Friday, May 1, 2009

نموذج الوساطة الفكرية بين المتكلمين والفقهاء

بسم الله

ملاحظة: هذا موضوع غير مكتمل

المبحث الأول :نموذج الوساطة الفكرية بين المتكلمين والفقهاء .

(أ) المدرسة الكلامية، ونموذج الوساطة الفكرية:

لم يكن الاعتقاد في زمن الصحابة والتابعين، يمتد ويستمد أصوله، من التأويل المعقد، وإنما كانوا يقفون على المقتضى البسيط للنصوص، دون تكلف، ولا تعسف في الفهم، لكن ما أن انتشر (الكلام) في الأمة، حتى صار الاعتقاد يخضع للقناة المذهبية، ذات السلطة الوساطية، التأويلية، في هذا الاتجاه، أو ذاك. فكانت الأصول الخمسة للمدرسة الاعتزالية(1)، مقاييس لفهم العقيدة الإسلامية، فتؤوَّل النصوص القرآنية على وفقها، وتُردُّ الأحاديث، أو تقبل، بناء على مناسبتها لها، أو عدم مناسبتها.. إلا أن المذهب الاعتزالي لم ينتشر في الأوساط الشعبية، وبقيت وساطته منحصرة تقريبًا بين بعض العلماء، لمخالفة أئمة السلف لهم، كما يقول ابن خلدون(2).

ثم قام أبو الحسن الأشعري، بوضع مذهبه في القرن الرابع الهجري، فتحالف معه كثير من الفقهاء، ضد المعتزلة، فانتشرت بذلك العقيدة الأشعرية، وكانت عقيدة الجماهير في أرجاء العالم الإسلامي، لها الغلبة والسيطرة إلى يومنا هذا، كما يقول على سامي النشار(3).

فعلم الكلام إذن لم يكن علمًا شعبيًا، طوال القرون الثلاثة الأولى، لهيمنة الفكر الاعتزالي عليه، فسلم تدين الناس من وساطة الاعتقاد، في تلك الفترة على الأقل، يقول الدكتور أحمد صبحي: "تحمل المعتزلة وزر الخوض عما نهي الرسول صلى الله عليه وسلم عنه، ومن ثم لقوا إعراضًا من التابعين، ومن الفقهاء وأهل الحديث.. . وهكذا نشأ علم الكلام غير معترف به، كعلم من علوم الدين لدى علماء المسلمين، طوال عصر المعتزلة، أي القرنين الثاني، والثالث الهجري "(4).

إلا أن ظهور أبي الحسن الأشعري، على أنه يقدم عقيدة أهل السنة والجماعة بدأ يغير موقف بعض العلماء من علم الكلام، من الرفض المطلق، إلى التبني المطلق، والسقوط في فخ الوساطة الاعتقادية.. فخروج الأشعري عن المذهب الاعتزالي لم يكن "على أنه مؤسس مذهب في الكلام جديد، ولا على أن له رأيًا مستحدثًا، وإنما حرص تمام الحرص، كما حرص أتباعه، على أن يظهروه أنه للصحابة والتابعين وللفقهاء ورجال الحديث - أو بالأحرى - لأهل السنة، تابع، ليس له في كل ما قال به رأي مستحدث. فاستطاع بذلك أن يمهد للاعتراف بعلم الكلام "(5).

واختلف المؤرخون للفكر الإسلامي، في أول من مكّن للوساطة الكلامية الأشعرية، في التدين الجماهيري، وجعل العقيدة الأشعرية، هي ما يجب أن يعتقد شرعًا، دون ما سواها.. فابن خلدون مثلاً، يرى أن أبا المعالي الجويني، هو الذي أعطى المشروعية للعقيدة الأشعرية، لتصير (إمامًا) في الاعتقاد الشعبي، يقول: "ثم جاء . . . إمام الحرمين أبو المعالي فأملى في هذه الطريقة، كتاب الشامل، وأوسع القول فيه، ثم لخصه في كتاب الإرشاد، واتخذه الناس إمامًا لعقائدهم "(6) . . وذهب آخرون، كالدكتور أحمد صبحي، إلى أن أبا حامد الغزالي، هو الذي أعطى للكلام مشروعيته، وصيّر العقيدة الأشعرية خاصة، هي عقيدة التدين لدى كافة المسلمين، إذ "بفضله انتشر مذهب الأشاعرة، كعقيدة لأهل السنة والجماعة "(7). وكيفما كان الأمر، فالمهم عندنا ههنا، هو أن العقيدة الأشعرية صارت إملاءً قطعيًا، غير قابل للطعن، يجب على كل مسلم التمسك به، والإيمان المطلق به، حيث "التزم جمهور أهل السنة من المسلمين بما ألزمهم متكلمو الأشاعرة من معتقدات "(8).

فقدّم لهم هؤلاء آراءهم "على أنها معتقدات، لا يصح الخوض فيها، أو الشك في صدقها "(9). وهكذا تدخل الوساطة إلى عقيدة المسلمين، على المستوى الشعبي، مع المذهب الأشعري، بعدما كانت منحصرة في بعض العلماء، مع المذهب المعتزلي.

وقد كانت الأشعرية، باعتبارها رد فعل تاريخي، على حركة الاعتزال، محكومة في كثير من مواقفها بحالة (رد الفعل)، فحيث غالت المعتزلة في القول بالتحسين والتقبيح العقليين، نفت الأشاعرة ذلك بإطلاق، كما عمدت إلى تأويل الصفات الإلهية، وحملها على المجاز اللغوي، ردًا على نفي المعتزلة لها بإطلاق.. وهكذا، فقد تصرفوا في تقديم العقيدة الإسلامية إلى الناس، ومع ذلك صارت تدينًا، ومعتقدًا، لدى غالب المسلمين،إليها يُردّ كل كلام في الاعتقاد، وعليها يُحمل كل نص شرعي، فإن وافق تصورها فذاك، وإلا أُوِّل تأويلاً.. ولذلك لم يقبل بعض العلماء من أهل السنة والجماعة، تبني العقيدة الأشعرية، قال أبو عبد الله محمد بن خويزأحمد منداد المصري المالكي: "كل متكلم، هو من أهل الأهواء والبدع، أشعريًا كان، أو غير أشعري"(10).

قال أبو عمر بن عبد البر: "أجمع أهل الفقه، والآثار، من جميع الأمصار، أن أهل الكلام، أهل بدع وزيغ، ولا يعدون عند الجميع، في جميع الأمصار في طبقات العلماء، وإنما العلماء أهل الأثر، والتفقه فيه "(11).

وقد روي كلام كثير في ذم علم الكلام بإطلاق،عن الأئمة، والفقهاء الأربعة، وإن كان ذلك طبعًا، قبل ظهور الأشاعرة، ولكنه كان حججًا لبعض العلماء في ذم الكلام الأشعري، ووساطته الاعتقادية(12)، التي صارت تدينًا عامًا، على غرار المذاهب الفقهية، في عصور التقليد، مما حدا بعالم المالكية عبد الواحد بن عاشر، بعد ذلك، إلى نظم منظومة، تشتمل على أصول التدين، عبر الوساطة العقدية الأشعرية، ثم الفقهية المالكية، ثم الصوفية، لتكون متنًا لجميع الناس.. قال في مقدمة منظومته المسماة: (المرشد المعين):

وبعد فالعون من الله المجيد في نظم أبيات للأمي تفيد

في عقد الأشعري وفقه مالك وفي طريقة الجنيد السالك!(13)

وهكذا صارت الأشعرية، كوساطة فكرية، هي القناة الشرعية الوحيدة، لتدين جمهور المسلمين، في المجال العقدي، لا تقبل النقاش، أو الرد، فتكون بذلك خطوة جديدة في ترسيخ التقليد المطلق، في المجتمع الإسلامي، أو كما قال الدكتور أحمد صبحي "حقيقة لقد أدان الأشاعرة التقليد… ولكنهم في الواقع قد مكَّنُوا له بشتى الأساليب "(14).

والتقليد هو عين الوساطة.. وسهل بعد ذلك، أن تدخل الخرافة إلى عقائد المسلمين،عن طريق القناة المذهبية الأشعرية، فيكفي أن يباركها أحد ممثليها، لتصير عقيدة شعبية، منتشرة. وقد صار الفكر الأشعري، في عصور الانحطاط، أقرب إلى الخرافية منه إلى الاعتقاد السليم، بسبب تعسفه في تفسير وتأويل أمور غيبية توقيفية، على نحو ما صنعه الباجوري في تفسير العرش، حيث قال: هو "جسم نوراني، علوي، عظيم، قيل من نور، وقيل من زبرجد، وقيل من ياقوتة حمراء.. هو قبة فوق العالم، ذات أعمدة أربعة، تحمله أربعة من الملائكة في الدنيا، وثمانية في الآخرة، لزيادة الجلال والعظمة، رؤوسهم عند العرش في السماء السابع، وأقدامهم في الأرض السفلى، وقرونهم كقرون الوعل، ما بين أول قرن، ومنتهاه، مسيرة خمسمائة عام "(15).

وقال عن الملائكة الكتبة: "يكتب الرقيب، والعتيد، أعمال الإنسان، وأقواله، من خير وشر، ومن مباح.. أما المباح فيلقي به في عرض البحر، في يوم الاثنين والخميس، من كل أسبوع، فتلتهمه حيتان البحر، فتموت منه لنتنه، فيخرج منه دود يأكل الزرع "(16).

كل ذلك إنما كان بسبب التلقين، الذي طبع تقديم العقيدة الأشعرية للمسلمين.. التلقين، الذي يعني أن هذه الأمور مسلمات، لها قداسة النص الشرعي، حيث صارت العقيدة الأشعرية متونًا تحفظ، ومنظومات.

يقول الدكتور أحمد صبحي: "وعند الأيجي، كان معين الأصالة قد نضب، ليدخل الفكر الأشعري دور الشروح،والحواشي.

إن أهم معالم الكلام الأشعري، بعد الأيجي، تتمثل فيما يلي:

(1) المتون: قوالب مصبوبة صيغت فيها المعتقدات، كأنها القول الفصل، الذي ليس له مرد.

(2) الأراجيز: إذ صيغت العقائد في شكل أراجيز، حتى تكون عونًا على الحفظ (الصم)، أو الآلي، الذي يشل التفكير…"(17).

ولقد كان لذلك دور في تشكيل العقل المسلم، تشكيلاً يقوم على التسليم المطلق، لكل ما هو أشعري، وكأنه صادر عن الله! واستمر بذلك التصور العقدي الإسلامي يتنزل في التدين الجماهيري، عبر الوساطة الأشعرية، وكان لذلك أثره على المجال التربوي، من حيث صناعة العقلية الاستهلاكية، لا على مستوى العامة فحسب، ولكن حتى على مستوى الخاصة، من العلماء، والفقهاء، أهل الحل والعقد، في الأمة! الذين صاروا يلخصون مقالات المؤسسين من الأشاعرة، في المتون والأراجيز، على نحو ما فعل ابن عاشر كما رأينا، والشيخ إبراهيم اللقاني في جوهرة التوحيد، التي قال فيها عن صفات الله، مختزلاً رأي الأشعري:

متكلم ثم صفات الذات ليست بغير أو بعين الذات (18)

مشيراً بذلك إلى مقالة الأشعري في الصفات، أنها ليست هي الذات، ولا هي غير الذات.

وهذا الترسيخ التلقيني للعقيدة، عبر الوساطة الأشعرية، جعل بعض مؤرخي علم الكلام، يرون العقيدة الأشعرية، هي نفس عقيدة السلف، أو بعبارة أخرى، هي العقيدة الإسلامية، كما يصورها القرآن والسنة النبوية.. والحق، كما يقول الدكتور أبو ريان: "إن البون شاسع، بين موقف السلف، ومذهب الشاعرة، من حيث إنه لم يثبت أن السلف قد استخدموا الكلام في شرح العقيدة، أو مالوا إلى التأويل في تفسيرها "(19)، وإنما هي وساطة في الاعتقاد، كما قلنا، تدخلت، لتحول بين الناس وبين التلقي المباشر للعقيدة الإسلامية، في بساطتها، من مصادرها الشرعية: القرآن الكريم، والسنة النبوية.

لقد كان الأشاعرة الأوائل: أبو الحسن الأشعري، والباقلاني، والجويني، والغزالي، وغيرهم، بمثابة وسائط في المجال الكلامي، لكل واحد منهم سلطة الوسيط، كما بينا، من حيث التأثير الشخصاني على النص من جهة، بالتأويل، وعلى الناس من جهة أخرى، بالتلقين.. وكان لكتبهم، كما تبين من النصوص السالفة، قداسة المصدر المطلقة، لا بشرية المرجع النسبية، حيث كانت (إمامًا) لجمهور المتدينين، كما عبر ابن خلدون بالنسبة لكتاب (الإرشاد) لإمام الحرمين، وقد سبق هذا بنصه. واستهلك الناس العقيدة الأشعرية استهلاكًا، من خلال العبارات الكلامية الجاهزة، والمركبة في المتون، والأراجيز، ونحوها. فكانت نصوصها هي الشواهد، لا نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية.

كل ذلك، أدى إلى تعميق وترسيخ التربية الوساطية، فيما يتعلق بتصحيح التصور العقدي، كقضية من قضايا التدين الإسلامي الأساسية. كما أدى إلى مساعدة وسائط أخرى، في المجالات الدينية الأخرى، من حيث تهيئة النفوس، لتقبل التقليد المطلق، والتسليم لفهوم الرجال، على أنها أحسن ما يمكن أن يقال!

( ب ) المدرسة الفقهية ونموذج الوساطة الفكرية:

وكما ترسخت الوساطة في المجال الكلامي، في القرن الرابع الهجري، فقد ترسخت بنفس الفترة الوساطة الفقهية، وصار العلم الذي كان ذا مضمون تربوي توحيدي، يخرج عن هدفه، ليسقط في فخ التلقين المذهبي، أي التقليد. يقول العلامة محمد بن الحسن الحجوي الثعالبي: "هذا التقليد بعدما كان قليلاً، في المائة الثالثة، صار غالبًا في الرابعة، بل أصبح جل علمائها مقلدين متعصبين، مع أن الكل يعلم أن لكل إمام هفوة، وسقطة، بل سقطات "(20).

ولم يكن التقليد الفقهي يعني شيئًا، غير اغتيال العقل، وتقمص ذات الوسيط، وترسم آرائه في تنزيل الدين على أفعال الناس، وتصرفاتهم، فالكل كان يعلم أن الكتاب والسنة، هما المصدران الوحيدان للتدين، بيد أن المقلدة حصرت قدرة الفهم والاستنباط، في مجموعة معينة من الأئمة، صارت أقوالهم فيما بعد متنًا تشريعيًا، بسبب ما أضفي من العصمة اللاشعورية على اجتهاداتهم.. فالتقليد الفقهي إذن، هو بالضبط عين الوساطة التدينية، كما بيناها، في المجال التربوي.

يقول الشيخ الخضري رحمه الله: "نعني بالتقليد، تلقي الأحكام من إمام معين، واعتبار أقواله كأنها من الشارع، نصوص يلزم المقلد اتباعها"(21)، مما أدى إلى شيء من التقديس غير المشروع، الذي قد يوصل إلى الشرك الخفي، في التعبد العام، تتلقاه الأجيال الإسلامية، جيلاً عن جيل، منذ القرن الرابع، إلى بداية قرننا هذا. وما زال للوساطة الفقهية اليوم، آثار تختلف حدتها من مكان لآخر. وبذلك يمكن أن نفسر كثيرًا من العجز الذي أصاب الأمة، في عصور الانحطاط، من حيث ضعف المبادرة، وندرة الرواحل القيادية، بسبب الآفة التربوية الوساطية، التي ترسخت من خلال التلقين الفقهي الاستهلاكي، لا الاجتهادي.

فالناس كلهم، خاصتهم، وعامتهم، كما يقول الحجوي، صاروا: "عالة على فقه أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وابن حنبل، وأضرابهم.. وأصبحت أقوال هؤلاء الأئمة، بمنزلة نصوص الكتاب والسنة، لا يعدونها، وبذلك نشأت سدود بين الأمة، وبين نصوص الشريعة.. وأصبحت الشريعة هي نصوص الفقهاء، وأقوالهم "(22).. فانظر إلى أي حد بلغت الوساطة الفقهية، في ترسيخ القطيعة المصدرية، بين الناس وبين كتاب ربهم، وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ! إن هذه (السدود)، على حد تعبير الحجوي، قد شكلت عائقًا (ابستمولوجيًّا)، يحول دون بروز العقليات القيادية، الإبداعية، والعقليات الجندية، الفاعلة،على حد سواء!

وقد سقط المنهج التربوي، التعليمي، في نفس الفخ، بالطبع، حيث صارت المدارس الإسلامية، تقوم على التلقين المذهبي، مُعْرضة بذلك عن دراسة، وتدريس النصوص القرآنية، والحديثية، قصد التجديد والاستنباط، كما كان الناس يفعلون في القرون الثلاثة الأولى.. "فبعد أن كان مريد الفقه يشتغل أولاً بدراسة الكتاب، ورواية السنة، اللذين هما أساس الاستنباط، صار في هذا الدور، يتلقى كتب إمام معين، ويدرس طريقته "(23).

ويصف ابن خلدون في نص عجيب، واقع الوساطة الفكرية، في الفقه الإسلامي، وآثارها التعليمية، مبينًا تعلق الطلبة بشخصانية الملقنين من المعلمين، والانغلاق على ما سوى كتبهم، وعكوفهم عليها عكوف المقدس لها! وهاك النص بطوله، لما فيه من البيان الغريب، لهذا الأمر العجيب، قال:

"ورحل من الأندلس عبد الملك بن حبيب، فأخذ عن ابن القاسم، وطبقته،وبث مذهب مالك في الأندلس، ودوَّن فيه كتاب (الواضحة)، ثم دوَّن العتبي، من تلامذته، كتاب (العتبية).. ورحل من إفريقية أسد بن الفرات، فكتب عن أصحاب أبي حنيفة أولاً، ثم انتقل إلى مذهب مالك، وكتب عن ابن القاسم، في سائر أبواب الفقه، وجاء إلى القيروان، بكتابه، وسمي (الأسدية)، نسبة إلى أسد بن الفرات، فقرأ بها سحنون على أسد، ثم ارتحل إلى المشرق، ولقي ابن القاسم، وأخذ عنه، وعارضه بمسائل الأسدية، فرجع عن كثير منها، وكتب سحنون مسائلها، ودوَّنها، وأثبت ما رجع عنه، وكتب لأسد أن يأخذ بكتاب سحنون، فأنف من ذلك، فترك الناس كتابه، واتبعوا مدونة سحنون، على ما كان فيها من اختلاط المسائل، في الأبواب، فكانت تسمى المدونة، والمختلطة، وعكف أهل القيروان على هذه المدونة، وأهل الأندلس على الواضحة ، والعتبية، ثم اختصر ابن أبي زيد المدونة، والمختلطة، في كتابه المسمى (بالتهذيب)، واعتمده المشيخة من أهل إفريقية، وأخذوا به، وتركوا ما سواه، وكذلك اعتمد أهل الأندلس كتاب (العتبية)، وهجروا (الواضحة)، وما سواها، ولم تزل علماء المذهب، يتعاهدون هذه الأمهات بالشرح، والإيضاح، والجمع… إلى أن جاء كتاب أبي عمرو بن الحاجب، لخص فيه طرق أهل المذهب، في كل باب، وتعديد أقوالهم في كل مسألة، فجاء كالبرنامج للمذهب! "(24).

فانظر إذن إلى هذا الارتباط المذهبي، بوسائط، ليس فيها شيئ، غير رواية قول مالك، أو قول ابن القاسم، دون الإشارة إلى نص واحد من كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك عكف عليها الناس، كما رأيت، عكوف تفريد غريب، حجب عنهم الالتفات إلى نصوص الشارع المصدرية، وانزلق الناس إلى حافة التقليد الأعمى، حتى إذا تنبه بعضهم إلى شيء من القرآن أو السنة، يخالف قول إمام، أو شيخ، في إطار المناظرات المذهبية، ردَّ وسيط المذهب بإثبات قول الإمام، ولم يستدل بقول الله والرسول، عليه الصلاة والسلام! وكم هو غريب ما نقَلَتْه كتب تاريخ التشريع، عن الإمام الكرخي المتوفى سنة 340 هـ، حيث قال: "كل حديث يخالف ما عليه أصحابنا، فهو مؤول، أو منسوخ "(25)، وفي رواية "كل آية، أو حديث "، فقال الحجوي معلقًا على هذا الكلام: "فكأنه جعل نصوص مذهبه، هي الجنس العالي، والأصل الأصيل، حاكمة على نصوص السنة والتنزيل، معيارًا يعرض عليه كلام رب العالمين، والرسول الأمين، فإنا لله وإنا إليه راجعون "(26).

إلى هذا الحد إذن، بلغ التأثير الوساطي للمذاهب الفقهية، على علماء الأمة، الذين هم المربون، والموجهون لعامة الخلق، المنزلون للدين على وقائعه، فكيف إذن سيكون حال العامة، إذا كان هذا هو حال خاصتهم؟! طبعًا سيتدينون بعيدًا عن التوحيد الخالص، كما ورد في الكتاب والسنّة، وتتسلل إليهم الخرافة والشرك الخفي، إذ لم يكن تأثير داء الوساطة منحصرًا في أوساط المتعلمين فحسب، على حد تعبير عبد العزيز بن عبد الفتاح القارئ، "بل في صفوف الأمة جميعًا، عامتها وخاصتها، علمائها ودهمائها "(27).

وكان للوسطاء دور خطير في ترسيخ المشيخة الكهنوتية، في الذاكرة الشعبية، التي وصلت إلى درجة التقديس لأئمة المذاهب من ناحية، وجعل هذا الإحساس الخطير، يسيطر على الأمة، كلما تعلق الأمر بنابغة من النوابغ، في أي مجال من المجالات، وكان ذلك هو الطريق المعبد لظهور الأضرحة، ورفع الدعاء والطلب من أصحاب القبور، إلى غير ذلك من ألوان الانحطاط الوساطي، التي ستكرسها، وتباركها الطرق الصوفية، كما سنبين ذلك بحول الله.

قلتُ: إن هذا المعنى، كانت بداياته تلوح مع الفقهاء المقلدة، الذين كان المفروض فيهم، باعتبارهم (فقهاء)، أن يحاربوه، ويدافعوه، ولكن مع الأسف، كان معظمهم مؤسسين له، من حيث يشعرون، أو لا يشعرون.. قال الشيخ الخضري، رحمه الله: "فقلما تجد علماء مذهب إلا وصفوا إمامهم بأنه: إمام الأئمة غير مدافع، وذكروا له من الصفات، ما يجعله من المجلين في ميدان الفقه، والاستنباط، وربما تطرف بعضهم، فنال من بعض الأئمة المخالفين "(28)، بل لقد ذهب بعضهم، كما قال الحجوي، إلى "أن المهدي المنتظر، إذا ظهر، بل عيسى بن مريم، إذا نزل آخر الزمن، فإنما يقلدان أبا حنيفة، ولا يخالفانه في شيء! فسدوا بهذه الأفكار، التي تحكمت من نفوس العلماء، والأمراء، باب النظر في الكتاب والسنة "(29).

فكيف بعد ذلك يتجرأ أحد على فتح باب الاجتهاد؟ وكيف ينبغ في الأمة مجدد مبدع، إلا أن يعاني الأمرين من أهل التقليد، ووسطاء الفقه؟! فكيف وقد تعلقت القلوب في تدينها، بالأشخاص، مما دون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبالكتب مما سوى كتاب الله، وسنة رسوله عليه الصلاة والسلام؟! فالمدارس لا تدرس إلا مدونة فلان، أو فتاوى علان، والطلبة لا يعكفون إلا على نوازل فلان، أو أقضية علان، حتى آل الأمر بالأمة، إلى تدوين كتب، هي جملة ما يعملون به من الفقه، في بعض الأمصار، ولا يلتفتون إلى ما سواها، من غير دليل، ولا برهان، من كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وإنما يصدق فيهم قوله تعالى: ((قالوا وجدنا آباءنا لها عابدين ))[الأنبياء:53]، أعني ظهور ما سمي في الفقه، لدى بعض البلاد، (بالعمل)، كالعمل الفاسي، والعمل السوسي، والعمل الأندلسي… الخ. وهي كتب، حوت ما جرى عليه العمل في الفقه، بمنطقة ما، تكون هي النص، الذي لا يقدم، ولا يؤخر عليه، في مجال الفتوى، اجتهاد مجتهد، أو تجديد مجدد، ولذلك فقد ساق العلامة المجدد المصلح، أبو إسحاق الشاطبي، المتوفى سنة 798هـ، قوله تعالى: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله )) [التوبة:31]، ثم قال معلقًا: "فتأملوا يا أولي الألباب، كيف حال الاعتقاد في الفتوى على الرجال، من غير تحد للدليل الشرعي "(30).

إن الوساطة الكلامية، قد شكلت عقائد الناس تشكيلاً، فصارت العقيدة الإسلامية في صورة فلسفية، وفقدت بذلك رونقها القرآني، وثمرتها التربوية، وبقيت تصورات في أذهان الناس، تقرب أو تبعد عن القصد الشرعي، لكنها جمدت، ولم تبق لها حركيتها، التي تخرّج عليها جيل الصحابة الأوائل.

أمّا الوساطة الفقهية، فقد كانت أدهى وأشهد، إذ ربطت التعبد اليومي في حياة الناس، بوسطاء، مارسوا نوعًا من الكهنوتية على تدين الجماهير، ولست أقصد أئمة المذاهب الأوائل، أبا حنيفة، ومالكًا، والشافعي، وأحمد بن حنبل، وأضرابهم، ممن عاش في فترتهم، فهؤلاء كانوا ضد التربية الوساطية، وضد احتكار الاجتهاد، والتجديد، كما تبين في موضعه سابقًا، وإنما القصد ما صنعه الأتباع المقلدة، من بعد، فإن كثيرًا من هؤلاء، إلا من رحم الله، قد حجر القول الفقهي الواسع، وخلع على أقوال إمامه، ما لم يخلعه ذلك الإمام على نفسه! ومنعوا منعًا متحكمًا، أن يقول أحد من بعده بالاجتهاد والتجديد، فصاروا حماة للتقليد، رعاة له!

ويحكي الإمام الشاطبي قصة عجيبة، وقعت بالأندلس، تدل على تعمق التفكير الوساطي، وتغلغله في عقول العلماء، وطلبة العلم، قال رحمه الله: "المقلدة لمذهب إمام، يزعمون أن إمامهم هو الشريعة!. . . حتى إذا جاءهم من بلغ درجة الاجتهاد، وتكلم في المسائل، ولم يرتبط إلى إمامهم، رموه بالنكير، وفوقوا إليه سهام النقد، وعدوه من الخارجين عن الجادة، والمفارقين للجماعة، من غير استدلال منهم بدليل، بل بمجرد الاعتياد العامي.. ولقد لقي الإمام بقيٌّ بن مَخْلد، حين دخل الأندلس، آتيًا من المشرق، من هذا الصنف الأمرين! حتى أصاروه مهجور الفناء، مهتضم الجانب. . . إذ لقي بالمشرق الإمام أحمد بن حنبل، وأخذ عنه مصنفه، وتفقه عليه، ولقي أيضًا غيره، حتى صنف (المسند) المصنف، الذي لم يصنف في الإسلام مثله.. وكان هؤلاء المقلدة، قد صمموا على مذهب مالك، بحيث أنكروا ما عداه، وهذا تحكيم الرجال على الحق "(31).

وقد تدنى الانحطاط الفقهي أكثر، في القرون المتأخرة، وترسخت وساطته بصورة أردأ، ابتداءً من القرن الثامن الهجري، حيث دخل الفقه مرحلة ما سماه مؤرخو، التشريع الإسلامي: (بدور المقلد المحض)(32).. فالوساطة الفقهية، في هذه المرحلة قصرت همتها عن تقليد إمام المذهب المجتهد، كمالك، والشافعي، ونزلت إلى تقليد فقيه المذهب المقلد! فصار المقلدة يقلدون مقلدة مثلهم! وهذا أشنع من الأول وأفظع! وخير من يصف لنا هذه الحال، هو الإمام الشاطبي، الذي عاين بداية هذه المرحلة، في القرن الثامن، حيث قال: "نابِتةٌ في هذه الأزمنة، أعرضوا عن النظر في العلم، الذي هم أرادوا الكلام فيه، والعمل بحسبه، ثم رجعوا إلى تقليد بعض الشيوخ، الذين أخذوا عنهم في زمان الصبا… ثم جعلوا أولئك الشيوخ في أعلى درجات الكمال "(33).

ثم قال الحجوي معلقًا على تطور التقليد، إلى تقليد التقليد، أو التقليد المركب: "ثم في الأخير قصورًا عن الشرح، واقتصروا على التحشية والقشور.. ومن اشتغل بالحواشي، ما حوى شي ئا"(34)

إن الآثار التربوية للفقهاء، باعتبارهم موجهين لتدين الجماهير، بمختلف شرائحهم الاجتماعية، لذات خطر عظيم، إما سلبًا أو إيجابًا. فإما أن يربطوا الناس في التزامهم العملي، بالقرآن والسنة، أو بأقوالهم، أو أقوال شيوخهم.. وبعبارة أخرى:إما أن يكونوا مربين للأمة، يصلونها بالله، أو وسطاء عليها، يحجبونها عن الله!

والفقه الإسلامي، باعتباره مادة التدين الإسلامي، يعتبر من أكثر العلوم الإسلامية، حضورًا في المجال التربوي، ولذلك فهو سيف ذو حدين: إما أن يكون فقه اجتهاد، وهو الذي يربط الناس بالنصوص الشرعية، استدلالا، واستنباطًا، وإفتاءا، وكذلك كان دور الفقهاء من الصحابة والتابعين، وأتباعهم، وفقهاء الأمصار، الذي ربوا بفقهم الأجيال الأوائل، فكان منهم العلماء العاملون، والجنود المجاهدون، وإما أن يكون فقه تقليد، وهو الذي يربط الناس بأقوال الرجال، ويضعها موضع النصوص، يقيس عليها، ويستدل بها، ويفتي بناءً عليها، فيفقد الفقيه حينئذ دور المربي، وينتحل دور الوسيط، فيجعل من نفسه، وأشياخه، سلطة تحكمية، ذات قداسة، لا تتصور شرعًا، إلا في حق الله عز وجل.

وأختم هذا المبحث، بتقديم نموذج من فقه التقليد، ينطق بنفسه عن وساطة ظاهرة، تجعل من الفقيه شخصًا شبه أسطوري، وتجعل متنه نصًا مقدسًا، تٌستنبط منه العلل والأحكام!

نمــوذج للــوساطة الفقهيــة:

من كتاب: "شرح حدود ابن عرفة"، المتوفى سنة 803هـ، للشيخ أبي محمد الأنصاري، المشهور بالرصاع التونسي، المتوفى سنة 894 هـ:

فالنص إذن من القرن التاسع الهجري، وهي مرحلة التقليد المركب للمنهج الوساطي:

أولاً: تـقـديـم الـوســيط:

قال الشارح أبوعبد الله الرصاع: "أما بعد، فإنه لما سبقت منّة الله تعالى إليّ، وأظهر فضله سبحانه عليّ، بمحبة شيخ الإسلام، وعلم الأعلام، الذي افتخرت به أمة النبي صلى الله عليه وسلم ، الشيخ، الولي، العالم، الأعلم، الصالح، الزكي، القدوة، الأسوة، السنيّ، السُّنّي، العارف على التحقيق، الهادي إلى الطريق، الدال على التدقيق، صاحب السعد والسعود، واليمن والتوفيق، شيخ كثير من شيوخنا، نهاية العقول في المنقول والمعقول، في وقتنا، وقبل وقتنا! بقية الراسخين من سادتنا، آخر المتعبدين من سلفنا، سيدنا ومولانا، وبركتنا، أبي عبد الله محمد بن عرفة، رحمه الله تعالى، ورضي عنه، ورحم سلفه، وأعاد علينا فضله، وصيّرنا ممن عظم قدرته، وعرفه… ونذكر إن شاء الله، جملة صالحة، في أول هذا التقييد وآخره، من طريقه، وفضله، ودينه، وعلمه، وما يحمل طالب العلم على تعظيمه، وبره، وشاهدنا كتبه جامعة، مانعة، شافية، وافية.. المبرز من فقهاء الزمان، ممن يفك رموزها، ويفهم إشاراتها، ويتفاخرون بذلك، خلفًا عن سلف، وكل ضعيف عقل، خبيث سريرة، وكبير جهل، إذا ربت به نفسه الخبيثة، علا ، وغلا، فيتعرض بالاعتراض للعطب، والبلا! حفظ الله قلوبنا، وملأها بمحبتنا في سادتنا، الذين فتحوا لنا الأبواب، وهدانا الله بهم إلى طريق الحق والصواب "(35).

فانظر إذن، إلى هذا التقديم، الذي مهد به لشرحه، حيث قدم المصنف رحمه الله، وكأنه قد حاز مقام العصمة، أو كما قال: "نهاية العقول في المنقول، والمعقول، في وقتنا، وقبل وقتنا!"، ويسأل الله أن يجعله "ممن عظم قدره"، والضمير يعود على الشيخ، ويذكر أن مبلغ "المبرز من فقهاء الزمان"، أن يفك رموز كتبه، ويفهم إشاراتها، كما يُفهم من كلامه، أنه لا تجوز معارضته، وأن من فعل ذلك فهو ضعيف عقل، وخبيث سريرة، وكبير جهل!!

ويدعو الله تعالى بعد ذلك، أن يجعله من محبي الشيوخ، أو (السادات) بتعبيره، تعريضًا بالمعترضين، والمخالفين. وما كان دافعه إلى هذا الشرح في الأصل، إلا هذه المحبة، لا العلم، وقصد الله فيه! وذلك في قوله بعد: "ولما كنتُ كثير المحبة، والتعظيم لهذا السيد الكريم، أكثرت من النظر في تعريفه للحقائق الفقهية، وولعت في طلب تفهيم فوائده اللوذعية"(36)، ولست أدري، ماذا بقي بعد ذلك في نفس الشارح، رحمه الله، وغفر له، من مقام لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم؟

ثانيًا : تقديم المنهج الوساطي للمضمون الفقهي:

وهو نص يتبين فيه كيف يستدل المقلد بأقوال ابن القاسم، وسحنون، وخليل، وغيرهم، وكيف - وهذا هو الأغرب - يستخرج (العِلَل) من أقوالهم، وأحكامهم، ليقيس عليها! ومعلوم أن هذه إنما هي خاصية النص القرآني، أو الحديثي! وهذا نص، يجمع مواطن من ذلك، دون عرض تفاصيل الجزئيات:

قال الشارح، رحمه الله: "ولنذكر هنا مسألة. . . وذلك أن رجلاً أعطي بضاعة أمانة، يتَّجر بها في بلاد المغرب، من المواضع المأذون فيها عادة.. ذهب المبعوث معه بالمال، إلى المغرب، ثم قدم، وادعى أنه أودعه ببلد من بلاد المغرب، واستظهر بإشهاد في ذلك، وأن العدو دمّره الله تعالى، أخذ البلدة المذكورة، واستولى على ما فيها. . . فادعى رب البضاعة، أن الرجل تعدى في مسيره إلى تلك البلدة، لأنه سافر بالمتاع، من بلد فاس إليها، وطريقها مخوف، وتعلق الضمان بذمته، فلا يسقط الضمان عنه، بوصول المتاع إلى تلك البلدة المأمونة، وأثبت أن الطريق مخوف.

فوقع الكلام بين فقهاء الزمان، وترددوا في النازلة، فقال قائل منهم، بضمان المبضع معه، إذا أثبت ما ذكر، وقال آخرون بعدم الضمان، وهو الذي ظهر لي، وانتصرت له بمسائل مذهبية، تدل على عدم الضمان، شبيهة بالنازلة المذكورة! إذا أثبت العذر للإيداع، وإن لم يقع منه إشهاد على الإيداع، كما صححه جماعة من شيوخ المذهب:

المسألة الأولى: الشاهدة لما ذكرناه، أن ابن القاسم في كتاب القراض من المدونة، قال فيمن نهى رجلاً عن الخروج بالمال من مصر، ثم خرج به إلى إفريقية عينًا، ثم رجع به عينًا، قبل التّجْر(37)ِ به بمصر، فخسر، أو ضاع، قال: فلا ضمان عليه. وجه الشبه بقياس تمثيلي، فيقال: مالٌ على وجه الأمانة، تعدى في الخروج، ثم عاد سليمًا، إلى موضع مأذون فيه، فهلك، فلا يقع الضمان فيه. أصله هذه المسألة، وهي مسألة ابن القاسم، ولا يقال بإبداء فارق، بالإذن الجزئي في صورة ابن القاسم. والإذن الكلي في الصورة الواقعة، والإذن الجزئي أقوى من الكلي، لأنا نقول: العلة المنصوصة، التي ذكر ابن القاسم، (لأنه رده إلى مصر)، هذه العلة، يحتمل أن يراعي فيها الإذن العام، في عدم الضمان، من غير إضافة شيء إليه، وهو الظاهر، ويحتمل أن يريد به الإذن الخاص، وهو التجر في بلد مصر، فإن قلنا بالأول، قلنا بما يناسب بساطة العلة، وإن قلنا بالثاني، قلنا بما يناسب تركيبها، وبساطتها أولى!

المسألة الثانية: من أنفق وديعة، ثم ردها لموضعها، فقد قال فيها: لا ضمان فيها، بعد ضياعها. . . وقد استدل بذلك ابن القاسم في كتاب القراض، على مسألة القراض ، انظره، والاستدلال إنما هو على قول ابن القاسم. . .

المسألة الثالثة: ما ذكره ابن المواز، رحمه الله، قال: من استودع دابة، أو ثوبًا، ثم أقر المودع بركوب الدابة، ولبس الثوب، ثم هلك ذلك، فقال ربه: هلك بيدي قبل رده، وقال المودع: إنما هلك بعد الرد. قال: صدق المودع بعد يمينه أنه رده. . . ونُقل عن سحنون، أنه لا ضمان عليه مطلقًا. . .

المسألة الرابعة: الشاهدة للنازلة، ما ذكره الشيخ خليل في مختصره، والنص فيه كذلك في قوله: (وبرئ إن رجعت سالمة). قال شارحه ما معناه: فإن سافر بالوديعة، حيث لا يجوز له، ثم رجعت سالمة، فلاضمان عليه، إن ضاعت، فهذه قوية الشبه، وأقوى مما ذكرنا في الشبه…

ومن قال بالضمان من أهل العصر، استدل على قوله، بقول ابن القاسم: من اكترى دابة، وبلغ الغاية، ثم زاد زيادة على المسافة، أو حبسها أيامًا، ثم رجعت بحالها، فقال: لربها الكراء، وله الخيار في أخذ قيمتها يوم التعدي، أو الكراء فيما حبسها فيه، قال: كما أن ابن القاسم قال بالضمان، ولو رجعت سالمة، فكذلك في النازلة المذكورة، والجامع ظاهر ما تقدم. فظهر لي في رد هذا القياس، أن قلتُ: إن سلمنا صحة القياس المذكور، المعارض لقياس عدم الضمان، يرجح القياس الأول على الثاني، لأنه قياس على أصل قوي في الشبه، من جنس المشبه به، وهو الأصل!(38).

فانظر رحمك الله، كيف صار كلام ابن القاسم، وسحنون، وخليل، (أصلاً) يقاس عليه، وتستخرج منه (العلل)، ويتعسف فيه، لرفع تعارض الأقيسة المختلفة، وترجيح ما بينها، كأن ما سمي (بعللها)، نصوص وحي، نزل من السماء! عجبًا، كيف هوى العقل الإسلامي إلى حضيض الوساطة بهذه الرداءة؟ وللنص تتمة، وقد حذفت منه فقرات مخافة الإملال، وليس فيه شاهد واحد من كتاب الله ولا شاهد واحد من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ! والسبب هو ترسخ الوساطة، في الذهنية الفقهية المقلدة، التي صدّرت المرجعيات في مقام المصدريات، وألغت هذه تمامًا، فقد ست المراجع، وصدق فيهم استشهاد الشاطبي رحمه الله، بقوله تعالى: ((اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله ))-[التوبة-31](39).

لقد كان للوساطة الفقهية في تاريخ المسلمين، آثار خطيرة، من الناحية التربوية، من حيث تشكيل التدين الشعبي، الذي كاد يخلو في هذه الفترة، من القصد التعبدي المحض، وصار يراعي عادة هذا المصر أو ذاك، وأقوال هذا الشخص أو ذاك، سواء قربت أو بعدت عن قصد الشارع الأصلي! وانعدمت بركة النصوص القرآنية، في تعميق الإخلاص في القلوب، لانقطاع الناس عن ربط تدينهم بها، كما مال الناس إلى طلب (الرُّخص) من المفتين، باعتبارهم مصادر الدين.. وكانت الوساطة سببًا مهمًا في علل تدين الشعوب الإسلامية، حتى ترك بعضهم الصلاة نفسها، ولقد حكى الشاطبي رحمه الله قصة عجيبة في ذلك عن الباجي، الذي عاش في القرن الخامس الهجري، وهو بداية مرحلة رسوخ الوساطة الفقهية، كما بينا، قال رحمه الله:

"حدثني من أوثقه، أنه اكترى جزءًا من أرض على الإشاعة، ثم إن رجلاً آخر اكترى باقي الأرض، فأراد المكتري الأول أن يأخذ بالشفعة، وغاب عن البلد، فأُفتي المكتري الثاني بإحدى الروايتين عن مالك: أن لا شفعة في الإدارات. قال لي: فوردتُ من سفري، فسألتُ أولئك الفقهاء - وهم أهل حفظ في المسائل، وصالح في الدين - عن مسألتي، فقالوا: ما علمنا أنها لك، إذا كانت لك المسألة، أخذنا لك برواية أشهب عن مالك بالشفعة فيها، فأفتاني جميعهم بالشفعة فيها! فقضي لي بها.. قال: وأخبرني رجل عن كبير من فقهاء هذا الصنف، مشهور بالحفظ، والتقدم، أنه كان يقول معلنًا، غير مستتر: إن الذي لصديقي، عليّ، إذا وقعت له حكومة، أن أفتيه بالرواية التي توافقه!!! (40)"

فعلاً هذا مآل الارتباط بالرجال، وجعلهم مكان المصدر الحق، كتاب الله، وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .. والفقه - وهو الموجه لتدين الناس - حينما يكون مصدره كلام فلان، أو فلان، لا كلام الله ورسوله، يسقط لا محالة في التشهي، والهوى، وذلك هو الباب الأوسع لإسقاط تكاليف الشرع، جملة وتفصيلاً، وهو مآل نعيشه اليوم حيًا !

تلك إذن كانت النتيجة التربوية للمسيرة العلمية، التي سارها الفقه الإسلامي، عندما بدأ ينزلق إلى درك الوساطة، بعد ما تألق في سماء التوحيد، إبان عهد الصحابة، والتابعين، وأتباعهم، والفقهاء المجددين.

وهكذا شكلت الوساطة الفقهية، إلى جانب الوساطة الكلامية، المنهج الوساطي الفكري، الذي هوى بالأمة، وانزلق بها عن جادةالتوحيد، في المجالين: التصوري الاعتقادي، والعملي التطبيقي، ومجموعهما هو الإسلام، عقيدة وشريعة.. وانضاف إلى الوساطة الفكرية، وساطة أخرى، انحرفت بمنهج الإسلام التوحيدي، في الارتقاء بمقامات الإيمان، من الإحسان في عبادة الله، إلى الإحسان في عبادة الإنسان! وقد تتحول أحيانًا إلى عبادة الشيطان.. وهذا كان هو المآل الطبيعي للوساطة الروحية.

No comments:

Post a Comment