السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
هذا موضوع كنت نشرته في منتدى الأصلين منتدى المناظرات والمحاورات ست مرات، وقام فودة وجمال عبداللطيف المشرفان على المنتدى بحذفه ست مرات، فرأيت أن أنشره هنا، رجاء أن ينفع الله به.
فإن كان ثم خطأ فصححوا لي.
والسلام عليكم ورحمة الله
هذا موضوع كنت نشرته في منتدى الأصلين منتدى المناظرات والمحاورات ست مرات، وقام فودة وجمال عبداللطيف المشرفان على المنتدى بحذفه ست مرات، فرأيت أن أنشره هنا، رجاء أن ينفع الله به.
فإن كان ثم خطأ فصححوا لي.
والسلام عليكم ورحمة الله
الرد على فودة في مسألة الإرادة
للكاتب : وضاح الحمادي
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه.
أما بعد :
قال الإمام الطحاوي رحمه الله : (ولا يكون إلا ما يريد)
أقول :
يكون هنا تامة بمعنى يوجد أو يحصل، وقد سلمه فودة، ومعنى الكلام على هذا أنه لا يوجد إلا ما أراد الله وجوده. وإرادة الوجود هي المعروفة عن أهل السنة اليوم بالإرادة الكونية أو التكوينية على وجه الاصطلاح لا الوضع اللغوي، وهذه لا يتخلف عنها المراد، وهذا كله يسلمه فودة، ولا خلاف لنا معه.
قال فودة (والمعنى: لا يوجد إلا ما يريده الله. كل ما هو كائن وموجود وواقع في الوجود فهو بإرادة الله قد وقع. والباء إما سببية أو للملابسة: إرادة الله سبب وجود الموجودات، هذا يستلزم أن كل ما أراد الله عدم وجوده فإنه لا يمكن أن يوجد. يعبر العلماء عن هذا المعنى: يستحيل تخلّف إرادة الله سبحانه. بمجرد تعلق إرادة الله بشيء يستحيل أن يتخلف وجوداً. هذا ما يسمى بمفهوم الإرادة عند علماء أهل السنة)
وكلامه هنا حسن إلا قوله : (هذا ما يسمى بمفهوم الإرادة عند أهل السنة) فإن هذا لا هو تعريف الإرادة ولا هو مفهومها على فرض المخالفة بين تعريفها والمفهوم منها، ولكنها فائدة الإرادة، فإن قال: إنما أردت هذا. قلنا : أسأت العبارة.
وإلا فالإرادة عند أئمته صفة زائدة على الذات تقتضي اختصاص الممكن ببعض الصفات دون بعض. وقولنا "تقتضي الاختصاص" أحسن من قول بعضهم "تخصص" فإن إخراج الممكن إلى حيز الوجود هو فعل القدرة، والقدرة لا تخرج الممكن كلياً، بل مخصوصاً ببعض الصفات، والإرادة تقتضي أن تخرجه القدرة على الوجه المخصوص لا أنها هي تفعل ذلك في الممكن. ولهذا عبر الصابوني في (البداية من الكفاية) صفحة 82 بالاقتضاء، وعبارته بتمامها "وهي صفة تقتضي تخصيص المفعولات بوجه دون وجه ووقت دون وقت"
وأنا لا أقول أن فودة يجهل هذا التعريف، فإنه قد استدرك ذلك وذكر التعريف بما يقرب مما ذكرت وهو قوله : " الإرادة عبارة عن صفة يتصف الله بها. بتوسط هذه الصفة يتم تخصيص الموجودات أو الممكنات بما يجوز عليها من الصفات" وهذا التعريف مع أنه منتقد لعمومه، فإنه يلتقِ مع ما ذكرنا في كونها تقتضي التخصيص على الوجه المذكور.
ووجه الانتقاد أنه لم يذكر كون الصفة زائدة عن الذات، فلم يتميز من هذه الحيثية عن مذهب من قال أن الله جل وعلا مريد لذاته كما هو مذهب النجار من المعتزلة، ولا تميز عن مذهب القائلين أنها صفة زائدة قائمة لا في محل كما هو مذهب أبي هاشم وغيره من المعتزلة.
كما أن قوله "تخصيص الموجودات أو الممكنات" هكذا منقوض عليه بأن الإرادة لا تعلق لها بصفات الله تعالى، من علم وقدرة وحياة وسمع وبصر وكلام، فإن هذه الصفات كل واحدٍ منها يختص بما يميز عن الأخرى، ومع ذلك لا تعلق للإرادة بها أصلاً.
فعبارته هنا سيئة أيضاً، وإلا فهو يعرف وجوب تقييد ذلك بالممكنات كما ذكره هو نفسه في شرحه للطحاوية حيث قال : " في نفس الأمر هي صفة تخصص الممكن ببعض ما يجوز عليه" فذكر تعلقها بالممكنات.
وهذا التعريف أيضاً يدخل عليه الانتقاد من جهتين، الأول قوله التخصيص كما تقدم، والثاني قوله "ببعض ما يجوز له" وأظنه أخذه والله أعلم من شرح الميداني على الطحاوية، ولم أجزم لجواز أن يكون الميداني نفسه أخذه من بعض من سبقه، فيكون ذلك السابق هو مصدر فودة أيضاً. والله أعلم.
لكن لا أرى الإطالة بهذا إذ ليس هو مقصود الجواب. فيكفي أن المقصود من معنى الإرادة متفق عليه بينهم.
واتفق أهل السنة والكلابية والأشاعرة والماتريدية على أن هذه الإرادة متى تعلقت بوجود ممكن وُجِدَ ولا بُد، فقال جميع هؤلاء "ما شاء الله كان" وهذا كافٍ في الدلالة على أن تعلق الإرادة تنجيزي. ومع ذلك زادوه وضوحاً، فنقل الميداني في شرحه عن اللقاني قوله : ".. والحاصل أن المشيئة عبارة عن الإرادة التامة التي لا يتخلف عنها الفعل، والإرادة تطلق على التامة وعلى غير التامة. فالأولى هي المرادة في جانب الله ..." ثم نقل عن اللقاني أيضاً قوله : "مذهب أهل الحق أن كل ما أراد الله تعالى فهو كائن، وكل كائن فهو مراد له، وإن لم يكن مرضياً له ولا مأمور به، وهذا ما اشتهر عن السلف ’ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن‘ وخالفت المعتزلة في الأصلين"
ومما قاله فودة في شرحه للطحاوية : " ولا يجوز أن يقال إن معنى أن الله مريد لكل شيء أنه يسمح به، أي أنه لو أراد عدم وجوده لما وجد، لأنه يؤول إلى أن إرادته تعالى سلبية، بمعنى أن بعض ما لم يرده الله قد يوجد بإرادة غيره، وهو قول المعتزلة، وهو قول باطل، ومخالف لقول الطحاوي كما تراه، لأن الطحاوي حصر الكون في الإرادة. ومعنى هذا أن كل موجود مراد لله، فلا يوجد شيء بغير إرادة الله تعالى، كما يقوله المعتزلة بوجود أمور بإرادة العبد لا بإرادة الله تعالى.
وهذه النكتة لم يتنبه إليها أحد من شراح الطحاوي، لا المجسمة ولا أهل السنة من الأشاعرة ولا من ادعى التجديد منهم؟!" انتهى.
فأنت ترى أنا ما تبجح باستدراكه لم يغفل عنه من سبقه من الشراح، ولا زال جميعهم ينبهون على أن عبارة الطحاوي هذه أو غيرها مما فيه ذكر للمشيئة فيها رد على القدرية، وهم هنا المعتزلة، ونبهوا على أن إرادته نافذة. والسماح ليس من معاني الإرادة، بل هو فعل يحتاج في وجوده إلى الإرادة، ولم تقل المعتزلة أن الله سمح بوجود ما لا يريد، لأن هذا مشعر أنه لو أراد أن لا يسمح به فلن تحدث، بل هم، تعالى الله عن قولهم، يعجزونه عن ذلك، فيزعمون أن الله لا يقدر على أفعال المكلفين، واختلفوا في قدرته على مثلها، ولو أن العبد أراد فعل الكفر والشرك لم يقدر الله عندهم على منعه، ففعله لم يوجد لسماح الله به عندهم، بل لعجزه عنه جل وعلا عن قولهم، عن منعه وعدم السماح به.
فإذا أُنكر عليهم تعجيز الله جل وعلا عن خلق فعل المكلف وإعدامه وعدم السماح بوجوده، اعتذروا بما تعتذر به الأشاعرة من تعجيز جل وعلا عن عن الفعل مطلقاً، فيقول جميعهم، إنما امتنع منه لامتناعه في نفسه والله لا يوصف بالقدرة على الممتنعات. ويجعلون العبد قادراً على جميع ذلك فيسمح بفعل غيره ويمنعه إن قدر عليه، كما يستطيع أن يفعل ما لم يكن يفعل ويترك ما كان يفعل، أما الله عند الطائفتين، فلا يستطيع شيئاً من ذلك بزعم أنها محالات، فهو في الحقيقة عاجز عندهم عن فعل الممكنات.
القصد هنا أنه ليس في كلام فودة فائدة جديدة أتى بها، بل تعبير عما سبقه إليه الناس بعبارة مغايرة.
إلا أن هذه الإرادة عند أهل السنة ليست هي المحبة والرضا والسخط والبغض، لذا فرق بينهما الإمام الطحاوي فقال في موضع آخر : (والله يغضب ويرضى لا كأحد من الورى) والغضب عند المتكلمين أشاعرة ومعتزلة هو إرادة الانتقام وإنزال العقوبة، والرضا إرادة المثوبة، فهما بمعنى الإرادة إلا في المتعلق. ولما كان مبنى العقيدة الطحاوية على الاختصار كان الواجب أن يكتفي بقوله (ولا يكون إلا ما يريد) وإنما حمله على ذكر الغضب والرضا أنهما صفتان ذاتيتان لله جل وعلا ليستا بمعنى الإرادة، أي التكوينية المذكورة في العبارة السابقة، وإلا لما كان لذكرهما معنى لأنه تكرار في محل الاختصار.
ولكونهما صفتان من صفات الله جل وعلا أتبع العبارة بقوله (لا كأحد من الورى). وكأنه صَعُبَ على فودة تفسيرها بما يوافق أصول معتقده فترك الكلام عليها رأساً في شرحه للطحاوية.
وهذا كما قال أبو الطاهر الهكاري القرشي رحمه الله : ".. وأن الخير والشر من الله تعالى، الخير بقضائه وقَدَره وحكمه وإرادته ومشيئته ورضائه ومحبته، والشر بقضائه وقدره وحكمه وإرادته ومشيئته، ليس بأمره ولا برضائه ولا محبته" (بيان اعتقاد أهل الإيمان) 43 – 45.
أما الكلابية والأشاعرة ومن وافقهم فاختلفوا في هذا، هل الحب والبغض والرضا صفات قائمة بذات الباري مغايرة للإرادة أم لا بل هي هي إلا في المتعلق؟
وأكثرهم على التسوية قال أبو عمرو عثمان بن سعيد الداني رحمه الله في (الرسالة الوافية) : "ومن قولهم ـ يريد أهل السنة بحسب فهمه لكلامهم ـ : أن الله لم يزل مريداً وشائياً ومحباً، وراضياً وساخطاً وموالياً ومعادياً، ورحيماً، ورحماناً، وأن جميع هذه الصفات راجعة إلى إرادته في عباده ومشئيته في خلقه .. " إلى آخر كلامه رحمه الله. وعليه جرى أكثر الأشاعرة.
أما من فرق منهم فإما أن يجعل للحب معنى معقول، ويسكت عن الكيف، وإما أن يثبت الصفة ويسكت عن المعنى والكيف. والثاني مفوض، ولا كلام لنا معه. أما من أثبت معنى معقول فإما أن يُجيز إطلاق لفظ الإرادة بمعنى أعم يشمل الحب والرضا، أو يقصره على معنى المشيئة النافذة. فعلى الأول لا خلاف معه، لأنه يثبت إرادة قد يتخلف عنها المراد كما في المحبة والرضا في بعض الأحيان، وقد اصطلح على تسميتها إرادة تشريعية دينية، وهي شاملة للأمر والنهي، وعلى الثاني: فالخلاف معهم لفظي فقط، وهو: هل يجوز أن يطلق على هذه الصفات لفظ الإرادة أم لا، مع التسليم أنه لا يلازمها متعلقاتها، كحصول المحبوب والمرضي. وسيأتي تفصيل ذلك.
أما من أرجع الجميع إلى معنى الإرادة، فالخلاف معه حقيقي معنوي، فنقول لهم: فأخبرونا عن ماهية الإرادة، لا فائدتها. وجوابهم أنها صفة قديمة قائمة بذاته، ثم يجعلون فائدتها هي الخاصة التي تتميز بها عن غيرها، وهي اقتضاؤها التخصيص على ما سبق، إذ لا يمكن هنا ذكر الذاتيات المقومة لكونها بسيطة والبسيط لا يحد بالحد التام، كما هو الحال في الجوهر الفرد. فلنقنع منهم بذلك ولنقل:
أيتصف الله بإرادة واحدة أم له إرادات متعددة؟
جوابهم: واحدة.
ثم نقول : أيجوز عليها التغير أم لا؟
الجواب : لا.
ثم يُقال لهم : بعد الاتفاق على أن تعلقها الإرادة، هل تتغير الإرادة بالمتعلقات المختلفة، كالمحبة والرضا، والغضب والبغض؟
إن قالو : نعم. بطل قولهم بالإرادة الواحدة لأن الغضب بالضرورة غير الرضا، فإرادته المتعلقة بالمبغوض تخالف إرادته المتعلقة بالمحبوب. وهذا لا يجيب به الأشاعرة أصلاً، فكلهم متفقون على أن تعلق إرادته بالمكروه لا يلزم منه تغير الإرادة بحيث تختلف عن الإرادة المتعلقة بالمحبوب، بل هي كالعلم مع اختلاف المعلومات، فكما لا توجب المعلومات تغيراً في العلم فكذلك الإرادة، لم يخالف في ذلك سوى فودة، حيث قال في شرحه للطحاوي في معرض رده على ابن أبي العز رحمه الله : ".. واختلاف التعلقات لا يكون إلا باختلاف المتعلِّقِ، أي اختلاف الصفة نفسها، أي تعددها في ذاتها .. " !!
فإن اعتذر معتذرٌ فقال : إن هذا التعلق لا يوجب تغييراً حادثاً لأن تعلق الإرادة بالممكنات أزلي، فكيف يحدث التغيير في الأزل؟ فإنا لو صححنا حدوث التغاير في الأزل لكان الحدوث أزلياً، وهذا تناقض.
قلنا : هذا صحيح بالنسبة إلى حدوث التغير، ونكتفي بأنه يلزمكم التغاير في الأزل من دون أن يكون حادثاً.
أما إذا أجابوا: بلا، لا توجب المتعلقات تغاير في صفة القدرة الواحدة الأزلية، بل مع اختلاف المتعلقات فالإرادة هي هي، واحدة بالعين.
قلنا : فإرادة المحبوب هي عين إرادة المبغوض. لا بمعنى أن ثمة إرادتين متماثلتين بالحقائق، بل ما ثم إلا إرادة واحدة.
فلا بُدَّ من نعم.
فيقال لهم : يلزمكم أن الله أراد خَلَقَ نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بنفس الإرادة التي خلق بمقتضاها إبليس اللعين.
فلا بُدَّ من نعم.
وحينئذٍ يلزمهم ما لا قِبَل لهم به، وهو أن الله جل جلاله، وتنزه عن أقوال أهل السفه والبدع، أراد أن يخلق محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم فكان إبليس، وأراد أن يخلق إبليس فكان نبينا صلى الله عليه وسلم. إذ أن إرادة خلق هذا هي عين إرادة خلق ذاك.
أفٍّ لقول يكون هذا هو منتهاه وقصاراه.
ثم يقال لهم : أليس أراد الله أن يخلق العالم؟
جوابهم : نعم.
فيقال : فالعالم الذي أراد الله خلقه، هل يريد الله اليوم خلقه؟
إن قالوا : لا. لزم تغير الإرادة، وهو باطل على أصل مذهبهم. لأنها قائمة بذات الله، وذاته لا تحلها عندهم المتغيرات، لأن التغير نوع حدوث، فيلزم من تغير الإرادة في ذاته حدوث الذات.
وإن قالوا : نعم. قلنا: فيلزم أنه يريد تحصيل الحاصل، وهو إيجاد العالم الموجود، وهو باطل، إذ تحصيل الحاصل ممتنع، والله لا يوصف بالقدرة على الممتنعات، والفرض أن إرادته تنجيزية.
تعالى الله عن قولكم علواً كبيرا.
ثم يقال لهم : إرادة الله، هل هي عندكم متعلقة بكل الممكنات أو ببعضها دون بعض؟
إن قالوا : بل ببعضها دون بعض.
قلنا: فإذا جاز انتفائها من البعض جاز انتفاؤها من الباقي، لأن تعلقها بالممكنات إنما هو لإمكانها فقط، وهو مشترك بين جميع الممكنات. فلو جاز انتفاؤه من البعض لزم ما ذكرنا.
وإن قالوا : بل تتعلق بجميع الممكنات.
قلنا : فيلزمكم إما عدمها جملة أو وجودها جميعاً على صفة واحدة. بيانه إن كانت الإرادة واحدة بالعين لا يُتصور فيها التغاير بوجه، كانت إرادته لشيء هي عين إرادته لكل شيء، فإذا أرادَ العدمَ لممكنٍ كانت هذه الإرادة هي عين الإرادة في جميع الممكنات، فيلزم عدم الجميع.
وإن أراد الوجود على صفة ما، كانت هذه الإرادة هي عينها في جميع الممكنات لا يتصور تغايرها بوجه، فيلزم وجود جميع الممكنات على تلك الصفة المعينة.
وجميع هذا باطل يشهد الحس والعقل معاً ببطلانه.
ثم يقال لهم : إراداتنا مخلوقة باتفاق، وهي من هذه الجهة متعلقات لإرادة الله جل وعلا، فإذا أراد زيد تحريك جسم وأراد عمرو تسكينه، فإما أن يريد الله مراد زيد أو مراد عمرو أو المرادين جميعاً. فإن قلتم أراد مراد زيد دون عمرو، لزم أن إرادته لم تتعلق بجميع الحوادث، لأن إرادة عمرو حادثة، والله لم يرد حدوثها. وهكذا إن أراد حصول إرادة عمرو دون زيد، وقد تقدم الكلام على ما فيه. وإن قلتم : بل أرادهما جميعاً، قلنا: فهذا تناقض يتنزه الله جل وعلا عنه. إلا أن هذا يمكن الانفصال عنه بأن المراد هو نفس إرادة المخلوق لا مراده.
ويلزمهم لوازم أخرى أيضاً. لكن نكتفي بما ذكرنا ونقول : إذا تبين لك بطلان ما ذهب إليه هؤلاء صح مذهب أهل السنة وهو أن الله جل وعلا مريد بإرادة قديمة هي صفة ذاته، وليست هي المحبة والرضا والبغض والكره ونحوها، بل قد يريد الله جل وعلا ما لا يرضاه كما قال جل وعلا : (ولا يرضى لعباده الكفر) والكفر واقع منهم بإرادته. وقال جلا وعلا: (والله لا يحب الفساد) وهو موجود بإرادته وتقديره. وغيرها من الآيات
وقال القرطبي في تفسير الآية الأولى : "..وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عز وجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة"
وهو مذهب الطحاوي حيث أفرد مسألة الغضب والرضا عن مسألة الإرادة فقال في موضع آخر (والله يغضب ويرضى، لا كأحد من الورى)، والغضب غير الرضا وكلاهما غير الإرادة، فإن قيل: نحن نؤوِّل كلامه هنا بإرادته اختلاف التعلقات.
قلنا : فلنا ظاهر كلامه رحمه الله، ولكم تأويله.
مذهب أهل السنة والحديث في الإرادة:
قال أبو القاسم الأصبهاني الشافعي في (الحجة في بيان المحجة) 1/423 : "والإرادة غير المحبة والرضا، فقد يريد ما لا يحبه ولا يرضاه، بل يكرهه ويسخطه ويبغضه. قال بعض السلف: إن الله يُقَدِّرُ ما لا يرضاه، بدليل قوله تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر).
وقال قومٌ من المتكلمين : من أراد شيئاً فقد أحبه ورضيه، وأن الله تعالى رضي المعصية والكفر.
ودليلنا: أنه قد ثبت إرادته للكفر ونفي رضاه به، فقال تعالى : (فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام) وقال (ولا يرضى لعباده الكفر) فأثبت الإرادة ونفى الرضا"
وقال أيضاً : "قال أحمد بن حنبل في رسالة الاسطخري: (إن الله يحب ويكره، ويبغض ويرضى، ويغضب ويسخط، ويرحم ويعفو، ويغفر ويعطي ويمنع). وهذا كلام يمنع أن يكون الإرادة كراهة في نفسها، لأنه فرق بينهما خلافاً لأهل الكلام أن الإرادة كراهة في نفسها. فعندنا يريد الله ما لا يحبه ولا يرضاه، بل يكرهه ويسخطه ويبغضه، والإرادة غير المحبة والرضا.
وقال جماعة من المتكلمين : الإرادة حب وبغض وغضب وسخط، وإن من أراد شيئاًَ فقد أحبه ورضيه، وأن الله تعالى رضي المعصية والكفر، وعندنا أن الرضا غير الإرادة بدليل قوله تعالى : (ولا يرضى لعباده الكفر) لأن النفي ضد الإثبات"
وقال الصابوني في (عقيدة السلف أصحاب الحديث) : وكذلك يقولون في جميع الصفات التي نزل بذكرها القرآن، ووردت بها الأخبار الصحاح من السمع والبصر والعين والوجه والعلم والقوة والقدرة، والعزة والعظمة والإرادة، والمشيئة والقول والكلام، والرضا والسخط والحياة، واليقظة والفرح والضحك وغرها من غير تشبيه لشيء من ذلك بصفات المربوبين المخلوقين، بل ينتهون فيها إلى ما قاله الله تعالى، وقاله رسوله صلى الله عليه وآله وسلم من غير زيادة عليه ولا إضافة إليه، ولا تكييف له ولا تشبيه، ولا تحريف ولا تبديل ولا تغيير، ولا إزالة للفظ الخبر عما تعرفه العرب، وتضعه عليه بتأويل منكر، ويجرونه على الظاهر، ويكلون علمه إلى الله تعالى، ويقرون بأن تأويله لا يعلمه إلا الله، كما أخبر الله عن الراسخين في العلم أنهم يقولونه في قوله تعالى: (والراسخون في العلم يقولون: آمنا به، كل من عند ربنا. وما يذكر إلا أولو الألباب)" انتهى.
فصرح أن الإرادة صفة، والرضا صفة، والسخط صفة، وألزم الأخذ بظواهر ما دلت عليه النصوص رحمه الله.
واستدلوا على التفرقة بما لا يحصى من الآيات والأحاديث إلا بكلفة. وليس هذا موضع البسط لذا نقول : أما الإرادة التكوينية فهي موضع اتفاق بيننا، أما الشرعية التي قد يتخلف عنها المراد أو المرضي أو المحبوب ففي قوله تعالى : (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر) وقوله تعالى : (والله لا يحب الفساد).
والآية الأولى استدل بها الإمام ابن أبي العز الحنفي رحمه الله فاعترض عليه فودة بما لا يتفق وقول أئمة مذهبه كما سيأتي، ووجه الاستدلال بها أن إرادة الله جل وعلا لو كانت نافذة مطلقاً وليس فيها ما يدل على المحبة والرضا أو الأمر والنهي من غير أن يحدث المراد لما كان هناك عسرٌ قط، لكنه موجود. وهذا قد وافق عليه الأشاعرة، فكان حاملاً لهم على تأويل الآية إما على حذف تقديره (يريد الله أن يأمركم) أو على تأويلها بمعنى الطلب، وبالأول قال فودة في رده على ابن أبي العز، ولا يخفى أن كلا المعنيين لا يدل عليه النص بظاهره. فلا يستقيم الرد حتى تُبين الموجب لصرفه عن الظاهر. وقد قال ابن حيان في (البحر) وإنما احتيج إلى هذين التأويلين لأن ما أراده الله كائن لا محالة على مذهب أهل السنة، وعلى ظاهر الكلام لم يكن ليقع عسر؛ وهو واقع"
فتبين من كلامه رحمه الله أن استدلال ابن أبي العز موافق للظاهر، وليس له أن يلتجئ إلى التأويل من غير حامل عليه، وما ذكرتموه حاملاً ليس بصحيح، وإنما يصح لو كانت الإرادة لا معنى لها سوى ما ذكرتموه. وعندنا أن الإرادة قد تطلق ويراد بها المحبوب أو المطلوب حصوله، وإن لم يكن وجوده مراداً، والآية بظاهرها دالة عليه.
وقد حاول الألوسي رحمه الله الخروج من الإلزام فقال : "ورُدَّ ـ أي إلزام المعتزلة ـ بأن الله تعالى أراد التيسير وعدم التعسير في حقهما بإباحة الفطر، وقد حصل بمجرد الأمر بقوله عز شأنه : (فعدة من أيام أخر) من غير تخلف، وفي (البحر) تفسير الإرادة بالطلب؛ وفيه أنه التزام لمذهب الاعتزال من أن إرادته تعالى لأفعال العباد عبارة عن الأمر، وأنه تعالى ما طلب منا اليسر بل شرعه لنا، وتفسير اليسر بما يسر بعيد" انتهى (روح المعاني) 2/62.
وقد أخطأ رحمه الله في أمرين: الأول فيما نسبه إلى (البحر) من تفسير الإرادة بالطلب، فإن ابن حيان رحمه الله ذكر في تفسير الآية أمرين : الأول : حمل الإرادة هنا على الحقيقة، والثاني: على المجاز وأنها بمعنى الطلب هنا، وصرح بأن الطلب غير الإرادة. فعلى الأول؛ فإن في الآية محذوف وتقدير الكلام (يريد الله أن يأمركم باليسر) أو (يريد أمركم باليسر) وليس في هذا حمل الإرادة على معنى الأمر، وإلا لم يحتج إلى تقدير محذوف أصلاً. وعلى الثاني: فإن الإرادة لا تعني الطلب، لأنها لم تحمل عليه إلا مجازاً، ولو كانت الإرادة بمعنى الطلب لم يكن حملها عليه مجازياً، وقد صرح ابن حيان بالمجاز هنا. ثم أتبع ذلك مباشرة بأن الإرادة ليست بمعنى الطلب عند أصحابه. فأخطأ عليه الألوسي إذ اقتصر على نقل أحد المعنيين دون الثاني. وأخطأ حين نسب إليه ذلك القول جزماً، وهو إنما ذكر معنيين على سبيل احتمال الآية لأحدهما من دون أن يجزم بالمراد منهما، وليس منهما ما ذكره الألوسي ونسبه إليه. رحم الله الجميع.
على أن من أئمة الأشاعرة من صرح أن الإرادة تطلق بالاشتراك على المخصصة والأمر أو الطلب، كالشهرستاني، وسيأتي نقل كلامه.
والخطأ الثاني الذي وقع فيه هو في محاولته الخروج من إلزام المعتزلة بأن الله جل وعلا إنما أراد التيسير بواسطة الإباحة. فالسؤال عائدٌ عليه بأن يقال : فهل حصل التيسير بالإباحة لمن لم يأخذ بها؟ إن قال : نعم؛ كابر. وإن قال : لا، قلنا: فالآية مصرحة بأن الغرض من الإباحة وقوع التيسير ولم يقع لوجود من لا يأخذ بها.
وقد يعترض معترض بأن المراد هو التيسير لمن يعمل بالإباحة خاصة. وليس المراد التيسير لمن لم يأخذ بها. ويجاب بأن الإباحة إن كانت واقعة من أجل التيسير كانت الإرادة شاملة لكل من شُرِعَت له الإباحة، وإلا كان معنى الكلام أن الله أباح الفطر للمريض والمسافر يريد بذلك التيسير ولا يريده، وهذا إن لم يكن تناقضاً فإنه يعود على عموم الآية بالنقض، فهو باطل. بيانه أن معنى الآية على هذا التفسير أن المسافر أو المريض إن أفطر فإن الله شرع له الإباحة للتيسير، وإن لم يُفْطِر فإن الله شرع له الإباحة لغير التيسير.
ولعله من أجل ذلك لم يعول ابن حيان رحمه الله على هذا الجواب وصرح بأن الآية تحتاج إلى التأويل.
أما قوله جل وعلا (ولا يرضى لعباده الكفر) فهي أوضح دلالة من سابقتها. قال البغوي في تفسيرها : "قال ابن عباس والسدي: لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله تعالى: "إن عبادي ليس لك عليهم سلطان" فيكون عامًا في اللفظ خاصًا في المعنى، كقوله تعالى: "عينًا يشرب بها عباد الله" يريد بعض العباد، وأجراه قوم على العموم، وقالوا: لا يرضى لأحد من عباده الكفر.
ومعنى الآية: لا يرضى لعباده أن يكفروا به. يروى ذلك عن قتادة، وهو قول السلف، قالوا: كفر الكافر غير مرضي لله عز وجل، وإن كان بإرادته"
وقال القرطبي في تفسيرها : "وقال ابن عباس والسدى: معناه لا يرضى لعباده المؤمنين الكفر، وهم الذين قال الله فيهم: (إن عبادي ليس لك عليهم سلطان) وكقوله: (عينا يشرب بها عباد الله) [ الإنسان: 6 ] أي المؤمنون. وهذا على قول من لا يفرق بين الرضا والإرادة. وقيل: لا يرضى الكفر وإن أراده، فالله تعالى يريد الكفر من الكافر وبإرادته كفر لا يرضاه ولا يحبه، فهو يريد كون ما لا يرضاه، وقد أراد الله عزوجل خلق إبليس وهو لا يرضاه، فالإرادة غير الرضا. وهذا مذهب أهل السنة" انتهى.
وقد اختلف في إطلاق لفظ الإرادة على الرضا، فمن جوز إطلاقه فمنهم من رأى الاثنين شيئاً واحداً، إلا أن الإرادة أعم تعلقاً، وهو مذهب الأشاعرة، ومنهم من قال إن الرضا غير الإرادة في المعنى والمتعلق جميعاً وإطلاق اللفظ عليهما إما على سبيل التواطؤ أو المجاز في الرضا. وقيل الاشتراك، وليس بشيء. والله أعلم.
وعلى الأخير يمكن أن يقال بانقسام الإرادة إلى كونية وهي التنجيزية، وشرعية وهي التي يمكن أن يتخلف معها المراد. كما هو مذهب أهل السنة الذين قدمنا قولهم سابقاً.
وقد اضطر بعض الأشاعرة إلى التسليم بالفرق بين مراد الله المتعلق بالحصول وعدمه، ومراده المتعلق بفعل العبد من حيث هو كسبه خاصة، فقالوا : الأول حاصل لا محالة، والثاني إنما تتعلق به المحبة والرضا والبغض والسخط، كما قاله الشهرستاني رحمه الله.
قال الشهرستاني : "... والسر في ذلك أن الإرادة الأزلية لم تتعلق بالمراد من أفعال العباد من حيث هو مكلف به إما طاعة وإما معصية وإما خيراً وإما شراً، بل لا تتعلق به من حيث هو فعل العبد وكسبه على الوجه الذي ينسب إليه؛ فإن إرادة فعل الغير من حيث هو فعله تَمَنًّ وشهوة، وإنما يتعلق به من حيث هو متجدد متخصص بالوجود دون العدم، متقدر بقدر دون قدر، وهو من هذا الوجه غير موصوف بالخير والشر، وإن أُطلق لفظ الخير على الوجود من حيث هو وجود فذلك إطلاق بمعنى يخالف ما تنازعنا فيه، فالباري تعالى مريد الوجود من حيث هو وجود، والوجود من حيث هو وجود خير، فهو مريد الخير وبيده الخير، وأما الوجه الذي ينسب إلى العبد هو صفة لفعله بالنسبة إلى قدرته واستطاعته وزمانه ومكانه وتكليفه، وهو من هذا الوجه غير مراد للباري تعالى، وغير مقدرو له!! ولما تقرر عندنا بالبراهين السابقة أنه تعالى خالق أعمال العباد كما هو خالق الكون كله، وإنما هو خالق بالاختيار والإرادة لا بالطبع والذات؛ فكان مريداً مختاراً لتجدد الوجود وحدوث الموجود، ثم الوجود خيرٌ كله من حيث هو وجود، فكان مرياداً الخير، وأما الشر فمن حيث هو موجود فقد شارك الخير، فهو مع ذلك شرٌّ محض، فهو تعالى مريد الوجود ومريد الخير، والعبد يريد الخير والشر" (نهاية الإقدام) صفحة 145.
ثم نقل عن الفلاسفة ما يشبه هذا القول، مع أن الفلاسفة أجروه على أصلهم في الإرادة، أما الشهرستاني فخالف بهذا التفريق أصله، لذا لم يوافقه من أصحابه سوى الآمدي. والله أعلم. بيانه: أن الوجود على المشهور من مذهب أصحابه هو عين الموجود، هذا قول أبي الحسن الأشعري، فوجود الشر هو عين الشر لا صفة زائدة على ذاته.
وقيل بل صفة اعتبارية لا وجود لها عند التحقيق، وهو مذهب الرازي وتابعه كثيرون، فلو قلنا إن الشر غير مراد لله من جهة كونه كسباً للعبد وفعلاً له، ولكنه مرادٌ لله من حيث وجوده فقط، لزم أن ليس لله فيه فعل ألبتة، وأن حقيقة الشر وذاته من فعل العبد، وإنما تعلق فعل الله بلا شيء وهو الوجود الذي هو صفة اعتبارية لا وجود لها عند التحقيق.
فإن قيل : بل لله جل وعلا فعلٌ في الحقيقة هي إخراج ذات الشر وحقيقته من حيز العدم إلى الوجود. قلنا : معنى إخراجه من حيز العدم إلى الوجود هو إيجاده، والإيجاد أمر اعتباري لا وجود له في الخارج، فكان حقيقة قولكم هذا أن الله فعل لا شيء. ويقال أيضاً: فإن كان لهذا الفعل وجود في الخارج، فهل وجوده ذات الشر وحقيقته أم غيره؟ إن قلتم بالأول؛ كان الله هو الفاعل للشر على الحقيقة، وبطل ما سطره الشهرستاني رحمه الله، وإن قلتم : بل هو أمر زائدٌ على ذاته. قلنا : فذاك الزائد ليس بشيء على مذهبكم، فيعود الإلزام وهو أن الله لم يفعل في الحقيقة شيء، وإنما الفعل هو للعبد. وهذا خلاف قولكم.
ثم إنه عاد فكرر الكلام في صفحة 145 – 146 بنحو ما تقدم وكان مما قال : "... فما كان من فعل العبد من الذي سميناه كسباً، ووقع على وفق العلم والأمر كان مراداً ومرضياً؛ أعني مراداً بالتجدد والتخصيص مرضياً بالثناء والثواب والجزاء، وما وقع على وفق العلم وخلاف الأمر كان مراداً غير مرضي، أعني مراداً بالتجدد غير مرضي بالذم والعقاب، وهذا هو سر هذه المسألة"
فالمخالف لهم من أهل الحديث والكرامية يقول : فنحن نطلق على المحبة والرضا والبغض والسخط اسم الإرادة، ولا يجب عندنا أن يحصل هذا المراد خاصة، إما لكونه من فعل العبد من حيث هو كسبه كما تقولون، وإما لأن اللغة تتسع لذلك، وقد صرح الشهرستاني بأن الإرادة تطلق ويراد بها الأمر أيضاً على سبيل الاشتراك. فلو فرضنا أنا أخطأنا فغايته أن يكون الخطأ لفظياً، مع أنكم أنتم تفسرون هذه المذكورات بإرادة الثواب والجزاء والعقاب. فحصل الاتفاق على التفرقة من جهة، وعلى صحة إطلاق اللفظ من جهة أخرى.
بل انتهى الشهرستاني إلى التصريح بالتفرقة بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية فقال : " وقد تمسكت المعتزلة بكلمات من ظواهر الكتاب منها قوله تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر) وقوله (والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات انم تميلوا ميلاً عظيماً) وقوله (يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر) وقوله (تريدون عرض الدنيا والله يريد الآخرة) وقوله (وما الله يريد ظلماً للعباد) وقوله (لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم) وقوله (سيقول الذين أشركوا) وقوله (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون) وأجابت الأشعرية بتأويلات وتخصيصات.
وأحسن الأجوبة أن نقول إرادة الله ومشيئته أو رضاه ومحبته لا تتعلق بالمعاصي قط من حيث أنها معاص كما لا تتعلق قدرته تعالى بأفعال العباد من حيث هي أكسابهم فيرتفع النزاع ويندفع التشنيع وخرج ما قدرناه من التحقيق وإن شئت حملت كل آية على معنى يشعر به اللفظ ويدل عليه الفحوى.
أما قوله تعالى (ولا يرضى لعباده الكفر) أي لا يرضى لهم ديناً وشرعاً فإنه وخيم العاقبة كثير المضرة..." إلى آخر كلامه.
فانظر كيف أنه رحمه الله يقرر غاية التقرير أن الإرادة المتعلقة بالمتجددات لا تتعلق بالمعصية من حيث هي معصية وكسب للعبد مع أنه أوجدها، وتتعلق بالمعصية من حيث الوجود أو التجدد، مع أنه لم يرضها. فاختلفت جهتي الإرادة. فمع اتفاقه مع أهل السنة في هذا الوجه فإنه يخالفه في أنه يجعل الإرادة واحدة بالعين لفظاً ويفرق بين أفرادها تحقيقاً، وأهل السنة يفرقون بينهما لفظاً وتحقيقاً.
وهنا أمر، وهو أن فودة في رده على ابن أبي العز استنكر قوله في الإرادة أنها نوعان، وهو استنكار غريب. ذلك أنه بناه على أن الإرادة واحدة بالعين، وبالتالي الواحد بالعين لا يكون نوعين. هذا مع أن خصمه لا يسلم له أن الإرادة واحدة بالعين، بل الإرادة غير الرضا وغير المحبة وغير السخط والغضب عنده، فإطلاق لفظ الإرادة عليها هو من باب إطلاق العام على أفراده من ربما على أحد الأوجه التي ذكرناها سابقاً من تواطؤ أو قرينة كون المحبوب مراد حصوله، والمكروه مرادٌ عدمه وغير ذلك، وعند التحقيق فالمحبة ليس بإرادة لأن إرادة حصول المحبوب ليست هي عين المحبة بل لازم لها.
وأنت ترى هنا أن الشهرستاني فرق بين الرضا بل الإرادة لفعل العبد من حيث هي فعله وكسبه، وبين المتعلقة بفعل العبد من حيث تجدده وكونه. مع أن الإرادة عنده وعند أصحابه واحدة بالعين، فكان هو أولى بالنقد من ابن أبي العز الذي يفرق بين الإرادة والرضا والمحبة إلى آخر ما تقدم.
وأخيراً، انتقد فودة على ابن أبي العز تسميتها أحد قسمي الإرادة بالشرعية، وصحح أن يقال : "التشريعية" وهو خطأ من وجهين : الأول : أنه رحمه الله ذكر أنه يدخل في الشرعية الرضا والمحبة، وليسا بتشريع. ثانياً: أنه على فرض أنها خاصة بالتشريع فيجوز تسميتها أيضاً بالشرعية، وذلك كما الله عز وجل (شرع لكم من الدين) فالتشريعية من شرَّع بتشديد الراء، والشرعية من شرَعَ بغير تشديد، وكلاهما بمعنى. ومن الأخير قول البعض "شريعة حاموراي" أي تشريعه.
والحمد لله على ما هدانا.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
-------------------------------------
تعقيب من (أبو الفضل الجزائري)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته يبدو والله أعلم أن الأمر جد شائك بالنسبة لهؤلاء الأشاعرة وأنا من عجلتي لم أستطع قراءة كل ما جاء في رد الأخ الكريم، والمهم أن قولهم في الإرادة والعلم وغيرهما من الصفات التي أثبتوها وقالوا أنها ملازمة للذات الإلهية من أفسد الأقوال على الإطلاق، وما ذلك إلا للاتزامهم بأن من حلت عليه الحوادث فهو حادث، فاضطروا إلى جعل الإرادة واحدة تحصل عنها إرادة مختلفة وأنها قديمة والحادث إنما هو التعلق، وقد رد عليهم ابن رشد في منهاج الأدلة وأظن شيخ الإسلام أقره على تزييف أدلتهم في كتابه درأ التعارض: بأنه إذا كانت قديمة فإنه لا يتخلف المراد ( الفعل ) وبالتالي أزلية الحوادث، فإن قالوا أن التعلق هو الحادث قيل لهم متى تعلقت الإرادة أبالعدم أم بالوجود، فإن قالوا بالعدم كان العدم عندهم شيئا موجودا فهو أزلي وهذا باطل، وإن قالوا بالموجود أقروا بحدوث الإرادة لأن التعلق حادث وما تعلق بالحادث لا يكون إلا حادثا، لأن تعلقه بعدمه يفضي إلى القول بأزلية العدم ووجوديته وهذا باطل، فصارت حادثة وهو المطلوب.
No comments:
Post a Comment