" (2|270)
وقال شيخ الإسلام : كما قال الشيخ إسماعيل الكورانى لعز الدين بن عبد السلام لما جاء إليه يطلب علم المعرفة وقد سلك الطريقة الكلامية فقال أنتم تقولون إن الله يعرف بالدليل ونحن نقول عرفنا نفسه فعرفناه ,وكما قال نجم الدين الكبرى لابن الخطيب ورفيقه المعتزلى وقد سألاه عن علم اليقين فقال : هو واردات ترد على النفوس تعجز عن ردها .
فأجابهما بأن علم اليقين عندنا هو موجود بالضرورة لا بالنظر وهو جواب حسن .
مجموع الفتاوى (2|76)
و قال رحمه الله : فإن قيل إذا كانت معرفته والإقرار به ثابتاً في كل فطرة ؛ فكيف ينكر ذلك كثير من النظار –نظار المسلمين وغيرهم – وهم يدعون أنهم يقيمون الأدلة العقلية على المطالب الألهية !
فيقال أولاً : أول من عرف في الإسلام بإنكار هذه العرفة –أي الفطرة- هم أهل الكلام الذي اتفق السلف على ذمهم من الجهمية والقدرية , وهم عند سلف الأمة من أضل الطوائف وأجهلهم.
"مجموع الفتاوى" (16/340)
أصل هذا الدليل
قال الإيجي في المواقف : وهو مذهب جالينوس ؛ لنا في حدوث الأجسام مسالك
المسلك الأول :وهو المشهور الأجسام لا تخلو عن الحوادث وكل ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث . المواقف (2|609)
قال شيخ الإسلام : والمقصود أن هذه الطرق العقلية الفطرية هي التي جاء بها القرآن واتفق العقل والشرع وتلازم الرأى والسمع والمتفلسفة كابن سينا والرازى ومن اتبعهما قالوا إن طريق إثباته الاستدلال عليه بالممكنات وإن الممكن لابد له من واجب قالوا والوجود إما واجب وإما ممكن ؛والممكن لابد له من واجب فيلزم ثبوت الواجب على التقديرين , وهذه المقالة أحدثها ابن سينا وركبها من كلام المتكلمين وكلام سلفه ؛فإن المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث وقسمه هو إلى واجب وممكن .وذلك أن الفلك عنده ليس محدثا بل زعم أنه ممكن وهذا التقسيم لم يسبقه إليه أحد من الفلاسفة بل حذاقهم عرفوا أنه خطأ وأنه خالف سلفه وجمهور العقلاء وغيرهم . وقد بينا فى مواضع أن القدم ووجوب الوجود متلازمان عند عامة العقلاء الأولين والآخرين ولم يعرف عن طائفة منهم نزاع فى ذلك إلا ما أحدثه هؤلاء ؛فإنا نشهد حدوث موجودات كثيرة حدثت بعد أن لم تكن ونشهد عدمها بعد أن كانت وما كان معدوما أو سيكون معدوما لا يكون واجب الوجود ولا قديما أزليا .
مجموع الفتاوى (1|49)
وقال شيخ الإسلام : ولما كانت طرق معرفة الله والإقرار به كثيرة متنوعة صار كل طائفة من النظار تسلك طريقا إلى إثبات معرفته ويظن من يظن أنه لا طريق إلا تلك وهذا غلط محض وهو قول بلا علم .
فإنه من أين للإنسان أنه لا يمكن المعرفة إلا بهذا الطريق ؟ فإن هذا نفي عام لا يعلم بالضرورة فلا بد من دليل يدل عليه ,وليس مع النافي دليل يدل على هذا النفي بل الموجود يدل على أن للمعرفة طرقا أخرى وأن غالب العارفين بالله من الأنبياء وغير الأنبياء بل من عموم الخلق عرفوه بدون تلك الطريق المعينة .
وقد نبهنا في هذا الكتاب على ما نبهنا عليه من طرق أهل النظر وتنوعها على ما يأتي وأن الطرق تتنوع تارة بتنوع أصل الدليل وتارة بزيادة مقدمات فيه يستغني عنها آخرون ؛فهذا يستدل بالإمكان وهذا بالحدوث وهذا بالآيات وهذا يستدل بحدوث الذوات وهذا بحدوث الصفات وهذا بحدوث المعين كالإنسان وهذا بحدوثه وحدوث غيره , وآخرون غلطوا فظنوا أنه لا بد من العلم بحدوث كل موصوف تقوم به الصفات وقد يعبرون عنه بلفظ الجسم والجوهر والمحدود والمركب وغير ذلك من العبارت وآخرون يستدلون بحدوث ما قام به الحوادث ويقولون كل ما قامت به الصفات محدثا . والفلاسفة لم يسلكوا هذه الطريق لاعتقادهم أن من الأجسام ما هو قديم تحله الحوادث والصفات فكونه جسما ومتميزا وقديما وتحله الصفات والحوادث ليس هو عندهم مستلزما لكونه محدثا بل وليس ذلك مستلزما عند أرسطو كونه ممكنا يقبل الوجود والعدم وكذلك لم يسلكها كثير من أهل الكلام كالهشامية والكرامية وغيرهم بل ولا سلكها سلف الأمة وأئمتها كما قد بسط في موضعه .
ولم يسلكها متأخرو أهل الكلام الذين ركبوا طريقا من قول الفلاسفة وقول أسلافهم المتكلمين كالرازي والآمدي والطوسي ونحوهم بل سلكوا طريقة ابن سينا التي ذكرها في إثبات واجب الوجود طريقة ابن سينا .
وطريقة ابن سينا لم يسلكها سلفه الفلاسفة كأرسطو وأصحابه بل ولا سلكها جماهير الفلاسفة بل كثير من الفلاسفة ينازعونه في نفيه لقيام الحوادث والصفات بذات واجب الوجود ويقولولن إنه تقوم به الصفات والإرادات وأن كونه واجبا بنفسه لا ينافي ذلك كما لا ينافي عندهم جميعا كونه قديما .
ولكن ابن سينا وأتباعه لما شاركوا الجهمية في نفي الصفات وشاركوا سلفهم الدهرية في القول بقدوم العالم سلكوا في إثبات رب العالمين طريقا غير طريقة سلفه المشائين كأرسطو وأتباعه الذين أثبتوا العلة الأولى بحركة الفلك الإرادية وأن لها محركا يحركها كحركة المعشوق لعاشقه وهو يحرك الفلك للتشبه بالعلة الأولى فعدل ابن سينا عن تلك الطريقة إلى هذه الطريقة التي سلخها من طريقة أهل الكلام الذين يحتجون بالمحدث على المحدث وهو لا يقول بحدوث العالم فجعل طريقته الاستدلال بالممكن على الواجب ورأى أولئك المتكلمين قسموا الوجود إلى قديم ومحدث فقسمه هو إلى واجب وممكن وأثبت الواجب بهذا الطريق ولكن هذا بناء على أن القديم ممكن وله ماهية تقبل الوجود والعدم .
وهذا مما خالفه فيه جمهور العقلاء من الفلاسفة والمتكلمين وغيرهم حتى أنه هو تناقض في ذلك فوافق سلفه وجميع العقلاء وصرح بأن الممكن لا يكون إلا ما يقبل الوجود والعدم ثم تناقض هنا كما قد بسط في غير هذا الموضع .
درء التعارض (2|123)
وقال شيخ الإسلام : ونفس ما اشتركوا فيه من إثبات الصانع بطريقة الأعراض وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه فلا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وأن الله يمتنع أن يقال أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته أو يمتنع أن يقال أنه لم يزل فعالا وأنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته مبتدع في الإسلام أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة .
النبوات (1|586)
وقال ابن حجر رحمه الله :
وقد وافق أبو جعفر السمناني وهو من رؤوس الأشاعرة على هذا , وقال : إن المسألة بقيت في مقالة الأشعري من مسائل المعتزلة , وتفرع عليها أن الواجب على كل أحد معرفة الله بالأدلة الدالة عليه , وأنه لا يكفي التقليد في ذلك .
ونقل عن القرطبي صاحب المفهم : ولو لم يكن في الكلام إلا مسألتان هما من مبادئه لكان حقيقاً بالذم :
أحدهما: قول بعضهم إن أول واجب الشك إذ هو اللازم عن وجوب النظر أو القصد إلى النظر...
ثانيتها: قول جماعة منهم إن من لم يعرف الله بالطرق التي رتبوها والأبحاث التي حرروها لم يصح إيمانه .
"الفتح" (13/363)
وجه خطأ المتكلمين في هذا الدليل
بين شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله أن هذا الدليل لا يحتاج إليه أكثر الناس وإن كان يستأنس به أحيانا,وأن معرفة ضرورية لا تحتاج إلى نظر واستدلال فكيف يعلق بها صحة الإيمان أو صدق النبوة فهذا أمر لا يقبل ؛ كذلك بين رحمه الله أن هذا الدليل كان سببا لظهور كثير من الأقوال والمذاهب الضالة , وهذه الطريق فيه تطويل بلا فائدة واستدلال على الأظهر بالأخفى .
قال شيخ الإسلام : والمقصود هنا إنما كان التنبيه على طرق الطوائف في إثبات الصانع , وأن ما يذكره أهل البدع من المتكلمة والمتفلسفة ؛فإما أن يكون طويلا لا يحتاج إليه أو ناقصا لا يحصل المقصود ,وأن الطرق التي جاءت بها الرسل هي أكمل الطرق وأقربها وأنفعها وأن ما في الفطرة المكملة بالشرعة المنزلة يغني عن هذه الأمور المحدثة وأن سالكيها يفوتهم من كمال المعرفة بصفات الله تعالى وأفعاله ما ينقصون به عن أهل الإيمان نقصا عظيما إذا عذروا بالجهل وإلا كانوا من المستحقين للعذاب إذا خالفوا النص الذي قامت عليهم به الحجة فهم بين محروم ومأثوم .
وهذه الطرق التي أخدها ابن سينا عن المتكلمين من المعتزلة ونحوهم وخلطها بالكلام سلفه الفلاسفة صار بسبب ما فيها من البدع المخالفة للكتاب والسنة يستطيل بها على المسلمين ويجعل القول الذي قاله هؤلاء هو قول المسلمين وليس الأمر كذلك وإنما هو قول مبتدعتهم , وهكذا عمل إخوانه القرامطة الباطنية : صاروا يلزمون كل طائفة من طوائف المسلمين بالقدر الذي وافقهم عليه مما هو مخالف للنصوص ويلزمونهم بطرد ذلك القول حتى يخرجوهم عن الإسلام بالكلية .
ولهذا كان لهؤلاء وأمثالهم نصيب من حال المرتدين الذين قال الله تعال فيهم : { يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم } ولهذا آل الأمر بكثير من هؤلاء إلى عبادة الأوثان والشرك بالرحمن مثل دعوة الكواكب والسجود لها أو التصنيف في ذلك كما صنفه الرازي وغيره في ذلك .
درء التعارض(4|215)
وقال شيخ الإسلام : وكل هذه المقدمات التي ذكرها لا يفتقر إثبات الصانع إليها وبتقدير افتقاره إليها ؛ فإبطال التسلسل ممكن فتتم تلك المقدمات وذلك أن إثبات الصانع لا يفتقر إلى حدوث الأجسام كما تقدم بل نفس ما يشهد حدوثه من الحوادث يغنى عن ذلك والعلم بأن الحادث يفتقر إلى المحدث هو من أبين العلوم الضرورية وهو أبين من افتقار الممكن إلى المرجح فلا يحتاج أن يقرر ذلك بأن الحدوث ممكن أو أنه كان يمكن حدوثه على غير ذلك الوجه فتخصيصه بوجه دون وجه ممكن جائز الطرفين فيحتاج إلى مرجح مخصص بأحدهما .
وهذه الطريقة يسلكها من متأخري أهل الكلام من المعتزلة والأشعرية ومن وافقهم على ذلك من أصحاب أحمد ومالك والشافعي وأبي حنيفة وغيرهم .
وقد نبهنا على أنها وإن كانت صحيحة فإنها تطويل بلا فائدة فيه واستدلال على الأظهر بالأخفى وعلى الأقوى بالأضعف كما لا يحد الشيء بما هو أخفى منه وإن كان الحد مطابقا للمحدود مطردا منعكسا يحصل به التمييز مع أن الحد والاستدلال بالأخفى قد يكون فيه منفعة من وجوه أخرى مثل من حصلت له شبهة أو معاندة في الأمر الجلي فيبين له بغيره لكون ذلك أظهر عنده ؛فإن الظهور والخفاء أمر نسبي إضافي مثل من يكون من شانه الاستخفاف بالأمور الواضحة البينة فإذا كان الكلام طويلا مستغلقاها به وعظمه كما يوجد في جنس هؤلاء إلى غير ذلك من الفوائد لكن ليس هذا مما يتوقف العلم والبيان عليه مطلقا وهذا هو المقصود هنا وهؤلاء كثيرا ما يغلطون فيظنون أن المطلوب لا يمكن معرفته إلا بما ذكروه من الحد والدليل وبسبب هذا الغلط يضل من يضل حتى يتوهم أن ذلك الطريق المعين إذا بطل انسد باب المعرفة .
ولهذا لما بنى الآمدي وغيره على هذه الطريقة التي تعود إلى طريقة الإمكان وبنوا طريقة الإمكان على نفي التسلسل حصل ما حصل فكان مثل هؤلاء مثل من عمد إلى أمراء المسلمين وجندهم الشجعان الذين يدفعون العدو ويقاتلونهم فقطعهم ومنعهم الرزق الذي به يجاهدون وتركوا واحدا ظنا أنه يكفي في قتال العدو وهو أضعف الجماعة وأعجزهم ثم أنهم مع هذا قطعوا رزقه الذي به يستعين فلم يبق بإزاء العدو أحد .
ومثل نهر كبير كدجلة والفرات كان عليه عدة جسور فقطعها كلها ولم يترك إلا واحد طويلا بعيدا ضعيفا ثم إنه خرقه في أثنائه حتى انقطع الطريق ولم يبق لأحد طريق إلى العبور وهو مع هذا يستعمل الناس في الآلات التي يصنع بها الجسور ويشعر الناس أنه لا يمكن أحدا أن يعبر إلا بما يصنعه .
أو مثل رجل كان لمدينته أسوار متداخلة سور خلف سور كل سور منه يحفظ المدينة فعمد المتولي فهدم تلك الأسوار كلها وترك سورا هو أضعفها وأطولها وأصعبها حفظا ثم إنه مع ذلك خرق منه ناحية يدخل منها العدو فلم يبق للمدينة سور يحفظها .
فيقال إن إثبات الصانع ممكن بطرق كثيرة منها الاستدلال بالحدوث على المحدث وهذا يكفى فيه حدوث الإنسان نفسه أو حدوث ما يشاهد من المحدثات كالنبات والحيوان وغير ذلك ثم إنه يعلم بالضرورة أن المحدث لا بد من محدث وإذا قدر أنه أثبت الصانع بحدوث العالم لزم أن المحدث لا بد من محدث ثم إذا قدر أنه استدل بطريقة الإمكان إما ابتداء وإما مع طريقة الحدوث فالعلم بأن الممكن يفتقر إلى الواجب علم ضروري لا يفتقر إلى نفي التسلسل .
درء التعارض(2|8)
وقال رحمه الله : واعلم أن علم الإنسان بأن كل محدث لا بد له من محدث أو كل ممكن لا بد له من واجب أو كل فقير فلا بد له من غني أو كل مخلوق فلا بد له من خالق أو كل معلوم فلا بد له من يعلم أو كل أثر فلا بد له من مؤثر ونحو ذلك من القضايا الكلية والأخبار العامة هو علم كلي بقضية كلية وهو حق في نفسه لكن علمه بأن هذا المحدث المعين لا بد له من محدث وهذا الممكن المعين لا بد له من واجب هو أيضا معلوم له مع كون القضية معينة مخصوصة جزئية ,وليس علمه بهذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة المخصوصة موقوفا على العلم بتلك القضية العامة الكلية بل هذه القضايا المعينة قد تسبق إلى فطرته قبل أن يستشعر تلك القضايا الكلية وهذا كعلمه بأن الكتابة لا بد لها من كاتب والبناء لا بد له من بأن ؛ فإنه إذا رأى كتابة معينة علم انه لا بد لها من كاتب ,وإذا رأى بنيانا علم أنه لا بد له من بأن وإن لم يستشعر في ذلك الحال كل كتابه كانت أو تكون أو يمكن أن تكون ولهذا تجد الصبي ونحوه يعلم هذه القضايا المعينة الجزئية وإن كان عقله لا يستحضر القضية الكلية العامة , وهذا كما أن الإنسان يعلم أن هذا المعين لا يكون أسود أبيض ولا يكون في مكانين وإن لم يستحضر أن كل سواد وكل بياض فأنهما لا يجتمعان وأن كل جسمين فإنهما لا يكونان في مكان واحد وهكذا إذا رأى درهما ونصف درهم علم أن هذا الكل أعظم من هذا الجزء وإن لم يستحضر أن كل كل فإنه يجب أن يكون أعظم من جزئه .
وكذلك إذا قيل : هذا العدد الأول مساو لهذا العدد الثاني وهذا العدد الثاني مساو لهذا العدد الثالث فإنه يعلم أن الأول مساو لمساوي الثاني وهو مساو للثالث وإن لم يستحضر أن كل مساو لمساو فهو مساو .
وكذلك إذا علم أن الشخص موجود علم أنه ليس بمعدوم وإذا علم انه ليس بمعدوم علم أنه موجود ويعلم انه لا يجتمع وجوده وعدمه بل يتناقضان وأن لم يستحضر قضية كلية عامة أنه لا يجتمع نفي كل شيء وإثباته ووجوده وعدمه وهكذا عامة القضايا الكلية .
فإنه قد يكون علم الإنسان بالحكم في أعيانها المشخصة الجزئية أبده للعقل من الحكم الكلي ولا تكون معرفته بحكم المعينات موقوفة على تلك القضايا الكليات ولهذا كان علم الإنسان أنه هو لم يحدث نفسه لا يتوقف على علمه بأن كل إنسان لم يحدث نفسه ولا على أن كل حادث لم يحدث نفسه بل هذه القضايا العامة الكلية صادقة وتلك القضية المعينة صادقة والعلم بها فطري ضروري لا يحتاج أن يستدل عليه وإن كان قد يمكن الاستدلال على بعض المعينات بالقضية الكلية ويستفاد العلم بالقضية الكلية بواسطة العلم بالمعينات لكن المقصود أن هذا الاستدلال ليس شرطا في العلم بل العلم بالمعينات قد يعلم كما تعلم الكليات وأعظم بل قد يجزم بالمعينات من لا يجزم بالكليات , ولهذا لا تجد أحدا يشك في أن هذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا البناء لا بد له من باب بل يعلم هذا ضرورة
وإن كان العلم بان كل حادث لا بد له من محدث فاعل قد اعتقده طوائف من النظار نظريا حتى أقاموا عليه دليلا : إما بقياس الشمول وإما بقياس التمثيل فالأول قول من يقول : كل محدث لا بد له من محدث والثاني قول من يقول هذا محدث فيفتقر إلى محدث قياسا على البناء والكتابة .
ثم القائلون بأن كل محدث لا بد له من محدث منهم من يثبت هذا بالاستدلال على أن الحادث مختص والتخصيص لا بد له من مخصص ثم من الناس من يثبت هذا بأن المخصوص ممكن والممكن لا بد له من مرجح لوجوده ثم من الناس من يثبت هذا بأن نسبة الممكن إلى الوجود والعدم سواء فلا بد من ترجيح أحد الجانبين
وكثير من الناس يجعل المقدمة الأولى في هذه القضايا ضرورية بل يجعلها أبين من الثانية التي استدل بها عليها وهذا الاضطراب غنما يقع في القضايا الكلية العامة .
وأما كون هذا البناء لا بد له من بان وهذه الكتابة لا بد لها من كاتب وهذا الثوب المخيط لا بد له من خياط , وهذه الآثار التي في الأرض من آثار الأقدام لا بد لها من مؤثر وهذه الضربة لا بد لها من ضارب وهذه الصياغة لا بد لها من صائغ وهذا الكلام المنظوم المسموع لا بد له من متكلم وهذا الضرب والرمي والطعن لا بد له من ضارب ورام وطاعن .
فهذه القضايا المعينة الجزئية لا يشك فيها أحد من العقلاء ولا يفتقر في العلم بها إلى دليل ,وإن كان ذكر نظائرها حجة لها وذكر القضية التي تتناولها وغيرها حجة ثانية فيستدل عليها بقياس التمثيل وبقياس الشمول لكن هي في نفسها معلومة للعقلاء بالضرورة مع قطع نظرهم عن قضية كلية كما يعلم الإنسان أحوال نفسه المعينة فإنه يعلم أنه لم يحدث نفسه وإن لم يستحضر أن كل حادث لا يحدث بنفسه
ولهذا كانت فطرة الخلق مجبولة على أنهم شاهدوا شيئا من الحوادث المتجددة كالرعد والبرق والزلازل ذكروا الله وسبحوه لأنهم يعلمون أن ذلك المتجدد لم يتجدد بنفسه بل له محدث أحدثه وإن كانوا يعلمون هذا في سائر المحدثات لكن ما اعتادوا حدوثه صار مألوفا لهم بخلاف المتجدد الغريب وإلا فعامة ما يذكرون الله ويسبحونه عنده من الغريب المتجددة قد شهدوا من آيات الله المعتادة ما هو أعظم منه ولو لم يكن إلا خلق الإنسان فإنه من أعظم الآيات فكل أحد يعلم أنه هو لم يحدث نفسه ولا أبواه أحداثاه ولا أحد من البشر أحدثه ويعلم أنه لا بد له من محدث فكل أحد يعلم أن له خالقا خلقه ويعلم أنه موجود حي عليم قدير سميع بصير ومن جعل غيره حيا كان أولى أن يكون حيا ومن جعل غيره عليما كان أولى أن يكون عليما ومن جعل غيره قادرا كان أولى أن يكون قادرا ويعلم أيضا أن فيه من الإحكام ما دل على علم الفاعل ومن الاختصاص ما دل على إرادة الفاعل وأن نفس الإحداث لا يكون إلا بقدرة المحدث فعلمه بنفسه المعينة المشخصة الجزئية يفيده العلم بهذه المطالب الإلهية وغيرها ن كما قال تعالى { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } الذاريات 21
درء التعارض(2|20)
وقال شيخ الإسلام : أن تينك الطريقين ليستا باطلا محضا بل يفضى كل منهما إلى حق ما لكن ليس هو الحق الواجب ,وكثيرا ما يقترن معه الباطل فلا يحصل بكل منهما بمجرده أداء الواجب ولا اجتناب المحرم ولا تحصلان المقصود الذى فيه سعادة العبد من نجاته ونعيمه بعد مبعث الرسول .
مجموع الفتاوى (2|74)
تعظيم المتكلمين لدليل الأعراض
قال شيخ الإسلام : والمقصود هنا أن هؤلاء جعلوا هذا أصل دينهم وإيمانهم وجعلوا النظر في هذا الدليل هو النظر الواجب على كل مكلف ,وأنه من لم ينظر في هذا الدليل فإما أنه لا يصح إيمانه فيكون كافرا على قول طائفة منهم وإما أن يكون عاصيا على قول آخرين وأما إن يكون مقلدا لا علم له بدينه لكنه ينفعه هذا التقليد ويصير به مؤمنا غير عاص والأقوال الثلاثة باطلة لأنها مفرعة على أصل باطل وهو أن النظر الذي هو أصل الدين والايمان هو هذا النظر في هذا الدليل .
النبوات (1|255)
وقال أبو الحسين البصري في غرر الأدلة كما نقل عنه شيخ الإسلام : قال : وليس أحد يثق بصحة ما جاءت به الرسل إلا بعد المعرفة بصدقهم ولا تحصل المعرفة بصدقهم إلا بالمعجزات التي تميزهم عن غيرهم ,وليس تدل المعجزات على صدقهم إلا إذا صدرت ممن لا يفعل القبيح لكي يؤمن أن نصدق الكذابين وليس يؤمن أنه لا يفعل القبيح إلا إذا عرف أنه عالم بقبحه عالم باستغنائه عنه ولا يعرف غناءه إلا بعد أن يعلم أنه غير جسم ولا يعرف أنه غير جسم إلا إذا عرف أنه قديم ولا يعلم أنه عالم بكل قبيح إلا إذا علم أنه عالم بكل شيء ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم لذاته ولا يعلمه كذلك إلا إذا علم أنه عالم ولا يعلم أنه يثيب ويعاقب إلا إذا علم أنه قادر حي ولا يعرف موصوفا بهذه الصفات إلا إذا عرفت ذاته وإنما تعرف ذاته إذا استدل عليها بأفعاله لأنها غير مشاهدة ولا معروفة باضطرار ولا طريق إليها إلا أفعاله فيجب أن نتكلم في هذه الأشياء لنعلم صحة ما جاءت به الرسل ونمتثله فنكون آمنين في المعاد .
درء التعارض (5|33)
وقال الغزالي : من لم يعتقد حدوث الأجسام لا يصل لاعتقاد في الصانع أصلا.
درء التعارض(5|32)
وقال شيخ الإسلام رحمه الله : وأصل منشأ نزاع المسلمين في هذا الباب أن المتكلمين من الجهمية والمعتزلة , ومن اتبعهم سلكوا في إثبات حدوث العالم , وإثبات الصانع طريقاً مبتدعة في الشرع مضطربة في العقل , وأوجبوها , وزعموا أنه لا يمكن معرفة الصانع إلا بها .
وتلك الطريق فيها مقدمات مجملة لها نتائج مجملة فغلط كثير من سالكيها في مقصود الشارع , ومقتضى العقل فلم يفهموا ما جاءت به النصوص النبوية , ولم يحرروا ما اقتضته الدلائل العقلية ؛وذلك أنهم قالوا لا يمكن معرفة الصانع إلا بإثبات حدوث العالم , ولا يمكن إثبات حدوث العالم إلا بإثبات حدوث الأجسام.
"مجموع الفتاوى" (12/213)
تأثر الأشاعرة بهذا الدليل
قال الشيخ سفر الحوالي : إن الأشاعرة جعلوا دليل الحدوث والقدم هو الاستدلال على وجود الله بأن الكون حادث , وكل حادث فلا بد له من محدث قديم , وأخص صفات هذا القديم مخالفته للحوادث , وعدم حلولها فيه, ومن مخالفته للحوادث إثبات أنه ليس جوهراً ولا عرضاً ولا جسماً ولا في جهة ولا في مكان إلخ
ثم أطالوا جدا في تقرير هذه القضايا.
"عقيدة الأشاعرة " (37)
المسائل التي انبثقت عن دليل الأعراض على طريقة المتكلمين
يتلخص من مجموع ما انبثق عن هذه المسألة
1-نفي الأسماء والصفات .
2-إنكار الصفات الفعلية .
3-القول بالجواهر الفردة.
4-العرض لا يبقى زمانين.
5-فناء الجنة والنار.
6-انقطاع حركات أهل الجنة.
7-إنكار الحكمة والإرادة في صفات الله وأفعاله.
8-إنكار علو الله على خلقه.
9-القول بخلق القرآن.
10-تشبيه الله بالمعدوم كقولهم لا داخل العالم ولا خارجه .
11-القول بأن الله اتصف ببعض الصفات بعد أن كان غير قادر على ذلك .
12-إنكار الصفات التي تتعلق بمشيئته واختياره.
13-القول بوحدة الوجود.
14-القول أن وجود الله وجودا مطلقا.
15- إنكار رؤية الله.
16-القول بأن للمعدوم حقيقة ووجود.
17-قولهم أن للماهية حقيقة ثابتة في الخارج غير وجودها.
18-قولهم بإبطال إيمان المقلد .
19-قولهم بقدم العالم.
20-قولهم بتماثل الأجسام .
قال شيخ الإسلام : فهذه الطريقة مما يعلم بالاضطرار أن محمدا صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بها إلي الإقرار بالخالق ونبوة أنبيائه , ولهذا قد اعترف حذاق أهل الكلام ـ ك الأشعري وغيره ـ بأنها ليست طريقة الرسل وأتباعهم ولا سلف الأمة وأئمتها وذكروا أنها محرمة عندهم بل المحققون علي أنها طريقة باطلة وأن مقدماتها فيها تفصيل وتقسيم يمنع ثبوت المدعي بها مطلقا ولهذا تجد من اعتمد عليها في أصول دينه فأحد الأمرين لازم له : إما أن يطلع علي ضعفها ويقابل بينها وبين أدلة القائلين بقدم العالم فتتكافأ عنده الأدلة أو يرجح هذا تارة وهذا تارة كما هو حال طوائف منهم وإما أن يلتزم لأجلها لوازم معلومة الفساد في الشرع والعقل كما التزم جهم لأجلها فناء الجنة والنار.
والتزم لأجلها أبو الهذيل انقطاع حركات أهل الجنة .
والتزم قوم لأجلها كالأشعري وغيره أن الماء والهواء والتراب والنار له طعم ولون وريح ونحو ذلك .
والتزم قوم لأجلها ولأجل غيرها أن جميع الأعراض ـ كالطعم واللون وغيرها ـ لا يجوز بقاؤها بحال لأنهم احتاجوا إلي جواب النقض الوارد عليهم لما أثبتوا الصفات لله مع الاستدلال علي حدوث الأجسام بصفاتها فقالوا : صفات الأجسام أعراض أي أنها تعرض فتزول فلا تبقي بحال بخلاف صفات الله فإنها باقية .
درء التعارض (1|24)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : وهذا من أغاليط بعض المتكلمين كغلطهم في قولهم إن الأعراض يمتنع بقاؤها وأن الأجسام متماثلة وأنها مركبة من الجواهر المنفردة التي لا تقبل قسمة ولا يتميز منها جانب من جانب .
وكذلك غلط من غلط من المتكلمين وادعى أن الله لم يخلق شيئا لسبب ولا لحكمة ولا خص شيئا من الأجسام بقوى وطبائع وادعى أن كل ما يحدث فإن الفاعل المختار الذي يخص أحد المتماثلين بلا تخصيص أصلا يحدثه وأنكر ما في مخلوقات الله وما في شرعه من الحكم التي خلق وأمر لأجلها .
الرد على المنطقيين (310)
وقال : والأئمة يذمون الكلام المبتدع فإن أصحابه يخطئون إما في مسائلهم وإما في دلائلهم فكثيرا ما يثبتون دين المسلمين في الإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله على أصول ضعيفة بل فاسدة ويلتزمون لذلك لوازم يخالفون بها السمع الصحيح والعقل الصريح ,وهذا حال الجهمية من المعتزلة وغيرهم حيث أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام ,وأثبتوا ذلك بحدوث صفاتها التي هي الأعراض فاضطرهم ذلك إلى القول بحدوث كل موصوف ؛فنفوا عن الله الصفات وقالوا بأن القرآن مخلوق وأنه لا يرى في الآخرة وقالوا إنه لا مباين ولا محايث وأمثال ذلك من مقالات النفاة التي تستلزم التعطيل .
الأصفهانية (120)
وقال شيخ الإسلام : فالجهمية التزموا لأجلها نفي أسماء الله وصفاته إذ كانت الصفات أعراضا تقوم بالموصوف ولا يعقل موصوف بصفة إلا الجسم ؛فإذا اعتقدوا حدوثه اعتقدوا حدوث كل موصوف بصفة ,والرب تعالى قديم فالتزموا نفي صفاته وأسماؤه مستلزمة لصفاته فنفوا أسماءه الحسنى وصفاته العلى .
والمعتزلة استعظموا نفي الأسماء لما فيه من تكذيب القرآن تكذيبا ظاهر الخروج عن العقل والتناقض فإنه لا بد من التمييز بين الرب وغيره بالقلب واللسان ؛فما لا يميز من غيره لا حقيقة له ولا إثبات وهو حقيقة قول الجهمية فإنهم لم يثبتوا في نفس الأمر شيئا قديما البتة كما أن المتفلسفة الذين سلكوا مسلك الإمكان والوجوب وجعلوا ذلك بدل الحادث والقديم لم يثبتوا واجبا بنفسه البتة .
... وقد بسط هذا في مواضع وبين أن كل من نفى صفة مما أخبر به الرسول لزمه نفي جميع الصفات فلا يمكن القول بموجب أدلة العقول إلا مع القول بصدق الرسول فأدلة العقول مستلزمة لصدق الرسول ؛فلا يمكن مع عدم تصديقه القول بموجب العقول بل من كذبه فليس معه لا عقل ولا سمع كما أخبر الله تعالى عن أهل النار قال تعالى : { كلما ألقي فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بل قد جاءنا نذير فكذبنا وقلنا ما نزل الله من شيء إن أنتم إلا في ضلال كبير وقالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقا لأصحاب السعير} وهذا مبسوط في غير هذا الموضع .
والمقصود هنا أن المعتزلة لما رأوا الجهمية قد نفوا أسماء الله الحسنى استعظموا ذلك وأقروا بالأسماء ولما رأوا هذه الطريق توجب نفي الصفات نفوا الصفات فصاروا متناقضين ؛فإن إثبات حي عليم قدير سميع بصير بلا حياة ولا علم ولا قدرة ولا حكمة ولا سمع ولا بصر مكابرة للعقل كإثبات مصل بلا صلاة وصائم بلا صيام وقائم بلا قيام ونحو ذلك من الأسماء المشتقة كأسماء الفاعلين والصفات المعدولة عنها ,ولهذا ذكروا في أصول الفقه أن صدق الاسم المشتق كالحي والعليم لا ينفك عن صدق المشتق منه كالحياة والعلم وذكروا النزاع مع من ذكروه من المعتزلة كأبي علي وأبي هاشم .
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه كالأشعري والقلانسي فقرروا أنه لا بد من إثبات الصفات متابعة للدليل السمعي والعقلي مع إثبات الأسماء وقالوا ليست أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية سلكوا في هذا الفرق وهو أن العرض لا يبقى زمانين مسلكا أنكره عليهم جمهور العقلاء ,وقالوا إنهم خالفوا الحس وضرورة العقل وهم موافقون لأولئك على صحة هذه الطريقة طريقة الأعراض قالوا وهذه تنفي عن الله أن يقوم به حادث وكل حادث فإنما يكون بمشيئته وقدرته قالوا فلا يتصف بشيء من هذه الأمور لا يتكلم بمشيئته وقدرته ولا يقوم به فعل اختياري يحصل بمشيئته وقدرته كخلق العالم وغيره .
بل منهم من قال لا يقوم به فعل بل الخلق هو المخلوق كالأشعري ومن وافقه ومنهم من قال بل فعل الرب قديم أزلي وهو من صفاته الأزلية وهو قول قدماء الكلابية وهو الذي ذكره أصحاب ابن خزيمة لما وقع بينه وبينهم بسبب هذا الأصل فكتبوا عقيدة اصطلحوا عليها وفيها إثبات الفعل القديم الأزلي وكان سبب ذلك أنهم كانوا كلابية يقولون إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته بل كلامه المعين لازم لذاته أزلا وأبدا ...
والمقصود التنبيه على افتراق الأمة بسبب هذه الطريقة ولما عرف كثير من الناس باطن قول ابن كلاب وأنه يقول أن الله لم يتكلم بالقرآن العربي وأن كلامه شيء واحد هو معنى آية الكرسي وآية الدين عرفوا ما فيه من مخالفة الشرع والعقل فنفروا عنه وعرفوا أن هؤلاء يقولون أنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه وكان ممن أنكر ذلك الكرامية وغير الكرامية كأصحاب أبي معاذ التومني وزهير البابي وداود بن علي وطوائف فصار كثير من هؤلاء يقولون أنه يتكلم بمشيئته وقدرته فأنكروه لكن يراعى تلك الطريقة لاعتقاده صحتها فيقول إنه لم يكن في الأزل متكلما لأنه إذا كان لم يزل متكلما بمشيئته لزم وجود حوادث لا تتناهى وأصل الطريقة أن هذا ممتنع فصار حقيقة قول هؤلاء إنه صار متكلما بعد أن لم يكن متكلما فخالفوا قول السلف والأئمة انه لم يزل متكلما إذا شاء وبسط هذه الأمور له موضع آخر .
وقال رحمه الله : ثم ظهر بهذا المذهب الجهم بن صفوان ودخلت فيه بعد ذلك المعتزلة وهؤلاء أول من عرف عنهم في الإسلام أنهم أثبتوا حدوث العالم بحدوث الأجسام وأثبتوا حدوث الأجسام بحدوث ما يستلزمها من الأعراض وقالوا الأجسام لا تنفك عن أعراض محدثة وما لا ينفك عن الحوادث أو ما لا يسبق الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها .
ثم إنهم تفرقوا عن هذا الأصل فلما قالوا بامتناع دوام الحوادث في الماضي عورضوا بالمستقبل فطرد إماما هذه الطريقة هذا الأصل وهما إمام الجهمية الجهم بن صفوان وأبو الهذيل العلاف إمام المعتزلة وقالا بامتناع دوام الحوادث في المستقبل والماضي .
ثم إن جهما قال إذا كان الأمر كذلك لزم فناء الجنة والنار وأنه يعدم كل ما سوى الله كما كان ما سواه معدوما ,وكان هذا مما أنكره السلف والأئمة على الجهمية وعدوه من كفرهم وقالوا إن الله تعالى يقول إن هذا لرزقنا ماله من نفاد سورة ص 54 وقال تعالى أكلها دائم وظلها سورة الرعد 35 إلى غير ذلك من النصوص الدالة على بقاء نعيم الجنة .
وأما أبو الهذيل فقال إن الدليل إنما دل على انقطاع الحوادث فقط فيمكن بقاء الجنة والنار لكن تنقطع الحركات فيبقى أهل الجنة والنار ساكنين ليس فيهما حركة أصلا ولا شيء يحدث ولزمه على ذلك أن يثبت أجساما باقية دائمة خالية عن الحوادث فيلزم وجود أجسام بلا حوادث فينتقض الأصل الذي أصلوه وهو أن الأجسام لا تخلو عن الحوادث .
وهذا هو الأصل الذي أصله هشام بن الحكم وهشام بن سالم الجواليقي وغيرهما من المجسمة الرافضة وغير الرافضة كالكرامية فقالوا بل يجوز ثبوت جسم قديم أزلي لا أول لوجوده وهو خال عن جميع الحوادث وهؤلاء عندهم الجسم القديم الأزلي يخلو عن الحوادث وأما الأجسام المخلوقة فلا تخلو عن الحوادث ويقولون ما لا يخلو عن الحوادث فهو حادث لكن لا يقولون إن كل جسم فإنه لا يخلو عن الحوادث .
ثم إن هؤلاء الجهمية أصحاب هذا الأصل المبتدع احتاجوا أن يلتزموا طرد هذا الأصل فقالوا إن الرب لا تقوم به الصفات ولا الأفعال فإنها أعراض وحوادث وهذه لا تقوم إلا بجسم والأجسام محدثة فيلزم أن لا يقوم بالرب علم ولا قدرة ولا كلام ولا مشيئة ولا رحمة ولا رضا ولا غضب ولا غير ذلك من الصفات بل جميع ما يوصف به من ذلك فإنما هو مخلوق منفصل عنه .
منهاج السنة (1|311)
وقال رحمه الله : ولهذا صار من يسلك هذه الطريقة من حذاق الطوائف يتبين لهم فسادها كما ذكر مثل ذلك أبو حامد الغزالي وأبو عبد الله الرازي وأمثالهما ثم الذي يتبين له فسادها إذا لم يجد عند من يعرفه من المتكلمين في أصول الدين غيرها بقي حائرا مضطربا والقائلون بقدم العالم من الفلاسفة والملاحدة وغيرهم تبين لهم فسادها فصار ذلك من أعظم حججهم على قولهم الباطل فيبطلون قول هؤلاء إنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته بعد أن لم يكن ويثبتون وجوب دوام نوع الحوادث ويظنون أنهم إذا أبطلوا كلام أولئك المتكلمين بهذا حصل مقصودهم وهم أضل وأجهل من أولئك ؛ فإن أدلتهم لا توجب قدم شيء بعينه من العالم بل كل ما سوى الله فهو محدث مخلوق كائن بعد أن لم يكن ودلائل كثيرة غير تلك الطريقة وأن كان الفاعل لم يزل فاعلا لما يشاء ومتكلما بما يشاء ,وصار كثير من أولئك إذا ظهر له فساد أصل أولئك المتكلمين المبتدعين وليس عنده إلا قولهم وقول هؤلاء يميل إلى قول هؤلاء الملاحدة ثم قد يبطن ذلك وقد يظهره لمن يأمنه وابتلى بهذا كثير من أهل النظر والعبادة والتصوف وصاروا يظهرون هذا في قالب المكاشفة ويزعمون أنهم أهل التحقيق والتوحيد والعرفان فأخذوا من نفي الصفات أن صانع العالم لا داخل العالم ولا خارجه ومن قول هؤلاء أن العالم قديم ولم يروا موجودا سوى العالم فقالوا إنه هو الله وقالوا هو الوجود المطلق والوجود واحد وتكلموا في وحدة الوجود وأنه الله بكلام ليس هذا موضع بسطه ثم لما ظهر أن كلامهم يخالف الشرع والعقل صاروا يقولون يثبت عندنا في الكشف ما يناقض صريح العقل ويقولون القرآن كله شرك وإنما التوحيد في كلامنا ومن أراد أن يحصل له هذا العلم اللدني الأعلى فليترك العقل والنقل وصار حقيقة قولهم الكفر بالله وبكتبه ورسله وباليوم الآخر من جنس قول الملاحدة الذين يظهرون التشيع .
وقال رحمه الله : ونفس ما اشتركوا فيه من إثبات الصانع بطريقة الأعراض وأنها لازمة للجسم أو متعاقبة عليه فلا يخلو منها وما لم يخل من الحوادث فهو حادث لامتناع حوادث لا أول لها وأن الله يمتنع أن يقال أنه لم يزل متكلما بمشيئته وقدرته أو يمتنع أن يقال أنه لم يزل فعالا وأنه صار فاعلا أو فاعلا ومتكلما بمشيئته مبتدع في الإسلام أول ما عرف أنه قاله الجهم بن صفوان مقدم الجهمية وأبو الهذيل العلاف مقدم المعتزلة ولهذا طرداه فقالا بامتناع الحوادث في المستقبل , وقال الجهم بفناء الجنة والنار ,وقال أبو الهذيل بانقطاع حركاتهما كما قد بسط فروع هذا الأصل الذي اشتركوا فيه .
ثم افترقوا بعد ذلك في فروعه فأئمتهم كانوا يقولون كلام الله القرآن وغيره مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب ليس له صفة قامت به لأن ذلك عرض عندهم لا يقوم إلا بجسم , والجسم حادث فقالوا القرآن وغيره من كلام الله مخلوق وكذلك سائر ما يوصف به الرب فجاء بعدهم مثل ابن كلاب وابن كرام والأشعري وغيرهم من شاركهم في أصل قولهم لكن قالوا بثبوت الصفات لله وأنها قديمة لكن منهم من قال لا تسمى أعراضا لأن العرض لا يبقى زمانين وصفات الرب باقية كما يقوله الأشعري وغيره ومنهم من قال تسمى أعراضا وهي قديمة وليس كل عرض حادثا كابن كرام وغيره ثم افترقوا في القرآن وغيره من كلام الله فقال ابن كلاب ومن اتبعه هو صفة من الصفات قديمة كسائر الصفات ثم قال ولا يجوز أن يكون صوتا لأنه لا يبقى ولا معاني متعددة فإنها إن كان لها عدد مقدر فليس قدر بأولى من قدر وإن كانت غير متناهية لزم ثبوت معان في آن واحد لا نهاية لها وهذا ممتنع فقال إنه معنى واحد وهو معنى آية الكرسي وآية الدين والتوراة والإنجيل .
وقال جمهور العقلاء إن تصور هذا القول تصورا تاما يوجب العلم بفساده وقال طائفة بل كلامه قديم العين وهو حروف أو حروف وأصوات قديمة أزلية مع أنها مترتبة في نفسها وأن تلك الحروف والأصوات باقية أزلا وأبدا وجمهور العقلاء يقولون إن فساد هذا معلوم بالضرورة وهاتان الطائفتان تقولان إنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته .
وقال آخرون كالهشامية والكرامية بل هو متكلم بمشيئته وقدرته وكلامه قائم بذاته ولا يمتنع قيام الحوادث لكن يمتنع أن يكون لم يزل متكلما فإن ذلك يستلزم وجود حوادث لا أول لها وهو ممتنع فهذه الأربعة في القرآن وكلام الله هي أقوال المشركين في امتناع دوام كون الرب فعالا بمشيئته أو متكلما بمشيئته النبوات (1|590)
وقال الشيخ الإسلام : وفي الجملة النزاع في تعليل أفعال الله وأحكامه مسألة لا تتعلق بالإمامة أصلا وأكثر أهل السنة على إثبات الحكمة والتعليل
ولكن الذين أنكروا ذلك من أهل السنة احتجوا بحجتين أحداهما أن ذلك يستلزم التسلسل فإنه إذا فعل لعلة فتلك العلة أيضا حادثة فتفتقر إلى علة إن وجب أن يكون لكل حادث علة .
وإن عقل الإحداث بغير علة لم يحتج إلى إثبات علة فهم يقولون إن أمكن الإحداث بغير علة لم يحتج إلى علة ولم يكن ذلك عبثا وإن لم يكن وجود الإحداث إلا لعلة فالقول في حدوث العلة كالقول في حدوث المعلول وذلك يستلزم التسلسل
الحجة الثانية أنهم قالوا من فعل لعلة كان مستكملا بها لأنه لو لم يكن حصول العلة أولى من عدمها لم تكن علة والمستكمل بغيره ناقص بنفسه وذلك ممتنع على الله .
منهاج السنة (1|145)
وقال شيخ الإسلام : وهذه الحجة لما كان أصلها هو البحث عن حكمة الإرادة ولم فعل ما فعل وهي مسألة القدر ظهر بها ما كان السلف يقولونه إن الكلام في القدر هو أبو جاد الزندقة وعلم بذلك حكمة نهيه صلى الله عليه و سلم لما رآهم يتنازعون في القدر عن مثل ما هلك به الأمم قال لهم بهذا هلكت الأمم قبلكم أن تضربوا كتاب الله بعضه ببعض وعن هذا نشأ مذهب المجوس والقدرية مجوس هذه الأمة حيث خاضوا في التعديل والتجويز بما هو من فروع هذه الحجة كما أن التجهم فروع تلك الحجة .
ثم إن الدهرية ظنوا أنهم بالقول بقدم العالم ينجون من هذه الشبهات وكان الذي وقعوا فيه شرا مما وقعت فيه المجوس والقدرية ولهذا كان المشركون والصابئون القائلون بقدم العالم ومن معهم من الفلاسفة شرا من المجوس ومن معهم من القدرية المعتزلة وغيرهم .
والمقصود بيان هذا يقال لهم لا ريب في هذا الوجود المشهود المستلزم لوجود الموجود القديم الواجب فإن نفس الوجود يستلزم موجودا قديما واجبا بنفسه إذ كل موجود فإما أن يكون واجبا قديما أو يكون محدثا أو ممكنا.
بيان تلبيس الجهمية (1|163)
وقال شيخ الإسلام : فإذا قال النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم : لو كان الله يرى في الآخرة لكان في جهة وما كان في جهة فهو جسم وذلك على الله محال أو قالوا : لو كان الله تكلم بالقرآن بحيث يكون الكلام قائما به لقامت به الصفات والأفعال وذلك يستلزم أن يكون محلا للأعراض والحوادث وما كان محلا للأعراض والحوادث فهو جسم والله منزه عن ذلك لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث العالم وحدوث العالم إنما علم بحدوث الأجسام فلو كان جسم ليس بمحدث لبطلت دلالة إثبات الصانع .
فهذا الكلام ونحوه هو عمدة النفاة من الجهمية والمعتزلة وغيرهم ومن وافقهم في بعض بدعتهم وهذا ونحوه في العقليات التي يزعمون أنها عارضت نصوص الكتاب والسنة .
درء التعارض (1|144)
ثم إن المعتزلة والجهمية نفت أن يقوم بالله تعالى صفات وأفعال بناء على هذه الحجة .
قولوا : لأن الصفات والأفعال لا تقوم إلا بجسم وبذلك استدلوا على حدوث الجسم
فجاء ابن كلاب ومن اتبعه فوافقوهم على انتفاء قيام الأفعال به وخالفوهم في قيام الصفات فأثبتوا قيام الصفات به وقالوا : لا نسميها أعراضا لأنها باقية والأعراض لا تبقى .
وأما ابن كرام وأتباعه : فلم يمتنعوا من تسمية صفات الله أعراضا كما لم يمتنعوا من تسميته جسما .
وعن هذا الحجة ونحوها نشأ القول بأن القرآن مخلوق وأن الله تعالى لا يرى في الآخرة وأنه ليس فوق العرش ونحو ذلك من مقالات الجهمية النفاة لأن القرآن كلام وهو صفة من الصفات , والصفات عندهم لا تقوم به وأيضا فالكلام يستلزم فعل المتكلم وعندهم لا يجوز قيام فعل به ولأن الرؤية تقتضي مقابلة ومعاينة والعلو يقتضي مباينة ومسامته وذلك من صفات الأجسام .
وبالجملة فقد صاروا ينفون ما ينفونه من صفات الله تعالى لأن إثبات ذلك يقتضي أن يكون الموصوف جسما وذلك ممتنع لأن الدليل على إثبات الصانع إنما هو حدوث الأجسام فلو كان جسما لبطل دليل إثبات الصانع .
ومن هنا قال هؤلاء : إن القول بما دل عليه السمع من إثبات الصفات والأفعال يقدح في أصل الدليل الذي به علمنا صدق الرسول .
وقالوا إنه لا يمكن تصديق الرسول لو قدر أنه يخبر بذلك لأن صدقه لا يعلم بعد أن يثبت العلم بالصانع ولا طريق إلى إثبات العلم بالصانع إلا القول بحودث الأجسام .
قالوا : وإثبات الصفات له يقتضي أنه جسم قديم فلا يكون كل جسم حادثا فيبطل دليل إثبات العلم به .
درء التعارض (1|180)
نقل شيخ الإسلام عن ابن الزاغوني فوله : وذهبت طوائف من المعتزلة والقدرية إلى أنه لا يعرف الله إلا العلماء فأما العوام فلا يحكم بصحة إيمانهم ولا بمعرفتهم لله )
قال : ( والدليل على إبطال قولهم هو أنا نقول : حقيقة الإيمان العائد إلى المعتقد هي طمأنينة النفس وسكون القلب إلى معرفة ما يعتقد بإسناد ذلك إلى دليل يصلح له وهذا لا يعدم في حق أحد من العامة وبيان ذلك : أنه لو قيل لأحد من العوام : بم عرفت ربك ؟ لقال : بأنه انفرد ببناء هذه السماء ورفعها فلا يشاركه في هذا موصوف بجسم ولا جوهر وهذا مأخوذ من قوله تعالى : { وإلى السماء كيف رفعت } ومن سائر الآيات التي فيها ذكر السماء والاعتبار بها وهذا الآيات هي الأصل عند العلماء وإنما ينفردون عن العامة في هذا ببسيط البيان المليح والتشقيق والغامض الدقيق وفي بيان حكم يدركها العامي فهما بجنانه ,ويقصر عن شرحها بلسانه فهما في ذلك كرجلين اتفقا في العلم بمسألة وأحدهما في الكشف أبسط باعا وأفصح شرحا وهذا يرجع إلى شيء وذلك أنه قد ثبت أن الله تعالى كلف الكل معرفته وضمن فيما أن لا يزيد تكليفه على مقدار الوسع بقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا وسعها } وقوله : { لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها } فحقيقة المعرفة بالشيء إنما هي الوقوف عليه بالعلم على ما هو به ولا يوصل إلى ذلك في حق الله إلا باستناد المعتقد فيه إلى دليله فلو كان الدليل لا يدخل الوقوف عليه في طوق العامي لأدى ذلك إلى تكليفه ما ليس في وسعه وهذا خلاف ما نص الله عليه .
درء التعارض (4|95)
وقال شيخ الإسلام : في مسألة حدوث العالم فإنه استدل بدليل الأعراض المشهور وهو أن الجسم لا يخلو من الأعراض وما لا يخلو عنها فهو حادث وهو الدليل الذي اعتمدت عليه المعتزلة قبله وهو الذي ذمه الأشعري في رسالته إلى أهل الثغر وبين أنه ليس من طرق الأنبياء وأتباعهم والدليل هو مبني على إثبات أربع مقدمات : الأعراض وإثبات حدوثها وأن الجسم لا يخلو منها وإبطال حوادث لا أول لها فلما صار إلى المقدمة الثالثة قال : ( وأما الأصل الثالث - وهو تبيين استحالة تعري الجواهر عن الأعراض - فالذي صار إليه أهل الحق : أن الجوهر لا يخلو عن كل جنس من الأعراض وعن جميع أضداده لا كان له أضداد وإن كان له ضد واحد لم يخل الجوهر عن أحد الضدين وإن قدر عرض لا ضد له لم يخل الجوهر عن قبول واحد من جنسه )
درء التعارض(1|328)
وقال شيخ الإسلام : وقد بينا فساد قول هؤلاء في غير هذا الموضع وبينا أن قولهم بأن المبدع علة تامة موجب بذاته هو نفسه يستلزم فساد قولهم فإن العلة التامة تستلزم معلولها فلا يجوز أن يتأخر عنها شيء من معلولها .
فالحوادث مشهودة في العالم فلو كان الصانع موجبا بذاته علة تامة مستلزمة لمعلولها لم يحدث شيء من الحوادث في الوجود إذ الحادث يمتنع أن يكون صادرا عن علة تامة أزلية فلو كان العالم قديما لكان مبدعة علة تامة والعلة التامة لا يتخلف عنها شيء من معلولها فيلزم من ذلك أن لا يحدث في العالم شيء فحدوث الحوادث دليل على أن فاعلها ليس بعلة تامة في الأزل وإذا انتفت العلة التامة في الأزل بطل القول بقدم شيء من العالم لكن هذا لا ينفى أن الله لم يزل متكلما إذا شاء ولم يزل حيا فعالا لما يشاء .
وعمدة الفلاسفة على قدم العالم هو قولهم يمتنع حدوث الحوادث بلا سبب حادث فيمتنع تقدير ذات معطلة عن الفعل لم تفعل ثم فعلت من غير حدوث سبب .
منهاج السنة (1|148)
وقال شيخ الإسلام : هذه الطريقة جزء من الطريقة المذكورة في القرآن وهي التي جاءت بها الرسل وكان عليها سلف الأمة وأئمتها وجماهير العقلاء من الآدميين فإن الله سبحانه يذكر في آياته ما يحدثه في العالم من السحاب والمطر والنبات والحيوان وغير ذلك من الحوادث ويذكر في آياته خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار ونحو ذلك لكن القائلون بإثبات الجوهر الفرد من المعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم يسمون هذا استدلالا بحدوث الصفات بناء على أن هذه الحوادث المشهود حدوثها لم تحدث ذواتها بل الجواهر والأجسام التي كانت موجودة قبل ذلك لم تزل من حين حدوثها بتقدير حوادثها ولا تزال موجودة وإنما تغيرت صفاتها بتقدير حدوثها كان تتغير صفات الجسم إذا تحرك بعد السكون وكما تتغير ألوانه وكما تتغير أشكاله وهذا مما ينكره عليهم جماهير العقلاء من المسلمين وغيرهم .
وحقيقة قول هؤلاء الجهمية والمعتزلة ومن وافقهم من الأشعرية وغيرهم : أن الرب لم يزل معطلا لا يفعل شيئا ولا يتكلم بمشيئته وقدرته ثم إنه أبدع جواهر من غير فعل يقوم به وبعد ذلك ما بقي يخلق شيئا بل إنما تحدث صفات تقوم بها ويدعون أن هذا قول أهل الملل : الأنبياء وأتباعهم .
درء التعارض(1|464)
وقال أيضا: فأهل الكلام أصل كلامهم في الجواهر والأعراض مبني على مخالفة الحس والعقل فإنهم يقولون إنا لا نشهد بل ولا نعلم في زماننا حدوث شيء من الأعيان القائمة بنفسها بل كل ما نشهد حدوثه بل كل ما حدث من قبل أن يخلق آدم إنما تحدث أعراض في الجواهر التي هي باقية لا تستحيل قط بل تجتمع وتتفرق والخلق عندهم الموجود في زماننا إنما هو جمع وتفريق لا ابتداع عين وجوهر قائم بنفسه ولا خلق لشيء قائم بنفسه لا إنسان ولا غيره وإنما يخلق أعراضا ويقولون إن كل ما تشاهده من الأعيان فإنها مركبة من جواهر كل جوهر منها لا يتميز يمينه عن شماله وهذا مخالفة للحس والعقل كالأول ويقول كثير منهم إن الأعراض لا تبقى زمانين ويقولون انه لا يفنى ويعدم في زماننا شيء من الأعيان بل كما لا يحدث شيء من الأعيان لا يفنى شيء من الأعيان فهذا أصل علمهم ودينهم ومعقولهم الذي بنوا عليه حدوث العالم واثبات الصانع وهو مخالف للحس والعقل .
النبوات (2|1099)
وقال شيخ الإسلام : الوجه الثالث : أن يقال : الوجود المطلق بشرط الإطلاق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية أو لا بشرط مما يعلم بصريح العقل انتفاؤه في الخارج وإنما يوجد في الذهن وهذا مما قرروه في منطقهم اليوناني وبينوا أن المطلق بشرط الإطلاق كإنسان مطلق بشرط الإطلاق وحيوان مطلق بشرط الإطلاق ,جسم مطلق بشر الإطلاق, ووجود مطلق بشرط الإطلاق : لا يكون إلا في الأذهان دون الأعيان .
ولما اثبت قدماؤهم الكليات المجردة عن الأعيان التي يسمونها المثل الأفلاطونية أنكر ذلك حذاقهم وقالوا : هذه لا تكون إلا في الذهن ثم الذين ادعوا ثبوت هذه الكليات في الخارج مجردة قالوا : إنها مجردة عن الأعيان المحسوسة ن ويمتنع عندهم أن تكون هذه هي المبدعة للأعيان بل يمتنع أن تكون شرطا في وجود الأعيان فإنها إما أن تكون صفة للأعيان أو جزءا منها .
وصفة الشيء لا تكون خالقة للموصوف وجزء الشيء لا يكون خالقا للجملة فلو قدر أن في الخارج وجودا مطلقا بشرط الإطلاق امتنع أن يكون مبدعا لغيره من الموجودات بل امتنع أن يكون شرطا في وجود غيره فإذن تكون المحدثات. والممكنات المعلوم حدوثها وافتقارها إلى الخالق المبدع مستغنية عن هذا الوجود المطلق بشرط الإطلاق إن قيل : إن له وجودا في الخارج فكيف إذا كان الذي قال هذا القول هو من أشد الناس إنكارا على من جعل وجود هذه الكليات المطلقة المجردة عن الأعيان خارجا عن الذهن .
وهم قد قرروا أن العلم الأعلى والفلسفة الأولى هو العلم الناظر في الوجود ولواحقه فجعلوا الوجود المطلق موضوع هذا العلم لكن هذا هو المطلق الذي ينقسم إلى واجب وممكن وعلة ومعلول وقديم ومحدث .
ومورد التقسيم مشترك بين الأقسام فلم يمكن هؤلاء أن يجعلوا هذا الوجود المنقسم إلى واجب وممكن هو الوجود الواجب فجعلوا الوجود الواجب هو الوجود المطلق بشرط الإطلاق الذي ليس له حقيقة سوى الوجود المطلق أو بشرط سلب الأمور الثبوتية ويعبرون عن هذا بأن وجوده ليس عارضا لشيء من الماهيات والحقائق
وهذا التعبير مبني على أصلهم الفاسد وهو أن الوجود يعرض للحقائق الثابتة في الخارج بناء على أنه في الخارج وجود الشيء غير حقيقته فيكون في الخارج حقيقة يعرض لها الوجود تارة ويفارقها أخرى .
ومن هنا فرقوا في منطقهم بين الماهية والوجود وهم لو فسروا الماهية بما يكون في الأذهان والوجود بما يكون في الأعيان لكان هذا صحيحا لا ينازع فيه عاقل وهذا هو الذي تخيلوه في الأصل لكن توهموا أن تلك الماهية التي في الذهن هي بعينها الموجود الذي في الخارج فظنوا أن في هذا الإنسان المعين جواهر عقلية قائمة بأنفسها مغيرة لهذا المعين مثل كونه حيوانا ناطقا وحساسا ومتحركا بالإرادة ونحو ذلك .
درء التعارض(1|168)
وقال : وبسبب التباس هذا عليهم حاروا في وجود الله تعالى : هل هو ماهيته أم هو زائد على ماهيته ؟ وهل لفظ الوجود مقول بالتواطؤ والتشكيك أو مقول بالاشتراك اللفظي ؟
فقالوا : إن قلنا : إن لفظ الوجود مشترك اشتراكا لفظيا لزم ألا يكون الوجود منقسما إلى واجب وممكن وهذا خاف ما اتفق عليه العقلاء وما يعلم بصريح العقل
وإن قلنا : إنه متواطئ أو مشكك لزم أن تكون الموجودات مشتركة في مسمى الوجود فيكون الوجود مشتركا بين الواجب والممكن فيحتاج الوجود المشترك إلى ما يميز وجود هذا عن وجود هذا والامتياز يكون بالحقائق المختصة فيكون وجود هذا زائدا على ماهيته فيكون الوجود الواجب مفتقرا إلى غيره .
ويذكرون ما يذكره الرازي وأتباعه : أن للناس في وجود الرب تعالى ثلاثة أقوال فقط : أحدها أن لفظ الوجود مقول بالاشتراك اللفظي فقط .
والثاني : أن وجود الواجب زائد على ماهيته
والثالث : أنه وجود مطلق ليس له حقيقة غير الوجود المشروط بسلب كل ماهية ثبوتية عنه .
درء التعارض(1|170)
قال شيخ الإسلام : وكذلك ينبنى على هذا تماثل الأجسام فأولئك يقولون الأجسام مركبة من الجواهر وهي متماثلة فالأجسام متماثلة والأكثرون يقولون بل الأجسام مختلفة الحقائق وليست حقيقة التراب حقيقة النار ولا حقيقة النار حقيقة الهواء وهذه المسائل مسائل عقلية لبسطها موضع آخر والمقصود هنا بيان منشأ النزاع في مسمى الجسم .
منهاج السنة (2|532)
الأنبياء لم يدعوا إلي طريقة الأعراض
قال شيخ الإسلام : كل من له أدني معرفة بما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم يعلم بالاضطرار أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بهذه الطريقة طريق الأعراض ولا نفي الصفات أصلا لا نصا ولا ظاهرا ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصا ولا ظاهرا ولا ذكر أن الخالق ليس فوق العالم ولا مباينا له أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصا ولا ظاهرا بل ولا نفي الجسم الاصطلاحي ولا ما يرادفه من الألفاظ ,ولا ذكر أن الحوادث يمتنع دوامها في الماضي والمستقبل أو في الماضي لا نصا ولا ظاهرا ولا أن الرب صار الفعل ممكنا له بعد أن لم يكن ممكنا ولا أنه صار الكلام ممكنا له بعد أن لم يكن ممكنا ن ولا أن كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه ونحو ذلك أمور مخلوقة بائنة عنه وأمثال ذلك مما يقوله هؤلاء لا نصا ولا ظاهرا .
بل علم الناس خاصتهم وعامتهم بأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يذكر ذلك أظهر من علمهم بأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وأن القرآن لم يعارضه أحد وأنه لم يفرض صلاة إلا الصلوات الخمس وأنه لم يكن يؤخر صلاة النهار إلي الليل وصلاة الليل إلي النهار وأنه لم يكن يؤذن له في العيدين والكسوف والاستسقاء وأنه لم يرض بدين الكفار لا المشركين ولا أهل الكتاب قط وأنه لم يسقط الصلوات الخمس عن أحد من العقلاء وأنه لم يقاتله أحد من المؤمنين به لا أهل الصفة ولا غيرهم وأنه لم يكن يؤذن بمكة ولا كان بمكة أهل صفة ولا كان بالمدينة أهل صفة قبل أن يهاجر إلي المدينة وأنه لم يجمع أصحابه قط علي سماع كف ولا دف وأنه لم يكن يقصر شعر كل من أسلم أو تاب من ذنب وأنه لم يكن يقتل كل من سرق أو قذف أو شرب وأنه لم يكن يصلي الخمس إذا كان صحيحا إلا بالمسلمين لم يكن يصلي الفرض وحده ولا في الغيب وأنه لم يحج في الهواء قط ....وأمثال ذلك مما يعلم العلماء بأحواله علما ضروريا أنه لم يكن ومن روي ذلك عنه أو أخذ يستدل علي ثبوت ذلك علموا بطلان قوله بالاضطرار كما يعلمون بطلان قول السوفسطائية وإن لم يشتغلوا بحل شبههم .
وحينئذ فمن استدل بهذه الطريق أو أخبر الأمة بمثل قول نفاة الصفات كان كذبه معلوما بالاضطرار أبلغ مما يعلم كذب من ادعي عليه هذه الأمور المنتفية عنه وأضعافها وهذا مما يعلمه من له أدني خبرة بأحوال الرسل فضلا عن المتوسطين فضلا عن الوارثين له العالمين بأقواله وأفعاله .
درء التعارض (1|62)
وقال رحمه الله : فإن علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهدا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الإيمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وقال أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى .
وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله {وبالآخرة هم يوقنون }وقوله {أولئك على هدى من ربهم} وقوله {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} وأمثال ذلك فتبين أن هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه إذ قد يكون المطلوب أدلة كثيرة .
ولهذا طعن الرازي وأمثاله على أبي المعالي في قوله إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق وقالوا هب أنه يدل على حدوث العالم فمن أين يجب أن لا يكون ثم طريق آخر وسلكوا هم طرقا أخر ؛ فلو كانت هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم تتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والإجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فإذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل سائر القرآن ؛ فالدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ,ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء إيجاب سلوك هذه الطريق مع تسليمهم أنها صحيحة كالخطابي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم والأشعري نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضا في رسالته إلى أهل الثغر مع اعتقاده صحتها واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمى باللمع في الرد على أهل البدع , وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحا كثيرة والقاضي أبو بكر شرحه ونقض كتاب عبد الجبار الذي صنفه في نقضه وسماه نقض نقض اللمع , وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول وانه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به الرسول مع مخالفة صريح المعقول كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية ومن تبعهم من الطوائف وان لم يعرفوا غورها وحقيقتها فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في مخالفة الشرع والعقل .
النبوات (1|261)
إنكار العلماء لهذه الطريق
قال أبو سليمان الخطابي: فإن قال هؤلاء القوم : فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها ؟
قال أبو سليمان قلنا : إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز و جل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها .
قال شيخ الإسلام : وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية ؛ فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة .
و الخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك وهذا كما ذكره الأشعري وغيره ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة وإنما ذموها لكونها بدعة أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها .
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى ,ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها قد يقول ببعض موجباتها كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله ما يوافق موجبها وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم كما هو مذكور في غير هذا الموضع وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم .. .
قال الخطابي : وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمد صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وقال له : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }
وقال صلى الله عليه و سلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه : [ ألا هل بلغت ]
وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمور الدين : قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله - إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة : أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه , وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل .
قال الخطابي : وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه :
أحدهما : ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه : إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرهم طبعا وتركيبا ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجود تصديقه وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهودة عنه الخارجة عن سوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصا في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها هي مشهورة ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن .
قال الخطابي : فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز و جل وأمر صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة ,وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } : إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على جود الصانع الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن وكقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت }
وكقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل الذي بان حقه وعن قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي قد ظهر صدقه ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيها العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه بها الحجة فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالتها .
درء التعارض(4|28)
وقال شيخ الإسلام : وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع : إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال بل أمكن حصولها بطريق آخر إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه كالمؤيد بالمعجزات الصادقة وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى تعليم وتعلم .
وقال في الجواب : قولهم : لا نسلم توقف المعرفة على النظر قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله بغير النظر وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب .
وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون : بإيمان العامة : إما لحصول المعرفة لهم ضرورة وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم .
درء التعارض (4|54)
وقال شيخ الإسلام بعد أن نقل كلاما طويلا للشهرستاني : فهذا كله كلام الشهرستاني وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر . درء التعارض (4|76)
قال أبو محمد بن حزم : ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبه وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وإصغاره ويقبل من آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام ومنهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام : إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه قال : ولسنا نقول : إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعا كقطعنا على ما شاهدنا : أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام ويبينه هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع وخلاف لله ولرسوله ولجميع أهل الإسلام قاطبة .
درء التعارض(4|89)
قال شيخ الإسلام : وكان أبو المعالي يقول : لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من أطلاقه .
قال : وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا : مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع .
قال : وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن .
درء التعارض (4|93)
قال شيخ الإسلام : وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لتبينوا أنه الجامع لكل خير .
وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب
وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم مع تناقضهم في ذلك
وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح كما قد بسط في موضعه ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات فكثير من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول : إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات .
ومآل القولين واحد وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود فمن جعله هو الوجود الواجب أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك كان منكرا للصانع ثم إذا كان هذا الوجود الواجب كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه كما بينا ذلك في غير هذا الموضع .
درء التعارض(4|67)
من أوجه الرد على هذا الدليل
قال شيخ الإسلام : والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ .
والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنا بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنا بذلك حتى يشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر أو يمكن حصوله بدونه ؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية ؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة ؟ والنظر المحصل لها : هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين ؟ هذه مسائل أخر .
ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة : هل تحصل بالعقل أو بالشرع ؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي وبعضه معنوي فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم كان النزاع معه معنويا .
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء وأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا بهذه الطرق ولا علق إيمانه ومعرفته بالله بهذه الطرق بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة .
ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول : لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع لا وجوب على من لم يبلغ ذلك وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين وإن كان لم يتكلم بهما وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة .
درء التعارض(4|110)
الوجه الثاني : أن جمهور الخلق يعترفون بأن المعرفة بالصانع وصدق الرسول ليس متوقفا علي ما يدعيه بعضهم من العقليات المخالفة للسمع والواضعون لهذا القانون ـ كـ أبي حامد و الرازي وغيرهما ـ معترفون بأن العلم بصدق الرسول لا يتوقف علي العقليات المعارضة له فطوائف كثيرون ـ ك أبي حامد والشهرستاني وأبي القاسم الراغب وغيرهم ـ يقولون : العلم بالصانع فطري ضروري .
و الرازي و الآمدي وغيرهما من النظار يسلمون أن العلم بالصانع قد يحصل بالاضطرار وحينئذ فالعلم بكون الصانع قادرا معلوم بالاضطرار والعلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تحدي الخلق بمعارضتها وعجزوا عن ذلك معلوم بالاضطرار .
درء التعارض(1|53)
الوجه الثالث : أن يقال لمن ادعي من هؤلاء توقف العلم بالسمع علي مثل هذا النفي كقول من يقول منهم : إنا لا نعلم صدق الرسول حتى نعلم وجود الصانع وأنه قادر غني لا يفعل القبيح ولا نعلم ذلك حتى نعلم أنه ليس بجسم أو لا نعلم إثبات الصانع حتى نعلم حدوث العالم ولا نعلم ذلك إلا بحدوث الأجسام فلا يمكن أن يقبل من السمع ما يستلزم كونه جسما .
فيقال لهم : قد علم بالاضطرار من دين الرسول والنقل المتواتر أنه دعا الخلق إلي الإيمان بالله ورسوله ولم يدع الناس بهذه الطريق التي قلتم إنكم أثبتم بها حدوث العالم ونفي كونه جسما وآمن بالرسول من آمن به من المهاجرين والأنصار ودخل الناس في دين الله أفواجا ولم يدع أحدا منهم بهذه الطريق ولا ذكرها أحد منهم ولا ذكرت في القرآن ولا حديث الرسول ولا دعا بها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان الذين هم خير هذه الأمة وأفضلها علما وإيمانا وإنما ابتدعت هذه الطريق في الإسلام بعد المائة الأولي وانقراض عصر أكابر التابعين بل وأوساطهم فكيف يجوز أن يقال : إن تصديق الرسول موقوف عليها وأعلم الذي صدقوه وأفضلهم لم يدعوا بها ولا ذكروها ولا ذكرت لهم ولا نقلها أحد عنهم ولا تكلم بها أحد في عصرهم ؟
الوجه الرابع : أن يقال : هذا القرآن والسنة المنقولة عن النبي صلي الله عليه وسلم متوا ترها وآحادها ليس فيه ذكر ما يدل علي هذه الطريق فضلا عن أن تكون نفس الطريق فيها؛ فليس في شيء من ذلك : أن البارئ لم يزل معطلا عن الفعل والكلام بمشيئته ثم حدث ما حدث بلا سبب حادث وليس فيه ذكر الجسم والتحيز والجهة لا بنفي ولا إثبات فكيف يكون الإيمان بالرسول مستلزما لذلك والرسول لم يخبر به ولا جعل الإيمان به موقوفا عليه ؟
الوجه الخامس : أن هذه الطرق الثلاثة طريق حدوث الأجسام ـ مبنية علي امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع كونه لم يزل متكلما بمشيئته بل حقيقتها مبنية علي امتناع كونه لم يزل قادرا علي هذا وهذا ومعلوم أن أكثر العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ينازعون في هذا ويقولون : هذا قول باطل .
وأما القول بإمكان الأجسام فهو مبني علي أن الموصوف ممكن بناء علي أن المركب ممكن وعلي نفي الصفات وهي طريقة أحدثها ابن سينا وأمثاله وركبها من مذهب سلفهم ومذهب الجهمية وهي أضعف من التي قبلها من وجوه كثيرة
وطريقة إمكان صفات الأجسام مبنية علي تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يخالفون في ذلك وفضلاؤهم معترفون بفساد ذلك كما قد ذكرنا قول الأشعري و الرازي و الآمدي وغيرهم واعترافهم بفساد ذلك وبينا فساد ذلك بصريح المعقول .
فإذا كانت هذه الطرق فاسدة عند جمهور العقلاء بل فاسدة في نفس الأمر امتنع أن يكون العلم بالصانع موقوفا علي طريق فاسدة ولو قدر صحتها علم أن أكثر العقلاء عرفوا الله وصدقوا رسوله بغير هذه الطريق فلم يبق العلم بالسمع موقوفا علي صحتها فلا يكون القدح فيها قدحا في أصل السمع .
درء التعارض(1|57)
وقال شيخ الإسلام : والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها .
درء التعارض (5|64)
هذا ملخص ما انتهى إليه القلم من تسطير كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة ,وإن كانت هذه المسألة بتفصيلاتها تحتمل مجلدا .
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والإعانة
قال شيخ الإسلام : كل من له أدني معرفة بما جاء به النبي صلي الله عليه وسلم يعلم بالاضطرار أن النبي صلي الله عليه وسلم لم يدع الناس بهذه الطريقة طريق الأعراض ولا نفي الصفات أصلا لا نصا ولا ظاهرا ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصا ولا ظاهرا ولا ذكر أن الخالق ليس فوق العالم ولا مباينا له أو أنه لا داخل العالم ولا خارجه ولا ذكر ما يفهم منه ذلك لا نصا ولا ظاهرا بل ولا نفي الجسم الاصطلاحي ولا ما يرادفه من الألفاظ ,ولا ذكر أن الحوادث يمتنع دوامها في الماضي والمستقبل أو في الماضي لا نصا ولا ظاهرا ولا أن الرب صار الفعل ممكنا له بعد أن لم يكن ممكنا ولا أنه صار الكلام ممكنا له بعد أن لم يكن ممكنا ن ولا أن كلامه ورضاه وغضبه وحبه وبغضه ونحو ذلك أمور مخلوقة بائنة عنه وأمثال ذلك مما يقوله هؤلاء لا نصا ولا ظاهرا .
بل علم الناس خاصتهم وعامتهم بأن النبي صلي الله عليه وسلم لم يذكر ذلك أظهر من علمهم بأنه لم يحج بعد الهجرة إلا حجة واحدة وأن القرآن لم يعارضه أحد وأنه لم يفرض صلاة إلا الصلوات الخمس وأنه لم يكن يؤخر صلاة النهار إلي الليل وصلاة الليل إلي النهار وأنه لم يكن يؤذن له في العيدين والكسوف والاستسقاء وأنه لم يرض بدين الكفار لا المشركين ولا أهل الكتاب قط وأنه لم يسقط الصلوات الخمس عن أحد من العقلاء وأنه لم يقاتله أحد من المؤمنين به لا أهل الصفة ولا غيرهم وأنه لم يكن يؤذن بمكة ولا كان بمكة أهل صفة ولا كان بالمدينة أهل صفة قبل أن يهاجر إلي المدينة وأنه لم يجمع أصحابه قط علي سماع كف ولا دف وأنه لم يكن يقصر شعر كل من أسلم أو تاب من ذنب وأنه لم يكن يقتل كل من سرق أو قذف أو شرب وأنه لم يكن يصلي الخمس إذا كان صحيحا إلا بالمسلمين لم يكن يصلي الفرض وحده ولا في الغيب وأنه لم يحج في الهواء قط ....وأمثال ذلك مما يعلم العلماء بأحواله علما ضروريا أنه لم يكن ومن روي ذلك عنه أو أخذ يستدل علي ثبوت ذلك علموا بطلان قوله بالاضطرار كما يعلمون بطلان قول السوفسطائية وإن لم يشتغلوا بحل شبههم .
وحينئذ فمن استدل بهذه الطريق أو أخبر الأمة بمثل قول نفاة الصفات كان كذبه معلوما بالاضطرار أبلغ مما يعلم كذب من ادعي عليه هذه الأمور المنتفية عنه وأضعافها وهذا مما يعلمه من له أدني خبرة بأحوال الرسل فضلا عن المتوسطين فضلا عن الوارثين له العالمين بأقواله وأفعاله .
درء التعارض (1|62)
وقال رحمه الله : فإن علماء المسلمين يعلمون بالاضطرار أن الرسول لم يدع الخلق بهذا النظر ولا بهدا الدليل لا عامة الخلق ولا خاصتهم فامتنع أن يكون هذا شرطا في الإيمان والعلم وقد شهد القرآن والرسول لمن شهد له من الصحابة وغيرهم بالعلم وأنهم عالمون بصدق الرسول وبما جاء به وعالمون بالله وبأنه لا إله إلا الله ولم يكن الموجب لعلمهم هذا الدليل المعين كما قال تعالى ويرى الذين أوتوا العلم الذي أنزل إليك من ربك هو الحق ويهدي إلى صراط العزيز الحميد وقال شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط وقال أفمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى .
وقد وصف باليقين والهدى والبصيرة في غير موضع كقوله {وبالآخرة هم يوقنون }وقوله {أولئك على هدى من ربهم} وقوله {قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني} وأمثال ذلك فتبين أن هذا النظر والاستدلال الذي أوجبه هؤلاء وجعلوه أصل الدين ليس مما أوجبه الله ورسوله ولو قدر أنه صحيح في نفسه وأن الرسول أخبر بصحته لم يلزم من ذلك وجوبه إذ قد يكون المطلوب أدلة كثيرة .
ولهذا طعن الرازي وأمثاله على أبي المعالي في قوله إنه لا يعلم حدوث العالم إلا بهذا الطريق وقالوا هب أنه يدل على حدوث العالم فمن أين يجب أن لا يكون ثم طريق آخر وسلكوا هم طرقا أخر ؛ فلو كانت هذه الطريق صحيحة عقلا وقد شهد لها الرسول والمؤمنون الذين لا يجتمعون على ضلالة بأنها طريق صحيحة لم تتعين مع إمكان سلوك طرق أخرى كما أنه في القرآن سور وآيات قد ثبت بالنص والإجماع أنها من آيات الله الدالة على الهدى ومع هذا فإذا اهتدى الرجل بغيرها وقام بالواجب ومات ولم يعلم بها ولم يتمكن من سماعها لم يضره كالآيات المكية التي اهتدى بها من آمن ومات في حياة النبي صلى الله عليه و سلم قبل أن ينزل سائر القرآن ؛ فالدليل يجب طرده ولا يجب عكسه ,ولهذا أنكر كثير من العلماء على هؤلاء إيجاب سلوك هذه الطريق مع تسليمهم أنها صحيحة كالخطابي والقاضي أبي يعلى وابن عقيل وغيرهم والأشعري نفسه أنكر على من أوجب سلوكها أيضا في رسالته إلى أهل الثغر مع اعتقاده صحتها واختصر منها طريقة ذكرها في أول كتابه المشهور المسمى باللمع في الرد على أهل البدع , وقد اعتنى به أصحابه حتى شرحوه شروحا كثيرة والقاضي أبو بكر شرحه ونقض كتاب عبد الجبار الذي صنفه في نقضه وسماه نقض نقض اللمع , وأما أكابر أهل العلم من السلف والخلف فعلموا أنها طريقة باطلة في نفسها مخالفة لصريح المعقول وصحيح المنقول وانه لا يحصل بها العلم بالصانع ولا بغير ذلك بل يوجب سلوكها اعتقادات باطلة توجب مخالفة كثير مما جاء به الرسول مع مخالفة صريح المعقول كما أصاب من سلكها من الجهمية والمعتزلة والكلابية والكرامية ومن تبعهم من الطوائف وان لم يعرفوا غورها وحقيقتها فإن أئمة هؤلاء الطوائف صار كل منهم يلتزم ما يراه لازما ليطردها فيلتزم لوازم مخالفة للشرع والعقل فيجيء الآخر فيرد عليه ويبين فساد ما التزمه ويلتزم هو لوازم أخر لطردها فيقع أيضا في مخالفة الشرع والعقل .
النبوات (1|261)
إنكار العلماء لهذه الطريق
قال أبو سليمان الخطابي: فإن قال هؤلاء القوم : فإنكم قد أنكرتم الكلام ومنعتم استعمال أدلة العقول فما الذي تعتمدون عليه في صحة أصول دينكم ومن أي طريق تتوصلون إلى معرفة حقائقها وقد علمتم أن الكتاب لم يعلم حقه وأن الرسول لم يثبت صدقة إلا بأدلة العقول وأنتم قد نفيتموها ؟
قال أبو سليمان قلنا : إنا لا ننكر أدلة العقول والتوصل بها إلى المعارف ولكنا لا نذهب في استعمالها إلى الطريقة التي سلكتموها في الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها على حدوث العالم وإثبات الصانع ونرغب عنها إلى ما هو أوضح بيانا وأصح برهانا وإنما هو شيء أخذتموه عن الفلاسفة وتابعتموهم عليه وإنما سلكت الفلاسفة هذه الطريقة لأنهم لا يثبتون النبوات ولا يرون لها حقيقة فكان أقوى شيء عندهم في الدلالة على إثبات هذه الأمور ما تعلقوا به من الاستدلال بهذه الأشياء فأما مثبتوا النبوات فقد أغناهم الله عز و جل عن ذلك وكفاهم كلفة المؤونة في ركوب هذه الطريقة المنعرجة التي لا يؤمن العنت على راكبها والإيداع والانقطاع على سالكها .
قال شيخ الإسلام : وهذا الذي ذكره الخطابي يبين أن طريقة الأعراض من الكلام المذموم الذي ذمه السلف والأئمة وأعرضوا عنه كما ذكر ذلك الأشعري وغيره وأن الذين سلكوها سلكوها لكونهم لم يسلكوا الطرق النبوية الشرعية ؛ فمن لم يسلك الطرق الشرعية احتاج إلى الطرق البدعية بخلاف من أغناه الله بالكتاب والحكمة .
و الخطابي ذكر أن هذه الطريقة متعبة مخوفة فسالكها يخاف عليه أن يعجز أو أن يهلك وهذا كما ذكره الأشعري وغيره ممن لم يجزموا بفساد هذه الطريقة وإنما ذموها لكونها بدعة أو لكونها صعبة متعبة قد يعجز سالكها أو لكونها مخوفة خطرة لكثرة شبهاتها .
وهكذا ذكر الخطابي في كتاب شعار الدين ما يتضمن هذا المعنى ,ولهذا كان من لم يعلم بطلان هذه الطريقة أو اعتقد صحتها قد يقول ببعض موجباتها كما يقع مثل ذلك في كلام الخطابي وأمثاله ما يوافق موجبها وقد أنكره عليه أئمة السلف والعلم كما هو مذكور في غير هذا الموضع وهذا قد وقع فيه طوائف من أصناف الناس من أصحاب أحمد و مالك و الشافعي و أبي حنيفة وغيرهم .. .
قال الخطابي : وبيان ما ذهب إليه السلف - من أئمة المسلمين - في الاستدلال على معرفة الصانع وإثبات توحيده وصفاته وسائر ما ادعى أهل الكلام تعذر الوصول إليه إلا من الوجه الذي يذهبون إليه ومن الطريقة التي يسلكونها ويزعمون أن من لم يتوصل إليه من تلك الوجوه كان مقلدا غير موحد على الحقيقة - هو أن الله سبحانه لما أراد إكرام من هداه لمعرفته بعث رسوله محمد صلى الله عليه و سلم بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا
وقال له : { يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته }
وقال صلى الله عليه و سلم في خطبة الوداع وفي مقامات شتى وبحضرته عامة أصحابه : [ ألا هل بلغت ]
وكان الذي أنزل عليه من الوحي وأمر بتبليغه هو كمال الدين وتمامه لقوله تعالى : { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي } فلم يترك صلى الله عليه و سلم شيئا من أمور الدين : قواعده وأصوله وشرائعه وفصوله - إلا بينه وبلغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه إذ لا خلاف بين فرق الأمة : أن تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال ومعلوم أن أمر التوحيد وإثبات الصانع لا تزال الحاجة ماسة إليه أبدا في كل وقت وزمان ولو أخر عنه البيان لكان التكليف واقعا بما لا سبيل للناس إليه وذلك فاسد غير جائز وإذا كان الأمر على ما قلناه , وقد علم يقينا أن النبي صلى الله عليه و سلم لم يدعهم في أمر التوحيد إلى الاستدلال بالأعراض وتعلقها بالجواهر وانقلابها فيها إذ لا يمكن واحدا من الناس أن يروي عنه ذلك ولا عن أحد من أصحابه من هذا النمط حرفا واحدا فما فوقه لا من طريق تواتر ولا آحاد - علم أنهم قد ذهبوا خلاف مذهب هؤلاء وسلكوا غير طريقتهم ولو كان في الصحابة قوم يذهبون مذاهب هؤلاء في الكلام والجدل لعدوا من جملة المتكلمين ولنقل إلينا أسماء متكلميهم كما نقل إلينا أسماء فقهائهم وقرائهم وزهادهم فلما لم يظهر ذلك دل على أنه لم يكن لهذا الكلام عندهم أصل .
قال الخطابي : وإنما ثبت عندهم أمر التوحيد من وجوه :
أحدهما : ثبوت النبوة بالمعجزات التي أوردها نبيهم من كتاب قد أعياهم أمره وأعجزهم شأنه وقد تحداهم به وبسورة من مثله وهم العرب الفصحاء والخطباء والبلغاء فكل عجز عنه ولم يقدر على شيء منه بوجه : إما بأن لا يكون في قولهم ولا في طباعهم أن يتكلموا بكلام يضارع القرآن في جزالة لفظه وبديع نظمه وحسن معانيه وإما أن يكون ذلك في وسعهم وتحت قدرهم طبعا وتركيبا ولكن منعوه وصرفوا عنه ليكون آية لنبوته وحجة عليهم في وجود تصديقه وإما أن يكونوا إنما عجزوا عن علم ما جمع في القرآن من أنباء ما كان والإخبار عن الحوادث التي تحدث وتكون وعلى الوجوه كلها فالعجز موجود والانقطاع حاصل هذا إلى ما شاهدوه من آياته وسائر معجزاته المشهودة عنه الخارجة عن سوم الطباع الناقضة للعادات كتسبيح الحصا في كفه وحنين الجذع لمفارقته ورجف الجبل تحته وسكونه لما ضربه برجله وانجذاب الشجرة بأغصانها وعروقها إليه وسجود البعير له ونبوع الماء من بين أصابعه حتى توضأ به بشر كثير وربو الطعام اليسير بتبريكه فيه حتى أكل منه عدد جم وأخبار الذراع إياه بأنها مسمومة وأمور كثيرة سواها يكثر تعدادها هي مشهورة ومجموعة في الكتب التي أنشئت لمعرفة هذا الشأن .
قال الخطابي : فلما استقر ما شاهدوه من هذه الأمور في نفوسهم وثبت ذلك في عقولهم صحت عندهم نبوته وظهرت عن غيره بينونته ووجب تصديقه على ما أنبأهم عنه من الغيوب ودعاهم إليه من أمر وحدانية الله عز و جل وأمر صفاته وإلى ذلك ما وجدوه في أنفسهم وفي سائر المصنوعات من آثار الصنعة ودلائل الحكمة الشاهدة على أن لها صانعا حكيما عالما خبيرا تام القدرة بالغ الحكمة ,وقد نبههم الكتاب عليه ودعاهم إلى تدبره وتأمله والاستدلال به على ثبوت ربوبيته فقال عز و جل : { وفي أنفسكم أفلا تبصرون } : إشارة إلى ما فيها من آثار الصنعة ولطيف الحكمة الدالين على جود الصانع الحكيم لما ركب فيها من الحواس التي عنها يقع الإدراك والجوارح التي يباشر بها القبض والبسط والأعضاء المعدة للأفعال التي هي خاصة بها كالأضراس الحادثة فيهم عند استغنائهم عن الرضاع وحاجتهم إلى الغذاء فيقع بها الطحن له وكالمعدة التي اتخذت لطبخ الغذاء والكبد التي يسلك إليها صفاوته وعنها يكون انقسامه على الأعضاء في مجاري العروق المهيأة لنفوذه إلى أطراف البدن وكالأمعاء التي يرسب إليها تفل الغذاء وطحانه فيبرز عن البدن وكقوله تعالى : { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت * وإلى السماء كيف رفعت * وإلى الجبال كيف نصبت * وإلى الأرض كيف سطحت }
وكقوله تعالى : { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب }
وما أشبه ذلك من جلال الأدلة وظواهر الحجج التي يدركها كافة ذوي العقول وعامة من يلزمه حكم الخطاب مما يطول تتبعه واستقراؤه فعن هذه الوجوه ثبت عندهم أمر الصانع وكونه ثم بينوا وحدانيته وعلمه وقدرته بما شاهدوه من اتساق أفعاله على الحكمة واطرادها في سبلها وجريها على إدلالها ثم علموا سائر صفاته توقيفا عن الكتاب المنزل الذي بان حقه وعن قول النبي صلى الله عليه و سلم الذي قد ظهر صدقه ثم تلقى جملة أمر الدين عنهم أخلافهم وأتباعهم كافة عن كافة قرنا بعد قرن فتناولوا ما سبيله الخبر منها تواترا واستفاضة على الوجه الذي تقوم به الحجة وينقطع فيها العذر ثم كذلك من بعدهم عصرا بعد عصر إلى آخر من تنتهي إليه الدعوة وتقوم عليه بها الحجة فكان ما اعتمده المسلمون من الاستدلال في ذلك أصح وأبين وفي التوصل إلى المقصود به أقرب إذ كان التعلق في أكثره إنما هو بمعاني درك الحس وبمقدمات من العلم مركبة عليها لا يقع الخلف في دلالتها .
درء التعارض(4|28)
وقال شيخ الإسلام : وكذلك قال أبو الحسن الآمدي في كتابه الكبير المسمى أبكار الأفكار في مسألة وجوب النظر لما ذكر حجة من ذكر من جهة المنازع : إنا لا نسلم أنه لا طريق إلى معرفة الله إلا النظر والاستدلال بل أمكن حصولها بطريق آخر إما بأن يخلق الله تعالى العلم للمكلف بذلك من غير واسطة وإما بأن يخبره به من لا يشك في صدقه كالمؤيد بالمعجزات الصادقة وإما بطريق السلوك والرياضة وتصفية النفس وتكميل جوهرها حتى تصير متصلة بالعوالم العلوية مطلعة على ما ظهر وبطن من غير احتياج إلى تعليم وتعلم .
وقال في الجواب : قولهم : لا نسلم توقف المعرفة على النظر قلنا نحن إنما نقول بوجوب النظر في حق من لم يحصل له العلم بالله بغير النظر وإلا فمن حصلت له المعرفة بالله بغير النظر في حقه غير واجب .
وكذلك ذكر هذا غير واحد من أئمة الكلام من أصحاب الأشعري وغيرهم ذكروا أن المعرفة بالله تعالى قد تحصل ضرورة وأنهم مع قولهم بوجوب النظر فإنهم يقولون : بإيمان العامة : إما لحصول المعرفة لهم ضرورة وإما لكونهم حصل لهم من النظر ما يقتضي المعرفة وإما لصحة الإيمان بدون المعرفة ونقلوا صحة إيمان العامة عن جميعهم .
درء التعارض (4|54)
وقال شيخ الإسلام بعد أن نقل كلاما طويلا للشهرستاني : فهذا كله كلام الشهرستاني وهو من أئمة المتأخرين من النظار وأخبرهم بالمقالات وقد صرح بأن معرفة الله ليست معدودة من النظريات التي يقام عليها البرهان وأن الفطرة تشهد بضرورتها وبديهة فكرتها بالصانع الحكيم إلى آخر ما ذكره وأن ما تنتهي إليه مقدمات الاستدلال بإمكان الممكنات أو حدوثها من القضايا الضرورية دون ما شهدت به الفطرة الإنسانية من احتياج الإنسان في ذاته إلى مدبر . درء التعارض (4|76)
قال أبو محمد بن حزم : ومن البرهان الموضح لبطلان هذه المقالة الخبيثة أنه لا يشك أحد ممن يدري شيئا من السير من المسلمين واليهود والنصارى والمجوس والمنانية والدهرية في أن رسول الله صلى لله عليه وسلم منذ بعث لم يزل يدعو الناس الجم الغفير إلى الإيمان بالله تعالى وبه وبما أتى به ويقاتل من أهل الأرض من يقاتله ممن عند ويستحل سفك دمائهم وسبي نسائهم وأولادهم وأخذ أموالهم متقربا إلى الله تعالى بذلك وأخذ الجزية وإصغاره ويقبل من آمن به ويحرم ماله ودمه وأهله وولده ويحكم له بحكم الإسلام ومنهم المرأة البدوية والراعي والراعية والغلام الصحراوي والوحشي والزنجي والمسبي والزنجية المجلوبة والرومي والرومية والأغثر الجاهل والضعيف في فهمه فما منهم من أحد ولا من غيرهم قال عليه السلام : إني لا أقبل إسلامك ولا يصح لك دين إلا حتى تستدل على صحة ما أدعوك إليه قال : ولسنا نقول : إنه لم يبلغنا أنه قال ذلك لأحد بل نقطع - نحن وجميع أهل الأرض - قطعا كقطعنا على ما شاهدنا : أنه عليه السلام لم يقل هذا قط لأحد ولا رد إسلام أحد حتى يستدل ثم جرى على هذه الطريقة جميع الصحابة أولهم عن آخرهم ولا يختلف أحد في هذا الأمر ومن المحال الممتنع عند أهل الإسلام أن يكون عليه السلام يغفل أن يبين للناس ما لا يصح لأحد الإسلام إلا به ثم يتفق على إغفال ذلك أو تعمد ترك ذكره جميع أهل الإسلام ويبينه هؤلاء الأشقياء ومن ظن أنه وقع من الدين على ما لا يقع عليه رسول الله صلى الله عليه و سلم فهو كافر بلا خلاف فصح أن هذه المقالة خرق للإجماع وخلاف لله ولرسوله ولجميع أهل الإسلام قاطبة .
درء التعارض(4|89)
قال شيخ الإسلام : وكان أبو المعالي يقول : لم يكلف الناس العلم فإن العلم في هذه المسائل عزيز لا يتلقى إلا من النظر الصحيح التام فتكليف ذلك عامة الناس تكليف ما لا يطاق وإنما كلفوا الاعتقاد السديد مع التصميم وانتفاء الشك والتردد ولو سمى مسم مثل هذا الاعتقاد علما لم يمنع من أطلاقه .
قال : وقد كنا ننصر هذه الطريقة زمانا من الدهر وقلنا : مثل هذا الاعتقاد علم على الحقيقة فإنه اعتقاد يتعلق بالمعتقد على ما هو به مع التصميم ثم بدا لنا أن العلم ما كان صدوره عن الضرورة أو الدليل القاطع .
قال : وهذا الاعتقاد الذي وصفناه لا يتميز في مبادىء النظر حتى يستقر ويتميز عن اعتقاد الظان والمخمن .
درء التعارض (4|93)
قال شيخ الإسلام : وهؤلاء المبتدعون يجهلون حقائق ما جاء به الرسول ويعرضون عنه ثم يحكمون بموجب جهلهم أن ليس في ذلك من البراهين من جنس ما في كلامهم ولو أوتوا العقل والفهم لما جاء به الرسول صلى الله عليه و سلم لتبينوا أنه الجامع لكل خير .
وأما فساد طرقهم المخالفة للنصوص فهو بين لكل ذكي فاضل منهم ومن غيرهم ويكفيك أن عمدتهم في أصول الدين إما دليل الأعراض وقد علم ما فيه من الأعتراض وإما دليل الوجوب المستلزم للواجب
وقد بينا في غير هذا الوضع أن تلك الطريقة لا تدل على وجود واجب فإن ذلك إنما يدل إذا ثبت وجود الممكن الذي يستلزم الواجب والممكن عندهم هو متناول القديم والحادث فجعلوا القديم الأزلي داخلا في مسمى الممكن وخالفوا بذلك سائر العقلاء من سلفهم وغيرهم مع تناقضهم في ذلك
وبهذا التقدير لا يمكنهم أن يقيموا دليلا على أن الممكن بهذا الاعتبار يحتاج إلى فاعل وقد أوردوا على هذه الطريقة من الاعتراضات ما أوردوه ولم يمكنهم أن يجيبوا عنه بجواب صحيح كما قد بسط في موضعه ثم غايته إثبات وجود واجب لا يتميز عن المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب لا يتميز على المخلوقات ولهذا صار كثير منهم إلى أن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات فكثير من نظارهم يطعن في دليل إثبات واجب الوجود وكثير من محققيهم وعارفيهم يقول : إن الوجود الواجب هو وجود المخلوقات .
ومآل القولين واحد وهو قول فرعون الذي أنكر رب العالمين فإن فرعون وغيره لم ينكروا وجود هذا العالم المشهود فمن جعله هو الوجود الواجب أو كان قوله لا يدل إلا على ذلك كان منكرا للصانع ثم إذا كان هذا الوجود الواجب كان ما يلزمهم على ذلك من المحالات أضعاف ما فروا منه كما بينا ذلك في غير هذا الموضع .
درء التعارض(4|67)
من أوجه الرد على هذا الدليل
قال شيخ الإسلام : والمقصود هنا أن السلف والأئمة متفقون على أن أول ما يؤمر به العباد الشهادتان ومتفقون على أن من فعل ذلك قبل البلوغ لم يؤمر بتجديد ذلك عقب البلوغ .
والشهادة تتضمن الإقرار بالصانع تعالى وبرسوله لكن مجرد المعرفة بالصانع لا يصير به الرجل مؤمنا بل ولا يصير مؤمنا بأن يعلم أنه رب كل شيء حتى يشهد أن لا إله إلا الله ولا يصير مؤمنا بذلك حتى يشهد أن محمدا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كون ما يجب من العرفة لا يحصل إلا بالنظر أو يمكن حصوله بدونه ؟ وهل أصل المعرفة فطرية ضرورية أو نظرية ؟ أو يحصل بهذا تارة ولهذا تارة ؟ والنظر المحصل لها : هل يتعين في طريق معين أو لا يتعين ؟ هذه مسائل أخر .
ومما يتعلق بهذا تنازعهم في المعرفة الواجبة : هل تحصل بالعقل أو بالشرع ؟ وكثير من النزاع في ذلك لفظي وبعضه معنوي فمن ادعى أن المعرفة لا تحصل إلا بطريقة الأعراض والتركيب ونحو ذلك من الطرق المبتدعة التي للمعتزلة والمتفلسفة ومن وافقهم كان النزاع معه معنويا .
ونحن نعلم بالاضطرار من دين الرسول وسلف الأمة بطلان قول هؤلاء وأن الرسول صلى الله عليه و سلم لم يأمر أحدا بهذه الطرق ولا علق إيمانه ومعرفته بالله بهذه الطرق بل القرآن وصف بالعلم والإيمان من لم يسلك هذه الطرق ولم ابتدع بعض هذه الطرق من ابتدعها أنكر ذلك سلف الأمة وأئمتها ووسموا هؤلاء بالبدعة والضلالة .
ثم القول بأن أول الواجبات هو المعرفة أو النظر لا يمشي على قول من يقول : لا واجب إلا بالشرع كما هو قول الأشعرية وكثير من أصحاب مالك و الشافعي و أحمد وغيرهم فإنه على هذا التقدير لا وجوب إلا بعد البلوغ على المشهور وعلى قول من يوجب الصلاة على ابن عشر سنين أوسبع لا وجوب على من لم يبلغ ذلك وإذا بلغ هذا السن فإنما يخاطبه الشرع بالشهادتين وإن كان لم يتكلم بهما وإن كان تكلم بهما خاطبه بالصلاة .
درء التعارض(4|110)
الوجه الثاني : أن جمهور الخلق يعترفون بأن المعرفة بالصانع وصدق الرسول ليس متوقفا علي ما يدعيه بعضهم من العقليات المخالفة للسمع والواضعون لهذا القانون ـ كـ أبي حامد و الرازي وغيرهما ـ معترفون بأن العلم بصدق الرسول لا يتوقف علي العقليات المعارضة له فطوائف كثيرون ـ ك أبي حامد والشهرستاني وأبي القاسم الراغب وغيرهم ـ يقولون : العلم بالصانع فطري ضروري .
و الرازي و الآمدي وغيرهما من النظار يسلمون أن العلم بالصانع قد يحصل بالاضطرار وحينئذ فالعلم بكون الصانع قادرا معلوم بالاضطرار والعلم بصدق الرسول عند ظهور المعجزات التي تحدي الخلق بمعارضتها وعجزوا عن ذلك معلوم بالاضطرار .
درء التعارض(1|53)
الوجه الثالث : أن يقال لمن ادعي من هؤلاء توقف العلم بالسمع علي مثل هذا النفي كقول من يقول منهم : إنا لا نعلم صدق الرسول حتى نعلم وجود الصانع وأنه قادر غني لا يفعل القبيح ولا نعلم ذلك حتى نعلم أنه ليس بجسم أو لا نعلم إثبات الصانع حتى نعلم حدوث العالم ولا نعلم ذلك إلا بحدوث الأجسام فلا يمكن أن يقبل من السمع ما يستلزم كونه جسما .
فيقال لهم : قد علم بالاضطرار من دين الرسول والنقل المتواتر أنه دعا الخلق إلي الإيمان بالله ورسوله ولم يدع الناس بهذه الطريق التي قلتم إنكم أثبتم بها حدوث العالم ونفي كونه جسما وآمن بالرسول من آمن به من المهاجرين والأنصار ودخل الناس في دين الله أفواجا ولم يدع أحدا منهم بهذه الطريق ولا ذكرها أحد منهم ولا ذكرت في القرآن ولا حديث الرسول ولا دعا بها أحد من الصحابة والتابعين لهم بإحسان الذين هم خير هذه الأمة وأفضلها علما وإيمانا وإنما ابتدعت هذه الطريق في الإسلام بعد المائة الأولي وانقراض عصر أكابر التابعين بل وأوساطهم فكيف يجوز أن يقال : إن تصديق الرسول موقوف عليها وأعلم الذي صدقوه وأفضلهم لم يدعوا بها ولا ذكروها ولا ذكرت لهم ولا نقلها أحد عنهم ولا تكلم بها أحد في عصرهم ؟
الوجه الرابع : أن يقال : هذا القرآن والسنة المنقولة عن النبي صلي الله عليه وسلم متوا ترها وآحادها ليس فيه ذكر ما يدل علي هذه الطريق فضلا عن أن تكون نفس الطريق فيها؛ فليس في شيء من ذلك : أن البارئ لم يزل معطلا عن الفعل والكلام بمشيئته ثم حدث ما حدث بلا سبب حادث وليس فيه ذكر الجسم والتحيز والجهة لا بنفي ولا إثبات فكيف يكون الإيمان بالرسول مستلزما لذلك والرسول لم يخبر به ولا جعل الإيمان به موقوفا عليه ؟
الوجه الخامس : أن هذه الطرق الثلاثة طريق حدوث الأجسام ـ مبنية علي امتناع دوام كون الرب فاعلا وامتناع كونه لم يزل متكلما بمشيئته بل حقيقتها مبنية علي امتناع كونه لم يزل قادرا علي هذا وهذا ومعلوم أن أكثر العقلاء من المسلمين وغير المسلمين ينازعون في هذا ويقولون : هذا قول باطل .
وأما القول بإمكان الأجسام فهو مبني علي أن الموصوف ممكن بناء علي أن المركب ممكن وعلي نفي الصفات وهي طريقة أحدثها ابن سينا وأمثاله وركبها من مذهب سلفهم ومذهب الجهمية وهي أضعف من التي قبلها من وجوه كثيرة
وطريقة إمكان صفات الأجسام مبنية علي تماثل الأجسام وأكثر العقلاء يخالفون في ذلك وفضلاؤهم معترفون بفساد ذلك كما قد ذكرنا قول الأشعري و الرازي و الآمدي وغيرهم واعترافهم بفساد ذلك وبينا فساد ذلك بصريح المعقول .
فإذا كانت هذه الطرق فاسدة عند جمهور العقلاء بل فاسدة في نفس الأمر امتنع أن يكون العلم بالصانع موقوفا علي طريق فاسدة ولو قدر صحتها علم أن أكثر العقلاء عرفوا الله وصدقوا رسوله بغير هذه الطريق فلم يبق العلم بالسمع موقوفا علي صحتها فلا يكون القدح فيها قدحا في أصل السمع .
درء التعارض(1|57)
وقال شيخ الإسلام : والمقصود هنا أن هؤلاء المتكلمين الذين جمعوا في كلامهم بين حق وبين باطل وقابلوا الباطل بباطل وردوا البدعة ببدعة لما ناظروا الفلاسفة وناظروهم في مسألة حدوث العالم ونحوها استطال عليهم الفلاسفة لما رأوهم قد سلكوا تلك الطريق التي هي فاسدة عند أئمة الشرع والعقل وقد اعترف حذاق النظار بفسادها فظن هؤلاء الفلاسفة الملاحدة أنهم إذا أبطلوا قول هؤلاء بامتناع حوادث لا أول بها وأقاموا الدليل على دوام الفعل لزم من ذلك قدم هذا العالم ومخالفة نصوص الأنبياء وهذا جهل عظيم فإنه ليس للفلاسفة ولا لغيرهم دليل واحد عقلي صحيح يخالف شيئا من نصوص الأنبياء وهذه مسألة حدوث العالم وقدمه لا يقدر أحد من بني آدم يقيم دليلا على قدم الأفلاك أصلا وجميع ما ذكروه ليس فيه ما يدل على قدم شيء بعينه من العالم أصلا وإنما غايتهم أن يدلوا على قدم نوع الفعل وأن الفاعل لم يزل فاعلا وأن الحوادث لا أول لها ونحو ذلك مما لا يدل على قدم شيء بعينه من العالم وهذا لا يخالف شيئا من نصوص الأنبياء بل يوافقها .
درء التعارض (5|64)
هذا ملخص ما انتهى إليه القلم من تسطير كلام شيخ الإسلام في هذه المسألة ,وإن كانت هذه المسألة بتفصيلاتها تحتمل مجلدا .
نسأل الله سبحانه وتعالى التوفيق والإعانة
No comments:
Post a Comment