شبهات الأشاعرة
الشبهة(1) : تأويلهم صفة الوجه
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه" (ص113):
«قال الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية 27]، قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله: { يُريدُونَ وجَهْهُ} [الأنعام: الآية 52]، أي: يريدونه، وقال الضحَّاك وأبو عبيدة في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]، أي: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا، وليس لهم دليل إلا ما عرفوا من الحسيات؟! وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه.
وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا يجوز إثبات رأس.
قلت: ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ما ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس».
· والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: مجمل ومفصَّل:
أما المجمل، فإنه يقال: قد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهًا كما أن له يدين وسمعًا وبصرًا وصورةً وعلمًا وحياةً وقدمًا، وغير ذلك ممَّا وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية11]؛ فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تُشبه الذوات، فكذلك نثبت لله تعالى وجهًا لا شبيه له ولا نظير.
وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقًّا وتحتمل باطلاً، وقد أرادوا بها قطعًا معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق.
وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.
وبالاعتصام بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم نجاة من أباطيلهم وشبههم.
وفي الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة شيء كثير ممَّا يرد على الجهمية وغيرهم من النفاة، ويدحض شبههم، ويقمع باطلهم:
قال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص : الآية 88].
وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن : الآية 27].
وفي «صحيح الإمام البخاري» رحمه الله (13/388) عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك»، فقال: { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك»، قال: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هذا أيسرُ».
فهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات صفة الوجه لله تعالى ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 179) عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: «إن الله عزَّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور (وفي رواية أبي بكر: النار)، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه؛ فعموا وصموا.
والأشاعرة تحرفه وتتأوَّله بتأويلات فاسدة: إما بتفسير الوجه بالذات لتنفي صفة الوجه عن الله، وإمَّا بغير ذلك من التأويلات المستكرهة.
وهناك أيضًا من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه ما يغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة:
ففي «صحيح البخاري» (13/423) و«مسلم» (رقم 180) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «جنتان من فضَّة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
فقوله: «على وجهه»: فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة.
وأهل الباطل تأوَّلوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال عياض: «فمن أجرى الكلام على ظاهره؛ أفضى به الأمر إلى التجسيم...»!!
وهذا خطأ وغلط؛ فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والواجب على جميع الخلق التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد.
والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه؛ فالله المستعان.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات الوجه لله تعالى ما رواه أبو داود (1/124) بسند حسن من طريق عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا دخل المسجد، قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم»، قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: «فإذا قال ذلك؛ قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم».
فقوله: «وبوجهه الكريم»: دليل على إثبات الوجه لله تعالى.
ويرد على زعم أن الوجه هو الذات بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانيًا بوجهه الكريم، والعطف يدل على المغايرة.
والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد خرَّجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول، مقابلين لها بالتسليم، ولم يُنكرها أحد منهم.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» بعد أن ساق الآيات الدالة على إثبات الوجه لله تعالى، قال:
«فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عزَّ ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجلَّ ربنا عن مقالة المعطِّلين، وعزَّ أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عمَّا يقول الجهميُّون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم...».
وقال رحمه الله: «نحن نقول وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إن لمعبودنا عزَّ وجلَّ وجهًا كما أعلمنا الله في محكم تنزيله...».
وأمَّا الجواب المفصَّل؛ فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ابن الجوزي قال علي قول الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 27]؛ قال: «قال المفسِّرون: معناه: يبقى ربك»: وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ؛ فهناك من المفسرين ممن قبل ابن الجوزي فسَّر الآية بغير ما ادَّعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس محصورًا فيمن صنَّف كتابًا أو كتبًا في التفسير.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في «تفسيره» على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [ الرحمن : الآيتان 26- 27] :
«يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس؛ فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام، و{ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} من نعـت الوجـه؛ فلـذلك رفع {ذو}..».
هذا مذهب أهل التحقيق في تفسير هذه الآية، ومن فسَّر الوجه بالذات؛ فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في «كتاب التوحيد» (1/51): «وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية [نفسه] التي أضاف إليها الجلال بقولـه: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 78]، وزعت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام، لا الوجه».
قال أبو بكر: «أقول – وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدَّعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية 27]: فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو أن قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}: مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع؛ لكانت القراءة: (ذي الجلال والإكرام)؛ مخفوضًا، كما كان الباء مخفوضًا في ذكر الرب جلَّ وعلا.
ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية78]، فلمَّا كان {الْجَلاَلِ} و{الإِكْرَامِ} في هذه الآية صفة للرب؛ خفض {ذِي} خفض الباء الذي ذكر في قوله: ]ربِّك[، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة التي كانت صفة الوجه مرفوعة؛ فقال: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}، فتفهَّموا يا ذوي الحِجا هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، لا تغالطوا؛ فتتركوا سواء السبيل.
وفي هاتين الآيتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله، صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، ولا أن وجهه غيره، كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجه الله لو كان الله؛ لقرئ: (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)! فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ولوضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!».
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله – كما في «مختصر الصواعق» (ص337)-: «إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب: أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه الثوب، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابلٌ لدبره، ومثل هذا وجه الكعبة ودبرها؛ فهو وجه حقيقة، ولكنه بحسب المضاف إليه، فلما كان المضاف إليه بناء؛ كان وجهه من جنسه، وكذلك وجه الثوب أحد جانبيه، وهو من جنسه، وكذلك وجه النهار أوَّله، ولا يقال لجميع النهار، وقال ابن عباس: وجه النهار أوَّله، ومنه قولهم: صدر النهار، قال الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وأنشد للربيع بن زياد:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْـــوَتَنا بِوَجْـهِ نَهارِ
والوجه في اللغة: مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يوجه منه، ووجه الرأي والأمر: ما يظهر أنه صوابه، وهو في كل محل بحسب ما يضاف إليه؛ فإن أضيف إلى زمن؛ كان الوجه زمنًا، وإن أضيف إلى حيوان؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى من { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : الآية 11]، كان وجهه تعالى كذلك».
أقول: ولما كان ابن الجوزي مضطربًا في العقيدة؛ ففي بعض كتبه يؤول، وفي بعضها يثبت؛ فقد جاء عنه ما يدل على أنه يثبت الوجه لله تعالى؛ كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة.
قال في كتابه «مجالس ابن الجوزي» يرد على من أوَّل الوجه بالذات: «وقول المعتزلة: إنه أراد بالوجه الذات؛ فباطل؛ لأنه أضافه إلى نفسه، والمضاف ليس كالمضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه...».
وهذا حق، ولكن ابن الجوزي لم يثبت على هذا، والاضطراب ظاهر عليه في كتبه، فإنه لا يثبت على قدم النفس ولا على قدم الإثبات؛ فيثبت تارة وينفي تارة، وكثيرًا ما يفوض، كما صنع في «تلبيس إبليس»، فإنه قال (ص101):
«ومن الناس من يقول: لله وجه، هو صفة زائدة على صفة ذاته؛ لقوله عز وجل: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: الآية 26]، وله يد، وله إصبع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يضع السماوات على إصبع»، وله قدم... إلى غير ذلك ممَّا تضمنته الأخبار، وهذا كلُّه إنما استخرجوه من مفهوم الحس، وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها..».
الوجه الثاني: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، قلت (القائل ابن الجوزي): فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟!».
وجواب هذا أن يقال: إن القول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل، يحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
والألفاظ المجملة التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة ولم يتكلم بها الصحابة توقع اللبس، وطريق السلامة التفصيل:
فمن أثبت الوجه لله تعالى وغيره من الصفات التي صحَّت بها النصوص، وقال: صفات الله زائدة على الذات؛ فمراده زائدة على ما أثبته نفاة الصفات؛ فإنهم يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، فلا يثبتون لله وجهًا ولا يدين ولا قدمًا ولا صورةً ولا كلامًا، بل لا يثبتون إلا ذاتًا مجردة عن الصفات، وهذا ضلال باتفاق علماء السلف؛ إذ لا توجد ذات مجردة عن الصفات، وأهل البدع يوردون الألفاظ المجملة تلبيسًا على الخلق؛ ليدركوا مرادهم من حيث لا يُشْعَر بمقصدهم، ولذلك لا يثبتون الوجه لله تعالى ولا غيره من الصفات، ويعيبون على من قال: إن الوجه صفة زائدة على الذات، مع أن مراد مَن قال في صفات الله: زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته نفاةُ الصفات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (5/326): «وإذا قال مَن قال مِن أهل الإثبات للصفات: أنا أثبتُ صفات لله زائدة على ذاته، فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات؛ فإن النفاة اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات، فقال أهل الإثبات: نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، وأما الذات نفسها الموجودة، فتلك لا يتصور أن تحقق بلا صفة أصلاً، بل هذا بمنزلة من قال: أثبت إنسانًا لا حيوانًا ولا ناطقًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره ولا له قدرة ولا حياة ولا حركة ولا سُكُون... أو نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق ولا جذع ولا ليف... ولا غير ذلك، فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يُسمون نفاة الصفات معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإنْ كانوا هم قد لا يعلمون أنَّ قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين؛ فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود! حق ليس بحق! خالق ليس بخالق! فينفون عنه النقيضين: إمَّا تصريحًا بنفيهما، وإمَّا إمساكًا عن الإخبار بواحد منهما..».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات»؛ فهذا جهل بالنصوص وبما عليه علماء السلف، فإنهم متفقون على إثبات صفة الوجه لله تعالى حقيقة.
وأما قول من قال من العلماء: إن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، فمرادهم زائد على ما نفاه نفاةُ الصفات المعطلة، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أنَّ قول ابن الجوزي: «ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه»: يقال عنه: هذا جهل وقول فاسد، فإننا لو سلمنا أن المراد بقول الله تعالى: { كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]؛ أي: إلا ذاته، أو: إلا هو، لم يكن في ذلك دليل على نفي الوجه عن الله تعالى؛ لأن النصوص كثيرة في إثبات الوجه لله تعالى، ولا عبرة بحثالة الجهمية والمعطلة الذين ينكرون ذلك، ويكون معنى الآية على ما قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (ص24): «ونفى عنه الهلاك إذا أهلك الله ما قد قضى عليه الهلاك ممَّا قد خلقه الله للفناء لا للبقاء، جلَّ ربنا عن أن يهلك شيء منه مما هو من صفات ذاته..».
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا نجوِّز إثبات رأس، قلت (القائل ابن الجوزي): ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوَزه في التشبيه غير الرأس».
يجاب عنه، فيقال: إن من أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوز القرآن والحديث الصحيح؛ فقد سلك الصراط المستقيم، واقتفى أثر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو حرَّف ذلك، أو اقشعرَّ جلده من ذلك استنكارًا؛ فقد ضلَّ عن الهدي القويم، وسلك مسلك النفاة من الجهمية والمعطلين.
وإن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأصل يجب التمسك به والعض عليه بالنواجذ، خصوصًا عند جِدال المبطلين، وتلبيس المماحلين، وتشبيه المشبهين.
فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به، فليعلم أنَّ النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها، فمن أنكرها، فإنما ينكر على الله قوله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل.
قال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: الآية 65] .
ومن ردَّ آيات الصفات وأحاديثها أو حرَّفها؛ فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم.
وقول ابن حامد: «ولا نجوِّز إثبات الرأس»: قصده في ذلك أن النص لم يأتِ به، ولو جاء النص به؛ لكنَّا أوَّل القائلين به؛ تفاديًا من غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: الآية 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
فلما لم يأتِ النص بإثبات الرأس لله تعالى، لم يقل به ابن حامد.
وأي عيب في هذا؟!
ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهًا، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد؛ فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحاح، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله السلامة والعافية.
( المرجع : إتحاف أهل الفضل والإنصاف ، للشيخ سليمان العلوان ، 121-133) .
الشبهة(2) : تأويلهم صفة العين
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص113، على قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طـه : الآية 39]، و{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود : الآية 37]).
«قال المفسرون: بأمرنا، أي: بَمرْأى منا.
قال أبو بكر بن الأنباري: أمَّا جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، يقال: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع؛ لأن عادة الملك أن يقول: أَمَرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما.
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن الله ليس بأعور»، وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخيل من الصفات وجه».
· أقول: الجواب عن هذه الجهالات من وجهين: مجمل ومفصل:
فأمَّا المجْمَل؛ فإنه قد اتفق علماء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين على أن الله تعالى لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسولـه محمد صلى الله عليه وسلم؛ دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، واتفقوا أيضًا على أنَّ باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس، ولا مجال للقياس فيه، فلا نثبت لله تعالى إلا ما جاء به السمع.
فكان مما جاء به السمع ذِكْر العين لله تعالى مفردة، كما في قوله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه :الآية 39] ، وذكرها بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: الآية 48]، وجاءت السنة بذكر العينين لله تعالى.
فكان الواجب على كل مسلم الإيمان بذلك، وإثبات العينين لله تعالى حقيقة، والتسليم والانقياد، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى، وترك التحريف وصرف النصوص عن حقائقها بلا برهان.
قال الهروي في كتاب «الأربعين» (ص64، باب إثبات العينين له تعالى وتقدَّس)، وساق بالسند حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيٍّ؛ إلا وقد حذَّر أمته الأعور الكذَّاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)...»، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري(13/389) ومسلم (رقم 2933) من طريق شعبة عن قتادة، قال: سمعتُ أنس بن مالك... ورواه أيضًا البخاري (13/389- فتح) ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص48): «ففي تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليس بأعور»: بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور».
وقال رحمه الله: «والعور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين».
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (1/97): «فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله مبينًا عنه عز وجل في قوله: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: الآية44]، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقًا لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب..».
وإثبات العينين لله تعالى أمرٌ متفق عليه بين علماء السلف، ومجيئهما في القرآن بلفظ المفرد المضاف إلى الضمير المفرد وبلفظ الجمع المضاف إلى ضمير الجمع لا يدل على أن لله تعالى عينًا واحدة، كما أن لفظ الجمع لا يدل على أن لله تعالى أعينًا متعددة، فيحمل ما جاء بالكتاب على ما وضحته السنة، فيزول الإشكال.
قال العلاّمة المحقق ابن القيم رحمه الله في «الصواعق» (1/205): «... فذكرَ العينَ المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعين مجموعة مضافةً إلى ضمير الجمع، وذكرُ العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني، وأحمله على عيني... ولا يريد به أنَّ له عيناً واحدة، فلو فهم أحد هذا من ظاهر كلام المخلوق؛ لعُدَّ أخرق، وأمَّا إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا؛ فالأحسن جمعها، مشاكلة للفظ، كقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14]، وقوله: { وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} [هود: الآية 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد، كقوله: { بِيَدِهِ المُلْكُ} [الملك: الآية1]، و{ بِيَدِكَ الخَيْرُ} [آل عمران: الآية 26]، وإن أضيفت إلى ضمير جمع؛ جمعت، كقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يَسَ: الآية 71]، وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: الآية 41]، وقوله: { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: الآية 61].
وقد نطق القرآن والسنة بذكر اليد مضافة إليه سبحانه مفردة ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة، ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت؛ قال له ربه: إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني؟».
وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم ليس بأعور»: صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلاَّ؛ فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهل يَفْهمُ من قول الداعي: «اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام»: أنها عين واحدة ليس إلا إلاَّ ذهن أقلف وقلب أغلف؟!
قال خلف بن تميم: حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم ابن أدهم: هذا السبع، فنادى: يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء، وإلا (يعني: فاذهب)، فضرب بذنبه، وولى مدبرًا، فنظر إبراهيم إلى أصحابه، وقال: قولوا: اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء».
قال عثمان الدارمي: «الأعور ضد البصير بالعينين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»، وقد احتج السلف على إثبات العينين له سبحانه بقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14] ».
وممن صرح بذلك إثباتًا واستدلالاً أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها، فقال في «المقالات» و«الموجز» و«الإبانة»، وهذا لفظه فيها:
«وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله..».
إلى أن قال: « وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه : الآية 5]، وأن له وجهًا، كما قال: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 27]، وأن له يدين، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: الآية 64]، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيدَيَّ} [صَ: الآية 75]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14]».
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرة على وجه، ولم يفهموا من الأيدي أيادي كثيرة على شقٍّ واحد، حتى جاء هذا الجهمي، فعضه القرآن، وادعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيع على من بدَّعه وضلله من أهل السنة والحديث، وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنعون، { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: الآية 105] ».
وأما الجواب المفصل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طـه: الآية 39]، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}[هود: الآية 37]: «قال المفسرون: بأمرنا، أي: بمرأى منا»:
يقال: إنه خطأ من وجهين:
الوجه الأول: أن المفسرين لم يطبقوا على هذا التفسير، وعبارة ابن الجوزي فيها إيهام أن جميع المفسرين يقولون ذلك، وهذا خطأ، فابن جرير مثلاً – وتفسيره يُعد من أجلِّ التفاسير وأشهرها – قال على قول الله تعالى:{وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا}[هود: الآية 37]، قال: «بعين الله ووحيه كما يأمرك ».
الوجه الثاني: أن تفسير الآيتين بما ذكر ابن الجوزي خطأ؛ إذ لو أراد الله تعالى بقوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} [طَه: الآية 39]، أي: بأمري، لقال: «ولتصنع بأمري».
وكذلك الآية الأخرى يقال فيها مثل ما قيل في هذه.
وقول من قال: «بمرأى منا»: يقال: لا شك أن ذلك بمرأى من الله تعالى، وهذا من اللوازم، وليس هو معنى الآية، فالواجب أولاً إثبات العينين لله تعالى، ثم لا بأس بعد ذلك بذكر اللوازم من الرؤية ونحو ذلك.
ولكن أهل الأهواء يُفسرون الآيات التي في الصفات بلوازمها، وينفون حقائقها، وهذا عين المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت عن ابن عباس في قول الله تعالى: {واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} [هود: الآية 37]، قال: «بعين الله تبارك وتعالى»، رواه عنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/41) من طريق محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، به، ورواته كلهم ثقات.
وكذلك قال قتادة: «بعين الله...»، فيما رواه عنه ابن جرير في «تفسير».
وأما قول الجهمي الكوثري في تعليقه على «الأسماء والصفات» على أثر ابن عباس المتقدم، قال: «وفي سند الحديث حجاج المصيصي، اختلط في أواخر عمره، وعطاء ضعفه البخاري، وعكرمة مختلف فيه»، فهو كلام جاهل، ليس له حظ ولا نصيب من هذا العلم، كما أنه لا له حظّ ولا نصيب من معرفة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح:
فقوله: «حجاج المصيصي اختلط في أواخر عمره»: يقال عنه: ذكر ذلك بعض العلماء، كما في ترجمته في «تهذيب الكمال» (5/456) و«تهذيب التهذيب» (2/181).
وهذا لا يؤثر على حديثه مطلقًا؛ لأنه إنما قيل إنه تغير لما رجع إلى بغداد، وحديثه عن ابن جريج ليس من ذلك.
وقد سمع التفسير من ابن جريج إملاءً، كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل، قال أحمد: «ولم يكن مع ابن جريج كتاب التفسير، فأملى عليه».
وقد قال يحيى بن معين: «قال لي المعلى الرازي: قد رأيت أصحاب ابن جريج بالبصرة، ما رأيت فيهم أثبت من حجاج»، قال يحيى: «وكنت أتعجب منه، فلما تبينت ذلك، إذا هو كما قال، كان أثبتهم في ابن جريج».
وقال أبو مسلم المستملي: «خرج حجاج الأعور من بغداد إلى الثغر في سنة تسعين ومائة»، قال: «وسألته، فقلت: هذا التفسير سمعته من ابن جريج؟ فقال: سمعت التفسير من ابن جريج، وهذه الأحاديث الطوال، وكل شيء قلت: حدثنا ابن جريج، فقد سمعته».
وأما قوله: «وعطاء ضعَّفه البخاري»، فهذا غير ناهض لتضعيف عطاء الخراساني:
فتضعيف البخاري لرجلٍ ما لا يدل على ضعفه مطلقًا، وأنه لا يحتج بحديثه، فقد وثق عطاء أئمة ثقات أثبات لهم قدرهم في هذا الشأن.
قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: «ثقة».
وقال ابن معين: «ثقة».
ووثقه أيضًا الدارقطني.
وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة، معروف بالفتوى والجهاد».
وقد خرج البخاري لعطاء في «صحيحه» في تفسير سورة نوح، ولكن اختلف العلماء رحمهم الله في عطاء، هل هو ابن أبي رباح أم الخراساني؟ جاء عند عبد الرزاق في «تفسيره» التصريح بأنه الخراساني.
والحاصل أن عطاء الخراساني ممن يحتج بحديثه، كما عليه أكثر أئمة الحديث ونقاده، والله أعلم.
وأما قوله: «وعكرمة مختلَف فيه»: فهذا شغب لا طائل تحته، فالاختلاف في توثيق الراوي ليس تضعيفًا له.
وعكرمة: ثقة حافظ، خرج له البخاري في الأصول، والأربعة، وروى له مسلم مقرونًا، وقد روى عن جماعة من الصحابة.
ووثَّقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: «ليس أحدٌ من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة».
وقد تكلم بعضهم في حديث عكرمة، فقيل: سبب ذلك لرأي رآه عكرمة، وإلا، فهو حجة في الحديث، والكلام الذي قيل فيه لا يطعن في حديثه، وما كل راوٍ يتكلم فيه يطرح حديثه، فلا بد من النظر والوقوف على كلام الجارح، هل هو مؤثر، أم غير مؤثر؟
والحاصل أن عكرمة حجة في الحديث، وشغب الكوثري ممَّا لا يقام له وزن، ولم يبْنِ كلامه على قواعد وأسس سليمة، إنما يلقي الكلام على عواهنه، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما»: يقال عنه:
إن مراد القاضي أبي يعلى بقوله: العين صفة زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته النفاة؛ لأن النفاة يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، والسلف يخالفونهم في ذلك، فيثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما صحَّت به الأحاديث.
وإن كان اللفظ والقول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أو غير زائدة غير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام، ويحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
ولكن مراد أهل الإثبات بقولهم: «صفة زائدة على الذات»، أي: زائدة على ما أثبته النفاة، وهذا المعنى حق، خلافًا لأهل البدع الذين ينكرون صفات الله تعالى أو يُحرفونها، ولا يثبتون لله تعالى، لا وجهًا، ولا سمعًا، ولا بصرًا، ولا عينين... ولا غير ذلك من الصفات الذاتية، ولا كثيرًا من الصفات الفعلية، فقد شبهوا معبودهم وربهم بالناقصات، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وأما عيب ابن الجوزي على أبي يعلى وابن خزيمة، فليس في محله، وهذا العيب في الحقيقة إنما يقع على من دلَّ الأمة على أن لله عينين، فليس ابن خزيمة أول من ذكر العينين لله تعالى حتى يخص بالإنكار، ولو تفكر في ذلك أهل الأهواء؛ لعلموا فساد عقولهم وتناقضهم واضطرابهم، ولعلموا أنهم في الحقيقة إنما يطعنون على من جاء بإثبات العينين لله تعالى حقيقة ودعا الناس إلى الإيمان بذلك.
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: قد تقدم ذكر الأدلة على إثبات العينين لله تعالى، وليس في إثباتهما ابتداع في الدين، إنما الابتداع هو نفيهما عن الله، ووصف الله تعالى بالنقائص، وهذا أصل التعطيل.
وقول ابن الجوزي: «وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: إن دليل الخطاب في هذا الموضع حجة، وقد أجمع عليه العلماء، وأثبتوا لله عينين.
وقد تقدم إثبات الوجه لله تعالى وغيره من الصفات بنصوص قطعية متواترة، ومع ذلك أنكرها ابن الجوزي وصرفها عن ظاهرها بحجج عقلية متهافتة مضطربة، يستحي العاقل من ذكرها، فليس قوله: «من دليل الخطاب»: هو المانع له من إثبات العينين لله تعالى، فالله المستعان.
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، ص 134-144).
الشبهة(3) : تأويلهم صفة اليد
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص114)، على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]:
«اليد في اللغة بمعنى النعمة والإِحسان، قال الشاعر:
مَتَى تُناخِي عِنْدَ بابِ بَنِي هَاشِـــمٍ تُرِيْحِي فَتَلْقــَيْ مِنْ فَواضــِلِهِ يَدا
ومعنى قول اليهود: { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليدُ: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد.
وقوله تعالى: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي : نعمته وقدرته.
وقوله: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، أي: بقُدْرتي ونعمتي.
وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فوقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية10]: «أي: منته وإحسانه».
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان بالدين» ا هـ.
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.
وقال ابن عقيل: «معنى الآية: لما خلقت أنا، فهو كقوله: { ذلِكَ بما قَدَّمَتْ يداكَ} [الحج: الآية10]، أي: بما قدمت أنت».
* أقول مستعينًا بالله تعالى لكشف هذه الأباطيل: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته، فلا يجوز العدول عن ذلك، إلا إن كانت هناك قرينة تمنع الحمل على الحقيقة.
الوجه الثاني: أن حمل الكلام على ما يجوز في اللغة، وترك ظاهر الكلام، يؤدي إلى خلل ولبس في فهم المراد، ومن ثَمَّ لا يحصل ضبط كلام متكلم إلا بالاستفسار عن مراده ومقصده، وهذا خلاف ما عليه المسلمون قديمًا وحديثًا، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق.
الوجه الثالث: أن حمل صفات الرب جل وعلا على المعاني اللغوية أو على المجاز دون الحقيقة يقتضي تعطيل الرب جل وعلا عن صفات الكمال، فلا يثبت له علم ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا غير ذلك مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الرابع: أن حمل الكلام على غير حقيقته يقتضي أن الله جل وعلا يخاطب العباد بما لا يفهمون، أو بما ظاهره غير مراد.
الوجه الخامس: أنه وإن جاز في اللغة إطلاق اليد على النعمة أو القوة في بعض المواضع، فلا يصح أن يجعل هذا الإطلاق عامًّا في كل شيء:
فقوله تعالى: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: لا يصح أن يقال: لما خلقت بقدرتي أو بنعمتي؛ لأن نعم الله متعددة، وليست محصورة في نعمتين، فإن هذا لا يقوله عاقل، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: الآية34، النحل: الآية 18].
وأما حمل اليدين في قوله تعالى: {لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75] على القدرة، فهذا أيضًا فاسد؛ لأن القدرة صفة واحدة، قال تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [البقرة: الآية 165].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن لفظ (اليدين) بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأنَّ من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: {إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر: الآية 2]، ولفظ الجمع في الواحد، كقوله: {الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ...} [آل عمران: الآية 173]، ولفظ الجمع في الاثنين، كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: الآية4]، أمَّا استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد، فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني: رجلين! ولا: عندي رجلان، ويعني به الجنس! لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد، فقولـه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ} [ص: الآية 75]: لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد...».
وممَّا يدل على فساد قول من زعم أن اليدين بمعنى القوَّة: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند اللهِ، على منابرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين...»، خرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1827) عند عبد الله بن عمرو.
قال ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 73): «هذا حديث ثابت باتفاق».
فهل يصح يا معطلة أن يقال: وكلتا قوتيه يمين؟!
فهل للقوة يمين؟!
فإن قلتم: نعم، خالفتم أهل العقول، وصرتم مع البله والجهال والحمقى والمغفلين!! وإن قلتم: لا، خصمتم، ووجب عليكم التسليم والانقياد وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة، وليس بعد ذلك إلا العناد، وبئس الزاد ليوم المعاد.
الوجه السادس: أنَّ قول ابن الجوزي: «ومعنى قول اليهود: { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليد القوة»: قولٌ غيرُ صحيح، بل هو باطل، ويبطله قوله تعالى بعد ذلك: {بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ} [المائدة: الآية 64]، فلا يصح أن يقال: نعمتاه مبسوطتان؛ لأن نعم الله تعالى ليست محصورة في نعمتين إجماعًا ضروريًّا، فثبت أن المراد: إثبات اليدين لله تعالى حقيقيتين، كما أجمع على ذلك أهل العلم والإيمان، ولا أعلم أحدًا نازع في ذلك إلا أهل البدع والضلال، الذين لم يستضيئوا بالكتاب ولا بالسنة على فهم السلف الصالح.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: «وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل.
والدليل على نقض دعواه هذه أنَّ نعم الله كثيرة لا يُحصيها إلا الخالق البارئ، ولله يدان لا أكثر منهما، كما قال لإبليس عليه لعنة الله: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه، فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته، كان مبدِّلاً لكلام الله.
وقال الله عز وجل:{والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بَيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67]
أفلا يعقل أهل الإيمان أن الأرض جميعًا لا تكون قبضة إحدى نعمتيه يوم القيامة، ولا أن السماوات مطويات بالنعمة الأخرى؟!
ألا يعقل ذوو الحجا من المؤمنين أن هذه الدعوى التي يدَّعيها الجهمية جهلٌ أو تجاهلٌ شر من الجهل؟!
بل الأرض جميعًا قبضة ربنا جلَّ وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليدُ الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يسارًا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه.
وافهم ما أقول من جهة اللغة، تفهم وتستيقن أنَّ الجهمية مبدِّلة لكتاب الله لا متأولة قوله: {بَلْ يداهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64].
لو كان معنى اليد النعمة كما ادعت الجهمية، لقرئت: بل يداه مبسوطة، أو: منبسطة؛ لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمه نعمتين لا أكثر، فلما قال الله عز وجل: {]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ} [المائدة: الآية 64]؛ كان العلم محيطًا أنه ثبت لنفسه يدين لا أكثر منهما، وأعلم أنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
والآية دالة أيضًا على أن ذكر اليد في هذه الآية ليس معناه النعمة:
حكى الله جل وعلا قول اليهود، فقال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}، فقال الله عز وجل ردًّا عليهم: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، وقال: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، وبيقين يعلم كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيْهِم}؛ أي: غُلَّت نعمهم، لا، ولا اليهود [أرادوا] أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: {يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ}، وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء...».
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: «أي: بقدرتي ونعمتي»: باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن القوة والنعمة لم تردا بلفظ التثنية.
الوجه الثاني: أنه لو صح ورود القدرة أو النعمة بلفظ التثنية، ففي هذه الآية باطل اتفاقًا؛ لأنه لا يكون لآدم خصيصة على غيره من سائر المخلوقات، فالكل مخلوقون بقدرة الله تعالى، فلا يكون هناك مزية لآدم على غيره، وهذا باطل باتفاق المسلمين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه...».
فقوله: «خلقك الله بيده»: صريح في تخصيص آدم بذلك، وإلا، لم يكن في قوله: «خلقك الله بيده»: فائدة؛ لأن كل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله سبحانه.
وكذلك حديث الشفاعة المخرج في «الصحيحين» من حديث أنس يدل على اختصاص آدم بكونه خلقه بيده، فإن فيه: «يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا!»، قال: «فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده...».
فحمل اليد هنا على القدرة أو النعمة من أعظم الإلحاد والتحريف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فكون المؤمنين يوم القيامة يأتون آدم ويقولون: «أنت أبو البشر، خلقك الله بيده...»: دليل ظاهر وبرهان لا ينازع فيه إلا جهمي على اختصاص آدم عن غيره، وأن الله خصه بكونه خلقه بيديه.
الوجه الثالث: قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: «إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: يأبى حمل الكلام على القدرة؛ لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدَّى الفعل إلى اليد، ثم ثنَّاها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك: كتبت بالقلم، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه.
بخلاف ما لو قال: عملت، كما قال تعالى:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: الآية 182]، و{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، فإنه نسب الفعل إلى اليد ابتداء، وخصَّها بالذكر؛ لأنها آلة الفعل في الغالب.
ولهذا؛ لما لم يكن خلقُ الأنعام مساويًا لخلق أبي الأنام، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنعاماً} [يس: الآية 71]، فأضاف الفعل إلى الأيدي، وجمعها، ولم يدخل عليها الباء، فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر.
ويتضمنُ التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام، وهذا من أبطل الباطل، وأعظم العقوق للأب، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق بالدين..».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/366): «.. أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدَّى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فإنه نصٌّ في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلَّم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت: كافٍ في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة، كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة.
ولستَ تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو: فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد، والفعل وقع بغيرها».
الوجه الثامن: أن قول ابن الجوزي: «وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين»:
يجاب عنه فيقال: لو فرضنا أنَّ النقل عن الحسن صحيح – ولا أخاله يصح-، فلا يدل على نفي اليدين عن الله تعالى؛ لأن تفسيره هذه الآية باللازم لا يدل على نفيه الصفة عن الله تعالى مطلقًا في كل المواضع كما فعل النفاة من الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة.
وقول ابن الجوزي: «هذا كلام المحققين»: غير صحيح، فالتحقيق أن هذه الآية تدل كغيرها من الآيات على إثبات صفة اليد الله تعالى حقيقة، وتأويلها بالمنة أو النعمة تأويل لا دليل عليه سوى الظن والتخمين، وكلام المحققين على خلافه.
قال أبو الحسن الأشعري في «الإبانة»: «فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، وقوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيَّ} [ص: الآية 75]».
وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في (باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا): «والبيان أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}؛ فكذَّبهم في مقالتهم، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} [المائدة: الآية 64]، وأعلمنا أن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67]، و{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]....».
وقال رحمه الله تعالى في (باب ذكر سنة سابعة تثبت يد الله): «والبيان أن يد الله هي العليا، كما أخبر الله في محكم تنزيله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : الآية 10]، فخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أن: «يد الله هي العليا»، أي: فوق يد المُعْطَى والمعطِي جميعًا».
وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري وابن خزيمة في إثبات صفة اليدين لله تعالى حقيقة، أخذًا من نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : الآية 10]: هو الصواب، فإضافة اليد إلى الله في قوله: { يَدُ اللهِ}: لا تدل إلا على إثبات الصفة حقيقة، ويبطل ذلك تأويلها بالمنة أو الإحسان أو غير ذلك من التأويلات الباطلة.
الوجه التاسع: أن قول ابن الجوزي: «وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين» ا هـ، قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه»:
يجاب عنه فيقال: إن ما ذكره أبو يعلى رحمه الله من إثبات اليدين لله تعالى هو قول جميع علماء السلف، فلا تثريب على أبي يعلى، فإنه لم ينفرد بهذا القول، ولم يقله برأيه، فقد دلَّ الكتاب والسنة على صحة هذا القول، وعلى فساد ما عداه.
وقد قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى في كتاب «الشريعة» (ص323): «يقال للجهمي – الذي ينكر أن الله عزَّ وجل خلق آدم بيده -: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة..».
أقول: وقد تقدمت الأدلة من القرآن على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة في مواضع متفرقة، وأجهزنا على تحريف من حرفها أو تأولها على غير التأويل المأثور عن السلف.
وأمَّا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فهي كثيرة جدًّا:
منها: ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 2759) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله عز وجل يبسط يَدَهُ بالليلِ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
وروى الإمام البخاري في «صحيحه» (3/ 278) من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب -، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مِثْلَ الجبل».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (رقم 1014) من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب-، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله».
فقوله: «أخذها الرحمن بيمينه»: ينفي ويبطل تأويل من تأول ذلك بالنعمة أو القدرة.
وفي هذا الحديث أيضًا إثبات الكف لله تعالى.
والحديث قال عنه ابن منده رحمه الله: «ثابت باتفاق، وله طرق عن أبي هريرة...».
وروى الإمام البخاري (8/551- فتح) ومسلم (رقم 2787) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقبض اللهُ الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟».
وروى الإمام مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: «يأخذ الجبَّار عزَّ وجل سماواته وأرَضيه بيدَيْهِ».
وروى البخاري (13/ 393- فتح) ومسلم (رقم 993) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدُ اللهِ ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده؟»، وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان؛ يخفض ويرفع».
وهذه الأحاديث وما في معناها من الأحاديث الدالة على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة ممَّا لم نذكره قد تلقاها أهل المشرق والمغرب بالقبول، وقابلوها بالتسليم، ولم ينكرها منكرٌ منهم، وأنكرها الجهمية وأشباههم، فخالفوا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فكذبوا بالحق، وصدقوا بالباطل.
قال الإمام السجزي في «رسالته لأهل زبيد» (ص 173): «وأهل السنة متفقون على أن لله سبحانه يدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر، قال الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وكلتا يدي الرحمن يمين...».
وتأويل من تأول اليدين بمعنى القدرة أو النعمة جهل وضلال.
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص 33) بعد أن ذكر جملة من الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى:
«وفي هذا الباب أحاديث كثيرة تركناها مخافة التطويل، وفيما ذكرنا من ذلك بيان بيِّن ودلالة ظاهرة في تثبيت يدي الله أنهما على خلاف ما تأوَّله هذا المريسي الضال، الذي خرج بتأويله هذا من جميع لغات العرب والعجم، فليعرض هذه الآثار رجلٌ على عقله: هل يجوز لعربي أو عجمي أن يتأول أنها أرزاقه وحلاله وحرامه؟!
وما أحسب هذا المريسي إلا وهو على يقين من نفسه أنها تأويل ضلال ودعوى محال، غير أنه مكذب الأصل، متلطف لتكذيبه بمحال التأويل، كيلا يفطن لتكذيبه أهل الجهل، ولئن كان أهل الجهل في غلط من أمره، إن أهل العلم منه لعلى يقين، فلا يظنن المنسلخ من دين الله أنه يغالط بتأويله هذا إلا من قد أضله الله، وجعل على قلبه وسمعه وبصره غشاوة.
ثم إنَّا ما عرفنا لآدم من ذريته ابنًا أعق ولا أحسد منه، إذ ينفي عنه أفضل فضائله وأشرف مناقبه، فيسوِّيه في ذلك بأخس خلق الله؛ لأنه ليس لآدم فضيلة أفضل من أن الله خلقه بيده من بين خلائقه، ففضَّله بها على جميع الأنبياء والرسل والملائكة، ألا ترون موسى حين التقى مع آدم في المحاورة، احتج عليه بأشرف مناقبه، فقال: «أنت الذي خلقك الله بيده»، ولو لم تكن هذه مخصوصة لآدم دون مَنْ سواه، ما كان يخصه بها فصيلة دون نفسه، إذ هو وآدم في خلق يدي الله سواء في دعوى المريسي، فلذلك قلنا: إنه لم يكن لآدم ابن أعق منه، إذ ينفي عنه ما فضَّله الله به على الأنبياء والرسل والملائكة المقربين..».
الوجه العاشر: أنَّ قول ابن الجوزي: «وقال ابن عقيل: معنى الآية: لما خلقتُ أنا، فهو كقوله: {ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، أي: بما قدَّمتَ أنت»: يجاب عنه بأن يقال:
لا إله إلا الله واللهُ أكبر! ما أعظم هذا التحريف وأقبحه وأبشعه! وواللهِ؛ ما يرضى الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا التحريف الباطل، ومعنى الآية ظاهر وواضحٌ كل الوضوح، لا خفاء به ولا لبس، ففيها إثبات اليدين لله تعالى حقيقة.
وزعم أن المعنى: «لما خلقت أنا»: تكلفٌ وصرف للمعنى الصحيح بلا برهان، فدخول الباء في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: نص صريح في أن الله جلَّ وعلا خلق آدم بيديه حقيقة، واليدان من صفات الرب جل وعلا الذاتية، ولو كان المعنى على ما تقول المعطلة: لما خلقت أنا!! لما كان لآدم خصِّيصة على غيره، ولكان قول موسى لآدم: «أنت الذي خلقك الله بيده»: لا معنى له، ومثلُ هذا ينزه عنه موسى كليم الرحمن.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/ 366): «ولا يجوز أن يكون: لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل، كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، و{قَدَّمَتْ أَيْدِيْكُمْ} [آل عمران: الآية 183]، ومنه قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنْعامًا} [يس: الآية 71]...».
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، 145-159).
الشبهة(4) : تأويلهم صفة الساق والقدم
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص 118، على قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: الآية 42] ):
«قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء: يكشف عن شدَّة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق، وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمَّرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أنَّ الرجل إذا وقع في أمرٍ عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدَّة، وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون، وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدَّته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى «يكشف عنها»: يزيلها...».
قال ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في «يضع قدمه في النار»...».
قال ابن الجوزي: «قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض...».
* أقول: وجواب هذا الكلام من وجهين: مجمل، ومفصل:
فأمَّا المجمل، فإنه يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، فمن ثَمَّ كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أساس الإيمان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبين هذا الباب بيانًا عامًّا، فعلمه الخاص والعام، ولم يستنكر أحد منهم شيئًا من هذا الباب، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جلَّ وعلا يقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، كما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا.
وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، ولكن أهل الأهواء والضلال لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ} [الشورى: الآية11]، فمن شبَّه الله بخلقه، فهو كافر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافرٌ أيضًا.
ومما لا نزاع فيه بين علماء السلف أنه ليس في إثبات الصفات لله جل وعلا تشبيه ولا تمثيل، إنما التمثيل والتشبيه يقع ممن نفى عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الصفات التي يُوصف به الرب جل وعلا وشرق بها أهلُ البدع ولم يثبتوها لله تعالى صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهًا للخالق بالمخلوق، وهذا ضلال عظيم، وإفك مبين، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد دلّت سنته الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد أن الساق يثبت لله تعالى، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تشبه الذوات، كذلك نقول في صفات الله تعالى، كالساق وغيرها: إنها لا تشبه الصفات؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات، وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا حقيقة الإيمان، والبراءة من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحَّت بها النصوص كالساق من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاء بالكتاب والسنة، وننعى عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه.
وما جاء عن ابن عباس، أنه قال: «يريد القيامة والساعة لشدَّتها»، فقد ضعَّفه بعض العلماء وصححه آخرون.
ومن أمثل أسانيد ما جاء عن ابن عباس ما رواه الفرَّاء في كتابه «معاني القرآن» (3/177)، قال: «حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قرأ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: الآية 42] ، يريد القيامة والساعة لشدَّتها..».
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة، لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية بما يخالف ما قاله ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن الآية تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى على القول الصحيح.
يدل على ذلك ما رواه الدارمي في «سننه» (2/326) من طريق ابن إسحاق، قال: أخبرني سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله العباد بصعيد واحد، نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، فيلحق كلُّ قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم، فيقول: ما بالُ الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا، عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}[القلم: الآية 42]، ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة...».
سنده حسن، فإن محمد بن إسحاق صدوق، وحديثه من قبيل الحسن إذا صرَّح بالسماع، وهنا صرَّح بالسماع، وباقي رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض.
والحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت على الآية، فقوله: «فيكشف لهم عن ساقه»: صريح في إثبات الساق لله؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدَّة قطعًا.
وقوله: «وذلك قول الله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ..}[القلم: الآية 42]»: ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
يؤيده ما رواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 40) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: الآية42] ». قال: «يكشف الله عزَّ وجلَّ عن ساقه».
فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أنَّ الآية من آيات الصفات، وأن المراد منها: إثبات صفة الساق لله جل وعلا.
وجاءَت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في «صحيحه» (8/ 663 – الفتح، باب يوم يكشف عن ساق): حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهرهُ طبقًا واحدًا».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (3/ 25-27 – نووي) بلفظ: «فيكشف عن ساق»، والمعنى واحد على كلا اللفظين.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/ 520) والطبراني في «الكبير» (9/ 417) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال:
«يجمع اللهُ الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا، أربعين سنة، شاخصة أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء».
قال: «فينزل الله عز وجل في ظللٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا».
قال: «فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون».
قال: «ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عُزيرًا شيطان عُزير، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته».
قال: «فيتمثل الرب جلَّ وعزَّ، فيأتيهم، فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ يقولون: إنَّ لنا إلهًا، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة، إذا رأيناه، عرفناها، فيقول: ما هي؟ يقولون: يكشف عن ساقه».
قال: «فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخر كل من كان بظهره طبق، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون..» الحديث.
وسنده ممَّا تقوم به الحجة.
وقد قال الذهبي رحمه الله في كتابه «العلو» (ص 73): «إسناده حسن».
وقال في «الأربعين» (ص122): «وهو حديث صحيح».
والحديث رواه الحاكم في «مستدركه» (4/ 589) وابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (2/ 583-584) كلاهما من طريق أبي خالد الدالاني، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، به.
وقال الحاكم عقبه: «رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في «الصحيحين»، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمَّا الأئمة المتقدمون، فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح، ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة».
أقول: وقد تُوبع الدالاني في الرواية عن المنهال، تابعه زيد بن أبي أنيسة – كما تقدم – عند عبد الله بن أحمد والطبراني.
وزيد ثقة، وثقة ابن معين وابن سعد وغيرهما.
فمنه يتبين ثبوت الحديث وحجيته.
وقد صححه المنذري رحمه الله في «الترغيب والترهيب» بعدما عزاه لابن أبي الدنيا والطبراني.
وروى ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (2/ 428-429) من طريق سفيان، قال: ثنا مسلمة – وهو ابن كهيل -، عن أبي الزعراء، قال: ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: «تفترقون أيُّها الناس عند خروجه ثلاث فرق...»، فذكر الحديث بطوله، وقال: «ثم يتمثل الله للخلق، فيلقى اليهود، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقول: سبحانه، إذا اعترف لنا، عرفناه، فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خرَّ لله سجدًا».
وهذا موقوف حسن، وله حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد.
والحاصل أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.
وأما الجواب المفصَّل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، «أي: يكشف عن شدَّة»: قولٌ غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنَّة، علم خطأ هذا القول وبطلانه.
الوجه الثاني: أننا لو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل هذا على صحة قولهم وبطلان ما عداه، فليس كلُّ قول يذهب إليه الجمهور يكون صوابًا، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، إنما يعرف بالأدلة والبراهين، وقد أوردنا فيما تقدم أدلة صحيحة لا معارض لها تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى.
ثم إنه يقال أيضًا: لو صحَّ ما زعمه ابن الجوزي، فلا يدل أيضًا على نفي الجمهور صفة الساق عن الله تعالى، وإنما هو أمرٌ ظهر لهم في معنى الآية ليس غير، بخلاف أهل البدع، فلا يثبتون لله تعالى صفة الساق مطلقًا، لا من الكتاب، ولا من السنة.
الوجه الثالث: أن تفسير الساق بالشدة غير صحيح، يبطله ما رواه ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 37) من طريق عبد الرزاق، أنبا الثوري، عن مسلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، في قوله جلَّ وعز: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، قال: «عن ساقيه».
قال أبو عبد الله: «هكذا في قراءة ابن مسعود، و[يكشف]: بفتح الياء وكسر الشين».
فلا يصح أن يقال: يكشف عن شدتيه!!
الوجه الرابع: أن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَت الشدَّة عن القوم لا كُشِف عنها! كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف: الآية 50]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون: الآية 75]، فالعذاب والشدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
وأيضًا، فهناك تحدث الشدَّة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يُدعون إلى السجود، وإنما يُدعون إليه أشدَّ ما كانت الشدة».
الوجه الخامس: قال شيخ الإسلام رحمه الله في «نقض أساس التقديس» (الجزء الثالث): «إن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساق بأنه إظهار الشدَّة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون، يكشف لهم عن ساقه، فيسجدون له، فإذا تأوَّلوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة».
الوجه السادس: أن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يَرِد ما يخرجها عن ذلك، فقوله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، دليل على إثبات الساق لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: الآية 11].
فحقيقة اللفظ إثبات الساق لله تعالى، فلا يعدل عن ذلك إلا بدليل، وليس عند أهل البدع من الأدلة سوى دعوى مشابهة المخلوق للخالق، ولو عقلوا، لعلموا أن قولهم هو التشبيه.
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: «هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدته»: قولٌ مردود، مخالف لمذهب السلف، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فالحديث على ظاهره فيه إثبات الساق لله تعالى، فيجب إثباته كإثبات سائر صفاته، دون تحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل.
وهذا حقيقة الإيمان: إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.
الوجه الثامن: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»، قلت (القائل ابن الجوزي): وذكر الساق مع القدم تشبيه محض».
أقول: وهذا الكلام ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض:
فقوله: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية»:
أقول: هذا حق، فإن الأدلة كتابًا وسنة تدل عليه، فمن أنكره، فإنما ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة الذين نقلوا لنا ذلك.
وقوله: «وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»:
أقول: وهذا أيضًا من الحق الذي يجب اعتقاده والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية، التي يجب الإيمان بها، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل.
ففي «صحيح البخاري» (8/ 594 – فتح، و13/ 368 – فتح) ومسلم (رقم 2848) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تزالُ جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ربُّ العزَّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط! قط! وعزَّتك، ويزوي بعضها إلى بعض».
قوله: «قدمه»: الهاء تعود على الرب جل وعلا.
والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله تعالى.
وروى الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» (8/ 595- فتح) ومسلم (رقم 2846) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنَّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أُعذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها: فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحدًا، وأمَّا الجنة، فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا».
وروى: ابن أبي شيبة في كتاب «العرش وما رُوي فيه» (ص79)، والدارمي في «رده على بشر المريسي» (ص67)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/301)، والدارقطني في «الصفات» (ص49)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 282)، وغيرهم، بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «نقضه»: «صحيح مشهور».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه».
وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي، لا يقال من قبل الرأي، ولا مجال للاجتهاد فيه.
فيؤخذ منه إثبات القدمين لله تعالى، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية11].
قال أحمد بن حنبل: «أحاديث الصفات تمر كما جاءت».
فمن حرفها وتأولها، فقد سلك مسلك النفاة الجهمية، ومن أنكرها، فهو على شفا جرفٍ هارٍ.
قال الإمام الثقة حماد بن سلمة – وقد كان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع -: «من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث، فاتهموه على الدين».
وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى – وذكر عنده أن الجهمية ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا!! فقال عبد الرحمن بن مهدي: «قد هلك قوم من وجه التعظيم، فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يُرسل رسولاً، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 91]».
ثم قال: «هل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أن نعبده! ولكن نعبد من هو أقرب إليه منا، فعبدوا الشمس، وسجدوا لها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: الآية 3]».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وذكر الساق مع القدم تشبيه محض»، فهذا قول جاهل لا يفهمُ من صفات الخالق إلا ما فهمه من صفات المخلوق، وقد تقدم إبطال هذا القول العليل الفاسد، الناشئ من التشبيه الخالص، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي (ص 120):
«قال ابن حامد: يجب الإيمان بالله لله تعالى ساقًا صفةً لذاته، فمن جحد ذلك كفر.
قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف بمن ينسب إلى العلم؟! فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة».
* أقـول:
هذا الكلام يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن حامد: «يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقًا صفة لذاته»: قول صحيح، والأدلة من الكتاب والسنة تؤيده وتنصره، والمخالف في ذلك مستحق للذم؛ لأنه لم يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: الآية 65]، فليس – والله – لمن عطَّل الله عن أسمائه وصفاته أو حرَّفها حظ ولا نصيب من هذا التحكيم المأمور به.
الوجه الثاني: أن إنكار ابن الجوزي على ابن حامد في قوله: «فمن جحد ذلك كفر»: إنكار في غير محله؛ لأن من أنكر آية من كتاب الله، فقد أنكر الكتاب كلَّه وكفر بذلك، ومن أنكر حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أنكر الحديث كلَّه وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وكلام العلماء كثير في ذلك.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: الآية 85].
قال الإمام البربهاري رحمه الله: «ومن ردَّ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ردَّ الأثر كله، وهو كافرٌ بالله العظيم».
وقال الإمام إسحاق بن راهويه: «مَن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر».
ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه «الإحكام»(1/ 97) عن محمد بن نصر المروزي عنه
وقال أبو معمر الهذلي: «من زعم أن الله لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)، فهو كافرٌ بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفًا، فألقوه فيها».
وهذا كله في تكفير العموم، وأنَّ من قال كذا، فحكمه كذا، ولا يلزم منه تكفير المعيَّن، حتى تقوم عليه الحجة؛ لأن الجاهل والمتأوِّل لهما حكمهما.
وما تقدَّم ذكره عن الأئمة يمكن حمله أيضًا على المصر بالباطل، المعاند، المعرض عن أدلة الكتاب والسنة، الصادّ عنهما.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» (ص127):
واشْهَدْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُكْفِرو --نَكُمُ بِما قُلْتُمْ مِنَ الكُفْرانِ
إِذْ أَنْتُمُ أَهْلُ الجَهَالَةِ عِنْدَهُمْ -- لَسْتُمْ أُوْلِي كُفْرٍ وَلا إِيْمانِ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الكُفْرانِ بَلْ -- لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الإِيْمانِ
إِلاَّ إذَا عانَدْتُمُ وَرَدَدْتُمُ -- قَوْلَ الرَّسولِ لأِجْلِ قَوْلِ فُلانِ
فَهُناكَ أَنْتُمْ أَكْفَرُ الثَّقَلَيْنِ مِنْ -- إِنْسٍ وَجِنٍّ ساكِنِي النِّيرانِ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «المنهاج» (5/ 240): «قد ينقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده: أن هذا القول كفر، ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفَّر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع...».
وقال رحمه الله في «المسائل الماردينية» (ص71): «وحقيقة الأمر في ذلك أنَّ القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: الآية10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعيَّن من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون لهن حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها...».
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة»: يقال عنه:
إن صرف المتأوِّلين الكلام عن حقيقته وردهم الأمر إلى اللغة في كل شيء ليس منهجًا مستقيمًا ولا مسلكًا صحيحًا، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه.
وفي كثير من صفات الله تعالى يزعم أهل التعطيل أن اللغة تدل على كذا وتومئ إلى معنى كذا، فإذا نظرْنا في كلام أهل اللغة، لم نجد عالمًا منهم قال بهذا القول الذي يزعمونه، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه : الآية 5]: المعطلة يقولون: {استوى}، بمعنى: (استولى)، وأهل اللغة واللسان العربي لا يعرفون {استوى} بمعنى (استولى)، فالمعطلة جهلة بأمر الله، جهلة باللغة العربية، كذبة في النقل.
ثم إن ردَّ المعطلة الأمرَ إلى اللغة يقتضي تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم من أعلم الناس باللغة، وأفهمهم لمعانيها، ولم يفعلوا فعل المؤوِّلين المحرفين الذين يتلاعبون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدَّعون أنَّ ذلك ممَّا توجبه اللغة، فلو كان ذكر الساق في حق الله يعني به الشدَّة، أو القدم يعني به الموضع، أو الضحك يعني به الرضى، لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا لأهمية هذا الباب، ولما أحال الأمة على فهومهم، مع تباينها واختلافها.
والحاصل أنَّ الأصل في الكلام عند جميع العقلاء يراد به الحقيقة، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل.
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة»: يقال عنه:
إن من أثبت لله تعالى الساق والقدم إنما أثبتهما بأدلة جلية نقلية من الكتاب والسنة، فالكتاب دلَّ على أن لله ساقًا، فيجب إثباته لله تعالى دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، والسنة أيضًا دلَّت على إثبات الساق والقدم لله تعالى، وهاتان الصفتان من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى.
وهذا قول جميع علماء السلف، فلا أعلم بينهم نزاعًا في إثبات هاتين الصفتين، وكذلك سائر ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن زعم أنَّ إثبات الساق والقدم لله تعالى تجسيم، فقد أعظم على الله الفرية، وقال ما لا علم له به، وهذا أصل الضلال:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: الآية 33].
وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: الآية 36].
وليس – ولله الحمد – فيما وصف اللهُ به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيه ولا تجسيم، إنَّما التشبيه في نفي صفات الله تعالى ووصفه بالعَدَمِ، كما عليه أهل التعطيل، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقِّبون أهل السنة الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وعضوا عليها بالنواجذ بالمجسمة والمشبهة.
فإذا كان وصف الله جلَّ وعلا بالساق والقدم والصورة والوجه والسمع والبصر والعينين تشبيهًا، فمرحبًا بالتشبيه، فالأسماء لا تغير الحقائق عندنا.
ولكن معاذ اللهِ أن يكون وصف الله بذلك تشبيهًا، إنما التشبيه أن يقال: قدم كقدمي! وساق كساقي! ويدٌ كيدي! والسلف ينكرون هذا ويكفِّرون قائله، أمَّا إثبات الصفات لله تعالى على ما يليق به مع نفينا لصفاته أن تكون مماثلة لصفات المخلوقين، فهذا مسلك الأنبياء والمرسلين.
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، ص 160-180) .
الشبهة(1) : تأويلهم صفة الوجه
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه" (ص113):
«قال الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية 27]، قال المفسرون: معناه: يبقى ربك، وكذا قال في قوله: { يُريدُونَ وجَهْهُ} [الأنعام: الآية 52]، أي: يريدونه، وقال الضحَّاك وأبو عبيدة في قوله: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]، أي: إلا هو، وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات.
قلت: فمن أين قالوا هذا، وليس لهم دليل إلا ما عرفوا من الحسيات؟! وذلك يوجب التبعيض، ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه.
وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا يجوز إثبات رأس.
قلت: ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ما ذكر هذا، فما أعوزه في التشبيه غير الرأس».
· والجواب عن هذه الشبهة من وجهين: مجمل ومفصَّل:
أما المجمل، فإنه يقال: قد دلَّ الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة وأئمتها على أن لله تعالى وجهًا كما أن له يدين وسمعًا وبصرًا وصورةً وعلمًا وحياةً وقدمًا، وغير ذلك ممَّا وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، فيجب إثبات الوجه لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية11]؛ فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تُشبه الذوات، فكذلك نثبت لله تعالى وجهًا لا شبيه له ولا نظير.
وقد نفى الجهمية وأشباههم من نفاة الصفات صفة الوجه عن الله تعالى، وحرَّفوا الكلم عن مواضعه، وأتوا بعبارات مجملة تحتمل حقًّا وتحتمل باطلاً، وقد أرادوا بها قطعًا معنى باطلاً؛ كي يلبسوا بها على الخلق.
وهذه الألفاظ المجملة يلهج بها أهل البدع لينفوا بها صفات الباري جل وعلا.
وبالاعتصام بكتاب الله وسنة رسول صلى الله عليه وسلم نجاة من أباطيلهم وشبههم.
وفي الأدلة من الكتاب والسنة الصحيحة شيء كثير ممَّا يرد على الجهمية وغيرهم من النفاة، ويدحض شبههم، ويقمع باطلهم:
قال تعالى: { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ} [القصص : الآية 88].
وقال تعالى: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن : الآية 27].
وفي «صحيح الإمام البخاري» رحمه الله (13/388) عن جابر بن عبد الله، قال: لما نزلت هذه الآية: {قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِكُمْ}، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك»، فقال: { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أعوذ بوجهك»، قال: { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً}، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:«هذا أيسرُ».
فهذا الحديث نص صحيح صريح في إثبات الوجه لله تعالى، وهو من الصفات الذاتية.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات صفة الوجه لله تعالى ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 179) عن أبي موسى، قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس كلمات، فقال: «إن الله عزَّ وجل لا ينام، ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يرفع إليه عمل الليل قبل عمل النهار، وعملُ النهار قبل عمل الليل، حجابه النور (وفي رواية أبي بكر: النار)، لو كشفه؛ لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه».
والجهمية تنكر هذا الحديث وما في معناه؛ فعموا وصموا.
والأشاعرة تحرفه وتتأوَّله بتأويلات فاسدة: إما بتفسير الوجه بالذات لتنفي صفة الوجه عن الله، وإمَّا بغير ذلك من التأويلات المستكرهة.
وهناك أيضًا من الأدلة الصحيحة المتلقاة بالقبول عند أهل العلم مما يثبت لله تعالى صفة الوجه ما يغيظ الجهمية والمعتزلة والأشاعرة وغيرهم من الطوائف الضالة:
ففي «صحيح البخاري» (13/423) و«مسلم» (رقم 180) من طريق أبي بكر بن عبد الله بن قيس، عن أبيه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «جنتان من فضَّة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم، إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن».
فقوله: «على وجهه»: فيه إثبات الوجه لله تعالى حقيقة.
وأهل الباطل تأوَّلوا هذا الحديث كما تأولوا غيره من الأحاديث الدالة على إثبات صفة الوجه لله تعالى، حتى قال عياض: «فمن أجرى الكلام على ظاهره؛ أفضى به الأمر إلى التجسيم...»!!
وهذا خطأ وغلط؛ فليس في إثبات الصفات لله تعالى تجسيم، فإن السلف يثبتون لله ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل.
والواجب على جميع الخلق التسليم والانقياد لكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى؛ فإنه من أعظم الضلال والإلحاد.
والذي لا يفهم من صفات الخالق إلا ما يفهمه من صفات المخلوق هو المجسم المشبه؛ فالله المستعان.
ومن الأدلة أيضًا على إثبات الوجه لله تعالى ما رواه أبو داود (1/124) بسند حسن من طريق عبد الله بن المبارك، عن حيوة بن شريح، قال: لقيت عقبة بن مسلم، فقلت له: بلغني أنك حدثت عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان إذا دخل المسجد، قال: «أعوذ بالله العظيم، وبوجهه الكريم، وسلطانه القديم، من الشيطان الرجيم»، قال: أقط؟ قلت: نعم، قال: «فإذا قال ذلك؛ قال الشيطان: حُفِظ مني سائر اليوم».
فقوله: «وبوجهه الكريم»: دليل على إثبات الوجه لله تعالى.
ويرد على زعم أن الوجه هو الذات بأن النبي صلى الله عليه وسلم استعاذ أولاً بالله العظيم، ثم استعاذ ثانيًا بوجهه الكريم، والعطف يدل على المغايرة.
والأحاديث والآثار عن الصحابة رضي الله عنهم في إثبات الوجه لله تعالى كثيرة، وقد خرَّجها كثير من أهل العلم في كتبهم، متلقين لها بالقبول، مقابلين لها بالتسليم، ولم يُنكرها أحد منهم.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» بعد أن ساق الآيات الدالة على إثبات الوجه لله تعالى، قال:
«فنحن وجميع علمائنا من أهل الحجاز وتهامة واليمن والعراق والشام ومصر مذهبنا أنا نثبت لله ما أثبته لنفسه، نقر بذلك بألسنتنا، ونصدق ذلك بقلوبنا، من غير أن نشبه وجه خالقنا بوجه أحد من المخلوقين، عزَّ ربنا عن أن يشبه المخلوقين، وجلَّ ربنا عن مقالة المعطِّلين، وعزَّ أن يكون عدمًا كما قاله المبطلون؛ لأن ما لا صفة له عدم، تعالى الله عمَّا يقول الجهميُّون الذين ينكرون صفات خالقنا الذي وصف بها نفسه في محكم تنزيله وعلى لسان نبيه محمد صلى الله عليه وسلم...».
وقال رحمه الله: «نحن نقول وعلماؤنا جميعًا في جميع الأقطار: إن لمعبودنا عزَّ وجلَّ وجهًا كما أعلمنا الله في محكم تنزيله...».
وأمَّا الجواب المفصَّل؛ فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ابن الجوزي قال علي قول الله تعالى: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 27]؛ قال: «قال المفسِّرون: معناه: يبقى ربك»: وهذا التعميم والإطلاق بأنه قول المفسرين خطأ؛ فهناك من المفسرين ممن قبل ابن الجوزي فسَّر الآية بغير ما ادَّعاه ابن الجوزي، مع أن الحق ليس محصورًا فيمن صنَّف كتابًا أو كتبًا في التفسير.
قال الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري رحمه الله في «تفسيره» على قوله تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ* وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [ الرحمن : الآيتان 26- 27] :
«يقول تعالى ذكره: كل من على ظهر الأرض من جن وإنس؛ فإنه هالك، ويبقى وجه ربك يا محمد ذو الجلال والإكرام، و{ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} من نعـت الوجـه؛ فلـذلك رفع {ذو}..».
هذا مذهب أهل التحقيق في تفسير هذه الآية، ومن فسَّر الوجه بالذات؛ فقد أخطأ وسلك مسلك الجهمية.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في «كتاب التوحيد» (1/51): «وزعم بعض جهلة الجهمية أن الله عز وجل إنما وصف في هذه الآية [نفسه] التي أضاف إليها الجلال بقولـه: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 78]، وزعت أن الرب هو ذو الجلال والإكرام، لا الوجه».
قال أبو بكر: «أقول – وبالله توفيقي-: هذه دعوى يدَّعيها جاهل بلغة العرب؛ لأن الله عز وجل قال: {وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}[الرحمن: الآية 27]: فذكر الوجه مضمومًا في هذا الموضع مرفوعًا، وذكر الرب بخفض الباء بإضافة الوجه، ولو أن قوله: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}: مردودًا إلى ذكر الرب في هذا الموضع؛ لكانت القراءة: (ذي الجلال والإكرام)؛ مخفوضًا، كما كان الباء مخفوضًا في ذكر الرب جلَّ وعلا.
ألم تسمع قوله تبارك وتعالى: {تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية78]، فلمَّا كان {الْجَلاَلِ} و{الإِكْرَامِ} في هذه الآية صفة للرب؛ خفض {ذِي} خفض الباء الذي ذكر في قوله: ]ربِّك[، ولما كان الوجه في تلك الآية مرفوعة التي كانت صفة الوجه مرفوعة؛ فقال: {ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ}، فتفهَّموا يا ذوي الحِجا هذا البيان الذي هو مفهوم في خطاب العرب، لا تغالطوا؛ فتتركوا سواء السبيل.
وفي هاتين الآيتين دلالة أن وجه الله صفة من صفات الله، صفات الذات، لا أن وجه الله هو الله، ولا أن وجهه غيره، كما زعمت المعطلة الجهمية؛ لأن وجه الله لو كان الله؛ لقرئ: (ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام)! فما لمن لا يفهم هذا القدر من العربية ولوضع الكتب على علماء أهل الآثار القائلين بكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم؟!».
وقال العلامة ابن القيم رحمه الله – كما في «مختصر الصواعق» (ص337)-: «إنه لا يعرف في لغة من لغات الأمم وجه الشيء بمعنى ذاته ونفسه، وغاية ما شبه به المعطل وجه الرب: أن قال: هو كقوله: وجه الحائط، ووجه الثوب، ووجه النهار، ووجه الأمر، فيقال لهذا المعطل المشبِّه: ليس الوجه في ذلك بمعنى الذات، بل هذا مبطل لقولك؛ فإن وجه الحائط أحد جانبيه؛ فهو مقابلٌ لدبره، ومثل هذا وجه الكعبة ودبرها؛ فهو وجه حقيقة، ولكنه بحسب المضاف إليه، فلما كان المضاف إليه بناء؛ كان وجهه من جنسه، وكذلك وجه الثوب أحد جانبيه، وهو من جنسه، وكذلك وجه النهار أوَّله، ولا يقال لجميع النهار، وقال ابن عباس: وجه النهار أوَّله، ومنه قولهم: صدر النهار، قال الأعرابي: أتيته بوجه نهار وصدر نهار، وأنشد للربيع بن زياد:
مَنْ كانَ مَسْرُورًا بِمَقْتَلِ مالِكٍ فَلْيَأْتِ نِسْـــوَتَنا بِوَجْـهِ نَهارِ
والوجه في اللغة: مستقبل كل شيء؛ لأنه أول ما يوجه منه، ووجه الرأي والأمر: ما يظهر أنه صوابه، وهو في كل محل بحسب ما يضاف إليه؛ فإن أضيف إلى زمن؛ كان الوجه زمنًا، وإن أضيف إلى حيوان؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى ثوب أو حائط؛ كان بحسبه، وإن أضيف إلى من { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى : الآية 11]، كان وجهه تعالى كذلك».
أقول: ولما كان ابن الجوزي مضطربًا في العقيدة؛ ففي بعض كتبه يؤول، وفي بعضها يثبت؛ فقد جاء عنه ما يدل على أنه يثبت الوجه لله تعالى؛ كما دلَّ على ذلك الكتاب والسنة.
قال في كتابه «مجالس ابن الجوزي» يرد على من أوَّل الوجه بالذات: «وقول المعتزلة: إنه أراد بالوجه الذات؛ فباطل؛ لأنه أضافه إلى نفسه، والمضاف ليس كالمضاف إليه؛ لأن الشيء لا يضاف إلى نفسه...».
وهذا حق، ولكن ابن الجوزي لم يثبت على هذا، والاضطراب ظاهر عليه في كتبه، فإنه لا يثبت على قدم النفس ولا على قدم الإثبات؛ فيثبت تارة وينفي تارة، وكثيرًا ما يفوض، كما صنع في «تلبيس إبليس»، فإنه قال (ص101):
«ومن الناس من يقول: لله وجه، هو صفة زائدة على صفة ذاته؛ لقوله عز وجل: {ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: الآية 26]، وله يد، وله إصبع؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يضع السماوات على إصبع»، وله قدم... إلى غير ذلك ممَّا تضمنته الأخبار، وهذا كلُّه إنما استخرجوه من مفهوم الحس، وإنما الصواب قراءة الآيات والأحاديث من غير تفسير ولا كلام فيها..».
الوجه الثاني: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب الذين أنكرنا عليهم إلى أن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، قلت (القائل ابن الجوزي): فمن أين قالوا هذا وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات؟!».
وجواب هذا أن يقال: إن القول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أم غير زائدة كلام مجمل، يحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
والألفاظ المجملة التي لم ترد لا في الكتاب ولا في السنة ولم يتكلم بها الصحابة توقع اللبس، وطريق السلامة التفصيل:
فمن أثبت الوجه لله تعالى وغيره من الصفات التي صحَّت بها النصوص، وقال: صفات الله زائدة على الذات؛ فمراده زائدة على ما أثبته نفاة الصفات؛ فإنهم يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، فلا يثبتون لله وجهًا ولا يدين ولا قدمًا ولا صورةً ولا كلامًا، بل لا يثبتون إلا ذاتًا مجردة عن الصفات، وهذا ضلال باتفاق علماء السلف؛ إذ لا توجد ذات مجردة عن الصفات، وأهل البدع يوردون الألفاظ المجملة تلبيسًا على الخلق؛ ليدركوا مرادهم من حيث لا يُشْعَر بمقصدهم، ولذلك لا يثبتون الوجه لله تعالى ولا غيره من الصفات، ويعيبون على من قال: إن الوجه صفة زائدة على الذات، مع أن مراد مَن قال في صفات الله: زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته نفاةُ الصفات.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (5/326): «وإذا قال مَن قال مِن أهل الإثبات للصفات: أنا أثبتُ صفات لله زائدة على ذاته، فحقيقة ذلك أنا نثبتها زائدة على ما أثبتها النفاة من الذات؛ فإن النفاة اعتقدوا ثبوت ذات مجردة عن الصفات، فقال أهل الإثبات: نحن نقول بإثبات صفات زائدة على ما أثبته هؤلاء، وأما الذات نفسها الموجودة، فتلك لا يتصور أن تحقق بلا صفة أصلاً، بل هذا بمنزلة من قال: أثبت إنسانًا لا حيوانًا ولا ناطقًا ولا قائمًا بنفسه ولا بغيره ولا له قدرة ولا حياة ولا حركة ولا سُكُون... أو نحو ذلك، أو قال: أثبت نخلة ليس لها ساق ولا جذع ولا ليف... ولا غير ذلك، فإن هذا يثبت ما لا حقيقة له في الخارج ولا يعقل؛ ولهذا كان السلف والأئمة يُسمون نفاة الصفات معطلة؛ لأن حقيقة قولهم تعطيل ذات الله تعالى، وإنْ كانوا هم قد لا يعلمون أنَّ قولهم مستلزم للتعطيل، بل يصفونه بالوصفين المتناقضين؛ فيقولون: هو موجود قديم واجب، ثم ينفون لوازم وجوده، فيكون حقيقة قولهم: موجود ليس بموجود! حق ليس بحق! خالق ليس بخالق! فينفون عنه النقيضين: إمَّا تصريحًا بنفيهما، وإمَّا إمساكًا عن الإخبار بواحد منهما..».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وليس لهم دليل إلا ما عرفوه من الحسيات»؛ فهذا جهل بالنصوص وبما عليه علماء السلف، فإنهم متفقون على إثبات صفة الوجه لله تعالى حقيقة.
وأما قول من قال من العلماء: إن الوجه صفة تختص باسم زائد على الذات، فمرادهم زائد على ما نفاه نفاةُ الصفات المعطلة، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه وما وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الثالث: أنَّ قول ابن الجوزي: «ولو كان كما قالوا، كان المعنى أن ذاته تهلك إلا وجهه»: يقال عنه: هذا جهل وقول فاسد، فإننا لو سلمنا أن المراد بقول الله تعالى: { كُلُّ شيءٍ هالِكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [القصص: الآية 88]؛ أي: إلا ذاته، أو: إلا هو، لم يكن في ذلك دليل على نفي الوجه عن الله تعالى؛ لأن النصوص كثيرة في إثبات الوجه لله تعالى، ولا عبرة بحثالة الجهمية والمعطلة الذين ينكرون ذلك، ويكون معنى الآية على ما قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (ص24): «ونفى عنه الهلاك إذا أهلك الله ما قد قضى عليه الهلاك ممَّا قد خلقه الله للفناء لا للبقاء، جلَّ ربنا عن أن يهلك شيء منه مما هو من صفات ذاته..».
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وقال ابن حامد: أثبتنا لله وجهًا، ولا نجوِّز إثبات رأس، قلت (القائل ابن الجوزي): ولقد اقشعرَّ بدني من جراءته على ذكر هذا، فما أعوَزه في التشبيه غير الرأس».
يجاب عنه، فيقال: إن من أثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولم يتجاوز القرآن والحديث الصحيح؛ فقد سلك الصراط المستقيم، واقتفى أثر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم إلى يوم الدين.
ومن أنكر ما وصف الله به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، أو حرَّف ذلك، أو اقشعرَّ جلده من ذلك استنكارًا؛ فقد ضلَّ عن الهدي القويم، وسلك مسلك النفاة من الجهمية والمعطلين.
وإن من أصول أهل السنة والجماعة: أن الله تعالى لا يوصف إلا بما وصف به نفسه، أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وهذا الأصل يجب التمسك به والعض عليه بالنواجذ، خصوصًا عند جِدال المبطلين، وتلبيس المماحلين، وتشبيه المشبهين.
فإذا علم هذا الأصل العظيم الذي لا يضل من تمسك به، فليعلم أنَّ النصوص جاءت صريحة صحيحة في إثبات الوجه لله تعالى، وقد تقدم بعضها، فمن أنكرها، فإنما ينكر على الله قوله وعلى الرسول صلى الله عليه وسلم خبره، وهذا من أعظم الضلال وأقبح الباطل.
قال تعالى: { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: الآية 65] .
ومن ردَّ آيات الصفات وأحاديثها أو حرَّفها؛ فهو والله بمعزل عن هذا التحكيم.
وقول ابن حامد: «ولا نجوِّز إثبات الرأس»: قصده في ذلك أن النص لم يأتِ به، ولو جاء النص به؛ لكنَّا أوَّل القائلين به؛ تفاديًا من غضب الله وغضب رسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد قال تعالى: { فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [النور: الآية 63]، قال الإمام أحمد رحمه الله: «أتدري ما الفتنة؟ الفتنة: الشرك، لعله إذا ردَّ بعض قوله أن يقع في قلبه شيء من الزيغ فيهلك».
فلما لم يأتِ النص بإثبات الرأس لله تعالى، لم يقل به ابن حامد.
وأي عيب في هذا؟!
ومنه يظهر أن إنكار ابن الجوزي ليس في محله؛ لأن ابن حامد أثبت لله وجهًا، وهكذا جاءت النصوص، فمن أنكر على ابن حامد؛ فإنما يرد الآيات والأحاديث الصحاح، وهذا ضلال بعيد وزيغ عظيم، نسأل الله السلامة والعافية.
( المرجع : إتحاف أهل الفضل والإنصاف ، للشيخ سليمان العلوان ، 121-133) .
الشبهة(2) : تأويلهم صفة العين
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص113، على قوله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طـه : الآية 39]، و{ وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا} [هود : الآية 37]).
«قال المفسرون: بأمرنا، أي: بَمرْأى منا.
قال أبو بكر بن الأنباري: أمَّا جمع العين على مذهب العرب في إيقاعها الجمع على الواحد، يقال: خرجنا في السفر إلى البصرة، وإنما جمع؛ لأن عادة الملك أن يقول: أَمَرنا ونهينا.
وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر ابن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما.
قلت: وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا عينين من دليل الخطاب في قوله عليه الصلاة والسلام: «وإن الله ليس بأعور»، وإنما أراد نفي النقص عنه تعالى، ومتى ثبت أنه لا يتجزأ، لم يكن لما يتخيل من الصفات وجه».
· أقول: الجواب عن هذه الجهالات من وجهين: مجمل ومفصل:
فأمَّا المجْمَل؛ فإنه قد اتفق علماء السلف من الصحابة والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين على أن الله تعالى لا يُوصف إلا بما وصف به نفسه وبما وصفه به رسولـه محمد صلى الله عليه وسلم؛ دون تحريف أو تعطيل أو تكييف أو تمثيل، واتفقوا أيضًا على أنَّ باب الأسماء والصفات لا يدخله القياس، ولا مجال للقياس فيه، فلا نثبت لله تعالى إلا ما جاء به السمع.
فكان مما جاء به السمع ذِكْر العين لله تعالى مفردة، كما في قوله تعالى: { وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي } [طه :الآية 39] ، وذكرها بلفظ الجمع، كما في قوله تعالى: { فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا} [الطور: الآية 48]، وجاءت السنة بذكر العينين لله تعالى.
فكان الواجب على كل مسلم الإيمان بذلك، وإثبات العينين لله تعالى حقيقة، والتسليم والانقياد، وعدم ضرب الأمثال لله تعالى، وترك التحريف وصرف النصوص عن حقائقها بلا برهان.
قال الهروي في كتاب «الأربعين» (ص64، باب إثبات العينين له تعالى وتقدَّس)، وساق بالسند حديث أنس بن مالك رضي الله عنه، قال:
«قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من نبيٍّ؛ إلا وقد حذَّر أمته الأعور الكذَّاب، ألا إنه أعور، وإن ربكم عزَّ وجل ليس بأعور، مكتوب بين عينيه (ك ف ر)...»، وهذا الحديث رواه الإمام البخاري(13/389) ومسلم (رقم 2933) من طريق شعبة عن قتادة، قال: سمعتُ أنس بن مالك... ورواه أيضًا البخاري (13/389- فتح) ومسلم من طريق نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم به».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص48): «ففي تأويل قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليس بأعور»: بيان أنه بصير ذو عينين خلاف الأعور».
وقال رحمه الله: «والعور عند الناس ضد البصر، والأعور عندهم ضد البصير بالعينين».
وقال الإمام أبو بكر ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (1/97): «فواجب على كل مؤمن أن يثبت لخالقه وبارئه ما ثبّت الخالق البارئ لنفسه من العين، وغير مؤمن من ينفي عن الله تبارك وتعالى ما قد ثبته الله في محكم تنزيله ببيان النبي صلى الله عليه وسلم، الذي جعله الله مبينًا عنه عز وجل في قوله: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ}[النحل: الآية44]، فبيَّن النبي صلى الله عليه وسلم أن لله عينين، فكان بيانه موافقًا لبيان محكم التنزيل، الذي هو مسطور بين الدفتين، مقروء في المحاريب والكتاتيب..».
وإثبات العينين لله تعالى أمرٌ متفق عليه بين علماء السلف، ومجيئهما في القرآن بلفظ المفرد المضاف إلى الضمير المفرد وبلفظ الجمع المضاف إلى ضمير الجمع لا يدل على أن لله تعالى عينًا واحدة، كما أن لفظ الجمع لا يدل على أن لله تعالى أعينًا متعددة، فيحمل ما جاء بالكتاب على ما وضحته السنة، فيزول الإشكال.
قال العلاّمة المحقق ابن القيم رحمه الله في «الصواعق» (1/205): «... فذكرَ العينَ المفردة مضافةً إلى الضمير المفرد، والأعين مجموعة مضافةً إلى ضمير الجمع، وذكرُ العين مفردة لا يدل على أنها عين واحدة ليس إلا، كما يقول القائل: أفعل هذا على عيني، وأجيئك على عيني، وأحمله على عيني... ولا يريد به أنَّ له عيناً واحدة، فلو فهم أحد هذا من ظاهر كلام المخلوق؛ لعُدَّ أخرق، وأمَّا إذا أضيفت العين إلى اسم الجمع ظاهرًا أو مضمرًا؛ فالأحسن جمعها، مشاكلة للفظ، كقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14]، وقوله: { وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} [هود: الآية 37]، وهذا نظير المشاكلة في لفظ اليد المضافة إلى المفرد، كقوله: { بِيَدِهِ المُلْكُ} [الملك: الآية1]، و{ بِيَدِكَ الخَيْرُ} [آل عمران: الآية 26]، وإن أضيفت إلى ضمير جمع؛ جمعت، كقوله: { أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا} [يَسَ: الآية 71]، وكذلك إضافة اليد والعين إلى اسم الجمع الظاهر، كقوله: { بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ} [الروم: الآية 41]، وقوله: { قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ} [الأنبياء: الآية 61].
وقد نطق القرآن والسنة بذكر اليد مضافة إليه سبحانه مفردة ومثناة ومجموعة، وبلفظ العين مضافة إليه مفردة ومجموعة، ونطقت السنة بإضافتها إليه مثناة، كما قال عطاء عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن العبد إذا قام في الصلاة، قام بين عيني الرحمن، فإذا التفت؛ قال له ربه: إلى من تلتفت؟ إلى خير لك مني؟».
وقولُ النبي صلى الله عليه وسلم: «إن ربكم ليس بأعور»: صريحٌ في أنه ليس المراد إثبات عين واحدة ليس إلاَّ؛ فإن ذلك عور ظاهر، تعالى الله عن ذلك علوًّا كبيرًا.
وهل يَفْهمُ من قول الداعي: «اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام»: أنها عين واحدة ليس إلا إلاَّ ذهن أقلف وقلب أغلف؟!
قال خلف بن تميم: حدثنا عبد الجبار بن كثير، قال: «قيل لإبراهيم ابن أدهم: هذا السبع، فنادى: يا قسورة، إن كنت أمرت فينا بشيء، وإلا (يعني: فاذهب)، فضرب بذنبه، وولى مدبرًا، فنظر إبراهيم إلى أصحابه، وقال: قولوا: اللهم! احرسنا بعينك التي لا تنام، واكنفنا بكنفك الذي لا يرام، وارحمنا بقدرتك علينا، ولا نهلك وأنت الرجاء».
قال عثمان الدارمي: «الأعور ضد البصير بالعينين، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم في الدجال: «إنه أعور، وإن ربكم ليس بأعور»، وقد احتج السلف على إثبات العينين له سبحانه بقوله: { تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14] ».
وممن صرح بذلك إثباتًا واستدلالاً أبو الحسن الأشعري في كتبه كلها، فقال في «المقالات» و«الموجز» و«الإبانة»، وهذا لفظه فيها:
«وجملة قولنا أن نقر بالله وملائكته وكتبه ورسله..».
إلى أن قال: « وأن الله مستوٍ على عرشه، كما قال: { الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه : الآية 5]، وأن له وجهًا، كما قال: { وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلاَلِ وَالإِكْرَامِ} [الرحمن: الآية 27]، وأن له يدين، كما قال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: الآية 64]، وقال: {لِمَا خَلَقْتُ بِيدَيَّ} [صَ: الآية 75]، وأن له عينين بلا كيف، كما قال: {تَجْرِي بِأَعْيُنِنا} [القمر: الآية 14]».
فهذا الأشعري والناس قبله وبعده لم يفهموا من الأعين أعينًا كثيرة على وجه، ولم يفهموا من الأيدي أيادي كثيرة على شقٍّ واحد، حتى جاء هذا الجهمي، فعضه القرآن، وادعى أن هذا ظاهره، وإنما قصد هذا وأمثاله التشنيع على من بدَّعه وضلله من أهل السنة والحديث، وهذا شأن الجهمية في القديم والحديث، وهم بهذا الصنيع على الله ورسوله وكتابه يشنعون، { وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} [التوبة: الآية 105] ».
وأما الجواب المفصل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طـه: الآية 39]، وقوله: {وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا}[هود: الآية 37]: «قال المفسرون: بأمرنا، أي: بمرأى منا»:
يقال: إنه خطأ من وجهين:
الوجه الأول: أن المفسرين لم يطبقوا على هذا التفسير، وعبارة ابن الجوزي فيها إيهام أن جميع المفسرين يقولون ذلك، وهذا خطأ، فابن جرير مثلاً – وتفسيره يُعد من أجلِّ التفاسير وأشهرها – قال على قول الله تعالى:{وَاصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا}[هود: الآية 37]، قال: «بعين الله ووحيه كما يأمرك ».
الوجه الثاني: أن تفسير الآيتين بما ذكر ابن الجوزي خطأ؛ إذ لو أراد الله تعالى بقوله: {وَلِتُصْنَعَ على عَيْنِي} [طَه: الآية 39]، أي: بأمري، لقال: «ولتصنع بأمري».
وكذلك الآية الأخرى يقال فيها مثل ما قيل في هذه.
وقول من قال: «بمرأى منا»: يقال: لا شك أن ذلك بمرأى من الله تعالى، وهذا من اللوازم، وليس هو معنى الآية، فالواجب أولاً إثبات العينين لله تعالى، ثم لا بأس بعد ذلك بذكر اللوازم من الرؤية ونحو ذلك.
ولكن أهل الأهواء يُفسرون الآيات التي في الصفات بلوازمها، وينفون حقائقها، وهذا عين المحادة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم.
وقد ثبت عن ابن عباس في قول الله تعالى: {واصْنَعِ الفُلْكَ بِأَعْيُنِنا} [هود: الآية 37]، قال: «بعين الله تبارك وتعالى»، رواه عنه البيهقي في «الأسماء والصفات» (2/41) من طريق محمد بن إسحاق الصاغاني، ثنا حجاج بن محمد، عن ابن جريج، عن عطاء الخراساني، عن عكرمة، عن ابن عباس، به، ورواته كلهم ثقات.
وكذلك قال قتادة: «بعين الله...»، فيما رواه عنه ابن جرير في «تفسير».
وأما قول الجهمي الكوثري في تعليقه على «الأسماء والصفات» على أثر ابن عباس المتقدم، قال: «وفي سند الحديث حجاج المصيصي، اختلط في أواخر عمره، وعطاء ضعفه البخاري، وعكرمة مختلف فيه»، فهو كلام جاهل، ليس له حظ ولا نصيب من هذا العلم، كما أنه لا له حظّ ولا نصيب من معرفة الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح:
فقوله: «حجاج المصيصي اختلط في أواخر عمره»: يقال عنه: ذكر ذلك بعض العلماء، كما في ترجمته في «تهذيب الكمال» (5/456) و«تهذيب التهذيب» (2/181).
وهذا لا يؤثر على حديثه مطلقًا؛ لأنه إنما قيل إنه تغير لما رجع إلى بغداد، وحديثه عن ابن جريج ليس من ذلك.
وقد سمع التفسير من ابن جريج إملاءً، كما ذكر ذلك أحمد بن حنبل، قال أحمد: «ولم يكن مع ابن جريج كتاب التفسير، فأملى عليه».
وقد قال يحيى بن معين: «قال لي المعلى الرازي: قد رأيت أصحاب ابن جريج بالبصرة، ما رأيت فيهم أثبت من حجاج»، قال يحيى: «وكنت أتعجب منه، فلما تبينت ذلك، إذا هو كما قال، كان أثبتهم في ابن جريج».
وقال أبو مسلم المستملي: «خرج حجاج الأعور من بغداد إلى الثغر في سنة تسعين ومائة»، قال: «وسألته، فقلت: هذا التفسير سمعته من ابن جريج؟ فقال: سمعت التفسير من ابن جريج، وهذه الأحاديث الطوال، وكل شيء قلت: حدثنا ابن جريج، فقد سمعته».
وأما قوله: «وعطاء ضعَّفه البخاري»، فهذا غير ناهض لتضعيف عطاء الخراساني:
فتضعيف البخاري لرجلٍ ما لا يدل على ضعفه مطلقًا، وأنه لا يحتج بحديثه، فقد وثق عطاء أئمة ثقات أثبات لهم قدرهم في هذا الشأن.
قال الإمام أحمد رحمه الله عنه: «ثقة».
وقال ابن معين: «ثقة».
ووثقه أيضًا الدارقطني.
وقال يعقوب بن شيبة: «ثقة، معروف بالفتوى والجهاد».
وقد خرج البخاري لعطاء في «صحيحه» في تفسير سورة نوح، ولكن اختلف العلماء رحمهم الله في عطاء، هل هو ابن أبي رباح أم الخراساني؟ جاء عند عبد الرزاق في «تفسيره» التصريح بأنه الخراساني.
والحاصل أن عطاء الخراساني ممن يحتج بحديثه، كما عليه أكثر أئمة الحديث ونقاده، والله أعلم.
وأما قوله: «وعكرمة مختلَف فيه»: فهذا شغب لا طائل تحته، فالاختلاف في توثيق الراوي ليس تضعيفًا له.
وعكرمة: ثقة حافظ، خرج له البخاري في الأصول، والأربعة، وروى له مسلم مقرونًا، وقد روى عن جماعة من الصحابة.
ووثَّقه ابن معين والنسائي وغيرهما.
وقال الإمام البخاري رحمه الله: «ليس أحدٌ من أصحابنا إلا وهو يحتج بعكرمة».
وقد تكلم بعضهم في حديث عكرمة، فقيل: سبب ذلك لرأي رآه عكرمة، وإلا، فهو حجة في الحديث، والكلام الذي قيل فيه لا يطعن في حديثه، وما كل راوٍ يتكلم فيه يطرح حديثه، فلا بد من النظر والوقوف على كلام الجارح، هل هو مؤثر، أم غير مؤثر؟
والحاصل أن عكرمة حجة في الحديث، وشغب الكوثري ممَّا لا يقام له وزن، ولم يبْنِ كلامه على قواعد وأسس سليمة، إنما يلقي الكلام على عواهنه، فالله المستعان.
الوجه الثاني: أن قول ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ العين صفة زائدة على الذات، وقد سبقه أبو بكر بن خزيمة، فقال في الآية: لربنا عينان ينظر بهما»: يقال عنه:
إن مراد القاضي أبي يعلى بقوله: العين صفة زائدة على الذات، أي: زائدة على ما أثبته النفاة؛ لأن النفاة يثبتون لله تعالى ذاتًا مجردة عن الصفات، والسلف يخالفونهم في ذلك، فيثبتون لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مما صحَّت به الأحاديث.
وإن كان اللفظ والقول بأن هذه الصفة زائدة على الذات أو غير زائدة غير مأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن صحابته الكرام، ويحتمل حقًّا ويحتمل باطلاً.
ولكن مراد أهل الإثبات بقولهم: «صفة زائدة على الذات»، أي: زائدة على ما أثبته النفاة، وهذا المعنى حق، خلافًا لأهل البدع الذين ينكرون صفات الله تعالى أو يُحرفونها، ولا يثبتون لله تعالى، لا وجهًا، ولا سمعًا، ولا بصرًا، ولا عينين... ولا غير ذلك من الصفات الذاتية، ولا كثيرًا من الصفات الفعلية، فقد شبهوا معبودهم وربهم بالناقصات، تعالى الله عن قولهم علوًّا كبيرًا.
وأما عيب ابن الجوزي على أبي يعلى وابن خزيمة، فليس في محله، وهذا العيب في الحقيقة إنما يقع على من دلَّ الأمة على أن لله عينين، فليس ابن خزيمة أول من ذكر العينين لله تعالى حتى يخص بالإنكار، ولو تفكر في ذلك أهل الأهواء؛ لعلموا فساد عقولهم وتناقضهم واضطرابهم، ولعلموا أنهم في الحقيقة إنما يطعنون على من جاء بإثبات العينين لله تعالى حقيقة ودعا الناس إلى الإيمان بذلك.
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «وهذا ابتداع لا دليل لهم عليه، وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: قد تقدم ذكر الأدلة على إثبات العينين لله تعالى، وليس في إثباتهما ابتداع في الدين، إنما الابتداع هو نفيهما عن الله، ووصف الله تعالى بالنقائص، وهذا أصل التعطيل.
وقول ابن الجوزي: «وإنما أثبتوا لله عينين من دليل الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: «وإن الله ليس بأعور»: يقال عنه: إن دليل الخطاب في هذا الموضع حجة، وقد أجمع عليه العلماء، وأثبتوا لله عينين.
وقد تقدم إثبات الوجه لله تعالى وغيره من الصفات بنصوص قطعية متواترة، ومع ذلك أنكرها ابن الجوزي وصرفها عن ظاهرها بحجج عقلية متهافتة مضطربة، يستحي العاقل من ذكرها، فليس قوله: «من دليل الخطاب»: هو المانع له من إثبات العينين لله تعالى، فالله المستعان.
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، ص 134-144).
الشبهة(3) : تأويلهم صفة اليد
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص114)، على قول الله تعالى: ]لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ[ [ص: الآية 75]:
«اليد في اللغة بمعنى النعمة والإِحسان، قال الشاعر:
مَتَى تُناخِي عِنْدَ بابِ بَنِي هَاشِـــمٍ تُرِيْحِي فَتَلْقــَيْ مِنْ فَواضــِلِهِ يَدا
ومعنى قول اليهود: { يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليدُ: القوة، يقولون: ما لنا بهذا الأمر من يد.
وقوله تعالى: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي : نعمته وقدرته.
وقوله: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، أي: بقُدْرتي ونعمتي.
وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فوقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية10]: «أي: منته وإحسانه».
قلت: هذا كلام المحققين.
وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان بالدين» ا هـ.
قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه.
وقال ابن عقيل: «معنى الآية: لما خلقت أنا، فهو كقوله: { ذلِكَ بما قَدَّمَتْ يداكَ} [الحج: الآية10]، أي: بما قدمت أنت».
* أقول مستعينًا بالله تعالى لكشف هذه الأباطيل: الجواب من وجوه:
الوجه الأول: أن الأصل في الكلام أن يحمل على حقيقته، فلا يجوز العدول عن ذلك، إلا إن كانت هناك قرينة تمنع الحمل على الحقيقة.
الوجه الثاني: أن حمل الكلام على ما يجوز في اللغة، وترك ظاهر الكلام، يؤدي إلى خلل ولبس في فهم المراد، ومن ثَمَّ لا يحصل ضبط كلام متكلم إلا بالاستفسار عن مراده ومقصده، وهذا خلاف ما عليه المسلمون قديمًا وحديثًا، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق.
الوجه الثالث: أن حمل صفات الرب جل وعلا على المعاني اللغوية أو على المجاز دون الحقيقة يقتضي تعطيل الرب جل وعلا عن صفات الكمال، فلا يثبت له علم ولا حياة ولا سمع ولا بصر ولا غير ذلك مما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
الوجه الرابع: أن حمل الكلام على غير حقيقته يقتضي أن الله جل وعلا يخاطب العباد بما لا يفهمون، أو بما ظاهره غير مراد.
الوجه الخامس: أنه وإن جاز في اللغة إطلاق اليد على النعمة أو القوة في بعض المواضع، فلا يصح أن يجعل هذا الإطلاق عامًّا في كل شيء:
فقوله تعالى: {لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: لا يصح أن يقال: لما خلقت بقدرتي أو بنعمتي؛ لأن نعم الله متعددة، وليست محصورة في نعمتين، فإن هذا لا يقوله عاقل، قال تعالى: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: الآية34، النحل: الآية 18].
وأما حمل اليدين في قوله تعالى: {لما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75] على القدرة، فهذا أيضًا فاسد؛ لأن القدرة صفة واحدة، قال تعالى: {أَنَّ الْقُوَّةَ لِلّهِ جَمِيعًا} [البقرة: الآية 165].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: «إن لفظ (اليدين) بصيغة التثنية لم يستعمل في النعمة ولا في القدرة؛ لأنَّ من لغة القوم استعمال الواحد في الجمع، كقوله: {إِنَّ الإِنسانَ لَفِي خُسْرٍ}[العصر: الآية 2]، ولفظ الجمع في الواحد، كقوله: {الَّذينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ...} [آل عمران: الآية 173]، ولفظ الجمع في الاثنين، كقوله: {صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} [التحريم: الآية4]، أمَّا استعمال لفظ الواحد في الاثنين، أو الاثنين في الواحد، فلا أصل له؛ لأن هذه الألفاظ عدد، وهي نصوص في معناها، لا يتجوز بها، ولا يجوز أن يقال: عندي رجل، ويعني: رجلين! ولا: عندي رجلان، ويعني به الجنس! لأن اسم الواحد يدل على الجنس والجنس فيه شياع، وكذلك اسم الجمع فيه معنى الجنس، والجنس يحصل بحصول الواحد، فقولـه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَديَّ} [ص: الآية 75]: لا يجوز أن يراد به القدرة؛ لأن القدرة صفة واحدة، ولا يجوز أن يعبر بالاثنين عن الواحد...».
وممَّا يدل على فساد قول من زعم أن اليدين بمعنى القوَّة: قوله صلى الله عليه وسلم: «إن المقسطين عند اللهِ، على منابرَ من نور، عن يمين الرحمن عز وجل، وكلتا يديه يمين...»، خرجه مسلم في «صحيحه» (رقم 1827) عند عبد الله بن عمرو.
قال ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 73): «هذا حديث ثابت باتفاق».
فهل يصح يا معطلة أن يقال: وكلتا قوتيه يمين؟!
فهل للقوة يمين؟!
فإن قلتم: نعم، خالفتم أهل العقول، وصرتم مع البله والجهال والحمقى والمغفلين!! وإن قلتم: لا، خصمتم، ووجب عليكم التسليم والانقياد وإثبات اليدين لله تعالى حقيقة، وليس بعد ذلك إلا العناد، وبئس الزاد ليوم المعاد.
الوجه السادس: أنَّ قول ابن الجوزي: «ومعنى قول اليهود: { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: الآية 64]، أي: محبوسة عن النفقة، واليد القوة»: قولٌ غيرُ صحيح، بل هو باطل، ويبطله قوله تعالى بعد ذلك: {بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ} [المائدة: الآية 64]، فلا يصح أن يقال: نعمتاه مبسوطتان؛ لأن نعم الله تعالى ليست محصورة في نعمتين إجماعًا ضروريًّا، فثبت أن المراد: إثبات اليدين لله تعالى حقيقيتين، كما أجمع على ذلك أهل العلم والإيمان، ولا أعلم أحدًا نازع في ذلك إلا أهل البدع والضلال، الذين لم يستضيئوا بالكتاب ولا بالسنة على فهم السلف الصالح.
قال الإمام ابن خزيمة رحمه الله تعالى: «وزعمت الجهمية المعطلة أن معنى قوله: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، أي: نعمتاه، وهذا تبديل لا تأويل.
والدليل على نقض دعواه هذه أنَّ نعم الله كثيرة لا يُحصيها إلا الخالق البارئ، ولله يدان لا أكثر منهما، كما قال لإبليس عليه لعنة الله: {ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فأعلمنا جل وعلا أنه خلق آدم بيديه، فمن زعم أنه خلق آدم بنعمته، كان مبدِّلاً لكلام الله.
وقال الله عز وجل:{والأرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ القِيامَةِ وَالسَّمَاواتُ مَطْوِيَّاتٌ بَيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67]
أفلا يعقل أهل الإيمان أن الأرض جميعًا لا تكون قبضة إحدى نعمتيه يوم القيامة، ولا أن السماوات مطويات بالنعمة الأخرى؟!
ألا يعقل ذوو الحجا من المؤمنين أن هذه الدعوى التي يدَّعيها الجهمية جهلٌ أو تجاهلٌ شر من الجهل؟!
بل الأرض جميعًا قبضة ربنا جلَّ وعلا بإحدى يديه يوم القيامة، والسماوات مطويات بيمينه، وهي اليدُ الأخرى، وكلتا يدي ربنا يمين، لا شمال فيهما، جل ربنا وعز عن أن يكون له يسار، إذ كون إحدى اليدين يسارًا إنما يكون من علامات المخلوقين، جل ربنا وعز عن شبه خلقه.
وافهم ما أقول من جهة اللغة، تفهم وتستيقن أنَّ الجهمية مبدِّلة لكتاب الله لا متأولة قوله: {بَلْ يداهُ مَبْسُوطَتانِ} [المائدة: الآية 64].
لو كان معنى اليد النعمة كما ادعت الجهمية، لقرئت: بل يداه مبسوطة، أو: منبسطة؛ لأن نعم الله أكثر من أن تحصى، ومحال أن تكون نعمه نعمتين لا أكثر، فلما قال الله عز وجل: {]بَلْ يداهُ مَبْسُوطتانِ} [المائدة: الآية 64]؛ كان العلم محيطًا أنه ثبت لنفسه يدين لا أكثر منهما، وأعلم أنهما مبسوطتان ينفق كيف يشاء.
والآية دالة أيضًا على أن ذكر اليد في هذه الآية ليس معناه النعمة:
حكى الله جل وعلا قول اليهود، فقال: {وَقَالَتِ اليَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}، فقال الله عز وجل ردًّا عليهم: {غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ}، وقال: {بَلْ يَداهُ مَبْسوطَتانِ} [المائدة: الآية 64]، وبيقين يعلم كل مؤمن أن الله لم يرد بقوله: {غُلَّتْ أَيْدِيْهِم}؛ أي: غُلَّت نعمهم، لا، ولا اليهود [أرادوا] أن نعم الله مغلولة، وإنما رد الله عليهم مقالتهم وكذبهم في قولهم: {يَدُ اللهِ مَغْلولَةٌ}، وأعلم المؤمنين أن يديه مبسوطتان ينفق كيف يشاء...».
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قول الله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: «أي: بقدرتي ونعمتي»: باطل من ثلاثة أوجه:
الوجه الأول: أن القوة والنعمة لم تردا بلفظ التثنية.
الوجه الثاني: أنه لو صح ورود القدرة أو النعمة بلفظ التثنية، ففي هذه الآية باطل اتفاقًا؛ لأنه لا يكون لآدم خصيصة على غيره من سائر المخلوقات، فالكل مخلوقون بقدرة الله تعالى، فلا يكون هناك مزية لآدم على غيره، وهذا باطل باتفاق المسلمين:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتج آدم وموسى عليهما السلام عند ربهما، فحج آدم موسى، قال موسى: أنت آدم الذي خلقك الله بيده، ونفخ فيك من روحه...».
فقوله: «خلقك الله بيده»: صريح في تخصيص آدم بذلك، وإلا، لم يكن في قوله: «خلقك الله بيده»: فائدة؛ لأن كل المخلوقات مخلوقة بقدرة الله سبحانه.
وكذلك حديث الشفاعة المخرج في «الصحيحين» من حديث أنس يدل على اختصاص آدم بكونه خلقه بيده، فإن فيه: «يجمع الله الناس يوم القيامة، فيهتمون لذلك، فيقولون: لو استشفعنا على ربنا حتى يريحنا من مكاننا هذا!»، قال: «فيأتون آدم صلى الله عليه وسلم فيقولون: أنت آدم أبو الخلق، خلقك الله بيده...».
فحمل اليد هنا على القدرة أو النعمة من أعظم الإلحاد والتحريف لكلام النبي صلى الله عليه وسلم.
فكون المؤمنين يوم القيامة يأتون آدم ويقولون: «أنت أبو البشر، خلقك الله بيده...»: دليل ظاهر وبرهان لا ينازع فيه إلا جهمي على اختصاص آدم عن غيره، وأن الله خصه بكونه خلقه بيديه.
الوجه الثالث: قال العلاَّمة ابن القيم رحمه الله: «إن نفس هذا التركيب المذكور في قوله: {خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: يأبى حمل الكلام على القدرة؛ لأنه نسب الخلق إلى نفسه سبحانه، ثم عدَّى الفعل إلى اليد، ثم ثنَّاها، ثم أدخل عليها الباء التي تدخل على قولك: كتبت بالقلم، ومثل هذا نص صريح لا يحتمل المجاز بوجه.
بخلاف ما لو قال: عملت، كما قال تعالى:{بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [آل عمران: الآية 182]، و{بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، فإنه نسب الفعل إلى اليد ابتداء، وخصَّها بالذكر؛ لأنها آلة الفعل في الغالب.
ولهذا؛ لما لم يكن خلقُ الأنعام مساويًا لخلق أبي الأنام، قال تعالى: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنعاماً} [يس: الآية 71]، فأضاف الفعل إلى الأيدي، وجمعها، ولم يدخل عليها الباء، فهذه ثلاثة فروق تبطل إلحاق أحد الموضعين بالآخر.
ويتضمنُ التسوية بينهما عدم مزية أبينا آدم على الأنعام، وهذا من أبطل الباطل، وأعظم العقوق للأب، إذ ساوى المعطل بينه وبين إبليس والأنعام في الخلق بالدين..».
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/366): «.. أما إذا أضاف الفعل إلى الفاعل، وعدَّى الفعل إلى اليد بحرف الباء، كقوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، فإنه نصٌّ في أنه فعل الفعل بيديه؛ ولهذا لا يجوز لمن تكلَّم أو مشى أن يقال: فعلت هذا بيديك، ويقال: هذا فعلته يداك؛ لأن مجرد قوله: فعلت: كافٍ في الإضافة إلى الفاعل، فلو لم يرد أنه فعله باليد حقيقة، كان ذلك زيادة محضة من غير فائدة.
ولستَ تجد في كلام العرب ولا العجم إن شاء الله تعالى أن فصيحًا يقول: فعلت هذا بيدي، أو: فلان فعل هذا بيديه، إلا ويكون فعله بيديه حقيقة، ولا يجوز أن يكون لا يد له، أو أن يكون له يد، والفعل وقع بغيرها».
الوجه الثامن: أن قول ابن الجوزي: «وقال الحسن في قوله تعالى: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، أي: منته وإحسانه، قلت: وهذا كلام المحققين»:
يجاب عنه فيقال: لو فرضنا أنَّ النقل عن الحسن صحيح – ولا أخاله يصح-، فلا يدل على نفي اليدين عن الله تعالى؛ لأن تفسيره هذه الآية باللازم لا يدل على نفيه الصفة عن الله تعالى مطلقًا في كل المواضع كما فعل النفاة من الجهمية والمعطلة والمعتزلة والأشاعرة.
وقول ابن الجوزي: «هذا كلام المحققين»: غير صحيح، فالتحقيق أن هذه الآية تدل كغيرها من الآيات على إثبات صفة اليد الله تعالى حقيقة، وتأويلها بالمنة أو النعمة تأويل لا دليل عليه سوى الظن والتخمين، وكلام المحققين على خلافه.
قال أبو الحسن الأشعري في «الإبانة»: «فإن سئلنا: أتقولون إن لله يدين؟ قيل: نقول ذلك، وقد دل عليه قوله عز وجل: {يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]، وقوله عز وجل: {لِمَا خَلَقْتُ بَيَدَيَّ} [ص: الآية 75]».
وقال الإمام أبو بكر بن خزيمة رحمه الله في (باب ذكر إثبات اليد للخالق البارئ جل وعلا): «والبيان أن الله تعالى له يدان، كما أعلمنا في محكم تنزيله أنه خلق آدم عليه السلام بيديه، قال عز وجل لإبليس: {مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، وقال جل وعلا تكذيبًا لليهود حين قالوا: {يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ}؛ فكذَّبهم في مقالتهم، وقال: {بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ} [المائدة: الآية 64]، وأعلمنا أن: {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: الآية 67]، و{يَدُ اللهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح: الآية 10]....».
وقال رحمه الله تعالى في (باب ذكر سنة سابعة تثبت يد الله): «والبيان أن يد الله هي العليا، كما أخبر الله في محكم تنزيله: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : الآية 10]، فخبر النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا أن: «يد الله هي العليا»، أي: فوق يد المُعْطَى والمعطِي جميعًا».
وهذا الذي ذكره أبو الحسن الأشعري وابن خزيمة في إثبات صفة اليدين لله تعالى حقيقة، أخذًا من نصوص كثيرة من الكتاب والسنة، ومن ذلك قوله تعالى: {يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ} [الفتح : الآية 10]: هو الصواب، فإضافة اليد إلى الله في قوله: { يَدُ اللهِ}: لا تدل إلا على إثبات الصفة حقيقة، ويبطل ذلك تأويلها بالمنة أو الإحسان أو غير ذلك من التأويلات الباطلة.
الوجه التاسع: أن قول ابن الجوزي: «وقال القاضي أبو يعلى: «اليدان صفتان ذاتيتان تسميان باليدين» ا هـ، قلت: وهذا تصرف بالرأي لا دليل عليه»:
يجاب عنه فيقال: إن ما ذكره أبو يعلى رحمه الله من إثبات اليدين لله تعالى هو قول جميع علماء السلف، فلا تثريب على أبي يعلى، فإنه لم ينفرد بهذا القول، ولم يقله برأيه، فقد دلَّ الكتاب والسنة على صحة هذا القول، وعلى فساد ما عداه.
وقد قال الإمام الآجري رحمه الله تعالى في كتاب «الشريعة» (ص323): «يقال للجهمي – الذي ينكر أن الله عزَّ وجل خلق آدم بيده -: كفرت بالقرآن، ورددت السنة، وخالفت الأمة..».
أقول: وقد تقدمت الأدلة من القرآن على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة في مواضع متفرقة، وأجهزنا على تحريف من حرفها أو تأولها على غير التأويل المأثور عن السلف.
وأمَّا الأحاديث الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم في إثبات اليدين لله تعالى حقيقة؛ فهي كثيرة جدًّا:
منها: ما رواه مسلم في «صحيحه» (رقم 2759) عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إن الله عز وجل يبسط يَدَهُ بالليلِ ليتوب مُسِيءُ النهار، ويبسط يدَه بالنهار ليتوب مسيءُ الليل، حتى تطلع الشمس من مغربها».
وروى الإمام البخاري في «صحيحه» (3/ 278) من طريق عبد الله بن دينار، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تصدَّق بعدل تمرة من كسب طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب -، فإن الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّهُ، حتى تكون مِثْلَ الجبل».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (رقم 1014) من طريق سعيد بن أبي سعيد، عن سعيد بن يسار، أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما تصدَّق أحد بصدقة من طيب – ولا يقبل الله إلا الطيب-، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت تمرة، فتربو في كفِّ الرحمن، حتى تكون أعظم من الجبل؛ كما يربي أحدكم فَلُوَّه أو فصيله».
فقوله: «أخذها الرحمن بيمينه»: ينفي ويبطل تأويل من تأول ذلك بالنعمة أو القدرة.
وفي هذا الحديث أيضًا إثبات الكف لله تعالى.
والحديث قال عنه ابن منده رحمه الله: «ثابت باتفاق، وله طرق عن أبي هريرة...».
وروى الإمام البخاري (8/551- فتح) ومسلم (رقم 2787) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «يقبض اللهُ الأرض، ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟».
وروى الإمام مسلم في «صحيحه» عن عبد الله بن عمر، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر، وهو يقول: «يأخذ الجبَّار عزَّ وجل سماواته وأرَضيه بيدَيْهِ».
وروى البخاري (13/ 393- فتح) ومسلم (رقم 993) واللفظ للبخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يدُ اللهِ ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار»، وقال: «أرأيتم ما أنفق منذ خلق الله السماوات والأرض، فإنه لم يغض ما في يده؟»، وقال: «عرشه على الماء، وبيده الأخرى الميزان؛ يخفض ويرفع».
وهذه الأحاديث وما في معناها من الأحاديث الدالة على إثبات اليدين لله تعالى حقيقة ممَّا لم نذكره قد تلقاها أهل المشرق والمغرب بالقبول، وقابلوها بالتسليم، ولم ينكرها منكرٌ منهم، وأنكرها الجهمية وأشباههم، فخالفوا الكتاب والسنة وإجماع سلف الأمة، فكذبوا بالحق، وصدقوا بالباطل.
قال الإمام السجزي في «رسالته لأهل زبيد» (ص 173): «وأهل السنة متفقون على أن لله سبحانه يدين، بذلك ورد النص في الكتاب والأثر، قال الله تعالى: { لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «وكلتا يدي الرحمن يمين...».
وتأويل من تأول اليدين بمعنى القدرة أو النعمة جهل وضلال.
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «رده على بشر المريسي» (ص 33) بعد أن ذكر جملة من الأدلة على إثبات اليدين لله تعالى:
«وفي هذا الباب أحاديث كثيرة تركناها مخافة التطويل، وفيما ذكرنا من ذلك بيان بيِّن ودلالة ظاهرة في تثبيت يدي الله أنهما على خلاف ما تأوَّله هذا المريسي الضال، الذي خرج بتأويله هذا من جميع لغات العرب والعجم، فليعرض هذه الآثار رجلٌ على عقله: هل يجوز لعربي أو عجمي أن يتأول أنها أرزاقه وحلاله وحرامه؟!
وما أحسب هذا المريسي إلا وهو على يقين من نفسه أنها تأويل ضلال ودعوى محال، غير أنه مكذب الأصل، متلطف لتكذيبه بمحال التأويل، كيلا يفطن لتكذيبه أهل الجهل، ولئن كان أهل الجهل في غلط من أمره، إن أهل العلم منه لعلى يقين، فلا يظنن المنسلخ من دين الله أنه يغالط بتأويله هذا إلا من قد أضله الله، وجعل على قلبه وسمعه وبصره غشاوة.
ثم إنَّا ما عرفنا لآدم من ذريته ابنًا أعق ولا أحسد منه، إذ ينفي عنه أفضل فضائله وأشرف مناقبه، فيسوِّيه في ذلك بأخس خلق الله؛ لأنه ليس لآدم فضيلة أفضل من أن الله خلقه بيده من بين خلائقه، ففضَّله بها على جميع الأنبياء والرسل والملائكة، ألا ترون موسى حين التقى مع آدم في المحاورة، احتج عليه بأشرف مناقبه، فقال: «أنت الذي خلقك الله بيده»، ولو لم تكن هذه مخصوصة لآدم دون مَنْ سواه، ما كان يخصه بها فصيلة دون نفسه، إذ هو وآدم في خلق يدي الله سواء في دعوى المريسي، فلذلك قلنا: إنه لم يكن لآدم ابن أعق منه، إذ ينفي عنه ما فضَّله الله به على الأنبياء والرسل والملائكة المقربين..».
الوجه العاشر: أنَّ قول ابن الجوزي: «وقال ابن عقيل: معنى الآية: لما خلقتُ أنا، فهو كقوله: {ذلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، أي: بما قدَّمتَ أنت»: يجاب عنه بأن يقال:
لا إله إلا الله واللهُ أكبر! ما أعظم هذا التحريف وأقبحه وأبشعه! وواللهِ؛ ما يرضى الله ولا رسوله صلى الله عليه وسلم بمثل هذا التحريف الباطل، ومعنى الآية ظاهر وواضحٌ كل الوضوح، لا خفاء به ولا لبس، ففيها إثبات اليدين لله تعالى حقيقة.
وزعم أن المعنى: «لما خلقت أنا»: تكلفٌ وصرف للمعنى الصحيح بلا برهان، فدخول الباء في قوله تعالى: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: الآية 75]: نص صريح في أن الله جلَّ وعلا خلق آدم بيديه حقيقة، واليدان من صفات الرب جل وعلا الذاتية، ولو كان المعنى على ما تقول المعطلة: لما خلقت أنا!! لما كان لآدم خصِّيصة على غيره، ولكان قول موسى لآدم: «أنت الذي خلقك الله بيده»: لا معنى له، ومثلُ هذا ينزه عنه موسى كليم الرحمن.
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في «الفتاوى» (6/ 366): «ولا يجوز أن يكون: لما خلقت أنا؛ لأنهم إذا أرادوا ذلك أضافوا الفعل إلى اليد، فتكون إضافته إلى اليد إضافة له إلى الفاعل، كقوله: {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج: الآية 10]، و{قَدَّمَتْ أَيْدِيْكُمْ} [آل عمران: الآية 183]، ومنه قوله: {مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِيْنا أَنْعامًا} [يس: الآية 71]...».
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، 145-159).
الشبهة(4) : تأويلهم صفة الساق والقدم
* قال ابن الجوزي في " دفع شبه التشبيه " (ص 118، على قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: الآية 42] ):
«قال ابن عباس ومجاهد وإبراهيم النخعي وقتادة وجمهور العلماء: يكشف عن شدَّة، وأنشدوا: وقامت الحرب بنا على ساق، وقال آخرون: إذا شمرت عن ساقها الحرب شمَّرا، قال ابن قتيبة: وأصل هذا أنَّ الرجل إذا وقع في أمرٍ عظيم يحتاج إلى معاناة الجد فيه، شمر عن ساقه، فاستعيرت الساق في موضع الشدَّة، وبهذا قال الفراء وأبو عبيد وثعلب واللغويون، وروى البخاري ومسلم في «الصحيحين» عن النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدَّته وأفعاله المضافة إليه، ومعنى «يكشف عنها»: يزيلها...».
قال ابن الجوزي: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية، وقال مثله في «يضع قدمه في النار»...».
قال ابن الجوزي: «قلت: وذكرُ الساق مع القدم تشبيه محض...».
* أقول: وجواب هذا الكلام من وجهين: مجمل، ومفصل:
فأمَّا المجمل، فإنه يقال: إن الرسول صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ البلاغ المبين، وأدَّى الأمانة، ونصح الأمة، وليس هناك شيء العناية بتبيينه أعظم من العناية ببيان أسماء الله وصفاته، فمن ثَمَّ كان بيان هذا الباب أعظم من بيان الأحكام؛ لأن معرفة الله تعالى بأسمائه وصفاته أساس الإيمان، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُبين هذا الباب بيانًا عامًّا، فعلمه الخاص والعام، ولم يستنكر أحد منهم شيئًا من هذا الباب، ولم يقع في أذهانهم ولا في ذهن واحد منهم أن إثبات صفات الرب جلَّ وعلا يقتضي مماثلة الخالق بالمخلوق، كما وقع هذا الفهم الفاسد في قلوب الجهمية وأضرابهم من أهل الإفك والضلال والتنطع في دين الله جل وعلا.
وتعالى الله عن أن تكون صفاته مثل صفات خلقه، ولكن أهل الأهواء والضلال لا يفهمون من صفات الخالق إلا ما يفهمون من صفات المخلوق.
وقد اتفق علماء السلف على إثبات ما أثبته الله لنفسه أو أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ إثباتًا بلا تمثيل، وتنزيهًا بلا تعطيل، {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءُ وَهُوَ السَّميعُ البَصيرُ} [الشورى: الآية11]، فمن شبَّه الله بخلقه، فهو كافر، ومن جحد ما وصف الله به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم؛ فهو كافرٌ أيضًا.
ومما لا نزاع فيه بين علماء السلف أنه ليس في إثبات الصفات لله جل وعلا تشبيه ولا تمثيل، إنما التمثيل والتشبيه يقع ممن نفى عن الله تعالى ما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومن الصفات التي يُوصف به الرب جل وعلا وشرق بها أهلُ البدع ولم يثبتوها لله تعالى صفة الساق، زاعمين أن إثباتها يقتضي تشبيهًا للخالق بالمخلوق، وهذا ضلال عظيم، وإفك مبين، فلا يصف الله تعالى أحد أعلم من رسوله صلى الله عليه وسلم، وقد دلّت سنته الصحيحة التي لا معارض لها ولا مضاد أن الساق يثبت لله تعالى، فكما أننا نثبت لله تعالى ذاتًا لا تشبه الذوات، كذلك نقول في صفات الله تعالى، كالساق وغيرها: إنها لا تشبه الصفات؛ لأن الله جل وعلا ليس كمثله شيء، لا في ذاته، ولا في صفاته، ولا في أفعاله، فنثبت لله تعالى الصفات، وننفي عنه مماثلة المخلوقات، وهذا حقيقة الإيمان، والبراءة من أهل التحريف والبطلان، فلا ننفي عن الله تعالى صفة صحَّت بها النصوص كالساق من أجل دعوى المعطلين أن هذا يقتضي تشبيهاً، بل نثبت لله تعالى الصفات على ما جاء بالكتاب والسنة، وننعى عليهم ونجهلهم ونضللهم لمخالفتهم لكتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، أي: يكشف الله عز وجل عن ساقه.
وما جاء عن ابن عباس، أنه قال: «يريد القيامة والساعة لشدَّتها»، فقد ضعَّفه بعض العلماء وصححه آخرون.
ومن أمثل أسانيد ما جاء عن ابن عباس ما رواه الفرَّاء في كتابه «معاني القرآن» (3/177)، قال: «حدثني سفيان، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس، أنه قرأ: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [القلم: الآية 42] ، يريد القيامة والساعة لشدَّتها..».
وهذا التفسير من ابن عباس للآية لا تقوم به حجة، لثبوت النص عن النبي صلى الله عليه وسلم في تفسير الآية بما يخالف ما قاله ابن عباس رضي الله عنه؛ لأن الآية تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى على القول الصحيح.
يدل على ذلك ما رواه الدارمي في «سننه» (2/326) من طريق ابن إسحاق، قال: أخبرني سعيد بن يسار، قال: سمعت أبا هريرة يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا جمع الله العباد بصعيد واحد، نادى منادٍ: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون، فيلحق كلُّ قوم بما كانوا يعبدون، ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم، فيقول: ما بالُ الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا، فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا، عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه، فيقعون سجودًا، وذلك قول الله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ}[القلم: الآية 42]، ويبقى كل منافق، فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة...».
سنده حسن، فإن محمد بن إسحاق صدوق، وحديثه من قبيل الحسن إذا صرَّح بالسماع، وهنا صرَّح بالسماع، وباقي رجاله ثقات، سمع بعضهم من بعض.
والحديث صريح في إثبات صفة الساق لله تعالى، وإبطال سائر التأويلات التي قيلت على الآية، فقوله: «فيكشف لهم عن ساقه»: صريح في إثبات الساق لله؛ لأنه لا يجوز أن يكون المراد هنا بالساق: الشدَّة قطعًا.
وقوله: «وذلك قول الله تعالى:{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ..}[القلم: الآية 42]»: ظاهر في أن المراد بالآية: إثبات الساق لله تعالى.
يؤيده ما رواه الدارمي في «الرد على الجهمية» (ص 40) من طريق أبي عوانة، عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «{يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ} [القلم: الآية42] ». قال: «يكشف الله عزَّ وجلَّ عن ساقه».
فهذا التفسير من النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الآية يبطل جميع الأقوال المخالفة لهذا القول، ويدل دلالة صريحة على أنَّ الآية من آيات الصفات، وأن المراد منها: إثبات صفة الساق لله جل وعلا.
وجاءَت الأحاديث مؤيدة لهذا القول، ودالة على إثبات الساق لله تعالى.
قال الإمام أبو عبد الله البخاري رحمه الله تعالى في «صحيحه» (8/ 663 – الفتح، باب يوم يكشف عن ساق): حدثنا آدم، حدثنا الليث، عن خالد بن يزيد، عن سعيد بن أبي هلال، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد رضي الله عنه، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «يكشف ربنا عن ساقه، فيسجد له كل مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجد في الدنيا رئاء وسمعة، فيذهب ليسجد، فيعود ظهرهُ طبقًا واحدًا».
ورواه الإمام مسلم رحمه الله في «صحيحه» (3/ 25-27 – نووي) بلفظ: «فيكشف عن ساق»، والمعنى واحد على كلا اللفظين.
وروى عبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/ 520) والطبراني في «الكبير» (9/ 417) من طريق زيد بن أبي أنيسة، عن المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة بن عبد الله، عن مسروق بن الأجدع، قال: حدثنا عبد الله بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ قال:
«يجمع اللهُ الأوَّلين والآخرين لميقات يومٍ معلوم، قيامًا، أربعين سنة، شاخصة أبصارُهم إلى السماء، ينتظرون فصل القضاء».
قال: «فينزل الله عز وجل في ظللٍ من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي منادٍ: أيُّها الناس! ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل إنسان منكم ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلاً من ربكم؟ قالوا: بلى، قال: فلينطلق كل قوم إلى ما كان يعبدون ويتولون في الدنيا».
قال: «فينطلقون، ويمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، والحجارة، وأشباه ما كانوا يعبدون».
قال: «ويمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ويمثل لمن كان يعبد عُزيرًا شيطان عُزير، ويبقى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته».
قال: «فيتمثل الرب جلَّ وعزَّ، فيأتيهم، فيقول لهم: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ يقولون: إنَّ لنا إلهًا، فيقول: وهل تعرفونه إن رأيتموه؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة، إذا رأيناه، عرفناها، فيقول: ما هي؟ يقولون: يكشف عن ساقه».
قال: «فعند ذلك يكشف الله عن ساقه، فيخر كل من كان بظهره طبق، ويبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر، يُدعون إلى السجود فلا يستطيعون، وقد كانوا يُدعون إلى السجود وهم سالمون..» الحديث.
وسنده ممَّا تقوم به الحجة.
وقد قال الذهبي رحمه الله في كتابه «العلو» (ص 73): «إسناده حسن».
وقال في «الأربعين» (ص122): «وهو حديث صحيح».
والحديث رواه الحاكم في «مستدركه» (4/ 589) وابن خزيمة في كتاب «التوحيد» (2/ 583-584) كلاهما من طريق أبي خالد الدالاني، ثنا المنهال بن عمرو، عن أبي عبيدة، عن مسروق، عن عبد الله بن مسعود، به.
وقال الحاكم عقبه: «رواة هذا الحديث عن آخرهم ثقات، غير أنهما لم يخرجا أبا خالد الدالاني في «الصحيحين»، لما ذكر في انحرافه عن السنة في ذكر الصحابة، فأمَّا الأئمة المتقدمون، فكلهم شهدوا لأبي خالد بالصدق والإتقان، والحديث صحيح، ولم يخرجاه، وأبو خالد الدالاني ممن يجمع حديثه في أئمة أهل الكوفة».
أقول: وقد تُوبع الدالاني في الرواية عن المنهال، تابعه زيد بن أبي أنيسة – كما تقدم – عند عبد الله بن أحمد والطبراني.
وزيد ثقة، وثقة ابن معين وابن سعد وغيرهما.
فمنه يتبين ثبوت الحديث وحجيته.
وقد صححه المنذري رحمه الله في «الترغيب والترهيب» بعدما عزاه لابن أبي الدنيا والطبراني.
وروى ابن خزيمة رحمه الله في كتاب «التوحيد» (2/ 428-429) من طريق سفيان، قال: ثنا مسلمة – وهو ابن كهيل -، عن أبي الزعراء، قال: ذكروا الدجال عند عبد الله، قال: «تفترقون أيُّها الناس عند خروجه ثلاث فرق...»، فذكر الحديث بطوله، وقال: «ثم يتمثل الله للخلق، فيلقى اليهود، فيقول: من تعبدون؟ فيقولون: نعبد الله لا نشرك به شيئًا، فيقول: هل تعرفون ربكم؟ فيقول: سبحانه، إذا اعترف لنا، عرفناه، فعند ذلك يكشف عن ساق، فلا يبقى مؤمن ولا مؤمنة إلا خرَّ لله سجدًا».
وهذا موقوف حسن، وله حكم الرفع، إذ لا مجال للاجتهاد.
والحاصل أن إثبات صفة الساق لله تعالى أمر مقطوع به؛ لثبوت النصوص الصريحة في ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن جماعة من الصحابة، والله أعلم.
وأما الجواب المفصَّل، فمن وجوه:
الوجه الأول: أن ما نقله ابن الجوزي عن جمهور العلماء من أنهم قالوا في قوله تعالى : {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، «أي: يكشف عن شدَّة»: قولٌ غير صحيح، ومن قرأ الكتب المصنفة في السنَّة، علم خطأ هذا القول وبطلانه.
الوجه الثاني: أننا لو فرضنا صحة ما نقله ابن الجوزي عن الجمهور، فلا يدل هذا على صحة قولهم وبطلان ما عداه، فليس كلُّ قول يذهب إليه الجمهور يكون صوابًا، فإن الحق لا يعرف بالكثرة، إنما يعرف بالأدلة والبراهين، وقد أوردنا فيما تقدم أدلة صحيحة لا معارض لها تدل على إثبات صفة الساق لله تعالى.
ثم إنه يقال أيضًا: لو صحَّ ما زعمه ابن الجوزي، فلا يدل أيضًا على نفي الجمهور صفة الساق عن الله تعالى، وإنما هو أمرٌ ظهر لهم في معنى الآية ليس غير، بخلاف أهل البدع، فلا يثبتون لله تعالى صفة الساق مطلقًا، لا من الكتاب، ولا من السنة.
الوجه الثالث: أن تفسير الساق بالشدة غير صحيح، يبطله ما رواه ابن منده في «الرد على الجهمية» (ص 37) من طريق عبد الرزاق، أنبا الثوري، عن مسلمة بن كهيل، عن أبي الزعراء، عن ابن مسعود، في قوله جلَّ وعز: { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، قال: «عن ساقيه».
قال أبو عبد الله: «هكذا في قراءة ابن مسعود، و[يكشف]: بفتح الياء وكسر الشين».
فلا يصح أن يقال: يكشف عن شدتيه!!
الوجه الرابع: أن لغة القوم في مثل ذلك أن يقال: كُشِفَت الشدَّة عن القوم لا كُشِف عنها! كما قال الله تعالى: {فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ} [الزخرف: الآية 50]، وقال: {وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِم مِّن ضُرٍّ} [المؤمنون: الآية 75]، فالعذاب والشدَّة هو المكشوف لا المكشوف عنه.
وأيضًا، فهناك تحدث الشدَّة وتشتد، ولا تزال إلا بدخول الجنة، وهناك لا يُدعون إلى السجود، وإنما يُدعون إليه أشدَّ ما كانت الشدة».
الوجه الخامس: قال شيخ الإسلام رحمه الله في «نقض أساس التقديس» (الجزء الثالث): «إن هؤلاء يتأولون كشفه عن ساق بأنه إظهار الشدَّة، وفي نفس هذه الأحاديث أنه إذا أتاهم في الصورة التي يعرفون، يكشف لهم عن ساقه، فيسجدون له، فإذا تأوَّلوا مجيئه في الصورة التي يعرفون على إظهار رحمته وكرامته، كان هذا من التحريف والتناقض في تفسير الكتاب والسنة».
الوجه السادس: أن الأصل في الألفاظ أن تحمل على الحقيقة حتى يَرِد ما يخرجها عن ذلك، فقوله جلَّ وعلا: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ} [القلم: الآية 42]، دليل على إثبات الساق لله تعالى إثباتًا بلا تمثيل وتنزيهًا بلا تعطيل؛ لأن الله جل وعلا {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ}[الشورى: الآية 11].
فحقيقة اللفظ إثبات الساق لله تعالى، فلا يعدل عن ذلك إلا بدليل، وليس عند أهل البدع من الأدلة سوى دعوى مشابهة المخلوق للخالق، ولو عقلوا، لعلموا أن قولهم هو التشبيه.
الوجه السابع: أن قول ابن الجوزي على قوله صلى الله عليه وسلم: «إن الله عز وجل يكشف عن ساقه»: «هذه إضافة إليه، معناها: يكشف عن شدته»: قولٌ مردود، مخالف لمذهب السلف، وتحريف للكلم عن مواضعه.
فالحديث على ظاهره فيه إثبات الساق لله تعالى، فيجب إثباته كإثبات سائر صفاته، دون تحريف أو تعطيل، أو تكييف أو تمثيل.
وهذا حقيقة الإيمان: إثبات ما أثبته الله لنفسه، ونفي ما نفاه الله عن نفسه.
الوجه الثامن: أن ابن الجوزي قال: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أنَّ الساق صفة ذاتية، وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»، قلت (القائل ابن الجوزي): وذكر الساق مع القدم تشبيه محض».
أقول: وهذا الكلام ليس فيه شيء من الهداية، بل هو ظلمات بعضها فوق بعض:
فقوله: «وقد ذهب القاضي أبو يعلى إلى أن الساق صفة ذاتية»:
أقول: هذا حق، فإن الأدلة كتابًا وسنة تدل عليه، فمن أنكره، فإنما ينكر على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى الصحابة الذين نقلوا لنا ذلك.
وقوله: «وقال مثله في: «يضع قدمه في النار»:
أقول: وهذا أيضًا من الحق الذي يجب اعتقاده والتسليم له، فإن القدم صفة من صفات الله تعالى الذاتية، التي يجب الإيمان بها، دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل.
ففي «صحيح البخاري» (8/ 594 – فتح، و13/ 368 – فتح) ومسلم (رقم 2848) عن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «لا تزالُ جهنم تقول: هل من مزيد؟ حتى يضع فيها ربُّ العزَّة تبارك وتعالى قدمه، فتقول: قط! قط! وعزَّتك، ويزوي بعضها إلى بعض».
قوله: «قدمه»: الهاء تعود على الرب جل وعلا.
والحديث صحيح صريح في إثبات صفة القدم لله تعالى.
وروى الإمام البخاري رحمه الله في «صحيحه» (8/ 595- فتح) ومسلم (رقم 2846) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تحاجَّت الجنة والنار، فقالت النار: أوثرتُ بالمتكبِّرين والمتجبِّرين، وقالت الجنة: ما لي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله تبارك وتعالى للجنَّة: أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي، وقال للنار: إنما أنتِ عذاب أُعذِّب بك من أشاء من عبادي، ولكل واحدة منهما ملؤها: فأما النار، فلا تمتلئ حتى يضع رجله، فتقول: قط قط قط، فهنالك تمتلئ، ويزوي بعضها إلى بعض، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحدًا، وأمَّا الجنة، فإن الله عز وجل ينشئ لها خلقًا».
وروى: ابن أبي شيبة في كتاب «العرش وما رُوي فيه» (ص79)، والدارمي في «رده على بشر المريسي» (ص67)، وعبد الله ابن الإمام أحمد في كتاب «السنة» (1/301)، والدارقطني في «الصفات» (ص49)، والحاكم في «مستدركه» (2/ 282)، وغيرهم، بسند صحيح عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، قال: «الكرسي موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره».
قال الإمام الدارمي رحمه الله في «نقضه»: «صحيح مشهور».
وقال الحاكم: «هذا حديث صحيح على شرط الشيخين، ولم يُخرجاه».
وهذا الأثر له حكم الرفع؛ لأنه أمر غيبي، لا يقال من قبل الرأي، ولا مجال للاجتهاد فيه.
فيؤخذ منه إثبات القدمين لله تعالى، فنثبت ذلك لله تعالى، ونؤمن بأن الله جل ذكره {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ} [الشورى: الآية11].
قال أحمد بن حنبل: «أحاديث الصفات تمر كما جاءت».
فمن حرفها وتأولها، فقد سلك مسلك النفاة الجهمية، ومن أنكرها، فهو على شفا جرفٍ هارٍ.
قال الإمام الثقة حماد بن سلمة – وقد كان من أشد الناس في زمانه على أهل البدع -: «من رأيتموه ينكر هذه الأحاديث، فاتهموه على الدين».
وقال الإمام عبد الرحمن بن مهدي رحمه الله تعالى – وذكر عنده أن الجهمية ينفون أحاديث الصفات، ويقولون: الله أعظم من أن يوصف بشيء من هذا!! فقال عبد الرحمن بن مهدي: «قد هلك قوم من وجه التعظيم، فقالوا: الله أعظم من أن ينزل كتابًا أو يُرسل رسولاً، ثم قرأ: {وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ} [الأنعام: الآية 91]».
ثم قال: «هل هلكت المجوس إلا من جهة التعظيم؟ قالوا: الله أعظم من أن نعبده! ولكن نعبد من هو أقرب إليه منا، فعبدوا الشمس، وسجدوا لها، فأنزل الله عزَّ وجلَّ: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللهِ زُلْفَى} [الزمر: الآية 3]».
وأمَّا قول ابن الجوزي: «وذكر الساق مع القدم تشبيه محض»، فهذا قول جاهل لا يفهمُ من صفات الخالق إلا ما فهمه من صفات المخلوق، وقد تقدم إبطال هذا القول العليل الفاسد، الناشئ من التشبيه الخالص، فالله المستعان.
* قال ابن الجوزي (ص 120):
«قال ابن حامد: يجب الإيمان بالله لله تعالى ساقًا صفةً لذاته، فمن جحد ذلك كفر.
قلت: ولو تكلم بهذا عامي جلف كان قبيحًا، فكيف بمن ينسب إلى العلم؟! فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة، وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة».
* أقـول:
هذا الكلام يجاب عنه من وجوه:
الوجه الأول: أن قول ابن حامد: «يجب الإيمان بأن لله تعالى ساقًا صفة لذاته»: قول صحيح، والأدلة من الكتاب والسنة تؤيده وتنصره، والمخالف في ذلك مستحق للذم؛ لأنه لم يثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه وما أثبته له رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا} [النساء: الآية 65]، فليس – والله – لمن عطَّل الله عن أسمائه وصفاته أو حرَّفها حظ ولا نصيب من هذا التحكيم المأمور به.
الوجه الثاني: أن إنكار ابن الجوزي على ابن حامد في قوله: «فمن جحد ذلك كفر»: إنكار في غير محله؛ لأن من أنكر آية من كتاب الله، فقد أنكر الكتاب كلَّه وكفر بذلك، ومن أنكر حديثًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أنكر الحديث كلَّه وضلَّ ضلالاً بعيدًا، وكلام العلماء كثير في ذلك.
وقد ذمَّ الله تعالى الذين يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: الآية 85].
قال الإمام البربهاري رحمه الله: «ومن ردَّ حديثًا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقد ردَّ الأثر كله، وهو كافرٌ بالله العظيم».
وقال الإمام إسحاق بن راهويه: «مَن بلغه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم خبر يقر بصحته، ثم ردَّه بغير تقية، فهو كافر».
ذكره أبو محمد بن حزم رحمه الله في كتابه «الإحكام»(1/ 97) عن محمد بن نصر المروزي عنه
وقال أبو معمر الهذلي: «من زعم أن الله لا يتكلم ولا يبصر ولا يسمع ولا يعجب ولا يضحك ولا يغضب... (وذكر أحاديث الصفات)، فهو كافرٌ بالله، ومن رأيتموه على بئر واقفًا، فألقوه فيها».
وهذا كله في تكفير العموم، وأنَّ من قال كذا، فحكمه كذا، ولا يلزم منه تكفير المعيَّن، حتى تقوم عليه الحجة؛ لأن الجاهل والمتأوِّل لهما حكمهما.
وما تقدَّم ذكره عن الأئمة يمكن حمله أيضًا على المصر بالباطل، المعاند، المعرض عن أدلة الكتاب والسنة، الصادّ عنهما.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله في «الكافية الشافية في الانتصار للفرقة الناجية» (ص127):
واشْهَدْ عَلَيْهِمْ أَنَّهُمْ لاَ يُكْفِرو --نَكُمُ بِما قُلْتُمْ مِنَ الكُفْرانِ
إِذْ أَنْتُمُ أَهْلُ الجَهَالَةِ عِنْدَهُمْ -- لَسْتُمْ أُوْلِي كُفْرٍ وَلا إِيْمانِ
لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الكُفْرانِ بَلْ -- لا تَعْرِفُونَ حَقِيقَةَ الإِيْمانِ
إِلاَّ إذَا عانَدْتُمُ وَرَدَدْتُمُ -- قَوْلَ الرَّسولِ لأِجْلِ قَوْلِ فُلانِ
فَهُناكَ أَنْتُمْ أَكْفَرُ الثَّقَلَيْنِ مِنْ -- إِنْسٍ وَجِنٍّ ساكِنِي النِّيرانِ
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في «المنهاج» (5/ 240): «قد ينقل عن أحدهم أنه كفَّر من قال بعض الأقوال، ويكون مقصوده: أن هذا القول كفر، ليحذر، ولا يلزم إذا كان القول كفرًا أن يُكفَّر كل من قاله مع الجهل والتأويل، فإن ثبوت الكفر في حق الشخص المعين كثبوت الوعيد في الآخرة في حقه، وذلك له شروط وموانع...».
وقال رحمه الله في «المسائل الماردينية» (ص71): «وحقيقة الأمر في ذلك أنَّ القول قد يكون كفرًا، فيطلق القول بتكفير صاحبه، فيقال: من قال كذا، فهو كافر. لكن الشخص المعين الذي قاله لا يحكم بكفره حتى تقوم عليه الحجة التي يكفر تاركها، وهذا كما في نصوص الوعيد، فإن الله سبحانه وتعالى يقول: { إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: الآية10]، فهذا ونحوه من نصوص الوعيد حق، لكن الشخص المعين لا يشهد عليه بالوعيد، فلا يشهد لمعيَّن من أهل القبلة بالنار؛ لجواز أن لا يلحقه الوعيد؛ لفوات شرط، أو ثبوت مانع، فقد لا يكون التحريم بلغه، وقد يتوب من فعل المحرم، وقد تكون لهن حسنات عظيمة تمحو عقوبة ذلك المحرم، وقد يُبتلى بمصائب تكفِّر عنه، وقد يشفع فيه شفيع مطاع، وهكذا الأقوال التي يكفر قائلها، قد يكون الرجل لم تبلغه النصوص الموجبة لمعرفة الحق، وقد تكون بلغته ولم تثبت عنده، أو لم يتمكن من فهمها، وقد يكون عرضت له شبهات يعذره الله تعالى بها...».
الوجه الثالث: أن قول ابن الجوزي: «فإن المتأولين أعذر منهم؛ لأنهم ردوا الأمر إلى اللغة»: يقال عنه:
إن صرف المتأوِّلين الكلام عن حقيقته وردهم الأمر إلى اللغة في كل شيء ليس منهجًا مستقيمًا ولا مسلكًا صحيحًا، بل هو تحريف للكلم عن مواضعه.
وفي كثير من صفات الله تعالى يزعم أهل التعطيل أن اللغة تدل على كذا وتومئ إلى معنى كذا، فإذا نظرْنا في كلام أهل اللغة، لم نجد عالمًا منهم قال بهذا القول الذي يزعمونه، كما في قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} [طـه : الآية 5]: المعطلة يقولون: {استوى}، بمعنى: (استولى)، وأهل اللغة واللسان العربي لا يعرفون {استوى} بمعنى (استولى)، فالمعطلة جهلة بأمر الله، جهلة باللغة العربية، كذبة في النقل.
ثم إن ردَّ المعطلة الأمرَ إلى اللغة يقتضي تجهيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، فإنهم من أعلم الناس باللغة، وأفهمهم لمعانيها، ولم يفعلوا فعل المؤوِّلين المحرفين الذين يتلاعبون بكلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم، ويدَّعون أنَّ ذلك ممَّا توجبه اللغة، فلو كان ذكر الساق في حق الله يعني به الشدَّة، أو القدم يعني به الموضع، أو الضحك يعني به الرضى، لبيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بيانًا عامًّا لأهمية هذا الباب، ولما أحال الأمة على فهومهم، مع تباينها واختلافها.
والحاصل أنَّ الأصل في الكلام عند جميع العقلاء يراد به الحقيقة، فلا يخرج عن هذا الأصل إلا بدليل.
الوجه الرابع: أن قول ابن الجوزي: «وهؤلاء أثبتوا ساقًا للذات وقدمًا، حتى يتحقق التجسيم والصورة»: يقال عنه:
إن من أثبت لله تعالى الساق والقدم إنما أثبتهما بأدلة جلية نقلية من الكتاب والسنة، فالكتاب دلَّ على أن لله ساقًا، فيجب إثباته لله تعالى دون تحريف أو تعطيل، ودون تكييف أو تمثيل، والسنة أيضًا دلَّت على إثبات الساق والقدم لله تعالى، وهاتان الصفتان من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى.
وهذا قول جميع علماء السلف، فلا أعلم بينهم نزاعًا في إثبات هاتين الصفتين، وكذلك سائر ما وصف الله به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
ومن زعم أنَّ إثبات الساق والقدم لله تعالى تجسيم، فقد أعظم على الله الفرية، وقال ما لا علم له به، وهذا أصل الضلال:
قال تعالى: {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [الأعراف: الآية 33].
وقال: {وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولاً} [الإسراء: الآية 36].
وليس – ولله الحمد – فيما وصف اللهُ به نفسه أو وصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم تشبيه ولا تجسيم، إنَّما التشبيه في نفي صفات الله تعالى ووصفه بالعَدَمِ، كما عليه أهل التعطيل، الذين ينفون عن الله تعالى ما وصف به نفسه ووصفه به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ويلقِّبون أهل السنة الذين تمسكوا بكتاب ربهم وسنة نبيهم وعضوا عليها بالنواجذ بالمجسمة والمشبهة.
فإذا كان وصف الله جلَّ وعلا بالساق والقدم والصورة والوجه والسمع والبصر والعينين تشبيهًا، فمرحبًا بالتشبيه، فالأسماء لا تغير الحقائق عندنا.
ولكن معاذ اللهِ أن يكون وصف الله بذلك تشبيهًا، إنما التشبيه أن يقال: قدم كقدمي! وساق كساقي! ويدٌ كيدي! والسلف ينكرون هذا ويكفِّرون قائله، أمَّا إثبات الصفات لله تعالى على ما يليق به مع نفينا لصفاته أن تكون مماثلة لصفات المخلوقين، فهذا مسلك الأنبياء والمرسلين.
( المرجع : " إتحاف أهل الفضل والإنصاف " للشيخ سليمان العلوان ، ص 160-180) .
No comments:
Post a Comment