Thursday, September 23, 2010

انتشار المذهب الاشعري بالقوة السياسية

بسم الله

انتشار المدارس الطائفية المذهبية :

كان للأزمة العقيدية التي عصفت بالسنيين ، أثر كبير في ظهور المدارس الطائفية المذهبية بين الطوائف السنية ، فأصبح لكل طائفة مدارسها و طلابها و شيوخها ، تُدرّس فيها مذهبها أصولا و فروعا ، و تنافست فيما بينها في بنائها و الإكثار منها ، بمساعدة و تشجيع من أرباب المال و رجال السياسة [1] ، فمن ذلك إن الوزير السلجوقي نظام الملك بنى مدارس للشافعية ،و بني السلطان صلاح الدين الأيوبي(ت589ه) مدارس للشافعية و المالكية و الحنفية ، و بني السلطان نور الدين محمود(ت569ه) مدارس للحنفية و الشافعية و الحنابلة و المالكية ،و بنى كل من الوزير عون الدين بن هبيرة (ت قرن: 6ه) ،و زوجة الخليفة المستضيء السيدة بنفشة (ت 558ه) مدرسة للحنابلة [2] .

و تُعد مدارس نظام الملك أشهر المدارس الطائفية المذهبية بالمشرق الإسلامي –خلال القرنين :5-6ه- ،و أكثرها قوة ،و تأثيرا ،و نشاطا ،و تعصبا ؛ فقد بنى للشافعية مدارس عديدة عُرفت بالمدارس النظامية ، في كثير من المدن ، كبغداد ،و مرو ، و بلخ، و البصرة ، و أصفهان ، و أشهرها نظامية بغداد الذائعة الصيت ، ذات النشاط العلمي المذهبي الأشعري الواسع ، لأنها وجدت المجال خاليا ،و المناخ ملائما لنشر فكرها و مهاجمة خصومها ، لغياب المنافسة من مدارس أهل الحديث، إذ لم أعثر لهم على أية مدرسة في القرن الخامس الهجري ، و الحنابلة لا تُعرف لهم مدرسة إلا في مطلع القرن السادس الهجري ، و هي مدرسة أبي سعد المخرمي البغدادي (ت513ه)[3] .

و قد ذكر كثير من الباحثين المعاصرين إن نظام الملك بنى مدارسه لتوحيد المذهب السني ،و محاربة الشيعة ،و تكوين الموظفين الإداريين لتولي مناصب في الدولة[4] . و رأيهم هذا صحيح ، لكنهم لم يذكروا هدفا أساسيا آخر لا يصح إغفاله ، كان نظام الملك يسعى لتحقيقه ، هو نصرة المذهب الأشعري على حساب مذهب أهل الحديث ، و الدليل على ذلك الشواهد التاريخية الآتية ، أولها إن من شروط التدريس في المدرسة النظامية ببغداد إن يكون المدرس شافعيا[5] . و قد سبق أن ذكرنا إن معظم الشافعية كانوا أشاعرة ابتداء من النصف الثاني من القرن الخامس الهجري و ما بعده ، مما يُشير إلى إنها –أي المدرسة-كانت حكرا على الشافعية الأشاعرة ، هدفها خدمة مذهبهم .

و ثانيها إن طلاب نظامية بغداد كانوا يدرسون المذهب الأشعري ، و يقولون إن القرآن ليس كلام الله حقيقة، و إنما هو معنى قائم بالذات ، و ما الحروف و الأصوات إلا عبارة عنه[6] . و ثالثها إن بعض متكلمي و وعاظ الأشاعرة اتخذوا المدرسة النظامية منبرا لهم في الدعوة للأشعرية ،و مهاجمة الحنبلية ، كأبي نصر بن القشيري، و أبي بكر البكري المغربي الذي دخل بغداد سنة 475ه ، و معه كتاب من نظام الملك للتدريس بالنظامية ، و التكلم بمذهب الأشعري[7] .

و الشاهد الرابع هو إنه كان مكتوبا على باب المدرسة النظامية ببغداد ، اسم إمام الأشعرية أبي الحسن الأشعري ، فلما دخل السلطان السلجوقي مسعود(ت قرن: 6ه ) بغداد أمر بإزالته و تعويضه باسم الإمام الشافعي[8] . فكتابة اسم الأشعري عل نظامية بغداد ، دليل واضح على الصبغة المذهبية الأشعرية لتلك المدرسة .

و آخرها –أي الخامس- شاهد أثري يعود إلى العصر الأيوبي ، و هو اليوم بدار الآثار العربية المصرية ، و يخص المدرسة التي بناها السلطان صلاح الدين لشيخه نجم الدين الخبوشاني، و محتوى الشاهد هو : (( بُنيت هذه المدرسة باستدعاء الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين ركن الإسلام ، قدوة الأنام مفتي الفرق ، أبو البركات الموفق الخبوشاني ، أدام الله توفيقه لفقهاء أصحاب الشافعي ، رضوان الله عليه ، الموصوفين بالأصولية الموحدة الأشعرية المنصورة على الحشوية و غيرهم من المبتدعة ، و ذلك في شهر رمضان سنة خمس و سبعين و خمسمائة ))[9] . فواضح من هذا الشاهد إن المدرسة مخصصة للشافعية الأشعرية ،و فيه تعريض بالحشوية ،و المقصود بهم الحنابلة و أهل الحديث ، لأنهم هم خصوم نجم الدين الخبوشاني الذين منعوه من نبش قبر ابن الكيزاني ، عندما نبشه ليبني مدرسته ، فحدثت بينه و بينهم مواجهات دامية ، سبق ذكرها في الفصل الأول ، كما إن الحنابلة و أهل الحديث هم خصوم الأشعرية ،و هي قد أطلقت عليهم اسم الحشوية و المبتدعة ، على ما سبق أن ذكرناه .

رابعا : تعرّض بعض العلماء لمحن و أزمات فكرية :

(...)

و الحالة الأخيرة –أي ثامنا- محنة الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي(ت600ه) ، جلس يوما بجامع دمشق (سنة 595ه) ، و ذكر شيئا من العقائد ، منها أحاديث في النزول و صفات أخرى ، فأنكر عليه جماعة من الأشاعرة من الشافعية و الحنفية و المالكية ، كالقاضي ابن الزكي،و ضياء الدين الدولعي، و رموه بالتجسيم ، و رفعوا أمره إلى السلطان ، و والي دمشق صارم الدين برغش ،و أخبروهما بأمر الحافظ عبد الغني ، و قالوا للوالي إن عبد الغني أضل الناس ،و يقول بالتشبيه ، فأمر الوالي بعقد مجلس لمناظرته ، فلما حضر ناقشوه في مسألة الاستواء و النزول و رد عليهم ، فأصر كل طرف على موقفه ، لأن كلا منهما نظر للقضية من زاوية مذهبه الذي يعتقده ، فهو ضللهم ، و هم كفّروه ، و قالوا للوالي: إنه مُبتدع ،و لا يجوز أن يُترك بين المسلمين ، و لا يحل لولي الأمر أن يُمكّنه من المقام معهم . ثم تدخل الوالي و قال لعبد الغني: كل هؤلاء على الضلالة و أنت على الحق ؟ قال : نعم ، فغضب عليه و أمر بنفيه من البلد ، فاستنظره عبد الغني ثلاثة أيام فأنظره ، فارتحل الحافظ إلى بعلبك ، ثم توجه منها إلى مصر ، فآواه أهل الحديث ،و حنوا عليه و أكرموه[10] .

و قد أنكر الحافظ الذهبي ما رواه المؤرخ سبط بن الجوزي من إن الفقهاء أجمعوا على تكفير الحافظ عبد الغني ، و إنه مبتدع لا يجوز أن يُترك بين المسلمين . فيرى –أي الذهبي- إن السبط مجازف فيما رواه ، و إنه قليل الورع في نقله دعوى إجماع هؤلاء ، و يعتقد الذهبي إن الذين أفتوا بذلك هم طائفة من الذين قاموا عليه ، لأنه لو أجمع الفقهاء على تكفيره لقتلوه[11] .

و كلامه هذا صحيح ، فإن الروايات التي اطلعتُ عليها ذكرت إن الذين قاموا عليه،و رفعوا أمره إلى السلطان هم طائفة من الأشاعرة ، وهم الذين ناقشوه و كفّروه ، و حرّضوا عليه السلطان ، و ليس فقهاء دمشق هم الذين فعلوا ذلك . و إنه من المؤسف حقا أن يقوم عالم مسلم بقراءة أحاديث صحيحة ، فتقوم عليه طائفة من الأشاعرة فتمنعه من قراءتها ، و تتهمه بالتشبيه و تكفّره ، و ترفع أمره إلى السلطان و تحثه على نفيه و إخراجه من البلد !! .

إن ذلك هو التعصب الأعمى الممقوت ،و الإرهاب الفكري المتسلّط على النفوس و العقول ، الذي ولّدته الأزمة العقيدية الحادة الني جرّت على كثير من العلماء أزمات و محن ، ذكرنا منهم طائفة ، و قد رجع كثير منهم إلى مذهب السلف في نهاية الأمر .

خامسا: مظاهر تأثير الأزمة العقيدية على السياسيين :

تركت الأزمة العقيدية –التي عصفت بالمذهب السني- تأثيرا كبيرا على كثير من السياسيين –خلال القرنين :5-6ه- ، تجلّت مظاهرها فيما يأتي .

أولا تمذهب كثير من السياسيين بمذهب إحدى الطائفتين المتنازعتين ، منهم : الخليفة العباسي القادر بالله (381-422ه) ، كان على مذهب الحنابلة و أهل الحديث ، و إليه يُنسب الاعتقاد القادري[12] . و ثانيهم الخليفة القائم بأمر الله (522-567ه) ، سار على نهج والده القادر بالله في تبني مذهب أهل الحديث و الانتصار له ، و معروف إنه وقف بجانب القاضي أبي يعلى الفراء في نزاعه مع الأشاعرة عندما اتهموه بالتشبيه ، بسبب كتابه إبطال التأويلات[13] .

و ثالثهم الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485ه) ، كان شافعيا أشعريا ، مكّن للأشاعرة في دولته ،و كان يتعصب لهم ،و بنى لهم المدارس[14]. و رابعهم الفقيه عبد الله بن ياسين المرابطي المغربي(ت451ه) ، كان على مذهب السلف ،و عليه قامت دولته ،و عليه أيضا سار خلفاؤه ، الذين قاوموا علم الكلام و الفلسفة ، و أحرقوا كتب أبي حامد الغزالي،و مكّنوا للفقهاء السلفيين في دولتهم[15]. وخامسهم السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي(ت569ه) ، كان حنفي المذهب ليس فيه تعصب على المذاهب السنية الأخرى ، لكنه كان يُراعي مذهب الشافعي و مالك[16] , و قد بنى كثيرا من المدارس للحنفية و الشافعية ،و غيرهم من أهل السنة ، على ما تقدم ذكره .

و السادس هو الفقيه المتكلم محمد بن تومرت المصمودي المغربي(ت524ه) ، مؤسس الدولة الموحدية ، كان أشعريا جلَدا متعصبا ، كفّر المرابطين و اتهمهم بالتشبيه و التجسيم ،و استباح دماءهم و أعراضهم ،و على نهجه سار خلفاؤه من بعده[17] .

و آخرهم –أي السابع- السلطان صلاح الدين الأيوبي(ت589ه) ، كان شافعيا أشعريا ، تربى على الأشعرية منذ صباه ، و حفظ كتابا في العقيدة الأشعرية للمتكلم القطب النيسابوري الأشعري ، و كان يُعلّمها لأولاده منذ صغرهم و يُحفّظهم إياها ، و عندما فتح مصر مكّن للأشاعرة في دولته ،و على نهجه سار أولاده في التمكين لهم[18] .

و ثانيا إن من مظاهر تأثيرها على السياسيين ، دعم كثير منهم لطائفة دون أخرى ، و الأمثلة التي ذكرناه في أولا ، هي شواهد تاريخية تؤيد ما نحن في صدد إثباته . و منها أيضا إن الحنابلة و أهل الحديث ببغداد قمعوا الشافعية الأشاعرة ،و استطالوا عليهم بدعم و حماية من الخليفة القادر بالله وابنه القائم بأمر الله[19] . و ارتفعت رايتهم أيضا أيام الوزير العباسي عون الدين بن هبيرة (ت560ه) ، فقد كان حنبليا على مذهب أهل الحديث، فمكّن لهم في دولته و نشر فكرهم[20] .

و منها أيضا الدعم الكبير الذي وفّره الوزير نظام الملك للشافعية الأشاعرة ، فرفع عنهم المحنة التي فرضها عليهم الوزير السلجوقي عميد الملك الكندري المعتزلي في سنة 445ه . و منع من سبهم و لعنهم ،و أدّب من فعل ذلك .و دعمهم ماديا و معنويا حين بنى لهم المدارس ، و أجرى عليهم الأرزاق ،و شجّعهم على نشر الأشعرية، و أطلق يدهم في دولته، حتى عظُم أمرهم في البلاد ،و انتقموا من الحنابلة و أهل الحديث ، و تطاولوا عليهم تتطاول السلاطين ، و استعدوا عليهم بالسجن و الأذي و السعايات ، و نبزوهم بالتجسيم[21] .

و آخرها الدعم السافر و الكبير الذي قدّمه السلطان صلاح الدين للشافعية الأشاعرة على حساب الحنفية و المالكية عامة ، و على الحنابلة و أهل الحديث خاصة ، فإنه عندما فتح مصر سنة 567ه ، مكّن للأشعرية في دولته ، فجعلها المذهب الرسمي لدولته ،و نشرها بين رعيته، و أسند القضاء لأتباعها ،و بنى لهم المدارس لتدريسها[22] .

و ثالثا إن من مظاهرها أيضا-في تأثيرها على السياسيين- مشاركتهم فيما حدث بين الأشاعرة و أهل الحديث من خلافات و منازعات و مصادمات ، و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة ، أولها دور سلاطين المرابطين –بالمغرب الإسلامي- في دعم أهل الحديث و التضييق على خصومهم من الفلاسفة و الصوفية و المتكلمين و إحراق مصنفاتهم[23] .

و ثانيها دور السلاطين الموحدين-بالمغرب الإسلامي- في مقاومة مذهب أهل الحديث ،و القضاء على دولة المرابطين الممثلة لهم ،و تكفيرهم و استباحة أموالهم و دمائهم من جهة ، و التمكين للأشعرية من جهة أخرى[24] .

و ثالثها دور الوزير نظام الملك في فتنة ابن القشيري ببغداد سنة 569ه ، فهو الذي أرسله إليها ، و لما حدثت الفتنة و قُتل فيها عدد كبير من الناس استدعاه إليه ، فلما التحق به أكرمه و عظّمه ، و جهّزه و أرسله إلي بلده نيسابور[25] . و سلوكه هذا مع ابن القشيري غريب جدا ، لأن هذا الرجل ظالم و فتان ، و معتد و مجرم ، ذهب إلى بلد غير بلده ،و سب معظم أهله ،و اتهمهم بالتشبيه ،و تسبب في حدوث فتنة قُتل فيها نحو عشرين شخصا ، فالواجب على الوزير أن يُعاتبه و يُحذّره ، و يُوبخه و يُعاقبه ، لا أن يُكرمه و يُعظمه و يُكافئه ، فهو –أي الوزير- بسلوكه هذا قد شارك في فتنة ابن القشيري، و شجّع أشاعرة آخرين على القيام بنفس ما قام به ابن القشيري .

و الشاهد الرابع هو ما قام به الوزير نظام الملك في فتنة أبي بكر البكري المغربي ببغداد سنة 475ه مع الحنابلة ، فالوزير هو الذي أرسله إلى بغداد ، و معه كتاب للتدريس في المدرسة النظامية ،و التكلّم بمذهب الأشعري ، فكان ذلك سببا في حدوث فتنة بينه و بين الحنابلة[26] .

و الشاهد السادس هو دعم سلطة بغداد –الموالية للسلاجقة- للواعظ أبي بكر البكري الأشعري أثناء وجوده بالبلد، فلما وصله أكرمه ديوان الخلافة و أغدق عليه الأموال و الهدايا ، و سماه علم السنة ، و عندما كان الحنابلة يتصدون له و يعجز في التصدي لهم ، يستنجد بعساكر السلطة ببغداد ، فيلبي العساكر طلبه لنصرته[27] .

و الشاهد السادس هو مشاركة والي دمشق صارم الدين برغش في المحنة التي ألمت بالحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي سنة 595ه ، فلما حرّضه عليه الأشاعرة ، أيدهم و سمع لهم ، و نفاه من دمشق ، و أمر بكسر منبر الحنابلة بالجامع الأموي ، فتعطّلت صلاة الحنابلة فيه ،و أحرقت الصناديق و الخزائن التي كانت فيه[28] .

و الشاهد السابع هو ما حدث للحافظ عبد الغني المقدسي(ت600ه) بمدينة أصفهان ، فلما حل بها و ردّ على الحافظ أبي نعيم الأصفهاني (ت430ه) في كتابه الصحابة ، و انتقده في 290 موضعا ، و سمع به رئيس البلد الصدر أبو بكر الخجندي الأشعري(ت592ه) ، طلبه و أراد قتله ، فاختفى عبد الغني ،و أخرجه أصحابه من البلد خُفية ، و سبب تعرّض الخجندي للحافظ ، هو إنه كان أشعريا يتعصّب لأبي نعيم الأصفهاني[29] .

و الشاهد الثامن هو موقف السلطان العزيز بن صلاح الدين الأيوبي(ت 595ه) من الحنابلة و أهل الحديث ، بسبب محنة الحافظ عبد الغني سنة595ه ، فإنه لما سمع بما حدث بين الحافظ و خصومه ، - كان قد خرج للصيد- قال إنه إذا رجع من سفرته هذه ، فإنه سيُخرج الحنابلة و من قال بمقالتهم ، من مصر و الشام ، لكن الموت لم يُمهله ليعود إلى القاهرة ، فقد قتله فرسه عندما رماه و وقع عليه و خسف صدره[30] . و تصرّفه هذا غريب جدا ، لا حكمة فيه ، و لا يمت بصلة لسياسة الحكم الرشيد بصلة ، و يبدو إنه كان واقعا تحت تأثير طائفة من خصوم الحنابلة و أهل الحديث ، هم الذين حرّضوه عليهم .

و الشاهد الأخير –أي التاسع- هو بناء السياسيين لكثير من المدارس الطائفية المذهبية ، فمن ذلك بناء الوزير نظام الملك مدارسه النظامية للشافعية ، و بناء السلطان نور الدين محمود مدارس كثيرة للحنفية و الشافعية ، و بناء السلطان صلاح الدين مدارس عديدة للشافعية و الحنفية و المالكية ، فهؤلاء ببنائهم لتلك المدارس الطائفية قد شاركوا في الأزمة العقيدية –التي عصفت بأهل السنة – توسيعا و تعميقا و تكريسا .

و رابعا إن من مظاهر تأثيرها عليهم أيضا-أي السياسيون- سلبيتهم في التعامل مع الأزمة العقيدية و عدم السعي الجاد لإيجاد حل جذري لها ، فقد سبق أن ذكرنا أمثلة كثيرة على تمذهب السياسيين ، و تعصبهم لطائفة دون أخرى ، الأمر الذي جعلهم سلبيين تجاه إيجاد حل صحيح لتلك الأزمة ، و من الشواهد التاريخية التي تُثبت ذلك و توضحه أكثر ، النماذج الآتية :

أولها موقف الخليفة القائم بأمر الله من كتاب القاضي أبي يعلى و احتجاج الأشاعرة عليه ، فإنه طلب منه الكتاب و اطلع عليه ، ثم أرجعه إليه دون أي إنكار –على ما روته الأخبار- ، و أخرج الاعتقاد القادري تأييدا له على حساب الأشاعرة الذين ثاروا على القاضي و كتابه ، و المفروض إنه كان عليه أن ينتقد الكتاب في المسائل التي بالغ فيها مؤلفه في إثبات الصفات معتمدا على أحاديث ضعيفة و موضوعة ، على ما سبق أن بيناه .

و ثانيها موقف الوزير نظام الملك السلبي من وعاظ الأشاعرة في بغداد ، فقد كانوا يأتونها ،و بعضهم هو الذي أرسلهم إليها ، فيسبون أهل الحديث ،و يذمونهم و يّكفّرونهم ، و ينشرون الأشعرية ، و تحدث بسببهم الفتن و المصادمات الدامية ، و يموت فيها خلق كثير، و لا نعلم إنه اتخذ منهم موقفا حاسما لردعهم و معاقبتهم ، و إنما كان يُكرمهم و يُعظمهم و يُزودهم بما يحتاجونه ، و يأمرهم بالرجوع إلى بلدانهم بعد عودتهم من بغداد[31] .

و ثالثها موقف السلطان صلاح الدين من شيخه النجم الخبوشاني ، فقد كان هذا الرجل مشاغبا طائشا متهورا ، مثيرا للفتن بمصر ، و هو الذي نبش قبر رجل مسلم صالح كان مدفونا بجانب قبر الشافعي، فأخرج رفاته ،و زعم إنه زنديق ، فحدثت بسبب ذلك ثورة بينه و بين أهل الحديث ، فانتصر عليهم و بنى مدرسة بجانب قبر الشافعي[32] . و مع كل هذه الأفعال القبيحة لم أعثر على ما يدل أن صلاح الدين منعه من ذلك ، أو أنكر عليه فعله ، أو اتخذ منه موقفا حاسما فيما أحدثه من فتن ، بل رُوي إن الخبوشاني كان مخالطا لصلاح الدين و لأهله ،و هو الذي أعطاه المال لبناء المدرسة التي أقامها بجانب الشافعي[33] . مما يعني إن الرجل كان مدللا ،و من المقرّبين من البيت الحاكم ، يفعل ما يحلو له دون رادع .

فهؤلاء السياسيون كانوا سلبيين تجاه الأزمة العقيدية التي عصفت بالسنيين ، لأنهم كانوا طرفا فيها ،و واقعين تحت تأثير علماء الطرف الذي ينتمون إليه ، مما أفقدهم الموقف الحازم ،و النظرة الشرعية الصحيحة- القائمة على المصلحة العامة لأهل السنة – لوضع حد نهائي عادل للأزمة .

لكنهم مع ذلك فقد كانت لهم مواقف سعوا فيها للإصلاح بين الأشاعرة و أهل الحديث ،و الحد من النزاع القائم بينهما ، لكنها كانت مواقف ظرفية سطحية محدودة الأثر في الواقع ، ترمي إلى احتواء الأزمة و التخفيف منها و التحكم فيها ، و لم تكن ترمي إلى وضع حد نهائي لها ، و الشواهد على ذلك كثير ة ، أذكر منها خمسة، أولها ما حدث في فتنة ابن القشيري سنة 469ه ، فقد تدخل فيها كل من الخليفة المقتدي بأمر الله ،و وزيره العميد بن جهير، و الوزير نظام الملك ، للإصلاح بين الحنابلة و الأشاعرة ،و احتواء الفتنة ،و لم يسعوا لوضع حد للأزمة القائمة بين الطائفتين المتنازعتين ، لذا وجدنا الفتنة تكررت بينهما سنة 470ه، قُتل فيها نحو عشرين قتيلا من الجانبين[34] .

و ثانيها هي أنه لما دخل الواعظ أبو الفتوح محمد بن أبي الفضل الأشعري(ت 538ه) إلى مدينة بغداد ،و حدثت فتن مذهبية بينه و بين الحنابلة ، تدخل الخليفة العباسي المسترشد بالله و أخرجه من بغداد[35] . و الشاهد الثالث هو أنه لما وعظ أبو الفضل بن شقران الأشعري (ت 561ه) ببغداد و بالغ في نصرة الأشعرية ، تدخل الوزير العباسي عون الدين بن هبيرة(ت قرن: 6ه) ومنعه من الوعظ ،و حُطّ من على المنبر[36] .

و الشاهد الرابع هو إنه لما حدث خلاف بين ابن الجوزي(ت 597ه) و نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلاني ، في مسألة صفات الله تعالى ، و انتشر ما حدث بينهما بين الناس ، تدخل الخليفة العباسي-لم أُميّزه- و أمر بالسكوت من الجهتين حسما للفتنة[37] .

و آخرها –أي الشاهد الخامس- هو إنه لما خاض الأشاعرة و أهل الحديث ، في مسألة الحرف و الصوت ، أصدر السلطان صلاح الدين (ت589ه) مرسوما منع فيه الخوض في تلك المسألة ، و توعّد من يخالفه بالعقاب الشديد ،و قُرئ مرسومه على المنابر بمصر[38] .

فهذه الحوادث-و غيرها- شواهد تاريخية تدل على إن تدخلات السياسيين للحد من الأزمة العقيدية ، كانت تدخلات للتخفيف و التهدئة و الاحتواء ، و لم تكن تدخلات فعالة لحل الأزمة نهائيا ، و اجتثاثها من جذورها .

و أخيرا-أي خامسا- فإن من مظاهر تأثيرها –أي الأزمة- على السياسيين ، ما حققه الأشاعرة من انتصار سياسي كاسح على أهل الحديث بالمشرق الإسلامي و مغربه، منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري و ما بعده ، تحقق لهم ذلك على يد كبار سياسييهم ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، أولها أثر الوزير السلجوقي نظام الملك ، فهو أول سياسي مشهور-حسب علمي- تبنى الأشعرية مذهبا ، و مكّن لها في دولته ماديا و معنويا ، و بنى لأتباعها المدارس ،و أغدق عليهم الأموال ،و وفر لهم الحماية على ما سبق أن بيناه .

و ثانيها هو إن الموحدين بالمغرب الإسلامي اتخذوا الأشعرية مذهبا رسميا لدولتهم ، فقد فرضوها على الرعية بالقوة منذ انتصارهم على المرابطين سنة 541ه، فاختفى مذهب أهل الحديث ، و سادت الأشعرية المغرب الإسلامي ،و تجذّرت فيه[39] .

و الشاهد الثالث هو ما قام به السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت589ه) في دعم الأشعرية ، فقد جعلها مذهبا رسميا لدولته ، و ربى عليها أولاده ، الذين ساروا على نهجه في تبنيها و اتخاذها مذهبا رسميا للدولة الأيوبية[40] .و الشاهد الثالث هو ما ذكره الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت620ه) من أن الأشاعرة في زمانه كانوا هم ولاة الأمر ،و أرباب الدولة بالشام[41] .

و الشاهد الخامس ما أشار إليه الفقيه تاج الدين السبكي (ت قرن: 8ه) من أن الأشاعرة كانوا يُهيمنون على بلاد الشام ، عندما قال إن شيخه الذهبي لم يذكر مسألة الصفات عندما ترجم للفقيه أبي الحسن الكرجي الشافعي(ت532ه) خوفا لا نسيانا ، فقال: إنه خشي صولة الشافعية ،و سيف السنة المحمدية[42] . فقوله هذا فيه اعتراف صريح بهيمنة الشافعية الأشاعرة على البلاد ، و استخدامهم للسيف مع معارضيهم في المعتقدات ، و استمرار هيمنتهم السياسية عل الشام من زمن الموفق بن قدامة إلى زمن التاج السبكي .

و آخرها –أي الشاهد السادس- ما رواه المؤرخ المقريزي(ت885ه) من إن الأشعرية في زمانه ( ق: 9ه) كانت عقيدة جماهير الأمصار الإسلامية ، من جهر بخلافها أُريق دمه[43] . فلو لم تكن الأشعرية تتمتع بدعم السلطان و قوته ، ما كان في مقدورها قتل من يُجاهر بخلافها ، و لا حققت ذلك الانتشار الواسع في الأقطار الإسلامية ، مما يُؤكد إن العامل السياسي هو العامل الأساسي الحاسم في انتشارها-أي الأشعرية- بالمشرق الإسلامي و مغربه .

و ختاما لهذا الفصل –أي الثالث- يتبين لنا إن الأزمة العقيدية- التي عصفت بالمذهب السني خلال القرنين:5-6- تجلت مظاهرها في المجالين العلمي و السياسي بشكل كبير جدا ، ففي المجال الأول أثارت قضايا عقائدية كثيرة ، مرتبطة كلها بمسألة صفات الله تعالى ، تجاذبها الأشاعرة و أهل الحديث نفيا و إثباتا ، فكانت سببا في اشتداد وطأة الأزمة على بعض علماء أهل السنة ، تعرّضوا خلالها لمحن و أزمات فكرية و نفسية حادة .

و في المجال السياسي كان تأثيرها –أي الأزمة- فيه كبيرا و خطيرا ، أدى إلى تمذهب السياسيين و تعصبهم لمذهب دون آخر، و تحوّلهم إلى طرف فاعل فيها –أي الأزمة- و مؤثر في سيرها ، مما أدى إلى تكريسها ،و تعميقها ،و تحقيق الأشعرية للنصر الكاسح على حساب أهل الحديث .

--------------------------------------------------------------------------------

[1] انظر مثلا : عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس .

[2] ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 203، 253 .و ابن كثير: البداية ، ج 12 ص: 296، ج 13 ص: 23، 61 . و محمد كرد علي: خطط الشام ، دمشق ، مطبعة الترقي، 1926 ، ج6 ص: 115 .

[3] الذهبي: السيّر ، ج 19 ص: 94 و ما بعدها، ج20 ص: 450 . و ابن كثير : المصدر السابق ، ج12 ص: 185 .

[4] انظرمثلا: أسعد طلس : التربية و التعليم في الإسلام، ط1 ، بيروت ، دار العلم للملايين، 1957، ص: 32 . و عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية في مصر ، ط 8 ، دار الفكر العربي، 1968، د م ن ، ص: 82 .

[5] اليافعي المكي: مرآة الجنان ، ج 4 ص: 24 .

[6] ابن رجب: الذيلأ ج 1ص: 121 .

[7] ابن الجوزي: المصدر السابق، ج 8 ص: 305 . و ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .و ابن رجب: الذيل ، ج 1ص: 25 .

[8] الذهبي: السيّر ، ج 20 ص: 140 .

[9] عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية ، ص: 82 .

[10] أبو شامة : ذيل الروضتين ، ج2 ص: 47 . و ابن كثير: البداية، ج 13 ص: 21 . و الذهبي: السير، ج 21 ص: 455 ، 459 ، 463، 464 .

[11] السيّر ، ج 21 ص: 464 .

[12] ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 118 .

[13] نفسه ، ج 2 ص: 198 . و ابن كثير: البداية ، ج 12 ص : 96 .

[14] الذهبي: السير ، ج 19 ص: 94، 96 . و السبكي: الطبقات ، ج 7 ص: 296، 297 .

[15] الذهبي: العبر، ج 4 ص: 60 . و السلاوي: الاستقصاء، ج 1 ص: 74- 75 .

[16] الذهبي: السير، ج 22 ص: 534 . و أبو شامة : كتاب الروضتين ، ج1 ص: 37 .

[17] ابن خلدون : المقدمة ، ص: 290 . و السلاوي: الاستقصاء، ج1 ص: 83، 196 .

[18] أبو شامة: الروضتين ، ج4 ص: 382. و المقريزي: الخطط ، ج2 ص: 343، 358 .

[19] ابن أبي يعلى: الطبقات ، ج 2 ص: 197، 239 . و ابن مفلح : الفروع ، ج2 ص: 14 .

[20] العليمي: المنهج الأحمد ، ج 2 ص: 289 .

[21] ابن الجوزي: المنتظم، ج 9 ص: 93 . و الذهبي: السيّر ، ج 19 ص: 94 . السبكي: الطبقات، ج3ص: 393 . و ابن مفلح : الفروع، ج 2 ص: 14 .

[22] ابن الأثير: الكامل في التاريخ ، ج 9 ص: 10 . و ابن تغري بلدي: النجوم الزاهرة، ج 7 ص : 133، 134 .و المقريزي: الحطط ، ج2 ص: 343 ، 358.

[23] انظر مثلا: الذهبي: العبر، ج 4 ص: 60 . و السلاوي، الاستقصاء، ج 1 ص: 74، 75 .

[24] ابن خلدون: المقدمة، ص: 290 . و اللاوي، نفس المصدر، ج 1 ص: 83، 196 .

[25] الذهبي: السير، ج 19 ص: 425 . و ابن خلّكان : وفيات الأعيان ، ج 3 ص: 208 .

[26] ابن الجوزي: المنتظم، ج 3 ص: 3، 4 ، 220 .و ابن النجار: ذيل تاريخ بغداد، ج 2 ص: 185 .

[27] نفسه ، ج9 ص: 3، 4 . و نفسه، ج 2 ص: 185 .

[28] ابن كثير: البداية ، ج 13 ص: 21 .

[29] الذهبي: السيّر ، ج 21ص : 458-459 . و ابن كثير: البداية ، ج 13 ص: 39 . و ابن عبد الهادي: طبفات علماء الحدبث، ج 4 ص: 154 .

[30] الذهبي: السيّر ، ج 29 ص: 292 . و ابن كثير: البداية ، ج 13 ص: 18 .

[31] سبق توثيق ذلك مرارا .

[32] انظر: الذهبي: السيّر، ج21 ص: 205 . و ابن تغري بلدي: النجوم الزاهرة ، ج 6 ص: 116 .

[33] ابن تغري بلدي: نفسه ، ج 6 ص: 116 .

[34] ابن الجوزي: المنتظم، ج 8 ص: 312-313 . و ابن كثير: ج 12 ص: 117 . و ابن رجب: الذيل، ج 1 ص: 27 .

[35] السبكي: الطبقات ، ج 6 ص: 172 ,

[36] ابن الجوزي: المصدر السابق، ج 10 ص: 219 .

[37] ابن مفلح الجنبلي: المنهج الأحمد ، ج3 ص: 57 .

[38] السبكي: المصدر السابق ، ج 7 ص: 351 .

[39] ابن خلدون: المقدمة ، ص: 290 . و الناصري: الاستقصاء ج 1 ص: 83، 196 .

[40] المقريزي: الخطط ، ج2 ص: 343، 358، 359 .

[41] ابن قدامة المقدسي: مناظرة في القرآن ، ص: 58 .

[42] السبكي: الطبقات، ج 6 ص: 142 .

[43] المقريزي: المصدر السابق، ج 2 ص: 343 .

 

المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين -  مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 132-148

No comments:

Post a Comment