وفحول النظار كأبي عبد الله الرازي، وأبى الحسن الآمدي وغيرهما، ذكروا حجج النفاة لحلول الحوادث وبينوا فسادها كلها.
فذكروا لهم أربع حجج:
إحداها: الحجة المشهورة، وهي: أنها لو قامت به لم يَخْلُ منها ومن أضدادها، وما لم يخل من الحوادث فهو حادث.
ومنعوا المقدمة الأولى، والمقدمة الثانية ذكر الرازي وغيره فسادها، وقد بسط في غير هذا الموضع.
والثانية: أنه لو كان قابلاً لها في الأزل، لكان القبول من لوازم ذاته، فكان القبول يستدعى إمكان المقبول، ووجود الحوادث في الأزل محال، وهذه أبطلوها هم بالمعارضة بالقدرة بأنه قادر على إحداث الحوادث، والقدرة تستدعى إمكان المقدور، ووجود المقدور وهو الحوادث في الأزل محال، وهذه الحجة باطلة من وجوه:
أحدها: أن يقال: وجود الحوادث؛ إما أن يكون ممتنعًا، وإما أن يكون ممكنًا، فإن كان ممكنًا أمكن قبولها، والقدرة عليها دائمًا، وحينئذ فلا يكون وجود جنسها في الأزل ممتنعًا، بل يمكن أن يكون جنسها مقدورًا مقبولاً،وإن كان ممتنعًا فقد امتنع وجود حوادث لا تتناهى، وحينئذ فلا تكون في الأزل ممكنة، لا مقدورة ولا مقبولة، وحينئذ فلا يلزم امتناعها بعد ذلك.
فإن الحوادث موجودة، فلا يجوز أن يقال بدوام امتناعها، وهذا تقسيم حاصر يبين فساد هذه الحجة.
الوجه الثاني: أن يقال: لا ريب أن الرب تعالى قادر، فإما أن يقال: إنه لم يزل قادرًا وهو الصواب وإما أن يقال: بل صار قادرًا بعد أن لم يكن، فإن قيل: لم يزل قادرًا، فيقال: إذا كان لم يزل قادرًا، فإن كان المقدور لم يزل ممكنًا أمكن دوام وجود الممكنات، فأمكن دوام وجود الحوادث، وحينئذ فلا يمتنع كونه قابلاً لها في الأزل.
فإن قيل: بل كان الفعل ممتنعًا ثم صار ممكنا.
قيل: هذا جمع بين النقيضين فإن القادر لا يكون قادرًا على ممتنع، فكيف يكون قادرا على كون المقدور ممتنعًا؟! ثم يقال بتقدير إمكان هذا، قيل: هو قادر في الأزل على ما يمكن فيما لا يزال، وكذلك في المقبول.
يقال: هو قابل في الأزل لما يمكن فيما لا يزال.
الوجه الثالث: إذا قيل: هو قابل لما في الأزل، فإنما هو قابل لما هو قادر عليه، يمكن وجوده، فأما ما يكون ممتنعًا لا يدخل تحت القدرة، فهذا ليس بقابل له.
الرابع: أن يقال: هو قادر على حدوث ما هو مباين له من المخلوقات، ومعلوم أن قدرة القادر على فعله القائم به أولى من قدرته على المباين له، وإذا كان الفعل لا مانع منه إلا ما يمنع مثله لوجود المقدور المباين، ثم ثبت أن المقدور المباين هو ممكن وهو قادر عليه، فالفعل أن يكون ممكنًا مقدورًا أولى.
الحجة الثالثة لهم: أنهم قالوا: لو قامت به الحوادث للزم تغيره والتغير على الله محال، وأبطلوا هم هذه الحجة الرازي وغيره، بأن قالوا: ما تريدون بقولكم: لو قامت به تغير؟ أتريدون بالتغير نفس قيامها به أم شيئًا آخر؟ فإن أردتم الأول كان المقدم هو الثاني، والملزوم هو اللازم، وهذا لا فائدة فيه، فإنه يكون تقدير الكلام: لو قامت به الحوادث لقامت به الحوادث، وهذا كلام لا يفيد، وإن أردتم بالتغير معنى غير ذلك، فهو ممنوع، فلا نسلم أنها لو قامت به لزم تغيرٌ غير حلول الحوادث، فهذا جوابهم.
وإيضاح ذلك: أن لفظ [التغير] لفظ مجمل، فالتغير في اللغة المعروفة لا يراد به مجرد كون المحل قامت به الحوادث، فإن الناس لا يقولون للشمس والقمر والكواكب إذا تحركت: إنها قد تغيرت، ولا يقولون للإنسان إذا تكلم ومشى: إنه تغير، ولا يقولون إذا طاف وصلى، وأمر ونهى، وركب: إنه تغير، إذا كان ذلك عادته، بل إنما يقولون: تغير، لمن استحال من صفة إلى صفة، كالشمس إذا زال نورها ظاهرًا، لا يقال: إنها تغيرت، فإذا اصفرت قيل: تغيرت.
وكذلك الإنسان إذا مرض أو تغير جسمه بجوع أو تعب قيل: قد تغير، وكذلك إذا تغير خلقه ودينه، مثل أن يكون فاجرًا فينقلب ويصير برًا، أو يكون برًا فينقلب فاجرًا، فإنه يقال: قد تغير.
وفي الحديث "رأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم متغيرًا لما رأى منه أثر الجوع ولم يزل يراه يركع ويسجد" فلم يسم حركته تغيرًا، وكذلك يقال: فلان قد تغير على فلان إذا صار يبغضه بعد المحبة، فإذا كان ثابتًا على مودته لم يسم هَشَّتْه إليه وخطابه له تغيرًا.
وإذا جرى على عادته في أقواله وأفعاله فلا يقال: إنه قد تغير، قال الله تعالى: {إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد:11] ومعلوم أنهم إذا كانوا على عادتهم الموجودة يقولون ويفعلون ما هو خير لم يكونوا قد غيروا ما بأنفسهم، فإذا انتقلوا عن ذلك فاستبدلوا بقصد الخير قصد الشر، وباعتقاد الحق اعتقاد الباطل، قيل: قد غيروا ما بأنفسهم، مثل من كان يحب الله ورسوله والدار الآخرة فتغير قلبه، وصار لا يحب الله ورسوله والدار الآخرة، فهذا قد غير ما في نفسه.
وإذا كان هذا معنى التغير، فالرب تعالى لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، منعوتًا بنعوت الجلال والإكرام وكماله من لوازم ذاته، فيمتنع أن يزول عنه شيء من صفات كماله، ويمتنع أن يصير ناقصًا بعد كماله.
وهذا الأصل عليه قول السلف، وأهل السنة: إنه لم يزل متكلمًا إذا شاء، ولم يزل قادرًا، ولم يزل موصوفًا بصفات الكمال، ولا يزال كذلك، فلا يكون متغيرًا، وهذا معنى قول من يقول: يا من يغير، ولا يتغير فإنه يحيل صفات المخلوقات، ويسلبها ما كانت متصفة به إذا شاء، ويعطيها من صفات الكمال ما لم يكن لها، وكماله من لوازم ذاته، لم يزل ولا يزال موصوفًا بصفات الكمال، قال تعالى: {كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:88]، وقال تعالى: {كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ} [الرحمن:26-27].
ولكن هؤلاء النفاة، هم الذين يلزمهم أن يكون قد تغير، فإنهم يقولون: كان في الأزل لا يمكنه أن يقول شيئًا، ولا يتكلم بمشيئته وقدرته، وكان ذلك ممتنعًا عليه لا يتمكن منه، ثم صار الفعل ممكنًا يمكنه أن يفعل.
ولهم في الكلام قولان: من يثبت الكلام المعروف وقال: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته قال: إنه صار الكلام ممكنًا له بعد أن كان ممتنعا عليه، ومن لم يصفه بالكلام المعروف، بل قال: إنه يتكلم بلا مشيئة وقدرة كما تقوله الكُلاَّبيّة، فهؤلاء أثبتوا كلامًا لا يعقل، ولم يسبقهم إليه أحد من المسلمين، بل كان المسلمون قبلهم على قولين:
فالسلف وأهل السنة يقولون: إنه يتكلم بمشيئته وقدرته، وكلامه غير مخلوق.
والجهمية يقولون: إنه مخلوق بقدرته ومشيئته، فقال هؤلاء: بل يتكلم بلا مشيئته وقدرته، وكلامه شيء واحد لازم لذاته، وهو حروف، أو حروف وأصوات أزلية لازمة لذاته، كما قد بسط في غير هذا الموضع.
والمقصود أن هؤلاء كلهم، الذين يمنعون أن الرب لم يزل يمكنه أن يفعل ما يشاء، ويقولون: ذلك يستلزم وجود حوادث لا تتناهى، وذلك محال، فهؤلاء يقولون: صار الفعل ممكنًا له بعد أن كان ممتنعًا عليه، وحقيقة قولهم: أنه صار قادرًا بعد أن لم يكن قادرًا، وهذا حقيقة التغير، مع أنه لم يحدث سبب يوجب كونه قادرًا.
وإذا قالوا:هو في الأزل قادر على ما لا يزال.
قيل: هذا جمع بين النفي والإثبات، فهو في الأزل كان قادرًا.
أفكان القول ممكنا له أو ممتنعًا عليه؟ إن قلتم: ممكن له،فقد جوزتم دوام كونه فاعلاً، وأنه قادر على حوادث لا نهاية لها.
وإن قلتم: بل كان ممتنعا.
قيل: القدرة على الممتنع، مع كون الفعل ممتنعًا غير ممكن، لا يكون مقدورًا للقادر، إنما المقدور هو الممكن لا الممتنع.
فإذا قلتم: أمكنه بعد ذلك. فقد قلتم: إنه أمكنه أن يفعل بعد أن كان لا يمكنه أن يفعل، وهذا صريح في أنه صار قادرًا بعد أن لم يكن، وهو صريح في التغير.
فهؤلاء النفاة الذين قالوا: إن المثبتة يلزمهم القول بأنه تغير، قد بان بطلان قولهم، وأنهم هم الذين قالوا بما يوجب تغيره.
الحجة الرابعة: قالوا: حلول الحوادث به أفول، والخليل قد قال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} [الأنعام:76] والآفل هو المتحرك الذي تقوم به الحوادث، فيكون الخليل قد نفى المحبة عمن تقوم به الحوادث، فلا يكون إلهًا، وإذا قال المنازع: أنا أريد بكونه تغير، أنه تكلم بمشيئته وقدرته، وأنه يحب منا الطاعة ويفرح بتوبة التائب، ويأتي يوم القيامة.
قيل: فهب أنك سميت هذا تغيرًا، فلم قلت: أن هذا ممتنع؟ فهذا محل النزاع، كما قال الرازي: فالمقدم هو الثاني.
فقد ثبت في الأحاديث الصحيحة أن الله يوصف بالغيرة وهي مشتقة من التغير، فقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "لا أحد أغير من الله أن يزنى عبده أو تزني أمته" وقال أيضًا "لا أحد أحب إليه المدح من الله، من أجل ذلك مدح نفسه، ولا أحد أحب إليه العُذْر من الله، من أجل ذلك بعث الرسل وأنزل الكتب، ولا أحد أغير من الله، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن".
وقال "أتعجبون من غِيرة سعد؟! لأنا أغير منه، والله أغير مني".
والجواب: أن قصة الخليل حجة عليهم لا لهم، وهم المخالفون لإبراهيم ولنبينا ولغيرهما من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وذلك أن الله تعالى قال: {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَـذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـذَا رَبِّي هَـذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:76ـ79].
فقد أخبر الله في كتابه أنه من حين بزغ الكوكب، والقمر، والشمس وإلى حين أفولها، لم يقل الخليل: لا أحب البازغين، ولا المتحركين، ولا المتحولين، ولا أحب من تقوم به الحركات ولا الحوادث، ولا قال شيئًا مما يقوله النفاة حين أفل الكوكب والشمس والقمر.
والأفول باتفاق أهل اللغة، والتفسير: هو الغيب والاحتجاب، بل هذا معلوم بالاضطرار من لغة العرب التي نزل بها القرآن، وهو المراد باتفاق العلماء.
فلم يقل إبراهيم: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ} إلا حين أفل وغاب عن الأبصار، فلم يبق مرئيًا ولا مشهودًا، فحينئذ قال: {لا أُحِبُّ الآفِلِينَ}، وهذا يقتضى أن كونه متحركًا منتقلا تقوم به الحوادث، بل كونه جسمًا متحيزًا تقوم به الحوادث لم يكن دليلاً عند إبراهيم على نفي محبته.
فإن كان إبراهيم إنما استدل بالأفول على أنه ليس رب العالمين كما زعموا لزم من ذلك أن يكون ما يقوم به الأفول من كونه متحركًا منتقلاً تحله الحوادث، بل ومن كونه جسمًا متحيزًا، لم يكن دليلاً عند إبراهيم على أنه ليس برب العالمين، وحينئذ فيلزم أن تكون قصة إبراهيم حجة على نقيض مطلوبهم، لا على تعيين مطلوبهم.
وهكذا أهل البدع لا يكادون يحتجون بحجة سمعية، ولا عقلية، إلا وهي عند التأمل حجة عليهم، لا لهم.
ولكن إبراهيم عليه السلام لم يقصد بقوله: {هَـذَا رَبِّي} أنه رب العالمين، ولا كان أحد من قومه يقولون: إنه رب العالمين، من تجويز ذلك عليهم، بل كانوا مشركين، مقرين بالصانع، وكانوا يتخذون الكواكب والشمس والقمر أربابًا يدعونها من دون الله ويبنون لها الهياكل، وقد صنفت في مثل مذهبهم كتب: مثل كتاب السر المكتوم في السحر ومخاطبة النجوم وغيره من الكتب.
ولهذا قال الخليل: {أَفَرَأَيْتُم مَّا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ أَنتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِّي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء:75 ـ77]، وقال تعالى: {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} [الممتحنة:4]؛ ولهذا قال الخليل في تمام الكلام: {إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} [الأنعام:78- 79].
بين أنه إنما يعبد الله وحده فله يوجه وجهه، إذا توجه قصده إليه: يتبع قصده وجهه، فالوجه توجه حيث توجه القلب، فصار قلبه وقصده ووجهه متوجهًا إلى الله تعالى ولهذا قال: {وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} لم يذكر أنه أقر بوجود الصانع فإن هذا كان معلومًا عند قومه، لم يكونوا ينازعونه في وجود فاطر السموات والأرض، وإنما كان النزاع في عبادة غير الله، واتخاذه ربا، فكانوا يعبدون الكواكب السماوية ويتخذون لها أصنامًا أرضية.
وهذا النوع الثاني من الشرك، فإن الشرك في قوم نوح كان أصله من عبادة الصالحين أهل القبور ثم صوروا تماثيلهم، فكان شركهم بأهل الأرض؛ إذ كان الشيطان إنما يضل الناس بحسب الإمكان فكان ترتيبه، أولا الشرك بالصالحين أيسر عليه.
ثم قوم إبراهيم انتقلوا إلى الشرك بالسماويات، بالكواكب، وصنعوا لها الأصنام بحسب ما رأوه من طبائعها، يصنعون لكل كوكب طعامًا وخاتمًا وبخورًا وأموالاً تناسبه، وهذا كان قد اشتهر على عهد إبراهيم إمام الحنفاء؛ ولهذا قال الخليل: {مَاذَا تَعْبُدُونَ أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [الصافات:85-87]، وقال لهم: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ} [الصافات: 95- 96]، وقصة إبراهيم قد ذكرت في غير موضع من القرآن مع قومه، إنما فيها نهيهم عن الشرك، خلاف قصة موسى مع فرعون، فإنها ظاهرة في أن فرعون كان مظهرًا الإنكار للخالق، وجحوده.
وقد ذكر الله عن إبراهيم أنه حاج الذي حاجه في ربه في قوله:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} [البقرة:258]، فهذا قد يقال: إنه كان جاحدًا للصانع، ومع هذا فالقصة ليست صريحة في ذلك، بل يدعو الإنسان إلى عبادة نفسه وإن كان لا يصرح بإنكار الخالق، مثل إنكار فرعون.
وبكل حال، فقصة إبراهيم إلى أن تكون حجة عليهم، أقرب منها إلى أن تكون حجة لهم، وهذا بين ولله الحمد بل ما ذكره الله عن إبراهيم يدل على أنه كان يثبت ما ينفونه عن الله، فإن إبراهيم قال:{إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء} [إبراهيم: 39]، والمراد به: أنه يستجيب الدعاء، كما يقول المصلى: سمع الله لمن حمده، وإنما يسمع الدعاء ويستجيبه بعد وجوده؛ لا قبل وجوده، كما قال الله تعالى:{قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا} [المجادلة:1].
فهي تجادل وتشتكي حال سمع الله تحاورهما، وهذا يدل على أن سمعه كرؤيته المذكورة في قوله:{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ} [التوبة:105] وقال:{ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ} [يونس:14] فهذه رؤية مستقلة ونظر مستقل، وقد تقدم أن المعدوم لا يرى ولا يسمع منفصلاً عن الرائي السامع باتفاق العقلاء، فإذا وجدت الأقوال والأعمال سمعها ورآها.
والرؤية والسمع أمر وجودي، لابد له من موصوف يتصف به، فإذا كان هو الذي رآها وسمعها، امتنع أن يكون غيره هو المتصف بهذا السمع وهذه الرؤية، وأن تكون قائمة بغيره فتعين قيام هذا السمع وهذه الرؤية به بعد أن خلقت الأعمال والأقوال، وهذا مطعن لا حيلة فيه.
وقد بسط الكلام على هذه المسألة، وما قال فيها عامة الطوائف في غير هذا الموضع، وحكيت ألفاظ الناس بحيث يتيقن الإنسان أن النافي ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية، وأن الأدلة العقلية الصريحة موافقة لمذهب السلف، وأهل الحديث، وعلى ذلك يدل الكتاب والسنة مع الكتب المتقدمة؛ التوراة والإنجيل والزبور، فقد اتفق عليها نصوص الأنبياء وأقوال السلف وأئمة العلماء، ودلت عليها صرائح المعقولات.
فالمخالف فيها كالمخالف في أمثالها ممن ليس معه حجة لا سمعية ولا عقلية، بل هو شبيه بالذين قالوا: {وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ} [الملك:10].
قال الله تعالى: {أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} [الحج:46]، ولكن هذه المسألة ومسألة الزيارة، وغيرهما حدث من المتأخرين فيها شبه.
وأنا وغيري كنا على مذهب الآباء في ذلك!! نقول في الأصلين بقول أهل البدع، فلما تبين لنا ما جاء به الرسول دار الأمر بين أن نتبع ما أنزل الله، أو نتبع ما وجدنا عليه آباءنا، فكان الواجب هو إتباع الرسول، وإلاَّ نكون ممن قيل فيه: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا} [لقمان:21]، وقد قال تعالى:{قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ} [الزخرف:24]، وقال تعالى:{وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيّ} [لقمان:14-15].
فالواجب إتباع الكتاب المنزل والنبي المرسل، وسبيل من أناب إلى الله فاتبعنا الكتاب والسنة كالمهاجرين والأنصار، دون ما خالف ذلك من دين الآباء وغير الآباء، والله يهدينا وسائر إخواننا إلى الصراط المستقيم، صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
والله سبحانه أنزل القرآن، وهدى به الخلق، وأخرجهم به من الظلمات إلى النور، وأم القرآن هي فاتحة الكتاب.
قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح "يقول الله: قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، فنصفها لي ونصفها لعبدي، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ}، قال الله:أثني علي عبدي، فإذا قال:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّين}، قال الله: مَجَّدَنِي عبدي، فإذا قال:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، قال الله: هذه بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}، قال:هؤلاء لعبدي ولعبدي ما سأل".
فهذه السورة فيها لله الحمد، فله الحمد في الدنيا والآخرة، وفيها للعبد السؤال، وفيها العبادة لله وحده، وللعبد الاستعانة، فحق الرب حمده وعبادته وحده، وهذان حمد الرب وتوحيده يدور عليهما جميع الدين.
ومسألة الصفات الاختيارية هي من تمام حمده، فمن لم يقر بها لم يمكنه الإقرار بأن الله محمود البتة، ولا أنه رب العالمين، فإن الحمد ضد الذم، والحمد هو الإخبار بمحاسن المحمود مع المحبة له، والذم هو الإخبار بمساوئ المذموم مع البغض له، وجماع المساوئ فعل الشر، كما أن جماع المحاسن فعل الخير.
فإذا كان يفعل الخيربمشيئته وقدرته استحق الحمد، فمن لم يكن له فعل اختياري يقوم به، بل ولا يقدر على ذلك، لا يكون خالقًا ولا ربًا للعالمين.
وقوله: {الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ} [الأنعام:1]، {الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ} [الكهف:1]، ونحو ذلك، فإذا لم يكن له فعل يقوم به باختياره امتنع ذلك كله.
فإنه من المعلوم بصريح العقل أنه إذا خلق السموات والأرض، فلابد من فعل يصير به خالقًا؛ وإلا فلو استمر الأمر على حال واحدة لم يحدث فعل لكان الأمر على ما كان قبل أن يخلق، وحينئذ فلم يكن المخلوق موجودًا فكذلك يجب ألاَّ يكون المخلوق موجودًا، إن كان الحال في المستقبل مثل ما كان في الماضي، لم يحدث من الرب فعل هو خلق السموات والأرض، وقد قال تعالى: {مَا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} [الكهف:51].
ومعلوم أنهم قد شهدوا نفس المخلوق، فدل على أن الخلق لم يشهدوه، وهو تكوينه لها وإحداثه لها، غير المخلوق الباقي.
وأيضًا، فإنه قال: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ} [الأعراف: 54، يونس:3، هود:7، الحديد:4].
فالخلق لها كان في ستة أيام، وهي موجودة بعد المشيئة، فالذي اختص بالمشيئة غير الموجود بعد المشيئة.
وكذلك {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ}، فإن الرحمن الرحيم، هو الذي يرحم العباد بمشيئته وقدرته، فإن لم يكن له رحمة إلا نفس إرادة قديمة، أو صفة أخرى قديمة، لم يكن موصوفًا بأنه يرحم من يشاء، ويعذب من يشاء.
قال الخليل:{قُل؛ فلايرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ يُعَذِّبُُ مَن يَشَاء وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ} [العنكبوت:20- 21]، فالرحمة ضد التعذيب، والتعذيب فعله، وهو يكون بمشيئته، كذلك الرحمة تكون بمشيئته، كما قال: {وَيَرْحَمُ مَن يَشَاء}.
والإرادة القديمة اللازمة لذاته أو صفة أخرى لذاته ليست بمشيئت؛ فلاا تكون الرحمة بمشيئته.
وإن قيل: ليس بمشيئته إلا المخلوقات المباينة، لزم ألاَّ تكون صفة للرب بل تكون مخلوقة له، وهو إنما يتصف بما يقوم به لا يتصف بالمخلوقات، فلا يكون هو {برَّحًمـّنٌ برَّحٌيمٌ}وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "لما قضى الله الخلق كتب في كتاب، فهو موضوع عنده فوق العرش: إن رحمتي تغلب غضبي"، وفي رواية "تسبق غضبي".
وما كان سابقًا لما يكون بعده لم يكن إلا بمشيئة الرب وقدرته.
ومن قال: ما ثم رحمة إلا إرادة قديمة أو ما يشبهها، امتنع أن يكون له غضب مسبوق بها، فإن الغضب إن فسر بالإرادة، فالإرادة لم تسبق نفسها، وكذلك إن فسر بصفة قديمة العين، فالقديم لا يسبق بعضه بعضًا، وإن فسر بالمخلوقات لم يتصف برحمة ولا غضب، وهو قد فرق بين غضبه وعقابه بقوله:{فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا} [النساء: 93]، وقوله: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا} [الفتح: 6]، وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه كان يقول "أعوذ بكلمات الله التامات من غضبه وعقابه، ومن شر عباده، ومن هَمَزَات الشياطين وأن يحضرون".
ويدل على ذلك قوله: {رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ} [الإسراء:54]، فعلق الرحمة بالمشيئة كما علق التعذيب، وما تعلق بالمشيئة مما يتصف به الرب فهو من الصفات الاختيارية.
وكذلك كونه مالكًا ليوم الدين، يوم يدين العباد بأعمالهم، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، يوم الدين{وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ}[الانفطار:17]، {يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} [الانفطار: 19].
فإن الملك هو: الذي يتصرف بأمر فيطاع؛ ولهذا إنما يقال: ملك للحي المطاع الأمر، لا يقال في الجمادات لصاحبها: ملك، إنما يقال له: مالك، ويقال ليعسوب النحل: ملك النحل؛ لأنه يأمر فيطاع، والمالك: القادر على التصريف في المملوك.
وإذا كان الملك هو الآمر الناهي المطاع، فإن كان يأمر وينهى بمشيئته كان أمره ونهيه من الصفات الاختيارية، وبهذا أخبر القرآن؛ قال الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُم بَهِيمَةُ الأَنْعَامِ إِلاَّ مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة:1].
وإن كان لا يأمر وينهى بمشيئته بل أمره لازم له حاصل بغير مشيئته ولا قدرته لم يكن هذا مالكًا أيضًا، بل هذا أولى أن يكون مملوكًا، فإن الله تعالى خلق الإنسان، وجعل له صفات تلزمه كاللون، والطول، والعَرْض، والحياء، ونحو ذلك مما يحصل لذاته بغير اختياره فكان باعتبار ذلك مملوكًا مخلوقًا للرب فقط، وإنما يكون ملكا، إذا كان يأمر وينهى باختياره فيطاع وإن كان الله خالقًا لفعله ولكل شيء.
ولكن المقصود أنه لا يكون ملكًا إلا من يأمر وينهي بمشيئته وقدرته بل من قال: إنه لازم له بغير مشيئته، أو قال: إنه مخلوق له، فكلاهما يلزمه أنه لا يكون ملكًا، وإذا لم يمكنه أن يتصرف بمشيئته لم يكن مالكًا أيضًا.
فمن قال: إنه لا يقوم به فعل اختياري لم يكن عنده في الحقيقة مالكًا لشيء، وإذا اعتبرت سائر القرآن وجدت أنه من لم يقر بالصفات الاختيارية لم يقم بحقيقة الإيمان ولا القرآن، فهذا يبين أن الفاتحة وغيرها يدل على الصفات الاختيارية.
وقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فيه إخلاص العبادة لله، والاستعانة به، وأن المؤمنين لا يعبدون إلا الله، ولا يستعينون إلا بالله، فمن دعي غير الله من المخلوقين، أو استعان بهم من أهل القبور وغيرهم لم يحقق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ولا يحقق ذلك إلا من فرق بين الزيارة الشرعية والزيارة البدعية.
فإن الزيارة الشرعية عبادة لله، وطاعة لرسوله، وتوحيد لله، وإحسان إلى عباده، وعمل صالح من الزائر يثاب عليه.
والزيارة البدعية، شرك بالخالق، وظلم للمخلوق، وظلم للنفس.
فصاحب الزيارة الشرعية هو الذي يحقق قوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.
ألا تري أن اثنين لو شهدا جنازة، فقام أحدهما يدعو للميت، ويقول: اللهم اغفر له وارحمه، وعافه واعف عنه، وأكرم نزله ووسع مدخله، واغسله بماء وثَلْج وبَرَدٍ، ونَقِّه من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدَّنَسِ، وأبدله دارًا خيرًا من داره، وأهلاً خيرًا من أهله، وأعذه من عذاب النار وعذاب القبر، وأفسح له في قبره، ونور له فيه، ونحو ذلك من الدعاء له.
وقام الآخر فقال: يا سيدي، أشكو لك ديوني، وأعدائي، وذنوبي، أنا مستغيث بك، مستجير بك، أغثني ! ونحو ذلك، لكان الأول عابدًا لله، و محسنًا إلي خلقه، محسنًا إلى نفسه بعبادة الله ونفعه عباده، وهذا الثاني مشركًا مؤذيًا ظالمًا معتديًا على الميت ظالمًا لنفسه.
فهذا بعض ما بين البدعية والشرعية من الفروق.
والمقصود أن صاحب الزيارة الشرعية، إذا قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} كان صادقًا؛ لأنه لم يعبد إلا الله، ولم يستعن إلا به، وأما صاحب الزيارة البدعية فإنه عبد غير الله، واستعان بغيره.
فهذا بعض ما يبين أن [الفاتحة] أم القرآن اشتملت علي بيان المسألتين المتنازع فيهما: [مسألة الصفات الاختيارية] و[مسألة الفرق بين الزيارة الشرعية، والزيارة البدعية]، والله تعالى هو المسئول، أن يهدينا وسائر إخواننا إلى صراطه المستقيم، صراط الذين أنعم عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
ومما يوضح ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال "إذا قال العبد: {الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، قال الله: حمدني عبدي، فإذا قال: {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ}، قال: أثنى علي عبدي. فإذا قال: {مّالٌكٌ يّوًمٌ بدٌَينٌ}، قال الله مجدني عبدي" فذكر الحمد، والثناء، والمجد.
بعد ذلك يقول:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} إلى آخرها.
هذا في أول القراءة في قيام الصلاة.
ثم في آخر القيام بعد الركوع يقول "ربنا ولك الحمد، ملء السماء وملء الأرض" إلى قوله "أهل الثناء والمجد أحق ما قال العبد، وكلنا لك عبد، لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد".
وقوله "أحق ما قال العبد".
خبر مبتدأ محذوف، أي: هذا الكلام أحق ما قال العبد.
فتبين أن حمد الله والثناء عليه أحق ما قاله العبد، وفي ضمنه توحيده له إذا قال "ولك الحمد"، أي: لك لا لغيرك، وقال في آخره "لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت"، وهذا يقتضي انفراده بالعطاء والمنع فلا يستعان إلا به، ولا يطلب إلا منه.
ثم قال "ولا ينفع ذا الجد منك الجد" فبين أن الإنسان وإن أعطى الملك، والغنى، والرئاسة، فهذا لا ينجيه منك، إنما ينجيه الإيمان والتقوى، وهذا تحقيق قوله:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] فكان هذا الذكر في آخر القيام؛ لأنه ذكر أول القيام، وقوله "أحق ما قال العبد" يقتضي أن يكون حمد الله أحق الأقوال بأن يقوله العبد؛ وما كان أحق الأقوال كان أفضلها، وأوجبها على الإنسان.
ولهذا افترض الله على عباده في كل صلاة أن يفتتحوها بقولهم:{الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الفاتحة:2]، وأمرهم أيضًا أن يفتتحوا كل خطبة بـ (الحمد لله)،فأمرهم أن يكون مقدمًا على كل كلام، سواء كان خطابًا للخالق أو خطابًا للمخلوق؛ ولهذا يقدم النبي صلى الله عليه وسلم الحمد أمام الشفاعة يوم القيامة؛ ولهذا أمرنا بتقديم الثناء على الله في التشهد قبل الدعاء، وقال النبي صلى الله عليه وسلم "كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجْذَمُ".
وأول من يدعي إلى الجنة الحمادون، الذين يحمدون الله على السَّرَّاء والضَّرَّاء.
وقوله: {الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} [الفاتحة:3] جعله ثناء.
وقوله: {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] جعله تمجيدًا.
وقوله: {الْحَمْدُ للّهِ} حمد مطلق.
فإن (الحمد) اسم جنس، والجنس له كمية وكيفية، فالثناء كميته وتكبيره وتعظيمه كيفيته، والمجد هو السعة والعلو، فهو يعظم كيفيته، وقدره، وكميته المتصلة، وذلك أن هذا وصف له بالملك.
والملك يتضمن القدرة، وفعل ما يشاء، و{الرَّحْمـنِ الرَّحِيمِ} وصف بالرحمة المتضمنة لإحسانه إلى العباد بمشيئته وقدرته أيضًا والخير يحصل بالقدرة والإرادة التي تتضمن الرحمة.
فإذا كان قديرًا مريدًا للإحسان، حصل كل خير، وإنما يقع النقص لعدم القدرة، أو لعدم إرادة الخير، فالرحمن الرحيم، الملك، قد اتصف بغاية إرادة الإحسان، وغاية القدرة؛ وذلك يحصل به خير الدنيا والآخرة.
وقوله: {مَـالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} مع أنه ملك الدنيا، لأن يوم الدين لا يدعي أحد فيه منازعة، وهو اليوم الأعظم، فـ "ما الدنيا في الآخرة إلا كما يضع أحدكم إصبعه في اليمِّ فلينظر بم يرجع".
والدين عاقبة أفعال العباد، وقد يدل بطريق التنبيه، وبطريق العموم عند بعضهم:على ملك الدنيا، فيكون له الملك وله الحمد كما قال تعالى: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [التغابن:1]، وذلك يقتضي أنه قادر على أن يرحم ورحمته وإحسانه وصف له يحصل بمشيئته وهو من الصفات الاختيارية.
وفي الصحيح: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعلم أصحابه الاستخارة في الأمور كلها، كما يعلمهم السورة من القرآن، يقول "إذا هَمَّ أحدكم بالأمر،فليركع ركعتين من غير الفريضة، ثم ليقل: اللهم إني أستخيرك بعلمك، وأستقدرك بقدرتك، وأسألك من فضلك العظيم، فإنك تقدر ولا أقدر، وتعلم ولا أعلم، وأنت علام الغيوب، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر ويسميه باسمه خير لي في ديني، ودنياي، ومعاشي، وعاقبة أمري؛ فاقدره لي، ويسره لي، ثم بارك لي فيه، وإن كنت تعلم أن هذا الأمر شر لي في ديني ومعاشي وعاقبة أمري، فاصرفه عني، واصرفني عنه، واقدر لي الخير حيث كان".
فسأله بعلمه وقدرته ومن فضله، وفضله يحصل برحمته، وهذه الصفات هي جماع صفات الكمال، لكن العلم له عموم التعلق، يتعلق بالخالق، والمخلوق، والموجود، والمعدوم.
وأما القدرة فإنما تتعلق بالمخلوق، وكذلك الملك، إنما يكون ملكًا على المخلوقات.
فالفاتحة اشتملت على الكمال في الإرادة، وهو الرحمة، وعلى الكمال في القدرة، وهو ملك يوم الدين، وهذا إنما يتم بالصفات الاختيارية، كما تقدم.
والله سبحانه وتعالى أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام أحمد بن تيمية - المجلد السادس (العقيدة)
No comments:
Post a Comment