بسم الله
الشبهة :قال الرازي رحمه الله : ((العالم كرة...فلو كان الله في جهة فوق لكان أسفل بالنسبة إلى سكان الوجه الآخر.)).
وهذا الكلام ((إذا تدبره العاقل تبين له أن القوم يقولون على الله ما لا يعلمون ويقولون على الله غير الحق))(1).
وهذه الشبه وأمثالها ((من الخيالات والأوهام الباطلة التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها والعلوم الضرورية والقصود الضرورية والعلوم البرهانية القياسية والكتب الإلهية والسنن النبوية وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية))(2)
((فيقال رداً على هذا الكلام :
أولاً : جهة السماء ثابتة وهي فوق . وجهة الأرض ثابتة وهي تحت ... و لاأحد عاقل يقول أن السماء الآن تحتي أو ستكون تحتي بعد زمن معين.. !! ولو قالها شخص لأتهم في عقله .
ثانيا : أن الآرض تدور حول نفسها وليس حول السماء حتى تكون السماء مرة فوق ومرة تحت .
ثالثا : قولنا ان الله تعالى في السماء لا يعني انه تعالى حال فيها بل له تعالى العلو المطلق و هذا معلوم مشهور من كلام أهل السنة
رابعا : يلزم من هذا الكلام ان تكون الملائكة التي في السموات تحت الأرض تارة و بجانب الأرض تارة أخرى ! و معلوم انه ما من عاقل يقول ذلك
خامسا : يلزم أيضا ان يكون العرش فوق بعض الناس و تحت البعض الاخر ! و الاشاعرة يقولون بأن العرش هو اعلى الأفلاك
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" أحدها أن قوله أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان المغرب فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس يقال له كان الواجب إذا احتجت بما ذكرته من أمر الهيئة تتم ما يقولونه هم وما يعلمه الناس كلهم فإنه لا نزاع بينهم ولا بين أحد من بني آدم أن الأرض هي تحت السماء حيث كانت وأن السماء فوق الأرض حيث كانت وهذا وهم متفقون مع جملة الناس على أن الجهة الشرقية سماؤها وأرضها ليست تحت الغربية ولا الجهة الغربية سماؤها وأرضها تحت الشرقية ومتفقون على جهل من جعل إحدى الجهتين في نفسها فوق الأخرى أو تحتها وذلك يتضح بما قدمناه قبل هذا من أن الجهات نوعان جهات ثابتة لازمة لا تتحول وجهات إضافية نسبية تتبدل وتتحول فأما الأولى وهي الجهة الثابتة اللازمة الحقيقية فهي جهة العلو والسفل فالسماء أبدا في الجهة العالية التي علوها ثابت لازم لايتبدل وكلما علت اتسعت وكلما والأرض أبدا في الجهة السافلة التي سفلوها ثابت لازم لا يتبدل سفلت ضاقت فلهذا كان الأعلا هو الأوسع وكان السفل هو الأضيق ولهذا قابل الله تعالى بين عليين وبين سجين في كتابه فقال (( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين )) وقال (( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين )) ولم يقل في سفلين كما لم يقل هناك في وسعين ليبين الضيق والحرج الذي في المكان كما بين سفوله بمقابلته بعليين وبين أيضا سعة عليين بمقابلة سجين فيكون قد دل على العلو والسعة التي للأبرار وعلى السفول والضيق الذي للفجار
وأما الجهات الست فقد ذكرنا أنها تقال بالنسبة والاضافة إلى الحيوان وحركته ولهذا تتبدل بتبدل حركته وأعضائه فإذا تحرك إلى المشرق كان المشرق أمامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شامه وعلى هذا بنيت الكعبة لأن وجهها مستقبل مهب الصبا بين المشرق والشمال وأركانها على الجهات الأربع فالحجر الأسود مستقبل المشرق واليماني مستقبل اليمن والغربي مستقبل الغرب والشامي مستقبل الشام إلى القطب الشمالي وهو محاذ أرض الجزيرة كالرقة وحران ونحوهما ولهذا قال من قال من المصنفين في دلائل القبلة كأبي العباس بن القاص وغيره إن قبلة هذه البلاد أعدل القبل لأن سكانها يستدبرون القطب الشمالي لا يحتاجون أن ينحرفوا عنه إلى المشرق كما يفعل أهل الشام ولا إلى المغرب كما يفعل أهل العراق فالانسان تتبدل جهاته بتبدل حركاتهم مع أن الجهات نفسها لم تختلف أصلا ولم يصر الشرق منها غربيا ولا الغربي شرقيا وكذلك الجهة التي تحاذي رأسه هي علوه والتي تحاذي رجليه هي سفله فإذا كان رجلان في أقصى المشرق منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك وفي أقصى المغرب منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك فكل منهما تكون السماء فوقه لأنها تحاذي رأسه وكذلك الأرض تحته لأنها تحاذي رجليه كما أن السماء فوق الأرض في نفسها وليس أحد هذين تحت الآخر في نفس الأمر كما أن سجين الذي هو أسفل السافلين تحتهما ولو هبط شيئان ثقيلان من عندهما لانتهى إلى أسفل السافلين وهو سجين لم يلتق ذلك الشيئان الثقيلان لكن لو قدر أن تخرق الأرض فيلتقيان هناك لكانت رجلا أحدهما إلى رجلي الآخر ولو فرض أن أحدهما أخرقت له الأرض حتى يمر في جوفها ويصل إلى الآخر لكانت رجلاه تلاقي رجلي الآخر فبهذا الاعتبار يتخيل كل واحد منهما أن الآخر تحته بمحاذاته ناحية رجليه لكن الحركة السفلية هي إلى أسفل الأرض وقعرها ومن هناك تبقى الحركة صاعدة إلى فوق كحركة الصاعد من الأرض إلى السماء فيكون المتحرك من أسفل الأرض وقعرها إلى ظهرها وعلوها على هذا الوجه كهيئة المعلق برجليه إلى ناحية السماء وذراعيه إلى ناحية الأرض وكهيئة النملة المتحركة تحت السقف والسقف يحاذي رجليها فتصير بهذا الاعتبار السماء تحاذي رجليه والأرض تحاذي رأسه فمن هنا يقال إن السماء تحته والأرض فوقه إذا كان مقلوبا منكوسا فيجتمع من هذا أمران أحدهما أن تكون حركته على خلاف الحركة التي جعلها الله في خلقه والثاني أن تبدل الجهة تبدلا إضافيا لا حقيقيا كما تتبدل اليمين باليسار والأمام بالوراء ومن المعلوم أن المشرق والمغرب لا يتبدلان قط باستقبالهما تارة واستدبارهما أخرى فكيف يتبدل العلو والسفل بتنكيس الانسان وقلبه على رأسه والمحاذاة حينئذ للسماء برجليه والأرض برأسه بل هذا المنكوس يعلم أن السماء فوقه والأرض تحته ونحن لا نمنع أن هذا قد يسمى علوا وسفلا بهذا الاعتبار التقديري الاضافي لكن هذا لا يعتبر الجهة الحقيقية الثابتة وبهذا الاعتبار سمى في هذا الحديث المروي عن أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله فإنه قدر ضعيف الادلاء وهو ممتنع فسماه هبوطا على هذا التقدير كما لو قلبت رجلا الانسان ورمي إلى ناحية السماء لكن قائما على السماء وإذا ظهر هذا علم أن الله سبحانه لا يكون في الحقيقة قط إلا عاليا .
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن يقال هذا الذي ذكرته وارد في جميع الأمور العالية من العرش والكرسي والسموات السبع وما فيهن من الجنة والملائكة والكواكب والشمس والقمر ومن الرياح وغير ذلك فإن هذه الأجسام مستديرة كما ذكرت ومعلوم أنها فوق الأرض حقيقة وإن كان على مقتضى ما ذكرته تكون هذه الأمور دائما تحت قوم كما تكون فوق آخرين وتكون موصوفة بالتحت بالنسبة إلى بعض الناس وهي التحتية التقديرية الاضافية وإن كانت موصوفة بالعلو الحقيقي الثابت كما أنها أيضا عالية بالعلو الإضافي الوجودي دون الإضافي التقديري وإذا كان الأمر كذلك ولم يكن في ذلك من الأحالة إلا ما هو مثلما في هذا ودونه لم يكن في ذلك محذورا فإن المقصود أن الله فوق السموات وهذا ثابت على كل تقدير.
وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو أن يقال هذا الذي ذكرته من هذا الوجه لا يدفع فإنه كما أنه معلوم بالحساب والعقل فإنه ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى (( هو الأول والآخر والظاهر والباطن )) وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول'' أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأعننا من الفقر فأخبر أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء "فهذا خبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء وإنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطونا منه حيث بطن من الجهة الأخرى من العباد جمع فيها لفظ البطون ولفظ الدون وليس هو لفظ الدون بقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء فعلم أن بطونه أوجب أن لا يكون شيء دونه فلا شيء دونه باعتبار بطونه والبطون يكون باعتبار الجهة التي ليست ظاهرة , ولهذا لم يقل أنت السافل ولهذا لم يجئ هذا الاسم الباطن كقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء إلا مقرونا بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره وعلوه فلا يكون شيء فوقه لأن مجموع الاسمين يدلان على الاحاطة والسعة وأنه الظاهر فلا شيء فوقه والباطن فلا شيء دونه , لم يقل أنت السافل ولا وصف الله قط بالسفول لا حقيقة ولا مجازا بل قال ليس دونك شيء فأخبر أنه لا يكون شيء دونه هناك كما جاء في الأثر الذي ذكره مالك في الموطأ أنه يقال حسبنا الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله منتهى فالأمر متناه مداه ولا شيء دونه في معنى اسمه الباطن ليبين أنه ليس يخرج عنه من الوجهين جميعا وذلك لأن ما في هذا المعنى من نفي الجهة شيء دونه هو بالنسبة والاضافة التقديرية وإلا ففي الحقيقة هو عال أيضا من هناك والأشياء كلها تحته , وهذا كما أن الضار والمانع والخافض لا تذكر إلا مقرونة بالنافع المعطي الرافع لأن ما فعله من الضرر والمنع والخفظ فيه حكمة بالغة أوجب أن تكون فيه رحمة واسعة ونعمة سابغة فليس في الحقيقة ضررا عاما وإن كان فيه ضرر فالضرر الاضافي بالنسبه إلى بعض المخلوقات يشبه ما في البطون من كونه ليس تحته شيء وأنه لو أدلى بحبل لهبط عليه فإن الهبوط والتحتية أمر اضافي بالنسبة إلى تقدير حال لبعض المخلوقات هذا في قدره وهذا في فعله وضلال هؤلاء الجهمية في قدره كضلال القدرية في فعله وكلاهما من وصفه ولهذا كانت المعتزلة ضالة في الوجهين جميعا وقد قابلهم بنوع من الضلال بعض أهل الاثبات حتى نفوا ما أثبتته النصوص والله يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (3)(( " .
سادسا:أنْ يقالَ: القائلونَ بأنَّ العالمَ كرةٌ يقولونَ: إنَّ السَّماءَ عاليةٌ على الأرضِ منْ جميعِ الجهاتِ، والأرضُ تحتها منْ جميعِ الجهاتِ، والجهاتُ قسمان: حقيقيَّةٌ ولها جهتان: العلوُّ والسُّفلُ فقط، فالأفلاكُ وما فوقهَا هو العالي مطلقًا، وما في جوفهَا هوَ السَّافلُ مطلقًا، وإضافية: وهي الجهاتُ الست بالنِّسبةِ للحيوانِ، فما أمامهُ يقالُ لهُ أمامٌ، وما خلفهُ يقالُ له خلفٌ، وما عنْ يمينهِ يقالُ لهُ اليمينُ، وما عنْ يسارهِ يقالُ لهُ اليسارُ، وما فوقَ رأسهِ يقالُ لهُ فوقُ، وما تحتَ قدميهِ يقالُ لهُ تحتُ.
أرأيتَ لوْ أنَّ رجلًا علَّقَ رجليهِ إلى السَّماءِ ورأسهُ إلى الأرضِ أليستِ السماءُ فوقَهُ وإنْ قابلهَا برجليهِ؟! .
وإذا كانَ كذلكَ، فالملائكةُ الذينَ في السَّماءِ، هم باعتبارِ الحقيقةِ كلُّهم فوقَ الأرضِ، وليسَ بعضهمْ تحتَ شيءٍ مِنَ الأرضِ، وكذلكَ السَّحابُ وطيرُ الهواءِ، هوَ منْ جميعِ الجوانبِ فوقَ الأرضِ وتحتَ السَّماءِ، ليسَ شيءٌ منهُ تحتَ الأرضِ. وكذلكَ ما على ظهرِ الأرضِ مِنَ الجبالِ والنَّباتِ والحيوانِ والأناسيِّ وغيرهم، همْ منْ جميعِ جوانبِ الأرضِ فوقَها، وهمْ تحتَ السَّماءِ، وليسَ أهلُ هذهِ النَّاحيةِ تحتَ أهلِ هذهِ الناحيَّةِ، ولا أحدٌ منهم تحتَ الأرضِ ولا فوقَ السَّماءِ البتةَ.
وإذا كانتْ هذهِ المخلوقاتُ لا يلزمُ منْ علوِّها على ما تحتَها أنْ تكونَ تحتَ ما في الجانبِ الآخرِ مِنَ العالمِ، فالعليُّ الأعلى سبحانه أولى أنْ لا يلزم منْ علوِّه على العالمِ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ منهُ.
وكانَ مَنِ احتجَّ بمثلِ هذهِ الحجَّةِ إنَّما احتجَّ بالخيالِ الباطلِ الذي لا حقيقةَ لهُ، مَعَ دعواهُ أنَّهُ مِنَ البراهينِ العقليةِ، فإنْ كانَ يتصوَّرُ حقيقةَ الأمرِ فهوَ معاندٌ جاحدٌ محتجٌّ بما يعلمُ أنَّهُ باطلٌ، وإنْ كانَ لمْ يتصوَّر حقيقةَ الأمرِ، فهوَ منْ أجهلِ النَّاسِ بهذهِ الأمورِ العقليةِ، التي هيَ موافقةٌ لما أخبرتْ بهِ الرُّسلُ، وهو يزعمُ أنَّها تناقضُ الأدلَّةَ السمعيةَ، فهوَ كمَا قيلَ:
فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيْبَةُ أَعْظَمُ ومِنَ العجبَ أنَّ هؤلاءِ النُّفاةِ يعتمدونَ في إبطالِ كتابِ الله، وسنَّةِ أنبيائهِ ورسلهِ، وما اتَّفقَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، وما فطرَ الله عليهِ عبادَهُ، وجعلهم مضطرينَ إليهِ عندَ قصدهِ ودعائهِ، ونصب عليه البراهينَ العقليَّةَ الضروريَّةَ، على مثلِ هذه الحجَّةِ التي لا يعتمدونَ فيها إلَّا على مجرَّدِ خيالٍ ووهمٍ باطلٍ، مَعَ دعواهم أنهَّم هم الذينَ يقولونَ بموجبِ العقلِ، ويدفعونَ موجبَ الوهمِ والخيالِ .
سابعا:
أنْ يقالَ: أنَّهُ سبحانه وتعالى محيطٌ بكلِّ شيء، وفوقَ كلِّ شيءٍ.
قالَ سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ *} [البروج: 20] وقال عزَّ وجلَّ: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]. وقال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].
وليس المرادُ مِنْ إحاطتهِ بخلقهِ أنَّ المخلوقاتِ داخلَ ذاتهِ المقدَّسةِ، تعالى اللهُ عنْ ذلكَ علوًّا كبيرًا؛ فإنَّه العظيمُ الذي لا أعظمَ منهُ.ألا ترى أنَّ السماءَ لمَّا كانتْ «محيطةً بالأرضِ كانتْ عاليةً عليها، ولا يستلزمُ ذلكَ ممَّا هوَ محيطٌ بهِ، مماثلتهُ ومشابهتهُ لهُ، فإذا كانتِ السَّماءُ محيطةً بالأرضِ، وليستْ مماثلةً لهَا فالتَّفاوتُ الذي بين العالمِ وربُّ العالمِ أعظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ الأرضِ والسَّماءِ» .
ويجبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ العالمَ العلويَّ والسفليَّ بالنِّسبةِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى في غايةِ الصِّغَرِ.
قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وقدْ ثبتَ في الصحيحين منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذهِ الآيةَ، لمَّا ذكرَ لهُ بعضُ اليهودِ أنَّ الله يحملُ السَّمواتِ على أصبعٍ، والأرضينَ على أصبعٍ، والجبالَ على أصبعٍ، والشَّجرَ والثرى على أصبعٍ، وسائرَ الخلقِ على أصبعٍ؛ فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصديقًا لقولِ الحبر ، وقرأ هذهِ الآية.
وهذا يقتضي أنَّ عظمتهُ أعظمُ ممَّا وصفَ ذلكَ الحبرُ، فإنَّ الذي في الآيةِ أبلغُ .
قال الشيخ علي بن إبراهيم بن مشيقح رحمه الله:
وَفِي الصَّحيحَيْنِ أَيْضًا إقْرَارُ نَبِيِّنَا مُصَدِّقًا لِقَوْل الْحَبْرِ وَالنَّبيُّ يَسْمَعُ
يَجْعَلُ اللهُ السَّمَوَاتِ على أَصْبُعٍ واْلأَرضِيْنَ على أصبُعٍ والمَاء يَحمله أصْبُعُ
والشَّجر على أصْبُعَ وَالثَّرىَ عَلَى أَصْبُعٍ وَسَائر الْخَلْقِ تَحْمِلْهَا أَصْبُعُ
ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلًا أَنَا الْمَلِكُ يُكَرِّرُهَا فَبالْحَقِّ فَاقْنَعُوْا
قَالوُا ضِحْكُ النَّبِيِّ مِنْهُ تَعَجُّبًا وَلَيْسَ تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ قلنا لَهُمُ اسْمَعُوْا
هَلْ يُقِرُّه المُصْطَفَى عَلَى مَقَالٍ مُخَالِفٍ هذَا مُحالٌ حَيْثُ الإِقْرارُ مِنْهُ سُنَّةٌ تُتْبَعُ
بَلْ أَيَّد قَوْلَ الْحَبْرِ مُصَدِّقًا لِمَقَالِه بِتِلاوَةِ آيَةٍ تُطابِقُ قَوْلَ الحبْرِ تَصْدَعُ
فهذِه أَدِلَّةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةٍ عَلَى مُرَادِ ظَاهِرِ لَفْظِهَا دَلاَلَةً تَقْطَعُ
بِلاَ تَشْـبيهٍ لَهَا قَطْعـًا وَلاَ نُكَيِّفُهَـا بَلْنَنْتَهِي حَيْثُ انْتَهَى الْوَحْيَان بِنَا وَنَقْنَعُ
فقد تبيَّنَ بهذا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما بالنسبةِ إلى عظمةِ الله تعالى أصغرُ منْ أنْ تكونَ مع قبضهِ لها إلَّا كالشيءِ الصغيرِ في يدِ أحدنَا، حتَّى يدحوها كما تُدحى الكرة .
والمقصودُ أنَّه إذا كانَ اللهُ أعظمَ وأكبرَ وأجلَّ منْ أن يُقدِّرَ العبادُ قدرهُ، أو تدركهُ أبصارهمْ، أو يحيطونَ به علمًا، وأمكنَ أن تكونَ السماواتُ والأرضُ في قبضتهِ لم يجبْ - والحالُ هذهِ - أنْ يكونَ تحتَ العالمِ، أو تحتَ شيءٍ منهُ، فإنَّ الواحدَ مِنَ الآدميينَ إذا قبضَ قبضةً أو بندقةً أو حمصةً أو حبَّةَ خردلٍ، وأحاطَ بها، لم يجزْ أنْ يُقالَ: إنَّ أحدَ جانبيها فوقهُ.
وكذلكَ أمثالُ ذلكَ منْ إحاطةِ المخلوقِ ببعضِ المخلوقاتِ، كإحاطةِ الإنسانِ بما في جوفهِ، وإحاطةِ البيتِ بما فيهِ، وإحاطةِ السَّماءِ بما فيهَا مِنَ الشَّمسِ والقمرِ والكواكبِ، فإذا كانتْ هذهِ المحيطاتُ لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها تحتَ المحاطِ، وأنَّ ذلك نقصٌ، مَعَ كونِ المحيطِ يحيطُ بهِ غيرُهُ، فالعليُّ الأعلى المحيطُ بكلِّ شيءٍ، الذي تكونُ الأرضُ جميعًا قبضتهُ يومَ القيامةِ والسَّماواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، كيفَ يجبُ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ ممَّا هوَ عالٍ عليهِ أو محيطٌ بهِ، ويكونُ ذلكَ نقصًا ممتنعًا؟!
وقدْ ذكرَ أنَّ بعضَ المشايخِ سُئِلَ عنْ تقريبِ ذَلِكَ إِلَى العقلِ، فقالَ للسَّائلِ: إِذَا كَانَ باشقٌ كبيرٌ، وقدْ أمسكَ برجلهِ حمصةً أليسَ يكونُ ممسكًا لها فِي حالِ طيرانهِ، وَهُوَ فوقهَا ومحيطٌ بِهَا؟ فإذا كانَ مثلُ هذا ممكنًا في المخلوقِ، فكيفَ يتعذَّرُ في الخالقِ؟! .
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ «أنَّ ما يدَّعونهُ مِنَ العقلياتِ المخالفةِ للنُّصوصِ لا حقيقةَ لهَا عندَ الاعتبارِ الصَّحيحِ، وإنَّما هي منْ بابِ القعقعةِ بالشنانِ لمن يفزعهُ ذلكَ مِنَ الصبيانِ ومنْ هوَ شبيهٌ بالصبيانِ وإذا أُعْطيَ النَّظرُ في المعقولاتِ حقَّهُ مِنَ التَّمامِ، وجدهَا براهينَ ناطقةً بصدقِ ما أخبرَ بهِ الرَّسولُ، وأنَّ لوازمَ ما أخبرَ بهِ لازمٌ صحيحٌ، وأنَّ منْ نفاهُ نفاهُ لجهلهِ بحقيقةِ الأمرِ»
-------------
(1)الفتاوى الكبرى(6/555).
(2) درء التعارض(7/21).
(3)(من جهل المبتدعة : كروية الأرض و دورانها ينفيان علو الله تعالى ! ) للشيخ المقدادي
وهذا الكلام ((إذا تدبره العاقل تبين له أن القوم يقولون على الله ما لا يعلمون ويقولون على الله غير الحق))(1).
وهذه الشبه وأمثالها ((من الخيالات والأوهام الباطلة التي تعارض بها فطرة الله التي فطر الناس عليها والعلوم الضرورية والقصود الضرورية والعلوم البرهانية القياسية والكتب الإلهية والسنن النبوية وإجماع أهل العلم والإيمان من سائر البرية))(2)
((فيقال رداً على هذا الكلام :
أولاً : جهة السماء ثابتة وهي فوق . وجهة الأرض ثابتة وهي تحت ... و لاأحد عاقل يقول أن السماء الآن تحتي أو ستكون تحتي بعد زمن معين.. !! ولو قالها شخص لأتهم في عقله .
ثانيا : أن الآرض تدور حول نفسها وليس حول السماء حتى تكون السماء مرة فوق ومرة تحت .
ثالثا : قولنا ان الله تعالى في السماء لا يعني انه تعالى حال فيها بل له تعالى العلو المطلق و هذا معلوم مشهور من كلام أهل السنة
رابعا : يلزم من هذا الكلام ان تكون الملائكة التي في السموات تحت الأرض تارة و بجانب الأرض تارة أخرى ! و معلوم انه ما من عاقل يقول ذلك
خامسا : يلزم أيضا ان يكون العرش فوق بعض الناس و تحت البعض الاخر ! و الاشاعرة يقولون بأن العرش هو اعلى الأفلاك
قال شيخ الإسلام رحمه الله :
" أحدها أن قوله أن الأرض إذا كانت كرة فالجهة التي هي فوق بالنسبة إلى سكان أهل المشرق هي تحت بالنسبة إلى سكان المغرب فلو اختص الباري بشيء من الجهات لكان في جهة التحت بالنسبة إلى بعض الناس يقال له كان الواجب إذا احتجت بما ذكرته من أمر الهيئة تتم ما يقولونه هم وما يعلمه الناس كلهم فإنه لا نزاع بينهم ولا بين أحد من بني آدم أن الأرض هي تحت السماء حيث كانت وأن السماء فوق الأرض حيث كانت وهذا وهم متفقون مع جملة الناس على أن الجهة الشرقية سماؤها وأرضها ليست تحت الغربية ولا الجهة الغربية سماؤها وأرضها تحت الشرقية ومتفقون على جهل من جعل إحدى الجهتين في نفسها فوق الأخرى أو تحتها وذلك يتضح بما قدمناه قبل هذا من أن الجهات نوعان جهات ثابتة لازمة لا تتحول وجهات إضافية نسبية تتبدل وتتحول فأما الأولى وهي الجهة الثابتة اللازمة الحقيقية فهي جهة العلو والسفل فالسماء أبدا في الجهة العالية التي علوها ثابت لازم لايتبدل وكلما علت اتسعت وكلما والأرض أبدا في الجهة السافلة التي سفلوها ثابت لازم لا يتبدل سفلت ضاقت فلهذا كان الأعلا هو الأوسع وكان السفل هو الأضيق ولهذا قابل الله تعالى بين عليين وبين سجين في كتابه فقال (( كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين )) وقال (( كلا إن كتاب الفجار لفي سجين )) ولم يقل في سفلين كما لم يقل هناك في وسعين ليبين الضيق والحرج الذي في المكان كما بين سفوله بمقابلته بعليين وبين أيضا سعة عليين بمقابلة سجين فيكون قد دل على العلو والسعة التي للأبرار وعلى السفول والضيق الذي للفجار
وأما الجهات الست فقد ذكرنا أنها تقال بالنسبة والاضافة إلى الحيوان وحركته ولهذا تتبدل بتبدل حركته وأعضائه فإذا تحرك إلى المشرق كان المشرق أمامه والمغرب خلفه والجنوب يمينه والشمال شامه وعلى هذا بنيت الكعبة لأن وجهها مستقبل مهب الصبا بين المشرق والشمال وأركانها على الجهات الأربع فالحجر الأسود مستقبل المشرق واليماني مستقبل اليمن والغربي مستقبل الغرب والشامي مستقبل الشام إلى القطب الشمالي وهو محاذ أرض الجزيرة كالرقة وحران ونحوهما ولهذا قال من قال من المصنفين في دلائل القبلة كأبي العباس بن القاص وغيره إن قبلة هذه البلاد أعدل القبل لأن سكانها يستدبرون القطب الشمالي لا يحتاجون أن ينحرفوا عنه إلى المشرق كما يفعل أهل الشام ولا إلى المغرب كما يفعل أهل العراق فالانسان تتبدل جهاته بتبدل حركاتهم مع أن الجهات نفسها لم تختلف أصلا ولم يصر الشرق منها غربيا ولا الغربي شرقيا وكذلك الجهة التي تحاذي رأسه هي علوه والتي تحاذي رجليه هي سفله فإذا كان رجلان في أقصى المشرق منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك وفي أقصى المغرب منتهى الأرض عند ساحل البحر هناك فكل منهما تكون السماء فوقه لأنها تحاذي رأسه وكذلك الأرض تحته لأنها تحاذي رجليه كما أن السماء فوق الأرض في نفسها وليس أحد هذين تحت الآخر في نفس الأمر كما أن سجين الذي هو أسفل السافلين تحتهما ولو هبط شيئان ثقيلان من عندهما لانتهى إلى أسفل السافلين وهو سجين لم يلتق ذلك الشيئان الثقيلان لكن لو قدر أن تخرق الأرض فيلتقيان هناك لكانت رجلا أحدهما إلى رجلي الآخر ولو فرض أن أحدهما أخرقت له الأرض حتى يمر في جوفها ويصل إلى الآخر لكانت رجلاه تلاقي رجلي الآخر فبهذا الاعتبار يتخيل كل واحد منهما أن الآخر تحته بمحاذاته ناحية رجليه لكن الحركة السفلية هي إلى أسفل الأرض وقعرها ومن هناك تبقى الحركة صاعدة إلى فوق كحركة الصاعد من الأرض إلى السماء فيكون المتحرك من أسفل الأرض وقعرها إلى ظهرها وعلوها على هذا الوجه كهيئة المعلق برجليه إلى ناحية السماء وذراعيه إلى ناحية الأرض وكهيئة النملة المتحركة تحت السقف والسقف يحاذي رجليها فتصير بهذا الاعتبار السماء تحاذي رجليه والأرض تحاذي رأسه فمن هنا يقال إن السماء تحته والأرض فوقه إذا كان مقلوبا منكوسا فيجتمع من هذا أمران أحدهما أن تكون حركته على خلاف الحركة التي جعلها الله في خلقه والثاني أن تبدل الجهة تبدلا إضافيا لا حقيقيا كما تتبدل اليمين باليسار والأمام بالوراء ومن المعلوم أن المشرق والمغرب لا يتبدلان قط باستقبالهما تارة واستدبارهما أخرى فكيف يتبدل العلو والسفل بتنكيس الانسان وقلبه على رأسه والمحاذاة حينئذ للسماء برجليه والأرض برأسه بل هذا المنكوس يعلم أن السماء فوقه والأرض تحته ونحن لا نمنع أن هذا قد يسمى علوا وسفلا بهذا الاعتبار التقديري الاضافي لكن هذا لا يعتبر الجهة الحقيقية الثابتة وبهذا الاعتبار سمى في هذا الحديث المروي عن أبي هريرة وأبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال فيه لو أدلى أحدكم بحبل لهبط على الله فإنه قدر ضعيف الادلاء وهو ممتنع فسماه هبوطا على هذا التقدير كما لو قلبت رجلا الانسان ورمي إلى ناحية السماء لكن قائما على السماء وإذا ظهر هذا علم أن الله سبحانه لا يكون في الحقيقة قط إلا عاليا .
وذلك يظهر بالوجه الثاني وهو أن يقال هذا الذي ذكرته وارد في جميع الأمور العالية من العرش والكرسي والسموات السبع وما فيهن من الجنة والملائكة والكواكب والشمس والقمر ومن الرياح وغير ذلك فإن هذه الأجسام مستديرة كما ذكرت ومعلوم أنها فوق الأرض حقيقة وإن كان على مقتضى ما ذكرته تكون هذه الأمور دائما تحت قوم كما تكون فوق آخرين وتكون موصوفة بالتحت بالنسبة إلى بعض الناس وهي التحتية التقديرية الاضافية وإن كانت موصوفة بالعلو الحقيقي الثابت كما أنها أيضا عالية بالعلو الإضافي الوجودي دون الإضافي التقديري وإذا كان الأمر كذلك ولم يكن في ذلك من الأحالة إلا ما هو مثلما في هذا ودونه لم يكن في ذلك محذورا فإن المقصود أن الله فوق السموات وهذا ثابت على كل تقدير.
وهذا يظهر بالوجه الثالث وهو أن يقال هذا الذي ذكرته من هذا الوجه لا يدفع فإنه كما أنه معلوم بالحساب والعقل فإنه ثابت بالكتاب والسنة قال الله تعالى (( هو الأول والآخر والظاهر والباطن )) وقد روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول'' أنت الأول فليس قبلك شيء وأنت الآخر فليس بعدك شيء وأنت الظاهر فليس فوقك شيء وأنت الباطن فليس دونك شيء اقض عنا الدين وأعننا من الفقر فأخبر أنه الظاهر الذي ليس فوقه شيء وأنه الباطن الذي ليس دونه شيء "فهذا خبر بأنه ليس فوقه شيء في ظهوره وعلوه على الأشياء وإنه ليس دونه شيء فلا يكون أعظم بطونا منه حيث بطن من الجهة الأخرى من العباد جمع فيها لفظ البطون ولفظ الدون وليس هو لفظ الدون بقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء فعلم أن بطونه أوجب أن لا يكون شيء دونه فلا شيء دونه باعتبار بطونه والبطون يكون باعتبار الجهة التي ليست ظاهرة , ولهذا لم يقل أنت السافل ولهذا لم يجئ هذا الاسم الباطن كقوله وأنت الباطن فليس دونك شيء إلا مقرونا بالاسم الظاهر الذي فيه ظهوره وعلوه فلا يكون شيء فوقه لأن مجموع الاسمين يدلان على الاحاطة والسعة وأنه الظاهر فلا شيء فوقه والباطن فلا شيء دونه , لم يقل أنت السافل ولا وصف الله قط بالسفول لا حقيقة ولا مجازا بل قال ليس دونك شيء فأخبر أنه لا يكون شيء دونه هناك كما جاء في الأثر الذي ذكره مالك في الموطأ أنه يقال حسبنا الله وكفى سمع الله لمن دعا ليس وراء الله منتهى فالأمر متناه مداه ولا شيء دونه في معنى اسمه الباطن ليبين أنه ليس يخرج عنه من الوجهين جميعا وذلك لأن ما في هذا المعنى من نفي الجهة شيء دونه هو بالنسبة والاضافة التقديرية وإلا ففي الحقيقة هو عال أيضا من هناك والأشياء كلها تحته , وهذا كما أن الضار والمانع والخافض لا تذكر إلا مقرونة بالنافع المعطي الرافع لأن ما فعله من الضرر والمنع والخفظ فيه حكمة بالغة أوجب أن تكون فيه رحمة واسعة ونعمة سابغة فليس في الحقيقة ضررا عاما وإن كان فيه ضرر فالضرر الاضافي بالنسبه إلى بعض المخلوقات يشبه ما في البطون من كونه ليس تحته شيء وأنه لو أدلى بحبل لهبط عليه فإن الهبوط والتحتية أمر اضافي بالنسبة إلى تقدير حال لبعض المخلوقات هذا في قدره وهذا في فعله وضلال هؤلاء الجهمية في قدره كضلال القدرية في فعله وكلاهما من وصفه ولهذا كانت المعتزلة ضالة في الوجهين جميعا وقد قابلهم بنوع من الضلال بعض أهل الاثبات حتى نفوا ما أثبتته النصوص والله يهدينا الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا (3)(( " .
سادسا:أنْ يقالَ: القائلونَ بأنَّ العالمَ كرةٌ يقولونَ: إنَّ السَّماءَ عاليةٌ على الأرضِ منْ جميعِ الجهاتِ، والأرضُ تحتها منْ جميعِ الجهاتِ، والجهاتُ قسمان: حقيقيَّةٌ ولها جهتان: العلوُّ والسُّفلُ فقط، فالأفلاكُ وما فوقهَا هو العالي مطلقًا، وما في جوفهَا هوَ السَّافلُ مطلقًا، وإضافية: وهي الجهاتُ الست بالنِّسبةِ للحيوانِ، فما أمامهُ يقالُ لهُ أمامٌ، وما خلفهُ يقالُ له خلفٌ، وما عنْ يمينهِ يقالُ لهُ اليمينُ، وما عنْ يسارهِ يقالُ لهُ اليسارُ، وما فوقَ رأسهِ يقالُ لهُ فوقُ، وما تحتَ قدميهِ يقالُ لهُ تحتُ.
أرأيتَ لوْ أنَّ رجلًا علَّقَ رجليهِ إلى السَّماءِ ورأسهُ إلى الأرضِ أليستِ السماءُ فوقَهُ وإنْ قابلهَا برجليهِ؟! .
وإذا كانَ كذلكَ، فالملائكةُ الذينَ في السَّماءِ، هم باعتبارِ الحقيقةِ كلُّهم فوقَ الأرضِ، وليسَ بعضهمْ تحتَ شيءٍ مِنَ الأرضِ، وكذلكَ السَّحابُ وطيرُ الهواءِ، هوَ منْ جميعِ الجوانبِ فوقَ الأرضِ وتحتَ السَّماءِ، ليسَ شيءٌ منهُ تحتَ الأرضِ. وكذلكَ ما على ظهرِ الأرضِ مِنَ الجبالِ والنَّباتِ والحيوانِ والأناسيِّ وغيرهم، همْ منْ جميعِ جوانبِ الأرضِ فوقَها، وهمْ تحتَ السَّماءِ، وليسَ أهلُ هذهِ النَّاحيةِ تحتَ أهلِ هذهِ الناحيَّةِ، ولا أحدٌ منهم تحتَ الأرضِ ولا فوقَ السَّماءِ البتةَ.
وإذا كانتْ هذهِ المخلوقاتُ لا يلزمُ منْ علوِّها على ما تحتَها أنْ تكونَ تحتَ ما في الجانبِ الآخرِ مِنَ العالمِ، فالعليُّ الأعلى سبحانه أولى أنْ لا يلزم منْ علوِّه على العالمِ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ منهُ.
وكانَ مَنِ احتجَّ بمثلِ هذهِ الحجَّةِ إنَّما احتجَّ بالخيالِ الباطلِ الذي لا حقيقةَ لهُ، مَعَ دعواهُ أنَّهُ مِنَ البراهينِ العقليةِ، فإنْ كانَ يتصوَّرُ حقيقةَ الأمرِ فهوَ معاندٌ جاحدٌ محتجٌّ بما يعلمُ أنَّهُ باطلٌ، وإنْ كانَ لمْ يتصوَّر حقيقةَ الأمرِ، فهوَ منْ أجهلِ النَّاسِ بهذهِ الأمورِ العقليةِ، التي هيَ موافقةٌ لما أخبرتْ بهِ الرُّسلُ، وهو يزعمُ أنَّها تناقضُ الأدلَّةَ السمعيةَ، فهوَ كمَا قيلَ:
فَإِنْ كُنْتَ لا تَدْرِي فَتِلْكَ مُصِيبَةٌ وإِنْ كُنْتَ تَدْرِي فَالمُصِيْبَةُ أَعْظَمُ ومِنَ العجبَ أنَّ هؤلاءِ النُّفاةِ يعتمدونَ في إبطالِ كتابِ الله، وسنَّةِ أنبيائهِ ورسلهِ، وما اتَّفقَ عليهِ سلفُ الأمَّةِ وأئمَّتها، وما فطرَ الله عليهِ عبادَهُ، وجعلهم مضطرينَ إليهِ عندَ قصدهِ ودعائهِ، ونصب عليه البراهينَ العقليَّةَ الضروريَّةَ، على مثلِ هذه الحجَّةِ التي لا يعتمدونَ فيها إلَّا على مجرَّدِ خيالٍ ووهمٍ باطلٍ، مَعَ دعواهم أنهَّم هم الذينَ يقولونَ بموجبِ العقلِ، ويدفعونَ موجبَ الوهمِ والخيالِ .
سابعا:
أنْ يقالَ: أنَّهُ سبحانه وتعالى محيطٌ بكلِّ شيء، وفوقَ كلِّ شيءٍ.
قالَ سبحانه وتعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ *} [البروج: 20] وقال عزَّ وجلَّ: {أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ} [فصلت: 54]. وقال سبحانه وتعالى: {وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا} [النساء: 126].
وليس المرادُ مِنْ إحاطتهِ بخلقهِ أنَّ المخلوقاتِ داخلَ ذاتهِ المقدَّسةِ، تعالى اللهُ عنْ ذلكَ علوًّا كبيرًا؛ فإنَّه العظيمُ الذي لا أعظمَ منهُ.ألا ترى أنَّ السماءَ لمَّا كانتْ «محيطةً بالأرضِ كانتْ عاليةً عليها، ولا يستلزمُ ذلكَ ممَّا هوَ محيطٌ بهِ، مماثلتهُ ومشابهتهُ لهُ، فإذا كانتِ السَّماءُ محيطةً بالأرضِ، وليستْ مماثلةً لهَا فالتَّفاوتُ الذي بين العالمِ وربُّ العالمِ أعظمُ مِنَ التفاوتِ الذي بينَ الأرضِ والسَّماءِ» .
ويجبُ أنْ يُعْلَمَ أنَّ العالمَ العلويَّ والسفليَّ بالنِّسبةِ إلى الخالقِ سبحانه وتعالى في غايةِ الصِّغَرِ.
قالَ سبحانه وتعالى: {وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67].
وقدْ ثبتَ في الصحيحين منْ حديثِ ابنِ مسعودٍ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قرأ هذهِ الآيةَ، لمَّا ذكرَ لهُ بعضُ اليهودِ أنَّ الله يحملُ السَّمواتِ على أصبعٍ، والأرضينَ على أصبعٍ، والجبالَ على أصبعٍ، والشَّجرَ والثرى على أصبعٍ، وسائرَ الخلقِ على أصبعٍ؛ فضحك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم تعجُّبًا وتصديقًا لقولِ الحبر ، وقرأ هذهِ الآية.
وهذا يقتضي أنَّ عظمتهُ أعظمُ ممَّا وصفَ ذلكَ الحبرُ، فإنَّ الذي في الآيةِ أبلغُ .
قال الشيخ علي بن إبراهيم بن مشيقح رحمه الله:
وَفِي الصَّحيحَيْنِ أَيْضًا إقْرَارُ نَبِيِّنَا مُصَدِّقًا لِقَوْل الْحَبْرِ وَالنَّبيُّ يَسْمَعُ
يَجْعَلُ اللهُ السَّمَوَاتِ على أَصْبُعٍ واْلأَرضِيْنَ على أصبُعٍ والمَاء يَحمله أصْبُعُ
والشَّجر على أصْبُعَ وَالثَّرىَ عَلَى أَصْبُعٍ وَسَائر الْخَلْقِ تَحْمِلْهَا أَصْبُعُ
ثُمَّ يَهُزُّهُنَّ عَزَّ وَجَلَّ قَائِلًا أَنَا الْمَلِكُ يُكَرِّرُهَا فَبالْحَقِّ فَاقْنَعُوْا
قَالوُا ضِحْكُ النَّبِيِّ مِنْهُ تَعَجُّبًا وَلَيْسَ تَصْدِيقًا لِلْحَبْرِ قلنا لَهُمُ اسْمَعُوْا
هَلْ يُقِرُّه المُصْطَفَى عَلَى مَقَالٍ مُخَالِفٍ هذَا مُحالٌ حَيْثُ الإِقْرارُ مِنْهُ سُنَّةٌ تُتْبَعُ
بَلْ أَيَّد قَوْلَ الْحَبْرِ مُصَدِّقًا لِمَقَالِه بِتِلاوَةِ آيَةٍ تُطابِقُ قَوْلَ الحبْرِ تَصْدَعُ
فهذِه أَدِلَّةُ مِنْ كِتَابِ اللهِ وَسُنَّةٍ عَلَى مُرَادِ ظَاهِرِ لَفْظِهَا دَلاَلَةً تَقْطَعُ
بِلاَ تَشْـبيهٍ لَهَا قَطْعـًا وَلاَ نُكَيِّفُهَـا بَلْنَنْتَهِي حَيْثُ انْتَهَى الْوَحْيَان بِنَا وَنَقْنَعُ
فقد تبيَّنَ بهذا أنَّ السَّمواتِ والأرضَ وما بينهما بالنسبةِ إلى عظمةِ الله تعالى أصغرُ منْ أنْ تكونَ مع قبضهِ لها إلَّا كالشيءِ الصغيرِ في يدِ أحدنَا، حتَّى يدحوها كما تُدحى الكرة .
والمقصودُ أنَّه إذا كانَ اللهُ أعظمَ وأكبرَ وأجلَّ منْ أن يُقدِّرَ العبادُ قدرهُ، أو تدركهُ أبصارهمْ، أو يحيطونَ به علمًا، وأمكنَ أن تكونَ السماواتُ والأرضُ في قبضتهِ لم يجبْ - والحالُ هذهِ - أنْ يكونَ تحتَ العالمِ، أو تحتَ شيءٍ منهُ، فإنَّ الواحدَ مِنَ الآدميينَ إذا قبضَ قبضةً أو بندقةً أو حمصةً أو حبَّةَ خردلٍ، وأحاطَ بها، لم يجزْ أنْ يُقالَ: إنَّ أحدَ جانبيها فوقهُ.
وكذلكَ أمثالُ ذلكَ منْ إحاطةِ المخلوقِ ببعضِ المخلوقاتِ، كإحاطةِ الإنسانِ بما في جوفهِ، وإحاطةِ البيتِ بما فيهِ، وإحاطةِ السَّماءِ بما فيهَا مِنَ الشَّمسِ والقمرِ والكواكبِ، فإذا كانتْ هذهِ المحيطاتُ لا يجوزُ أنْ يُقالَ: إنَّها تحتَ المحاطِ، وأنَّ ذلك نقصٌ، مَعَ كونِ المحيطِ يحيطُ بهِ غيرُهُ، فالعليُّ الأعلى المحيطُ بكلِّ شيءٍ، الذي تكونُ الأرضُ جميعًا قبضتهُ يومَ القيامةِ والسَّماواتُ مطوياتٌ بيمينهِ، كيفَ يجبُ أنْ يكونَ تحتَ شيءٍ ممَّا هوَ عالٍ عليهِ أو محيطٌ بهِ، ويكونُ ذلكَ نقصًا ممتنعًا؟!
وقدْ ذكرَ أنَّ بعضَ المشايخِ سُئِلَ عنْ تقريبِ ذَلِكَ إِلَى العقلِ، فقالَ للسَّائلِ: إِذَا كَانَ باشقٌ كبيرٌ، وقدْ أمسكَ برجلهِ حمصةً أليسَ يكونُ ممسكًا لها فِي حالِ طيرانهِ، وَهُوَ فوقهَا ومحيطٌ بِهَا؟ فإذا كانَ مثلُ هذا ممكنًا في المخلوقِ، فكيفَ يتعذَّرُ في الخالقِ؟! .
فقدْ تبيَّنَ بهذا الكلامِ «أنَّ ما يدَّعونهُ مِنَ العقلياتِ المخالفةِ للنُّصوصِ لا حقيقةَ لهَا عندَ الاعتبارِ الصَّحيحِ، وإنَّما هي منْ بابِ القعقعةِ بالشنانِ لمن يفزعهُ ذلكَ مِنَ الصبيانِ ومنْ هوَ شبيهٌ بالصبيانِ وإذا أُعْطيَ النَّظرُ في المعقولاتِ حقَّهُ مِنَ التَّمامِ، وجدهَا براهينَ ناطقةً بصدقِ ما أخبرَ بهِ الرَّسولُ، وأنَّ لوازمَ ما أخبرَ بهِ لازمٌ صحيحٌ، وأنَّ منْ نفاهُ نفاهُ لجهلهِ بحقيقةِ الأمرِ»
-------------
(1)الفتاوى الكبرى(6/555).
(2) درء التعارض(7/21).
(3)(من جهل المبتدعة : كروية الأرض و دورانها ينفيان علو الله تعالى ! ) للشيخ المقدادي
No comments:
Post a Comment