منهج ابن تيمية في الرد على المتكلمين
عبد العزيز التميمي
مقدمة :
لم يكن في القرون الأولى المفضلة أي جــدل عـقـدي ، بل أجمع السلف على عقيدة واحدة حتى ظهرت الفتن ، وكانت بوادر الانشقاق فـي شـكـل سـيـاسي يتبنى شذوذات عقدية ، وذلك يتمثل في تيار الخوارج ، ثم بدأت شقة الانحراف تـتـسع بظهور المعتزلة والشيعة ، ولكن الشيء الجدير بالذكر أن تيار هذه الفرق ظل محدوداً وبـقـيـت جمـاهـيـر الأمة على العقيدة السليمة والاتجاه الواحد.
ثم كان أن اتسعت رقعة الدولة الإسلامية ودخلت في هذا الدين شعوب وأعراق مختلفة لم تتلق القدر الكافي من التربية العقدية وبقيت تمحمل ألواناً مختلفة من ثقافاتها ، وكـانـت الطامة الكبرى عندما ظهرت ترجمات الـفـكـر الإغريـقـي الوثـنـي فـي عهد بني العباس، وتـبـنـت الـدولة الخط الاعتزالي ، وكانت محنة الإمام أحمد رحمه الله ، وفي تلك الفترة ظهرت بوادر الـمـتـكـلـمـيـن ممثلة في ابن كلاب الذي رد على المعتزلة لكنه لم يتبن عقيدة السلف كاملة ، ثم ظهر الأشعري الذي كان معتزلياً في بداية أمره ، ثم تبين له انحرافهم وضلالهم فخالفهم ولكنه لم يـصـب طـريقـة الـسـلـف وإنما توسط بين هؤلاء وهؤلاء ، ثم في نهاية أمره ترك مذهب الوسط وانحاز إلى مذهب السلف وكان آخر كتبه (الإبانة) تبنى فيه مذهب السلف الذي كان عليه أحمد ابن حنبل.
لم يلق القول الثالث قبولاً لدى أتباعه المتأخرين وتمـسـكـوا بالمرحلة الوسطية وهي مرحلة التأويل. وفي عصر ابن تيمية كانت لا تزال المناقشات والمنـاظــرات بين المتكلمين من أتباع أبي حسن الأشعري وبين من يتبع مذهب السلف في ذلك ، وقـد ألــف ابن تيمية رسائل كثيرة بل كتباً في الرد على المتكلمين وبيان أن مذهب السلف أعلم وأحكم.
التعريف بالمتكلمين :
التعريف المختار لعلم الكلام هو »علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية أو ما يظن أنها عقلية« . (1) وسمي بعلم الكلام لأن مسألة كلام الله من أشهر وأقدم مباحثه . (2) والمتكلمون هم الذين تبنوا هذا العلم وتوسعوا فيه . وعند الحديث عن المتكلمين لابد من الحديث عن معارضيهم الذين سُمُّوا بأهل الحديث أو أهل السنة أو السلف . والسلف يقصد بهم القرون الثلاثة المفضلة (3) ، والسلفيون هم الذين اتبعوا عقائد الأئمة فـي تلـك القرون الثلاثة.
ويطلق على المتكلمين وأهل الحديث جميعاً الصفاتية لإثباتهم أصل الصفات لله تعالى (4) وكذا المثبتة . وقد مر علم الكلام بمراحل تاريخية ذلك أن الفلسفة لما ترجمت إلى العربية لم تـلـق ترحيباً في أوساط المسلمين من العلماء والعامة لذلك تبنى بعض من سمي بفلاسفة الإسـلام قـضـايا الفلسفة ، وحاولوا تطويع النصوص الإسلامية لها ، بل لم يتورعوا عن الاستخفاف بها وتكذيبها ، والقول بأنها إن كانت كذباً فهي كذب لمصلحة الجمهور(5).
وإزاء هذه المجـازفات الشنيعة تلقى هؤلاء مقتاً من جمهور المسلمين وظلت الحال كذلك حتى جاء الباقلاني ووضع المقدمات العقلية التي تتوقف عليها الأدلة في أصول الدين.
وتوسع معاصره ابن فورك في التأويل حتى قيل أنه أول أشعري عرف عنه نفي الجهة وتأويل الاستواء . (6) وأخذها عنه من بعده . ثم جاء أبو المعالي الجويني سنة 418 هـ الذي خلط المنطق بعلم الكلام ، ثم انتشرت من بعد ذلك علوم المنطق في الملة وقرأة الناس (7) وجاء الغزالي الذي خلط بين الفلسفة وعلم الكلام بحيث يتعذر التمييز بينهما.
يقول ابن خلدون »ثم توغل المتأخرون من بعدهم في مخالطة كتب الفلسفة ، والتبس شأن الموضوع في العلمين "أي الفلسفة والكلام" فحسبوه فيهما واحداً ... كما فعله البيضاوي في الطوالع (8) وبهذه الطريقة آل علم الكلام في المتأخرين إلى ضرب من الفلسفة إن لم يكن هو الفلسفة المكروهة بين جماهير المسلمين ، فهو تلطيف خفيف لم يغير من جوهر المسألة شيئاً.
بعد أن تبين لنا تعريف المتكلمين وتطور علم الكلام ، نشرع في عرض طريقة ابن تيمية في الرد عليهم بكشف أحوالهم وسنقسم هذا المنهج إلى قسمين :
أ- خصائص أسلوبه في عرض العقيدة والشريعة.
ب- طريقته في مخاطبة المتكلمين خاصة.
أ- طريقة ابن تيمية في عرض العقيدة والشريعة ونقد المخالفين :
جاء ابن تيمية في عصر ركود وجمود عام في شتى العلوم الإسلامـيـة ، الـتـي غـلـب فيها التقليد ومتابعة أقوال السابقين والاكتفاء بالمختصرات والحواشي والتهذيبات.
وأقفل باب الاجتهاد وانتشر المذهب الكلامي في العقيدة كما عاثت الصرفية فساداً في عقائد الناس وعباداتهم ، هذا إلى جانب الفساد السياسي والاجتماعي.
فـمـا كان منه إلا أن شمر عن ساعد الجد وخاض في غمار تلك الانحرافات غير هـيــاب ، مستعيناً بالله متزوداً بعلم غزير في شتى المعارف البشرية في عصره ، ويساعده في ذلك عقل عبقري نفاذ وذاكرة مذهلة لا تكاد تسقط شيئاً.
فألف وناظر فـي العقـيـدة فكسب عداء المتكلمين وسجن بسببه من 705-707 ومن 726-728هـ وهاجم الصوفية وخزعبلاتها والمنحرفين من زعمائها وسجن بسبب ذلك من 707-708 هـ . وعاب على الفقهاء جمودهم الفقهي ودعا إلى الاجتهاد ومارسه بالفعل وكان أهلاً لذلك حتى لقد أفتى في مسائل يخالف بها الأئمة الأربعة جميعاً ، فكسب بذلك عداوة المقلدة من الفقهاء وسجن بسبب ذلك ،مرتين في سنة 718 هـ وسنة 719 هـ.
وكان للشيخ في جميع حالاته تلك منهج محدد واضح لم يتخل عنه أو يتردد فيه أو يناقضه في حالة من حالاته ، ونحن نوجزه فيما يلي :
1- الاعتماد على الكتاب والسنة وأقوال السلف :يقول رحمه الله في هذا :» فقد وجب على كل مسلم تصديقه فيما أخبر به عن الله من أسماء الله وصفاته مما جاء في القرآن وفي السنة الثابتة عنه ، كما كان عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان«. (9) والمقصود هنا أن يؤخذ من الرسول العلوم الإلهية الدينية سمعياً وعقلياً ويجعل ما جاء به هو الأصول لدلالة الأدلة اليقينية البرهانية على أنه ما قاله حق جملة وتفصيلاً . (10)
2- الاستدلال العقلي فيما يستطيع العقل الإحاطة به : وتلك من صور التوازن العجيبة في هذا الرجل فهو مع توقيره العظيم للنصوص لا يهمل العقل أو يزدريه بل يرى أن العقل السليم لابد أن يوافق النقل الصحيح وأن الدين يأتي بما تحار منه العقول لا بما تحيله ، أي تراه مستحيلاً يقول في ذلك »إن كثيراً مما دل عليه السمع« (يقصد الوحي) يعلم بالعقل أيضاً القرآن يبين ما يستدل عليه العقل ويرشد إليه وينبه عليه .... والأمثلة المضروبة في القرآن هي أقيسة عقلية .... وهي أيضاً عقلية من جهة أنها تعلم بالعقل (11).
ويقول أيضا في نص شديد الروعة »والقول كلما كان أفسد في الشرع كان أفسد في العقل ، فإن الحق لا يتناقض والرسل إنما أخبرت بحق والله فطر عباده . والرسل إنما بعثت لتكميل الفطرة لا بتغيير الفطرة«(12).
وهو مع هذا التوقير للعقل لا يقدسه بل يرى أن له قدرة محدودة ينطلق فيها كما يشاء ويعجز عن إدراك بعض قضايا الدين في ذلك »يبقى الكلام في نفس الحكمة الكلية في هذا الحوادث فهذه ليس على الناس معرفتها ويكفيهم التسليم لما قد علموا أنه بكل شيء عليم وعلى كل شيء قدير وأنه أرحم الراحمين«.
ولعلنا قبل أن ننهي هذه الفقرة نشير لاستخدام الشيخ لقاعدة عقلية جاء بها النقل بتوسع في صفات الله تلك هي "قياس الأولى" وهي أن كل كمال مطلق يوصف به المخلوق فالخالق أولى به وكل نقص يتنزه عنه المخلوق فالخالق أولى بالتنزيه عنه (13).
3- حرصه الشديد على ضبط المصطلحات : وهو يعتني بذلك أشد العناية ويرى أن كثيراً من خلاف السلف خلاف تنوع لا خلاف تضاد أي أنهم يختلفون لفظياً . كما أن المتأخرين يستخدمون مصطلحات محدثة فيها الحق والباطل ثم ينفونها ليتوصلوا بها إلى نفي معنى صحيح . يقول رحمه الله:
»وأما الألفاظ تنازع فيها من ابتدعها من المتأخرين مثل لفظ الجوهر والمتحيز والجهة ونحو ذلك فلا تطلق نفياً ولا إثباتاً حتى ينظر في مقصود قائلها فان كان قد أراد بالنفي والإثبات معنى صحيحاً موافقاً لما أخبر به الرسول صوب المعنى الذي قصده بلفظه . ولكن ينبغي أن يعبر عنه بألفاظ النصوص لا يعدل إلى هذه الألفاظ المبتدعة المجملة إلا عند الحاجة مع قرائن تبين المراد بها«.
4- الاعتماد على اللغة الصحيحة : فالشيخ يعتمد على اللغة كما كانت عند العرب المتقدمين، ويميز بعبقريته بين معاني الألفاظ في أصل وضعها واستخدام المتأخرين لها . يقول : »وإذا اتفق شخصان على معنى وتنازعا هل يدل ذلك اللفظ عليه أم لا ، عبر عنه بعبارة يتفقان على الوارد بها ، وكان أقربهما إلى الصواب من وافق اللغة المعروفة ، كتنازعهم في لفظ المركب .... فتكون السموات والأرض وما بينهما متحيزاً في اللغة« (14).
5- النقل الموثوق : فهو عندما يريد محاجة خصم ، فانه يعتمد على كلامه ، إما المكتوب ، وإما المنقول شفهياً من مصادر موثوقة عن الخصم . ولذلك نجده في كثير من كتبه في الرد على الخصوم، يذكر أولاً كلام الخصم بنصه وبأمانة ولا يتدخل فيه حتى ينتهي من سرده ، ثم يبدأ في نقده وبيان علله (15) ، وهذه الطريقة جعلت من كتبه مرجعاً هاماً موثوقاً به في الفرق ، وخاصة تلك التي لم يأتنا شيء من مؤلفات زعمائها كالكلابية (16).
ولذلك نجده يطالب خصومه بالتزام هذا المنهج ، يقول عن الغزالي : »وأما ما حكاه أبو حامد عن بعض الحنبلية : أن أحمد لم يتأول إلا ثلاثة أشياء وهي : (الحجر الأسود يمين الله في الأرض ، وقلوب العباد بين إصبعين من أصابع الرحمن ، وإني أجد نفس الرحمن من قبل اليمن) . فهذه الحكاية كذب على أحمد لم ينقلها أحد عنه بإسناد ، ولا يعرف أحد من أصحابه نقل ذلك عنه ، وهذا الحنبلي الذي ذكر عنه أبو حامد مجهول لا يعرف لا علمه بما قال ولا صدقه فيما قال« (17) لذلك نجده يحرص كل الحرص على الأخذ من المصادر الأصلية ولا يكتفي بالنقل عن وسيط ، بل إنه في كثير من الأحوال يصحح سوء الفهم ، أو التحريف في النقل . وهو في هذا لا يكتفي بالمصادر الإسلامية بل يفعل ذلك حتى في مصادر الديانات الأخرى كاليهودية والنصرانية وكذا الفلاسفة والمتكلمين.
6- العدل مع الأصحاب والخصوم : وتلك خصلة قلما تجدها في المختصمين فاللجاجة في الخصومة تدفع المتخاصمين إلى أن يتجاهل كل واحد منهم محاسن الآخر ويبحث عن معايبه ويفرح إذا اكتشف منها شيئاً . ولذلك نجده مع أشد أعدائه خصومة يذكر ما فيهم من المحاسن (18) ، وهو يمارس ذلك فعلاً وقولاً ، وهذا النموذج الرائع الذي ننقله الآن يبين لنا هذين الجانبين فيه :
»والناس يعلمون أنه كان بين الحنابلة والأشعرية وحشة ومناظرة ، وأنا كنت من أعظم الناس تأليفاً للقلوب في المسلمين وطالباً لاتفاق كلمتهم ، اتباعاً لما أمرنا الله به من الاعتصام بحبل الله وإزالة عامة ما كان في النفوس من الوحشة ، وبينت لهم أن الأشعري كان من أجل المتكلمين المنتسبين إلى الإمام أحمد رحمه الله ونحوه المنتصرين لطريقه كما يذكر ذلك الأشعري في كتبه . وكما قال أبو اسحق الشيرازي »إنما نفقت الأشعرية عند الناس بانتسابهم إلى الحنابلة«.
وكان أئمة الحنابلة المتقدمين كأبي بكر عبد العزيز وأبي الحسن التميمي ونحوهما يذكرون كلامه في كتبهم ، بل كان عند متقدميهم كابن عقيل عند المتأخرين ولكن ابن عقيل له اختصاص بمعرفة الفقه وأصوله ، وأما الأشعري فهو أقرب إلى أصول أحمد من ابن عقيل وأتبع لها ، فإنه كلما كان عهد الإنسان أقرب كان أعلم بالمعقول والمنقول ، وكنت أقرر هذا للحنبلية ... ولما أظهرت كلام الأشعري ورآه الحنبلية قالوا »هذا خير من كلام الشيخ الموفق وفرح المسلمون باتفاق الكلمة«. وقال : »وكان أبو الحسن الأشعري لما رجع من الاعتزال سلك طريقة أبي محمد ابن كلاب ، فصار طائفة ينتسبون إلى السنة والحديث من السالمية وغيرهم كابن علي الأهوازي ، يذكرون من مثالب أبي الحسن أشياء هي من افتراء المعتزلة وغيرهم عليه ، لأن الأشعري بين من تناقض أقوال المعتزلة وفسادها ما لم يبينه غيره« (19).
»ويقول هذا إجماع من جميع الطوائف على تعظيم السنة ...« . ولهذا تجد أعظمهم موافقة لأئمة السنة والحديث أعظم عند جميعهم ممن هو دونه . فالأشعري نفسه لما كان أقرب إلى قول الإمام أحمد ومن قبله من أئمة السنة كان عندهم أعظم من أتباعه ، والقاضي أبو بكر الباقلاني لما كان أقربهم إلى ذلك كان أعظم عندهم من غيره.
7- التأصيل : وهو يذكر أسـبـاب ضـلال مـن ضـل وكـيـف زلـت أقدامهم وما هـي جذور انحرافهم ، ويتتبعها بعبقرية فذة . يقول : »وأما من قال من الجهـمـيـة ونـحـوهم أنه قد يعذب العاجزين ؛ ومن قال من المعتزلة ونحوهم من القدرية أن كل مجتهد لابد أن يعرف الـحـق وأن مــن لم يـعـرفــه فلتفريطه لا لعجزه ، فهما قولان ضعيفان ، وبسببهما صارت الطوائف المختلفة من أهل القـبـلـة يكفــر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً« ويقول : »وأما المختلفون في الكتاب المخالفون له المتفقون على مفارقته ، فتجعل كل طائفة ما أصلته من أصول دينها الذي ابتدعته هو الإمام الذي يجب اتباعه وتجعل ما خالف ذلك من الكتاب والسنة من المجملات المتشابهات التي لا يجوز اتباعها ، بل يتعين حملها على ما وافق أصلهم الذي ابتدعوه ، والإعراض عنها وترك التدبر لها« . ولأسلوبه في الكتابة خصائص أخرى يطول تعدادها وجمع الشواهد لها، فمن ذلك البعد عن التعصب المذهبي، والشمولية في النقد ، وتتبع التسلسل التاريخي لانـحـراف الـمـنـحـرفـيـن مــع نقد داخلي للنصوص والأسانيد ، مع نقد بناء يبطل الباطل ويحق الحق في أنصع صوره ، مع اضطراد في المنهج لا يحيد عنه ، وأدب جم ، وحرارة في الروح ، وحرص على حماية بـيـضـة الإســلام ، والإبقاء على عقائد المسلمين وعباداتهم بيضاء نقية كما أنزلت على محمد صلى الله عليه وسلم.
ب- طريقته في نقد المتكلمين خاصة :
أخـذ نقـد المتكلمين من جهد ابن تيمية ووقته وكتبه الشيء الكثير ، ويبدو أنه فعل ذلـك لأنه يرى أنهم أكثر الناس أنصاراً ، بينما تقلصت المدارس الأخرى أو انقرضت نهائياً . وكان في منهجه لنقدهم لا يعطي أحكاماً عامة تسلكهم في نظام واحد ، بل كان يميز بينهم ، ويفضل نـقـد كـل مـتـكـلـم منهم بعينه ، لأنه رأى أن كل فرد منهم قد يكون له آراء لا يشاركه فيها الآخرون ، فمن الظلم والحالة هذه مؤاخذتهم بما قاله بعضهم . كما كان أيضاً في نقده لهم يبين حال الشـخــص الواحد ، فهو على سبيل المثال لا يهاجم الأشعري بما كتبه في فترة الاعتزال ، وقد مر معنا في نصوصه ما يشير لذلك.
وكان بودي لو أفردت لكل واحــد من هؤلاء المتكلمين باباً خاصاً ، جمعت فيه آراء الشيخ حوله في مختلف كتاباته ، إذن لخــرجنا بكنز ثمين من ناقد خبير بالرجال ومعادنهم ، ولكن أنى لنا ذلك والزمان والمكان لا يـسـمـحان لذلك فنحن هنا نشير إلى أصول مشتركة ، وجه بها نقده إلى كافة المتكلمين لأنهم تقريـبـاً يتفقون فيها ، فمن مآخذه عليهم ما يلي :
1)- إهمالهم توحيد الألوهية ، فالتوحيد ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
أ- توحيد الربوبية وهو توحيد الله بأفعاله كالخلق والرزق ، وهذا آمن به المشركون كما قال تعالى : ((»ولَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ والأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ))
ب- توحيد الأسماء والصفات.
ج- توحيد الألوهية "العبودية" وهو توحيد الله بأفعال العباد كالصلاة والذبح والنذر والخوف والرجاء وبه أرسل الرسل وأنزل الكتب كما قال تعالى: ((ولَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ واجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ)) ، ورغم الأهمية العظمى لهذا التوحيد فان المتكلمين لا يتحدثون عنه ، ولا يبذلون جهدهم لتعليمه الناس ، بل غاية جهدهم إنما هو الاستدلال على وجود الخالق ، رغم أن هذا مركوز في الفطرة البشرية ، لا يحتاج تقريره جهداً يذكر ، فضلاً على أن يكون كل الجهد منصباً عليه، ذلك لأنهم يظنون أن الإلهية هي القدرة على الاختراع لذلك يسعون لبيان أنه المتفرد بالخلق.
2)- اعتقادهم إمكانية تعارض العقل والنقل : (ومن تقديمهم العقل على النقل). ذلك لأنهم رأوا أن قطعي النقل قد يعارض قطعي العقل ، لذلك نحتاج إلى تأويل النقل لكي يوافق العقل ، ومن هذا المنطلق الفاسد وضعوا قانون التأويل ، وقد رد عليهم بما لا مزيد عليه في كتبه (درء التعارض والرد
على المنطقيين ، ونقض المنطق).
3)- وضعهم لمقدمات باطلة أفضت بهم إلى نتائج باطلة : وقد أطال كثيراً في بيان هذا النوع من الخطأ ، يقول رحمه الله : »ولهذا من قال أن الله لا يصدر عنه إلا واحد كان جاهلاً فإنه ليس في الوجود واحد صدر عنه وحده شيء -لا واحد ولا اثنان- إلا ((سبْحَانَ الَذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الأَرْضُ ومِنْ أَنفُسِهِمْ ومِمَّا لا يَعْلَمُونَ))
4)- استخدامهم أدلة أضعف من المستدل عليه ، يقول رحمه الله : »إن وصف هذه النقائص والآفات (كالبكاء والحزن) أظهر فساداً في العقل والدين من التحيز والتجسيم، فإن هذا فيه من الاشتباه والنزاع والخفاء ما ليس في ذلك وكفر صاحب ذلك معلوم بالضرورة من دين الإسلام ، والدليل معرف للمدلول ومبين له ، فلا يجوز أن يستدل على الأظهر الأبين بالأخفى) ويقول : »فيقال لهم إثبات الوجود مع عدم المباينة والدخول والخروج ، أبعد عن العقل وأبين فساداً في المعقول...«.
5)- نقض بعضهم لقول بعض بل وتناقض الشخص الواحد منهم : يقول »ومما يوضح الأمر في ذلك أن النفاة ليس لهم دليل واحد اتفقوا على مقدماته بل كل طائفة تقدح في دليل الأخرى ، والفلاسفة تقدح في نفي المعتزلة على نفي الصفات .... فإذا كان كل من أذكياء النظار وفضلائهم يقدح في مقدمات دليل الفريق الآخر الذي يزعم أنه بني على النفي ، كان في ذلك دليل على أن تلك المقدمات ليست ضرورية ، إذ الضروريات لا يمكن القدح فيها« . وبقول : »إن سالكي هذه الطريقة متناقضون ، فكل من أثبت شيئاً منهم ألزمه الآخر بما يوافقه فيه من النفي« . ويقول : »وأيضا فقد ينصر المتكلمون أقوال السلف تارة وأقوال المتكلمين تارة«.
6)- حيرتهم وشكهم واضطرابهم رغم أنهم يزعمون أنهم يعارضون القرآن بعقليات يقينية ، يقول الشيخ في هذا »إنك تجدهم أعظم الناس شكاً واضطراباً ، واضعف الناس علماً وبقيناً ، وهذا أمر يجدونه في أنفسهم ، ويشهده الناس منهم ، وشواهد ذلك أعظم من أن تذكر هنا ... وقد قيل أن الأشعري مع أنه أقربهم إلى السنة والحديث وأعلمهم بذلك صنف في آخر عمره كتاباً في تكافؤ الأدلة يعني أدلة علم الكلام. فإن ذلك هو صناعته التي يحسن الكلام فيها »وما زال أئمتهم يخبرون بعدم الأدلة والهدى في طريقهم ... حتى قال أبو حامد الغزالي : »أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام« وهذا أبو عبد الله الرازي من أعظم الناس في هذا الباب بحيث له نهجه في التشكيك دون التحقيق ؟ لذلك فقد جاء عنهم ترك هذا الطريق في أواخر أيامهم وعودتهم إلى طريق السلف.
هوامش :
1- التعريف لابن خلدون في المقدمة ص 458 الطبعة الرابعة بيروت.
وانظر تعريفات أخرى في "مذاهب الإسلاميين" لعبد الرحمن بدوي ونشأة الفكر الفلسفي للنشار، وعلم الكلام ومدارسه لفيصل بدير.
2- وهناك تعليلات أخرى ، أنظر "مذاهب الإسلاميين" ص 29.
3- أنظر مقدمة العقيدة الواسطية لشيخ الإسلام ودرء التعارض 1/ 324.
4- أنظر العقيدة التدمرية لشيخ الإسلام ونشأة الفكر الفلسفي للنشار 1/265 ط 8.
5- أنظر الموافقة 1/9 طبعة رشاد سالم 1399 هـ.
6- أنظر "منهج ابن تيمية في التفسير" لصبري متولي 1401 هـ.
7- مقدمة ابن خلدون ص 30.
8- مقدمة ابن خلدون ص 466.
9- القاعدة المراكشية للشيخ ص 28 طبعة الرياض 1406 هـ.
10- عمومية الرسائل الكبرى 1/109 ، ابن تيمية لهراس ص 54.
11- الرسالة التدمرية ص 93 الطبعة الثانية بيروت 1391 هـ.
2 ا- منهاج السنة طبعة رشاد سالم 1/82 ، وانظر ابن تيمية للهراس ص 52.
ومن الأمور ذات الدلالة أن هذه القضية شغلت الشيخ حتى ألف فيها كتاباً سماه "درء تعارض العقل مع النقل".
13- أنظر التدمرية ص 34.
4 ا- والشيخ قد نفى أن يكون في اللغة مجازاً واستدل على ذلك بكلام طويل في أول كتاب الإيمان الكبير ط المكتب الإسلامي ، كما وضع معنى التأويل في اللغة وكذا معنى المتشابه ، وبين أن الخطأ في الفهم اللغوي لهذه الكلمات أحدث ضلالاً كثيراً ، أنظر مقدمة في أصول التفسير ط عدنان زرزور . وكتاب ابن تيمية وقضية التأويل.
5ا- ومن أوضح الأمثلة على ذلك كتاب منهاج السنة الذي كان ينتقل فيه من فقرة إلى فقرة حسب ما جاء في كتاب الحلي المردود عليه والمسمى منهاج الكرامة ، وكذا عندما يرد على المتكلمين والفلاسفة في درء التعارض ، أو على الصوفية في كتاب الاستقامة.
16- حتى إن باحثاً هو علي سامي اعتمد في التعرف على هذه المدرسة وآراءه ، اعتماداً شبه كلى على ما أورده الشيخ في الدرء والمنهاج.
17- الفتاوى5/398.
18- حتى الفلاسفة الذين يراهم من أشد الناس ضلالاً يذكر محاسنهم.
19- الفناوى5/556.
20- الفتاوى5/563.
21- الموافقة 1/51 وأقواله في مثل هذه كثيرة . فانظر الفتاوى 16/331 و /293-295.
22- يقول : »مع أني من عمري إلى ساعتي هذه لم أدع أحداً إلى مذهب حنبلي وغير حنبلي ولا انتصرت لذلك ولا أذكره في كلامي ، ولا أذكر إلا ما اتفق عليه سلف الأمة وأئمتها«. أنظر الفتاوى 3/ 228 وقد هاجم المنحرفين من الحنابلة في تفسير سورة الإخلاص ص 101 وغيرها.
23- أنظر استعراضاً تاريخياً ممتعاً في الفتاوى 4/9-23.
No comments:
Post a Comment