Monday, November 30, 2009

المنطق الارسطي وأثر اختلاطه بالعلوم الشرعية - بالنص والصوت








 
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على من أرسله الله رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه وإخوانه إلى يوم الدين، أما بعد:

-حقيقة المنطق-

فالمعروف عند المناطقة أنَّ المنطق -باعتبار فائدته- هو آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن عن الخطإ في الفكر، فهو علم عملي آلي(١-  التعريفات للجرجاني: 232) موجود في العقل بالغريزة، وموضوعه المعلومات التصورية(٢- معرفة التصورات هي إدراك الماهية من غير حكم عليها بنفي أو إثبات، ويكون طريق الوصول إليه بالحد أو التعريف الذي هو القول الدال على ماهية الشيء (المصدر السابق: 59، 83، والكليات لأبي البقاء: 290))، والتصديقية(٣- معرفة التصديقات، وهي نسبة الحكم إلى الماهية المتصورة، ويكون طريق الوصول إليها بالقياس الذي هو قول مؤلف من قضايا إذا سلمت لزم عنها لذاتها قول آخر( المصدر السابق: 181.والكليات لأبي البقاء: 290))، وغايته الإصابة في الفكر، وحفظ الرأي عن الخطإ في النظر، وذلك بتقابل الفكر مع نفسه وتجريده من التناقض، لذلك سمي منطق "أرسطو" بالمنطق الصوري لعنايته بصورة الفكر دون مادته ومعناه، كما سمي "أرسطو"(٤-  أرسطو أو أرسطا طاليس هو فيلسوف يوناني من كبار الفلاسفة عالميا يلقب بأمير الفلاسفة، تأثرت بوادر التفكير الإسلامي بتصانيفه الفلسفية في المنطق والطبيعيات، والإلهيات، والأخلاق، له مؤلفات منها:" الجدل" و" السياسة" و" النفس" و" ما بعد الطبيعة" و" المقالات" توفي سنة( 322ق.م). [انظر: فهرست للنديم: 307 ، المعجم الجامع لأسماء الأعلام( فرنسي) التحرير العام: ألان راي، وإشراف بول روبار: 104]) بالمعلم الأول حيث قام -في زعمهم- بصياغة هذه الصناعة الآلية، فقعَّد له، وحدَّد مصطلحاته، وهذَّب مباحثه، ورتَّب مسائله وفصوله، وجعله أوَّل العلوم الحكمية وفاتحته، فنُسب إليه المنطق نسبة صياغة وإظهار لاابتداء واختراع(٥- الملل والنحل للشهرستاني: 2/156. مقدمة ابن خلدون: 462).

 



-ما وقعت فيه الأمة الإسلامية من المحنة بسبب تعريب كتب اليونان-
وقد ابتليت الأمة الإسلامية بتعريب كتب اليونان التي ابتدأ دخولها في العهد الأموي بدون توسع ولا انتشار حيث كان المشتغلون بالفلسفة اليونانية، المعجبون بالمنطق الأرسطي آحاد الناس على خفية من علماء أهل السنة والجماعة الذين حذَّروا منها لما تنطوي عليها من ملابسة العلوم الفلسفية المباينة للعقائد الصحيحة، إلاَّ أنها شاعت كتب اليونان في عهد الدولة العباسية، وعظم ذلك وقوي أيام المأمون لما أثاره من البدع، وكان حرصه على نشره والحث عليه أعظم من الاشتغال بعلوم الأوائل(٦- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/265.، صون المنطق للسيوطي: 12).

 

-إقحام المنطق في العلوم الشرعية لا سيما علم الأصول-

ثم تحقق إقحام المنطق بصورة حقيقية لاسيما في علم الأصول على يد أبي حامد الغزالي(ت: 505ﻫ) الذي اشترطه لتحصيل العلوم والاجتهاد، وجعله معيار العلوم العقلية وميزانًا لها وقال:" من لايحيط بها ( أي المقدمة المنطقية) فلا ثقة بعلومه أصلاً"(٧- المستصفى للغزالي: 1/10، مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/184) وصنف في ذلك كتبًا منها:" معيار العلم" و" محك النظر" و"مقاصد الفلاسفة" و" القسطاس المستقيم"، وقد تناوله في مطلع كتابه " المستصفى"(٨- المستصفى للغزالي: 1/10) وتأثر بكلامه كثير من المتأخرين حتى أوجبوا تعلم المنطق وجعلوه من فروض الكفاية أو من شروط الاجتهاد(٩- مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/172)، أي لا يكون المرتقي في مدارج الاجتهاد مستكملاً لشرائط النظر، وأهلاً للتأليف والفتوى إلاَّ بتحصيله، وضمن هذا السياق يقول ابن تيمية- رحمه الله- :" ولكن بسبب ما وقع منه- أي الغزالي- في أثناء عمره وغير ذلك، صار كثير من النظَّار يدخلون المنطق اليوناني في علومهم، حتى صار من يسلك طريق هؤلاء من المتأخرين يظن أنه لا طريق إلاَّ هذا"(١٠- المصدر السابق: 9/ 185).

 



-الفرق بين الميزان العقلي الذي أنزله الله والميزان الأرسطي اليوناني-
هكذا كانت عناية كثير من المصنفين بعلم المنطق الأرسطي حتى ساهموا في إقحامه ضمن العلوم الشرعية لا سيما في مجال الأصول لما ظنوا فيهما اتحاد غاية كل منهما وهي معرفة الطرق والأساليب الموصلة للصواب، وقد أثر سلبًا اختلاط المنطق بالعلوم الشرعية، وكان من أعظم الجنايات على دين الإسلام وأهله، ولم تكن كتب المنطق والفلسفة محل تقدير عند الراسخين في العلم الثابتين على الحق لا من أجل اشتغال الأمم الكافرة به فقد قبلوا منهم علومًا صحيحة كالطب والحساب والهندسة وغيرها، وإنما رفضوا التلفيق بين المنطق ومنهج الكتاب والسنة، وذلك بعرض صفاء عقيدة المسلمين باستعمال القوالب الفلسفية والمنطقية المأخوذة من كتب اليونان، وجعل المنطق الأرسطي ميزانًا للعلوم الشرعية، قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- :" ولا يجوز لعاقل أن يظن أنَّ الميزان العقلي الذي أنزله الله هو منطق اليونان لوجوه:

أحدها: إنَّ الله أنزل الموازين مع كتبه قبل أن يخلق اليونان من عهد نوح وإبراهيم وموسى وغيرهم، وهذا المنطق اليوناني وضعه قبل المسيح بثلاثمائة سنة، فكيف كانت الأمم المتقدمة تزن به؟.

الثاني: إنَّ أمتنا أهل الإسلام ما زالوا يزنون بالموازين العقلية، ولم يسمع سلفًا بذكر هذا المنطق اليوناني، وإنما ظهر في الإسلام لما عربت الكتب الرومية في عهد دولة المأمون أو قريبًا منها.

الثالث: إنَّه ما زال نظار المسلمين بعد أن عرب وعرفوه، يعيبونه ويذمونه ولا يلتفتون إليه ولا إلى أهله في موازينهم العقلية والشرعية...ثم هذا جعلوه ميزان الموازين العقلية التي هي الأقيسة العقلية، وزعموا أنه آلة قانونية تعصم مراعاتها الذهن أن يزل في فكره، وليس كذلك فإنه لو احتاج الميزان إلى ميزان للزم التسلسل"(١١- المصدر السابق: 9/240-241).

[المفاسد الناتجة عن إدخال المنطق اليوناني]

ومن المفاسد الناتجة عن إدخال كتب اليونان في أصول الدين أن شوَّهت العقيدة السليمة بلوازم فاسدة، فيها تكذيب صريح للقرآن، وصحيح العقل، كالقول بقدم العالم، لأنَّ الإله لم يسبق العالم في الوجود الزمني وإن كان يسبقه في الوجود الفكري، مثلما تسبق المقدمة النتيجة في الوجود، ومن أعظم إساءة الظن برب العالمين، قصر علمه سبحانه بالأمور الكلية دون الجزئية، ويبررون إنكارهم لعلم الله بالجزئيات، بأنَّ الجزئيات في تغير وتجدد فلو تعلق علم الله بها للزمه التغير بتغير المعلوم وتجدده (١٢-  وهذا الضلال والذي قبله أنكره الغزالي على الفلاسفة وكفرهم به في تهافت الفلاسفة: 88، 506)، ومن ضلالهم إنكار الصفات الثبوتية لله تعالى، ويصفونه بالسلوب المحض، لأنَّ الواحد لا يصدر عنه إلاَّ واحد، إذ لو صدر عنه اثنان لكان ذلك مخالفًا للوحدة، وبذلك نفوا أن يكون الله فاعلاً مختارًا، ونفوا الصفات عن الله تعالى فرارًا من تشبيهه بالنفوس الفلكية أو الإنسانية، ثم شبهوه بالجمادات، فكان "ضلال الفلاسفة في الإلهيات ظاهرًا لأكثر الناس، ولهذا كفرهم فيها نظار المسلمين قاطبة" (١٣-  مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/187)، ومن مفاسد اعتقادهم إنكارهم للنبوات واعتبارها أمرًا مكتسبًا تستعدُّ له النفوس بأنواع الرياضات وليست النبوة- عندهم- هبة من الله ومنته على بعض عباده، وكذا الأخبار المتواترة عند المناطقة احتمالية الصدق وتختص بها من علمها، ولا تكون حجة على غيره، فهذا غيض من فيض ما يسببه المنطق الأرسطي من تفريق كلمة المسلمين، وتذبذب  معتقدهم، وشق عصاهم، ونبذ جماعتهم، فالاضطراب والشك والنزاع والحيرة عالق بأهل المنطق والمشتغلين به فلا يكاد يوجد اثنان منهم يتفقان على مسألة ما حتى تلك التي يطلقون عليها اسم" البدهيات" أو " اليقينيات". وقد وصف ابن تيمية -رحمه الله- المشتغلين بهذه الصناعة بقوله:" إنَّ الخائضين في العلوم من أهل هذه الصناعة أكثر الناس شكًّا واضطراباً، وأقلهم علمًا وتحقيقًَا، وأبعدهم عن تحقيق علم موزون، وإم كان فيهم من قد يحقق شيئا من العلم، فذلك لصحة المادة والأدلة التي ينظر فيها، وصحة ذهنه وإدراكه لا لأجل المنطق، بل إدخاله صناعة المنطق في العلوم الصحيحة يطوّل العبارة، ويبعد الإشارة، ويجعل القريب من العلم بعيدًا، واليسير منه عسيرًا، ولهذا تجد من أدخله في الخلاف، والكلام، وأصول الفقه، وغير ذلك لم يفد إلاَّ كثرة الكلام والتشقيق، مع قلة العلم والتحقيق، فعلم أنه من أعظم حشو الكلام، وأبعد الأشياء عن طريق ذوي الأحلام" (١٤-  المصدر السابق: 9/23-24) قال أحد بطارقة الروم:" فما دخلت هذه العلوم على دولة شرعية إلاَّ أفسدتها وأوقعت بين علمائها" (١٥-  صون المنطق للسيوطي: 9).

 

[آثار جناية المنطق على الإسلام وأهله]

ومن آثار جناية المنطق الأرسطي على الإسلام وأهله: ضعف توقير الكتاب والسنة في نفوس المعجبين بعلم الكلام اغترارًا بالأدلة العقلية الموزونة بميزان المنطق وتقديمها على أدلة الشرع، ولم تعد لأدلة الوحيين قيمة ذاتية إلاَّ على وجه الاستئناس بها والمعاضدة للأدلة العقلية عند التوافق معها، أمَّا في حالة التعارض فإنَّ نصوص الوحي من الكتاب والسنة ترد ردًّا كليا بإلغاء مدلوليهما، وتأويلهما على وجه يتوافق -في زعمهم- مع العقل المشفوع بالمنطق لقطعيته وظنيتهما، والقطعي لا يعارضه الظني ولا يقاومه. الأمر الذي أدَّى إلى الاستغناء عن نصوص الوحيين بآراء الرجال وأقيسة المناطقة وهرطقات الفلاسفة وأبعدهم عن مقتضى وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الأمة بما يكفل لها النجاة والهدى إذا اعتصمت بالكتاب والسنة، وتحاكمت إليهما في موارد النزاع، وتباعدت عن وجوه الضلالات والبدع، قال ابن تيمية -رحمه الله-: "فكان من الأصول المتفق عليها بين الصحابة والتابعين لهم بإحسان، أنه لا يقبل من أحد قط أن يعارض القرآن، لا برأيه، ولا ذوقه، ولا معقوله، ولا قياسه، ولا وجده، فإنهم ثَبَت عندهم بالبراهين القطعيات والآيات البينات أنَّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم جاء بالهدى ودين الحق، وأنَّ القرآن يهدي للتي هي أقوم" (١٦-  مجموع الفتاوى لابن تيمية: 13-28).

 

[عدم افتقار العلوم إلى منطق اليونان]

هذا، والمنطق نمط فكري جانس الفكر اليوناني وتلاءم مع البيئة الفلسفية، نشأ فيها وأهلها من أهل الشرك والإلحاد، تلك الحقبة من التاريخ كان الفكر اليوناني يتوافق مع الفكرة المجردة ويناسب الجدل المثالي، وهذا علم لا صلة له بالواقع، بل وجوده في الذهن ليس إلاَّ، لأنَّ المنطق يبحث في عالم الكليات ويتجاهل البحث في الجزئيات والأعيان المشخصة (١٧-  مقدمة ابن خلدون: 483-484. المنطق الحديث لمحمود قاسم: 11) لذلك لم يعد صالحا بمضي عهده وانتهاء أوانه، بل كان له الأثر الظاهر في تخلف اليونان عن ركب الحضارة والمدنية التي كان مُعرِضًا عنها وعن العلوم التطبيقية الواقعية بانزوائه بالفكر والجهود العلمية إلى عالم ما وراء الطبيعية، فكان ظهور التقدم العلمي والحضاري بعد الثورة المزدوجة على السلطة العلمية ممثلة في المنطق الأرسطي والسلطة الدينية ممثلة في رجال الكنيسة (١٨-  الغزو الفكري لعلي لبن: 42)، وعليه فإنَّ العلوم تقدمت قبل المنطق والتعرف عليه وبعد انتهاء أوانه، وفي هذا المعنى يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: "إننا لا نجد أحدًا من أهل الأرض حقق علمًا من العلوم وصار إمامًا بفضل المنطق، لا من العلوم الدينية ولا غيرها، فالأطباء والمهندسون وغيرهم يحققون ما يحققون من علومهم بغير صناعة المنطق، وقد صنف في الإسلام علوم النحو، والعَروض، والفقه وأصوله، وغير ذلك، وليس في أئمة هذه الفنون من كان يلتفت إلى المنطق، بل عامتهم كانوا قبل أن يعرف المنطق اليوناني" (١٩-  مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/23) لذلك كان فرضه كمقدمة لمختلف العلوم لما في ذلك العلوم الشرعية مسلك عديم الفائدة، كثير المفاسد، ليس فيه إلاَّ تضييع الأزمان وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، ودعوى التحقيق بالكذب والبهتان، وفي معرض الجواب عن كتب المنطق ومدى صحة القول من اشترطها في تحصيل العلوم قال ابن تيمية- رحمه الله-:"....وأمَّا شرعًا فإنه من المعلوم بالاضطرار من دين الإسلام أنَّ الله لم يوجب تعلم هذا المنطق اليوناني على أهل العلم والإيمان، وأما في نفسه فبعضه حق، وبعضه باطل، والحق الذي فيه كثير منه أو أكثره لا يحتاج إليه، والقدر الذي يحتاج إليه منه فأكثر الفطر السليمة تستقل به، والبليد لا ينتفع به، والذكي لا يحتاج إليه، ومضرته على من لم يكن خبيرًا بعلوم الأنبياء أكثر من نفعه، فإنَّ فيه من القواعد السلبية الفاسدة ما راجت على كثير من الفضلاء وكانت سبب نفاقهم وفساد علومهم، وقول من قال: إنه كله حق، كلام باطل، بل في كلامهم في الحدِّ والصفات الذاتية والعرضية وأقسام القياس والبرهان وموارده من الفساد ما قد بيناه في غير الموضع (٢٠-  وقد بينه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله حق البيان في المصنفات المفيدة التالية:" الرد على المنطقيين" و" نقض المنطق" و" نصيحة أهل الإيمان في الرد على منطق اليونان"و" نقض تأسيس الجهمية" و" درء تعارض العقل والنقل") وقد بين ذلك علماء المسلمين (٢١-  وللعلماء من أهل السنة والحديث مجهود معتبر في بيان المحدثات وتحذير الأمة من خطرها وسوء عاقبتها، ولهم في ذلك مصنفات أبطلوا فيها مزاعم أهل الكلام والفلسفة ونقضوا شبهاتهم وأقاموا الحجة وبينوا الحجة ومن هذه المصنفات ما تقدم من كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وكتاب" الصواعق المرسلة على الجهمية والمعطلة" لابن القيم الجوزية، وكتاب " الغنية عن الكلام وأهله" لأبي سليمان الخطابي، وكتاب" ترجيح أساليب القرآن على أساليب اليونان" لابن الوزير، وكتب جلال الدين السيوطي منها:" القول المشرق في تحريم الاشتغال بالمنطق"و" صون المنطق والكلام عن فن المنطق والكلام"و" جهد القريحة في تجريد النصيحة"، ولأبي حامد الغزالي:" تهافت الفلاسفة" و" إلجام العوام عن علم الكلام")" (٢٢-  مجموع الفتاوى لابن تيمية: 9/269-270).

[جزاء من اتخذ المنطق اليوناني مسلكًا له وميزانا]

هذا، وقد كان جزاء من اتخذ المناهج الفلسفية والطرق المنطقية ميزانًا له ومسلكًا أن أورثهم الله خبطًا في دوامة من الشك والهذيان والحيرة باستبدالهم الذي هو أدنى بالذي هو خير المتجلي في الحجة البيضاء التي تركنا عليها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلاَّ هالك، قال ابن القيم رحمه الله:" لقد استبان-والله- الصبح لمن له عينان ناظرتان، وتبين الرشد من الغي لمن له أذنان واعيان، لكن عصفت على القلوب أهوية البدع والشبهات، فأغلقت أبواب رشدها وأضاعت مفاتيحها، وران عليها كسبها وتقليدها لآراء الرجال، فلم تجد حقائق القرآن والسنة فيها منفذًا، وتمكنت فيها أسقام الجهل والتخليط، فلم تنتفع معها بصالح الغذاء، واعجبا جعلت غذاءها من هذه الآراء التي لا تسمن ولا تغني من جوع ولم تقبل الاغتذاء بكلام الله ونص نبيه المرفوع" (٢٣-  اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة الجهمية لابن القيم: 63).

 

[اعترافات أذكياء أهل الكلام المنطق بمضرته وفساد مسالكه]

وقد اعترف كثير ممن تأثَّروا بالمنطق وعلم الكلام- الذين خاضوا بحره وغاصوا أعماقه- بمضار القوالب الفلسفية والمناهج المنطقية التي لا تشفي عليلاً ولا تروي غليلاً، ورجعوا إلى طريق الحق والصواب بعد أن أدركوا تناقض المنطق وتهافته أمثال نعيم بن حماد[ت: 229] وأبي الحسن الأشعري[ت: 324]، وأبي المعالي الجويني[ت: 474]، وأبي جامد الغزالي[ت: 505] وغيرهم (٢٤-  انظر نماذج من رجوع المتكلمين إلى الحق في: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز: 208- 209)، وكان الغزالي قد ذم المنطق وأهله، وبيّن أن طريقتهم لا توصل إلى اليقين مفندا البرهان الفلسفي وإظهار قصوره عن الوصول بالإنسان إلى اليقين حال تطبيقه في الإلهيات فقال: " لهم نوع من الظلم في هذا العلم وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط، بل تساهلوا غاية التساهل" (٢٥-  المنقذ من الضلال للغزالي: 93)،كما ذم طريقة المتكلمين وأشار إلى مضار علم الكلام بقوله: " فأما مضرته فإثارة الشبهات، وتحريف العقائد، وإزالتها عن الجزم والتصميم، وذلك مما يحصل بالابتداء ورجوعها بالدليل مشكوك فيه، ، ويختلف فيه الأشخاص، فهذا ضرره في اعتقاد الحق، وله ضرر في تأكيد اعتقاد البدعة، وتثبيتها في صدورها، بحيث تنبعث دواعيهم، ويشتد حرصهم عليه، ولكن هذا الضرر بواسطة التعصب الذي يثور من الجدل..." (٢٦-  إحياء علوم الدين للغزالي: 1/97) وجاء عنه -رحمه الله- في كتابه: "إلجام العوام عن علم الكلام" قوله: الدليل على أن مذهب السلف هو الحق، وأن نقيضه بدعة، والبدعة مذمومة وضلالة" (٢٧-  إلجام العوام للغزالي: 66)، وقال في موضع آخر: " إن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا محتاجين إلى محاجة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وعلى آله وسلم، فما زادوا على أدلة القرآن شيئا، وما ركبوا ظهر اللجاج في وضع المقاييس العقلية، وترتيب المقدمات، كل ذلك لعلمهم بأن ذلك مثار للفتن، ومنبع التشويش، ومن لا يقنعه أدلة القرآن لا يقمعه إلا السيف و السّنان فما بعد بيان الله بيان". تلك هي بعض اعترافات من رجعوا إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالتمسك بالكتاب والسنة والاعتصام بحبل الله تعالى وعدم التفرق، بعد تيه في بيداء الكلام، وعلمهم أن في طرق المناطقة فسادا كبيرا، والحاصل منها بعد النصب والمشقة خير قليل فهو "كَلَحْمِ جَمَلٍ غَثٍّ على رأسِ جبَلٍ وَعْرٍ،لاَ سَهْلٌ فَيُرْتقى، ولا سَمِينٌ فَيُنْتَقَل" (٢٩-  جزء من حديث أمّ زرع أخرجه البخاري: 9/254، في كتاب النكاح، باب حسن المعاشرة مع الأهل، ومسلم: 15/212، في كتاب فضائل الصحابة رضي الله عنهم، باب حديث أمّ زرع. قال النووي في شرح مسلم[15/213]: " فالمعنى أنه قليل الخير من أوجه منها: كونه كلحم الجمل لا كلحم الضأن، ومنها: أنه مع ذلك غث مهزول رديء، ومنها: أنه صعب التناول لا يوصل إليه إلا بمشقة شديدة، ولا سمبن فينتقل أي إلى بيوتهم ليأكلوه، بل يتركوه رغبة عنه لرداءته" بتصرف)، فرحم الله علماء السنة والحديث في كل عصر ينصرون الحق، ويدعون الناس إليه، مع تأديتهم بواجب النصح وأمانة تبليغ هذا الدين، ودرء تحريف الغالين، وفساد المبتدعين، حتى يكون الدين لله ربّ العالمين.

 
أبو عبد المعز محمّد علي فركوس
 
الجزائر في: 1 محرم 1427ﻫ
الموافق ﻟ: 30 يناير 2006م
 

No comments:

Post a Comment