بسم الله
الحيز والمكان والجهة والخلاء
عبد الباسط غريب
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا, من يهده الله فلا مضل له, ومن يضلل الله فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : فإن البدعة لو كانت باطلا محضا لظهرت وبانت وما قبلت , ولو كانت حقا محضا لا شوب فيه لكانت موافقة للسنة؛ فإن السنة لا تناقض حقا محضا لا باطل فيه , ولكن البدعة تشتمل علي حق وباطل .
درء التعارض (1|120)
ولو تأمل طالب العلم في كثير من ضلالات أهل البدع وأخطائهم , لوجدها على هذا النحو , ظاهرها التنزيه وحقيقتها التعطيل والتحريف , وقد يكون من أسباب الخلط الاعتقاد قبل الاستدلال , فأخذ كثير من القواعد والأقوال على وجه التسليم ثم البناء على هذا الاعتقاد الخاطئ أو التسليم الفاسد ,وهذا بين في كثير من المسائل التي خلط فيها أهل البدع .
ومن مسائل ذلك نفي صفة العلو لله تعالى التي دل على إثباتها مئات النصوص والتي هي من الضروريات ومعارضتها بالأقيسة النظرية والعقلية والشبه الفلسفية.
الأشاعرة ومعتقدهم فوق العالم أو خارج العالم
يعتقد الأشاعرة أن فوق العالم أو خارجه خلاء , ويعنون بالخلاء الفراغ الموهوم الذي يمكن أن يحل فيه الشيء .
ففي شرح المواقف : ( وأما ) الخلاء ( خارج العالم فمتفق عليه ) إذ لا تقدر هناك بحسب نفس الأمر ( فالنزاع ) فيما وراء العالم إنما هو ( في التسمية بالبعد فإنه عند الحكماء عدم محض ) ونفي صرف ( يثبته الوهم ) ويقدره من عند نفسه، ولا عبرة بتقديره الذي لا يطابق نفس الأمر، فحقه أن لا يسمى بعداً ولا خلاء أيضا. ( وعند المتكلمين ) هو ( بعد ) موهوم كالمرفوض فيما بين الأجسام على رأيهم .
شرح المواقف (1|566) للجرجاني
وهذا الخلاء عند الأشاعرة منهم من يجعله أمرا عدميا وهم الأكثر , ومنهم من يجعله أمرا وجوديا كالرازي .
وقد رد عليهم ابن رشد فقال : وليس لهم أن يقولوا : إن خارج العالم خلاء , وذلك أن الخلاء قد تبين في العلوم النظرية امتناعه لأن ما يدل عليه اسم الخلاء ليس هو شيئا أكثر من أبعاد ليس فيها جسم أعني طولا وعرضا وعمقا لأنه إن وقعت الأبعاد عنه عاد عدما , وإن أنزل الخلاء موجودا لزم أن تكون أعراض موجودة في غير جسم وذلك لأن الأبعاد هي أعراض من باب الكمية .
الكشف عن مناهج الأدلة (148)
وقال ابن رشد : والمقدمة ..القائلة إن العالم في خلاء يحيط به كاذبة أو غير بينة بنفسها ,ويلزم عن وضعه هذا الخلاء أمر شنيع عندهم وهو أن يكون قديما، لأنه إن كان محدثا احتاج إلى خلاء .انتهى
بيان تلبيس الجهمية (1|222)
فترتب على هذا الاعتقاد أن خارج العالم أو فوقه خلاء وفراغ موهوم , ومنهم من يجعله وجودي دخلت شبهة الحيز والجهة والمكان .
الحيز , المكان , الجهة
فقالوا : لو كان فوق العرش ولو كان مختصا بجهة العلو للزم من ذلك أنه متحيز أو في مكان أو في جهة .
قال ابن رشد : والشبهة التي قادت نفاة الجهة إلى نفيها هو أنهم اعتقدوا أن إثبات الجهة يوجب إثبات المكان, وإثبات المكان يوجب إثبات الجسمية .
الكشف عن مناهج الأدلة (145)
وقد رد العلماء عن من هذه الشبه بدقة متناهية , وأصول منضبطة , توافق السمع والنظر والعقل واللغة والفطرة .
ومن تلك الأصول طلب الاستفسار عن المعاني التي لم ترد في الكتاب والسنة , فالتفصيل في مثل هذه الألفاظ يزيل الإشكال .
فهؤلاء أخذوا هذه الألفاظ بالاشتراك وتوهموا وأوهموا إذا كان له صفة العلو كان في جهة أو حيز أو مكان كما يكون الإنسان في بيته ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره , والله تعالى غني عن كل ما سواه , وهذا موضع الاشتباه , ولذلك أجاب أهل السنة عن ذلك بالاستفصال عن المراد بهذه الألفاظ .
فهذه الألفاظ تحتمل أمورا وجودية وأمورا عدمية , فإن كانت وجودية فأهل السنة ينزهون الله تعالى عن الحلول في شيء من مخلوقاته , وإن كانت عدمية , فالعدم لا شيء , ولا إشكال في وصف الله تعالى بالعلو , وإليك التفصيل :
الحيز
قال شيخ الإسلام : إن المتحيز في لغة العرب التي نزل بها القرآن يعنى به ما يحوزه غيره كما في قوله تعالى:{ أو متحيزا إلى فئة} فهذا تحيز موجود يحيط به موجود غيره إلى موجودات تحيط به , وسمى متحيزا لأنه تحيز من هؤلاء إلى هؤلاء , والمتكلمون يريدون ب التحيز ما شغل الحيز والحيز عندهم تقدير مكان ليس أمرا موجودا ؛ فالعالم عندهم متحيز , وليس في حيز وجودي, والمكان عند أكثرهم وجودى .
الرد على المنطقيين (1|239)
وقال : وأما التحيز الذي يعنيه المتكلمون فأعم من هذا فإنهم يقولون العالم كله متحيز , وإن لم يكن في شيء آخر موجود إذ كل موجود سوى الله ؛ هو من العالم وقد يفرقون بين الحيز والمكان فيقولون الحيز تقدير المكان , وكل قائم بنفسه مباين لغيره بالحهة متحيز عندهم , وإن لم يكن في شيء موجود .
ولهذا يقول بعضهم : التحيز من لوازم الجسم ويقول بعضهم : هو من لوازم القيام بالنفس كالتحيز والمباينة , وعلى هذا التفسير فالحيز إما وجودي وإما عدمي فإن كان عدميا فالقول فيه كالقول في معنى الجهة العدمية , وإن كان وجوديا فإما أن يراد به ما ليس خارجا أو ما هو خارجا عنه فالأول مثل حدود المتحيز وجوانبه فلا يكون الحيز شيئا خارجا على المتحيز على هذا التفسير , وأما أن يعني به شيء موجود منفصل عن المتحيز خارج عنه فهذا هو التفسير الأول وليس غير الله إلا العالم ؛ فمن قال إنه في حيز موجود منفصل عنه فقد قال: إنه في العالم أو بعضه , وهذا مما قد صرحنا بنفيه , وإذا كان كذلك فلا بد من تفصيل المقال ليزول هذا الإبهام والإجمال .
الفتاوى الكبرى (6|357)
وقال : وأما لفظ المتحيز فهو في اللغة اسم لما يتحيز إلى غيره كما قال تعالى {ومن يولهم يومئذ دبره إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة } وهذا لا بد أن يحيط به حيز وجودي , ولا بد أن ينتقل من حيز إلى حيز , وعلم أن الخالق جل جلاله لا يحيط به شيء من مخلوقاته ؛ فلا يكون متحيزا بهذا المعنى اللغوي , وأما أهل الكلام فاصطلاحهم في المتحيز أعم من هذا ؛ فيجعلون كل جسم متحيز والجسم عندهم ما يشار إليه فتكون السموات والأرض وما بينهما متحيزا على اصطلاحهم وإن لم يسم ذلك متحيزا في اللغة , والحيز تارة يريدون به معنى موجودا وتارة يريدون به معنى معدوما , ويفرقون بين مسمى الحيز ومسمى المكان؛ فيقولون المكان أمر موجود , والحيز تقدير مكان عندهم ؛ فمجموع الأجسام ليست في شيء موجود ؛ فلا تكون في مكان وهي عندهم متحيزة , ومنهم من يتناقض فيجعل الحيز تارة موجودا وتارة معدوما كالرازي وغيره كما بسط الكلام على ذلك في غير هذا الموضع ؛ فمن تكلم باصطلاحهم وقال إن الله متحيز بمعنى أحاط به شيء من الموجودات فهذا مخطىء ؛ فهو سبحانه بائن من خلقه وما ثم موجود إلا الخالق والمخلوق , وإذا كان الخالق بائنا عن المخلوق امتنع أن يكون الخالق في المخلوق وامتنع أن يكون متحيزا بهذا الاعتبار , وإن أراد بالحيز أمرا عدميا؛ فالأمر العدمي لا شيء, وهو سبحانه بائن عن خلقه ؛ فإذا سمي العدم الذي فوق العالم حيزا , وقال يمتنع أن يكون فوق العالم لئلا يكون متحيزا ؛ فهذا معنى باطل لأنه ليس هناك موجود غيره حتى يكون فيه , وقد علم بالعقل والشرع أنه بائن عن خلقه كما بسط في غير هذا الموضع .
بيان تلبيس الجهمية (1|521)
الجهة
قال شيخ الإسلام : وقد قدمنا فيما مضى أن لفظ الجهة يراد به أمر موجود وأمر معدوم ؛ فمن قال إنه فوق العالم كله لم يقل أنه في جهة موجودة إلا أن يراد بالجهة العرش ,ويراد بكونه فيها أنه عليها كما قيل في قوله: أنه في السماء: أي على السماء , وعلى هذا التقدير؛ فإذا كان فوق الموجودات كلها وهو غني عنها لم يكن عنده جهة وجودية يكون فيها فضلا عن أن يحتاج إليها, وإن أريد بالجهة ما فوق العالم؛ فذلك ليس بشيء ولا هو أمر وجودي حتى يقال أنه محتاج إليه أو غير محتاج إليه , وهؤلاء أخذوا لفظ الجهة بالاشتراك وتوهموا وأوهموا إذا كان في جهة كان في شيء غيره كما يكون الإنسان في بيته ثم رتبوا على ذلك أنه يكون محتاجا إلى غيره والله تعالى غني عن كل ما سواه وهذه مقدمات كلها باطلة .
بيان تلبيس الجهمية (1|520)
المكان
وقال : وما ذكره ابن رشد في اسم المكان يتوجه من يسلم له مذهب أرسطو , وأن المكان هو السطح الداخل الحاوي المماس للسطح الخارج المحوي , ومعلوم أن من الناس من يقول : إن للناس في المكان أقوالا آخر منهم؛ من يقول : إن المكان هو الجسم الذي يتمكن غيره عليه ومنهم من يقول : إن المكان هو ما كان تحت غيره وإن لم يكن ذلك متمكنا عليه ومنهم من يزعم أن المكان هو الخلاء وهو أبعاد
والنزاع في هذا الباب نوعان : أحدهما معنوي كمن يدعي وجود مكان هو جوهر قائم بنفسه ليس هو الجسم وأكثر العقلاء ينكرون ذلك .
والثاني: نزاع لفظي وهو من يقول المكان من يحيط بغيره يقول آخر : ما يكون غيره عليه أو ما يتمكن عليه .
ولا ريب أن لفظ ( المكان ) يقال على هذا وهذا ومن هنا نشأ تنازع أهل الإثبات : هل يقال : أن الله تعالى في مكان أم لا ؟ هذا كتنازعهم في الجهة والحيز لكن قد يقر بلفظ الجهة من لا يقر بلفظ ( الحيز ) أو ( المكان ) وربما أقر بلفظ الحيز أو المكان ومن لا يقر بالآخر وسبب ذلك إما إتباع ما ورد أو اعتقاد في أحد اللفظين من المعنى المردود ما ليس في الآخر .
وحقيقة الأمر في المعنى أن ينظر إلى المقصود فمن اعتقد أن المكان لا يكون إلا ما يفتقر إليه المتمكن سواء كان محيطا به أو كان تحته؛ فمعلوم أن الله سبحانه ليس في مكان بهذا الاعتبار ومن اعتقد أن العرش هو المكان وأن الله فوقه مع غناه عنه فلا ريب أنه في مكان بهذا الاعتبار .
درء التعارض (3|221)
وقال : وأما علماء المسلمين فليس عندهم ولله الحمد من ذلك ما هو خفي بل لفظ المكان قد يراد به ما يكون الشيء فوقه محتاجا إليه كما يكون الإنسان فوق السطح , ويراد به ما يكون الشيء فوقه من غير احتياج إليه مثل كون السماء فوق الجو وكون الملائكة فوق الأرض والهواء وكون الطير فوق الأرض .
ومن هذا قول حسان بن ثابت رضي الله عنه
تعالى علوا فوق عرش إلهنا ... وكان مكان الله أعلى وأعظما
مع علم حسان وغيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم أن الله غنى عن كل ما سواه , وما سواه من عرش وغيره محتاج إليه , وهو لا يحتاج إلى شيء وقد أثبت له مكانا... وقد يراد بالمكان ما يكون محيطا بالشيء من جميع جوانبه ؛ فأما أن يراد بالمكان مجرد السطح الباطن أو يراد به جوهر لا يحس بحال ؛ فهذا قول هؤلاء المتفلسفة , ولا أعلم أحدا من الصحابة والتابعين وغيرهم من أئمة المسلمين يريد ذلك بلفظ المكان وذلك المعنى الذي أراده أرسطو بلفظ المكان عرض ثابت لكن ليس هذا هو المراد بلفظ المكان في كلام علماء المسلمين وعامتهم ولا في كلام جماهير الأمم علمائهم وعامتهم ,وأما ما أراده أفلاطون فجمهور العقلاء ينكرون وجوده في الخارج وبسط هذه الأمور له موضع آخر
منهاج السنة (2|357)
وقال : أن يقال لفظ الحيز والمكان قد يعني به أمر وجودي وأمر عدمي وقد يعني بالمكان أمر وجودي وبالحيز أمر عدمي , ومعلوم أن هؤلاء المثبتين للعلو يقولون : إنه فوق سماواته وعلى عرشه بائن من خلقه , وإذا قالوا : إنه بائن من جميع المخلوقات ؛ فكل ما يقدر موجودا من الأمكنة والأحياز فهو من جملة الموجودات فإذا كان بائنا عنها لم يكن داخلا فيها فلا يكون داخلا في شيء من الأمكنة والأحياز الوجودية على هذا التقدير , ولا يلزم قدم شيء من ذلك على هذا التقدير
وإذا قالوا : إنه فوق العرش لم يقولوا : إن العرش كان موجودا معه في الأزل بل العرش خلق بعد أن لم يكن وليس هو داخلا في العرش ولا هو مفتقر إلى العرش بل هو الحامل بقوته للعرش ولحملة العرش؛ فكيف يلزم على هذا أن يكون معه في الأزل ؟ بل كيف يلزم على هذا أن يكون داخلا في العرش أو مفتقرا إليه وإنما يلزم ما ذكره من لا بد له من شيء مخلوق يحتوي عليه , وهذا ليس قول من يقول : إنه بائن عن جميع المخلوقات .
درء التعارض (3|266)
فالملخص : أن إثبات العلو لله جل وعلا لا يلزم منه الجهة والحيز والمكان الوجودي , وأما ما يتوهمه العقل من ذلك , فالعقل يفرض المستحيل والعدم , وهو عند التحقيق لا شيء , ومن اعتقد منهم أن خارج العالم خلاء وجودي فقد ناقض المعقول ولزم منه لوازم فاسدة كما تقدم من كلام ابن رشد.
والله أعلم .
No comments:
Post a Comment