الاشعري الوجه الأخر
Saturday, September 25, 2010
Thursday, September 23, 2010
تاريخ الكذب الاشعري على المنابر
بسم الله
استخدام الوعظ لنشر المذهب و الرد على الخصوم :
يُعد الوعظ من أهم المظاهر الاجتماعية التي تجلّت فيها الأزمة العقيدية -التي عصفت بالسنيين- فقد استخدمه دعاة المذاهب وسيلة لنشر أفكارهم و الرد على خصومهم ، و وجدوا فيه ميدانا واسعا و خصبا للاتصال بالجماهير و التغلغل فيهم ، و التمكين لمعتقداتهم من خلاله ، فمن ذلك أولا إن سوق الوعظ في القرنين الخامس و السادس الهجريين كان رائجا ، مارسه كثير من أهل العلم من المشهورين و المغمورين ، و كانت عوام الناس تُقبل عليهم بأعداد كبيرة جدا[1] .
و ثانيا إن كثيرا من الوعاظ كانوا علماء ، من متكلمين ، و فقهاء ،و محدثين و أدباء ، لهم خلفيات مذهبية ينطلقون منها في مجالسهم الوعظية خدمة لأفكارهم المذهبية ، لذا وجدناهم ينشرونها بين العوام علانية ، و يُهيجونهم و يدفعونهم إلى التعصب و المواجهات ، فكان ذلك تعبيرا عمليا عن الأزمة العقيدية التي ألمت بالمذهب السني و بأهله في القرنين الخامس و السادس الهجريين .
و ثالثا إن الأمثلة على ذلك كثيرة جدا ، أقتصر على ذكر طائفة منها تخص جماعة من الوعاظ المذهبيين ، الذين ينطبق عليهم ما قلناه آنفا ، أولهم أحمد بن محمد سبط بن فورك (ت قرن: 5ه) ، وعظ بالمدرسة النظامية ،و كان أشعريا داعية لمذهبه ، تسبب في حدوث فتن بين الحنابلة و الأشاعرة[2] .
و ثانيهم المتكلم عيسى بن عبد الله الغزنوي الشافعي ، دخل بغداد سنة 495ه وعظ بها و أظهر الأشعرية ، فمن ذلك إنه وعظ ذات يوم بجامع المنصور و أظهر مذهب الأشعري، فمال إليه بعض الحاضرين ،و اعترض عليه الحنابلة ، فنشب عراك بين الجماعتين داخل المسجد[3] . و لا ندري ما حدث بعد ذلك بين الفريقين ، لأن ابن الجوزي روى الخبر موجزا . و من ذلك أيضا إن هذا الرجل-أي الغزنوي- مرّ ذات يوم برباط شيخ الشيوخ أبي سعد الصوفي ببغداد ليذهب إلى بيته ، فرجمه بعض الحنابلة من مسجد لهم هناك ، فهب أصحابه لنجدته و التفوا حوله[4] .
و ثالثهم الفقيه أبو الحسن برهان الدين علي بن الحسن البلخي الحنفي (ت 548ه) ، شيخ الحنفية ببلده ، قدم دمشق سنة 510ه ، و عقد بها مجلس وعظ و تذكير ، و أظهر فيه خلافه للحنابلة و تكلم فيهم ، فتصدوا له و تعصبوا عليه ، فترك دمشق و توجه إلى مكة المكرمة[5] . و رابعهم المدرس أبو علي محمد النصرواني الأصبهاني الأشعري المعروف بابن الفتى (ت 525ه) ، درّس بنظامية بغداد ، و وعظ بجامع القصر ، فكان يُظهر مذهب الأشعري و ينتصر له ، و يميل على الحنابلة و أهل الحديث ، و يطعن فيهم[6] .
و الخامس هو الفقيه محمد بن أحمد العثماني المقدسي الشافعي (ت 521ه) ، دخل بغداد و استقر بها ، و كانت له فيها مجالس وعظ بجامع القصر ، أظهر فيها مذهب الأشعري ، و كان مغاليا فيه[7] . و السادس هو الواعظ الحسن بن أبي بكر النيسابوري الحنفي ، دخل بغداد مع السلطان السلجوقي مسعود ( ما بين سنتي: 515-530ه ) ، فجلس للوعظ بجامع القصر و لعن أبا الحسن الأشعري علانية ، و كان يقول : كن شافعيا و لا تكن أشعريا ، و كن حنفيا و لا تكن معتزليا ، و كن حنبليا و لا تكن مشبها[8] .
و هذا الواعظ لم أتعرّف على مذهبه في أصول الدين ، لكن يبدو من قوله السابق إنه كرّامي المذهب ، أو على مذهب أهل الحديث ، و الراجح إنه على عقيدة أهل الحديث لأنه حذّر من الأشعرية ، و الاعتزال ، و من التشبيه ، و الكرّامية معروف عنهم إنهم مجسمة و مشبهة ، لذا فالأرجح إنه لم يكن كرّاميا إن كان صادقا في قوله ، و الله أعلم .
و السابع هو الواعظ المتكلم أبو الفتوح حمد بن الفضل الاسفراييني الأشعري (ت 538ه) ، دخل بغداد سنة 515ه ،و تفرّغ للوعظ و اتخذه وسيلة لإظهار مذهب الأشعري و الدعوة إليه ،و مهاجمة خُصومه ، و قد مارس ذلك علانية و بالغ في التعصب للأشعرية و الحط على الحنابلة ، فكثُرت بينه و بينهم اللعنات و الفتن ، و في سنة 521ه رجمه العوام أكثر من مرة في الأسواق ، و رموا عليه الميتات ،و لعنوه و سبوه ، لمبالغته في إظهار الأشعرية و الدعوة إليها ، ، فلما سمع بذلك الخليفة العباسي المسترشد بالله ، منعه من الوعظ ، و أمر بإخراجه من بغداد ، و في هذا الظرف ظهر الشيخ عبد القادر الجيلاني البغدادي الحنبلي (ت 561ه ) و جلس للوعظ ، فالتف حوله الناس و انتصر به أهل السنة على حد قول ابن رجب البغدادي[9] ، و يعني بهم الحنابلة و أهل الحديث .
لكنه لما تُوفي الخليفة رجع إلى بغداد و استوطنها ، و عاد إلى عادته القديمة ، فأظهر الأشعرية و ذم الحنبلية ، و عادت الفتن و اللعنات كما كانت عليه من قبل ، فأُخرج ثانية من بغداد ،و أُلزم بالمكوث ببلده[10] إسفرايين بخُراسان .
و الثامن هو الواعظ أبو المظفر محمد بن محمد البروي الشافعي الأشعري(ت 567ه) ، دخل بغداد و درّس بنظاميتها ، و أظهر الأشعرية و نصرها ،و بالغ قي التعصب على الحنابلة و ذمهم ، و قال فيهم : (( لو كان لي أمر لوضعت عليهم الجزية )) ، فجعلهم بمرتبة أهل الذمة من اليهود و النصارى و غيرهم ، و لم يزل يتحامل عليهم حتى آذوه ، و يُروى إن بعض جهلتهم دسّ إليه من أهدى إليه شيئا مسموما فمات ، و الله أعلم[11] .
و آخرهم –أي التاسع- الواعظ الشهاب محمد بن محمود الطوسي الأشعري ( ت 596ه) ، أقام بمصر و أظهر الأشعرية و نصرها ، و كان صاحب حرقة على الحنابلة ، فتصدّوا له مرارا ، و كانت بينه و بين الواعظ الحنبلي ابن نجية خُصومة شديدة ،و كل منهما يتكلم في الآخر ، و لكل منهما أيضا مجلس وعظ بجامع القرافة بمصر ؛ و من طريف ما حدث بينهما حادثتان ، الأولى إنه في ذات يوم كان الواعظان بجامع القرافة كل في حلقته ، فوقع سقف على ابن نجية و أصحابه ، فعلّق الطوسي على ذلك بذكر قوله تعالى : (( فخر عليهم السقف من فوقهم )) –سورة النحل /26- .و الثانية مفادها إنه ذات يوم كان كل منهما في حلقته ، فجاء كلب يشق مجلس الطوسي ، فقال ابن نجية : هذا جاء من هناك ، و أشار إلى جهة حلقة خصمه الشهاب الطوسي[12] .
و في سنة 580ه وقعت بين الحنابلة و الأشاعرة خصومة ، عندما أنكر الحنابلة على الشهاب الطوسي تكلّمه في مسألة من مسائل العقيدة –لم تُحدد- في مجلس وعظه ، فحدث خصام بينهما و أطلق كل منهما لسانه في الآخر ، ثم ترافعوا إلى السلطان الأيوبي-لم أُميزه- بمصر ، فأمر برفع كراسي الوعظ عند الطرفين[13] .
و هؤلاء الوعاظ الذين ذكرناهم ، هم مجرد عينة فقط ، و إلا فإن عدد الوعاظ كان كبيرا[14] ، ساهموا كلهم في نشر أفكارهم و إثارة الفتن الطائفية بين جناحي أهل السنة المتنازعين ، فكان ذلك مظهرا من مظاهر الأزمة العقيدية التي عصفت بالمذهب السني في القرنين الخامس و السادس الهجريين . و كان لهم أيضا دور كبير في تعميق الأزمة و توسيعها و نقلها إلى عامة الناس ، ليخوضوا فيها و يكتووا بنارها ، و كأن الأمر مخطط له سلفا على أيدي هؤلاء الوعاظ ، في حين إن المطلوب منهم شرعا و عقلا ، أن يسعوا جاهدين لتطويق الأزمة ، و التخفيف منها و إبعادها عن الجماهير ، تمهيدا لحلها كلية ، لكن ذلك لم يحدث ،و بقيت الأزمة تنخر بسلبياتها في المجتمع الإسلامي ، بمختلف مظاهرها المتعددة .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] سيأتي ذكر نماذج كثيرة من هؤلاء الوعاظ في هذا الفصل بحول الله تعالى .
[2] ابن حجر: لسان الميزان ، ج 1 ص: 304 .
[3] ابن الجوزي: المنتظم ، ج 9 ص: 131 .
[4] نفسه ، ج 9 ص: 131 .
[5] ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 41 ص: 339 .و اليافعي المكي: مرآة الجنان ، بيروت، منشورات الأعلمي، 1970 ، ج 3 ص: 388 .
[6] الذهبي: السيّر ، ج 19 ص: 612 . و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 22 .
[7] الذهبي : نفس المصدر، ج 20 ص: 45 .
[8] نفس المصدر ، ج 20ص: 140 .و ابن الجوزي ، المصدر السابق ، ج 10 ص: 110 .
[9] ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ،حققه سامي الدها، و لاوست ، دمشٌ المعهد الفرنسي ، 1951 ج1 ص: 211.و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 108، 110 .و الذهبي : السيّر، ج 20 ص: 140 .و العبر ، ج 4 ص:105.و السبكي: طبقات ، ج6 ص: 172 .
[10] ابن الجوزي: نفسه ، ج10 ص: 110 .و الذهبي: نفسه، ج 20 ص: 140 .و نفسه ، ج 4 ص:105.و السبكي: نفسه ، ج 6 ص: 172 .
[11] انظر : ابن كثير: طبقات فقهاء الشافعية ، ج 2 ص: 671 . و ابن الجوزي: نفس المصدر، ج 10 ص: 239 . و سبط ابن الجوزي: مرآة الزمان ، ج 8 ص: 292 . و الصفدي: الوافي بالوفيات، نشررته جمعية المستشرقين الألمانية ، دار فرانز شتاير ج 1 ص: 280 .
[12] الذهبي: السيّر ، ج 21 ص: 395 .
[13] نفسه ، ج 21 ص: 395 .و الصفدي : المصدر السابق ، ج5 ص: 5 ص: 9 .و المقريزي : كتاب السلوك ،لمعرفة دول الملوك ، ط1 ، بيروت ، دار صادر، 1999 ، ج 1 ق: 1 ص: 88 .
[14] انظر مثلا : ابن كثير: البداية و النهاية ، ج 12 ص: 191، ج13 ص: 9 .و ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 219 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 31-42
أشعري كذاب رماه الله تعالى بالخبث في العضو فمات !! ماذا فعل ؟؟؟
بسم الله
تبادل أهل الحديث و الأشاعرة الذم و الاتهامات و التشنيعات ، تعبيرا عن النزاع العقيدي الحاد القائم بينهما –خلال القرنين :5-6 الهجريين- و قد قدح كل منهما في الآخر بألفاظ شنيعة لا يجوز لمسلم أن يصف بها أخاه المسلم.
فالأشاعرة وصفوا أهل الحديث بأوصاف ذميمة كثيرة ، منها أولا ، إنهم وصفوهم بالتشبيه و التجسيم ، بمعنى إنهم جسّموا الله تعالى و شبّهوه بمخلوقاته[1] . و في فتنة ابن القشيري اتهم علماء الأشاعرة –في رسالتهم لنظام الملك- الحنابلة بالتشبيه و التجسيم دون تمييز ، و جعلوهم كلهم في سلة واحدة[2] . و عندما جاء الوزير نظام الملك إلى بغداد ، قال إنه يريد استدعاء الحنابلة ليسألهم عن مذهبهم ، لأنه قيل له إنهم مجسّمة ، فلما سمع به أبو الوفاء بن عقيل الحنبلي(ت513ه) أعد له جوابا للرد على أسئلة الوزير[3] . و قوله هذا دليل على أنه –أي الوزير- وجد من قال له ذلك عن الحنابلة ،و هو يُريد التأكد منه بنفسه ، و واضح إن الذين قالوا له ذلك عن الحنابلة هم الأشاعرة ، في رسالتهم إليه في فتنة ابن القشيري سنة 469ه .
و عندما أظهر ابن تومرت(ت 524ه) دعوته بالمغرب الإسلامي ، اتهم المغاربة المخالفين له بالتشبيه و التجسيم ،و دعاهم إلى الأشعرية كبديل عن مذهب السلف ، فلما انتصر خلفاؤه على المرابطين ، فرضوا الأشعرية على المغاربة و أبعدوهم عن مذهب السلف في الصفات[4] .
و ذكر القاضي أبو بكر بن العربي الأشعري (ت543ه)، إن الحنابلة انتهى بهم الأمر إلى أن قالوا : (( إن أراد أحد يعلم الله ، فلينظر إلى نفسه ، فإنه الله بعينه ، إلا أن الله منزه عن الآفات ، قديم لا أول له ، دائم لا يفنى )) ،و قالوا ذلك (( لقوله صلى الله عليه و سلم : إن الله خلق آدم على صورته ))، و في رواية أخرى (( على صورة الرحمن )) ، و هي رواية صحيحة ، فلله الوجه بعينه ، لا ننفيه و لا نتأوله إلى محالات ))[5] .
و قوله هذا غريب جدا ، فإنني لم أعثر على قول ثابت لعالم حنبلي من علماء الحنابلة المعتبرين ، قال إن من أراد أن يعلم الله فلينظر إلى نفسه ، لكن المعروف عنهم أنهم أثبتوا حديث الصورة ، و لم يُؤولوه و فوّضوا كيفيته لله تعالى ، مع اعتقادهم إن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و لا في صفاته ، . و الغريب أيضا إنه قال أن الحنابلة قالت بذلك، مما يعني إنه اتهم الحنابلة كلهم دون تحديد لشخص معين ، أو لطائفة منهم .
و أما بالنسبة لحديث الصورة ، فيجب علينا أن لا ننظر إليه نظرة جزئية ، و إنما علينا أن ننظر إليه نظرة شاملة في إطار كل النصوص الشرعية الأخرى المتعلقة بصفات الله تعالى ، فهو سبحانه (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير)) –سورة الشورة/11- و (( لم يكن له كفوا أحد )) سورة الاخلاص/4- و (( وسع كرسيه السموات و الأرض )) –سورة البقرة/68- . فالله تعالى لا يمكن أن يُشبه الإنسان ، مم يعني غن لحديث الصورة معنى آخر غير الذي ذكره ابن العربي عن الحنابلة ، و لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى ، و هو ليس تأويلا للحديث ، و إنما هو تفسير و فهم له في إطار النصوص الشرعية المحكمة ، لا كما يفهمه المؤولون للصفات على طريقة المتكلمين .
و ثايا إن الأشاعرة أطلقوا على الحنابلة و أهل الحديث ، اسم الحشوية ، بمعنى إنه لا فهم لهم و لا معرفة ، و يحشون الكلام حشوا كالعوام [6] . فمن ذلك إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد وصفوا الحنابلة –في رسالتهم لنظام الملك- بأنهم : (( جماعة من الحشوية الأوباش الرعاع المتوسمين بالحنبلية ))[7] .
و عندما نبش المتكلم نجم الدين الخبوشاني الصوفي (ت 587ه) قبر المقريء ابن الكيزاني (ت 562ه) ، بمدينة مصر ، علل فعله هذا بقوله : هذا حشوي لا يكون بجانب الشافعي ، ثم أخرج رفاته و دفنها في موضع آخر ،و لم يبال بمعارضة الحنابلة الشديدة له ،و لا راعى حرمة الميت[8] .
و ثالثا إن الأشاعرة اتهموا القاضي أبا يعلى الفراء (ت458ه) بالتشبيه و التجسيم ،و احتجوا عليه عندما صنف كتابه التأويلات ، لما ذكر فيه من أحاديث موهمة للتشبيه ، قال عنه المؤرخ ابن الأثير (ت 630ه) : إنه أتى فيه –أي الكتاب- بكل عجيبة ،و ترتيب أبوابه يدل على التجسيم المحض[9] .
و ذكر القاضي ابن العربي (ت 543ه) إنه لما كان ببغداد سنة 490ه ، أخبره من يثق فيه من مشيخته ، إن القاضي أبا يعلى الفراء رئيس الحنابلة ، كان يقول في مسألة الصفات : إذا ذُكر الله تعالى ، و ما ورد من هذه الظواهر في صفاته ، ألزموني ما شئتم فأني ألتزمه إلا اللحية و العورة ))[10] .
و يُروى أنه لما شاع خبر القاضي أبي يعلى بما أتهم به من التشبيه و التجسيم في الصفات ، قال عنه أبو محمد التميمي الحنبلي : (( لا رحمه الله ، فقد خرى على الحنابلة خرية لا تنغسل إلى يوم القيامة )) ،و في رواية : لا يغسلها الماء )) ،و في أخرى إنه قال : (( لا رحمه الله ، فقد بال في الحنابلة البولة الكبيرة التي لا تُغسل إلى يوم القيامة ))[11] .
و قد تصدى القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى (ت526ه) للرد على الذين اتهموا والده بالتجسيم و التشبيه ، و ذكر إن والده سار على منهج السلف الصالح في أخبار الصفات ، و هو التصديق بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله ، مع التسليم و ترك البحث و التنقير في ذلك ، من دون تعطيل ،و لا تشبيه ،و لا تفسير ،و لا تأويل ، و إن تلك الصفات تُمر كما جاءت ، من غير زيادة و لا نقصان ، مع الإقرار بالعجز عن إدراك حقيقتها ، لأن ذلك الإثبات هو إثبات وجود لا إثبات تحديد ، و حقيقتها لا يعلمها إلا الله تعالى ؛ و الكلام في الصفات هو فرع عن الكلام في الذات ))[12] .
و ذكر إن والده المُتهم بالتجسيم ، هو نفسه رد على المجسمة في كتاب خصصه للرد عليهم ، و في مصنفات أخرى ، ، و قال إنه لا يجوز أن يُسمى الله جسما ، فمن (( اعتقد إن الله سبحانه جسم من الأجسام ،و أعطاه حقيقة الجسم ، من التأليف و الانتقال فهو كافر ، لأنه غير عارف بالله عز وجل ، لأن الله تعالى يستحيل وصفه بهذه الصفات ))[13] .
و مما قاله أبو يعلى في كتابه إبطال التأويلات ، ما نقله عنه الحافظ الذهبي من إنه قال فيه : (( لا يجوز رد هذه الأخبار-أي الأحاديث- ،و لا التشاغل بتأويلها ،و الواجب حملها على ظاهرها ، و إنها صفات الله تعالى ، لا تُشبه سائر صفات الموصوفين بها من الخلق ))[14] .
و يرى الشيخ تقي الدين بن تيمية إن الذين تكلموا في القاضي أبي يعلى الفراء شنّعوا عليه بأشياء هو منها بريء ،و ما ذكره أبو بكر بن العربي عنه ، هو كذب عليه ، رواه عن مجهول لم يُسمه ، لكن مع ذلك فإن في كلام القاضي أبي يعلى ، ما هو مردود نقلا و عقلا ، و فيه من التناقض من جنس ما يُوجد في كلام الأشعري و الباقلاني و أمثالهما ، ممن يُوافق النفاة على نفيهم ،و يُشارك أهل الإثبات على وجه مما قالوه . كما إنه أورد في كتابه إبطال التأويلات أحاديث موضوعة ، كحديث رؤية الله عايا ليلة المعراج ،و حديث إقعاد الرسول –عليه الصلاة و السلام- يوم القيامة على العرش [15] .
تلك الأحاديث الموضوعة و الصريحة في التشبيه و التجسيم ، هي التي كانت سببا في اتهام أبي يعلى بالتشبيه و التجسيم ، و إن كان هو في الحقيقة لا يعتقد التشبيه و لا التجسيم ، لأن آثاره شاهدة على ذلك[16] ؛ لكن الخلل دخله من روايته للأحاديث الضعيفة و الموضوعة ، الصريحة في التشبيه و التجسيم ، فحملها على ظاهرها من دون تأويل و لا تشبيه ، و قد رواها لأنه كان قليل الخبرة بعلم الحديث ،و بضاعته فيه مُزجاة ، لا يُميز بين صحيح الأحاديث من سقيمها ، فروى أحاديث غير صحيحة متعلقة بالصفات ، جعلت العلماء يُنكرون عليه ذلك ، و يتهمونه بالتشبيه كان الأشاعرة في مقدمتهم .
و واضح أيضا إن خطأه لم يكن بسبب المنهج الذي يتبناه ، فمنهجه صحيح يقوم على أسس منهج السلف في الصفات ،و قد ذكره ابنه أبو الحسين في دفاعه عنه ، و إنما كان بسبب عدم الالتزام به في الأحاديث النبوية ، فتسرّبت إليه أحاديث ضعيفة و موضوعة ، جعلت خطأه هذا خطأ في تطبيق المنهج و عدم الالتزام به ، لا في المنهج ذاته .
و رابعا إن علماء الأشاعرة –في رسالتهم لنظام الملك- اتهموا الحنابلة بسب الإمام الشافعي و لعنه ، و ألحقوا به أئمة أصحابه[17] . و هذا في اعتقادي اتهام غير صحيح للشواهد الآتية ، أولها إن الحنابلة يتولون الشافعي ،و يعدونه من أصحاب إمامهم أحمد بن حنبل ، و قد ترجموا له في طبقاتهم و أثنوا عليه كثيرا[18] .
و ثانيها إن الحافظ أبا بكر بن أبي داود السجستاني الحنبلي (ت قرن: 3ه) مدح الشافعي و أحمد بن حنبل ، في قصيدة له ، وصفهما بأنهما إماما هدى على طريق الحق و النصيحة[19] . و ثالثها أن المؤرخ أبا علي بن البناء الحنبلي البغدادي(ت 471ه) صنف كتابين في فضل الشافعي ، هما : فضائل الشافعي، و كتاب ثناء أحمد على الشافعي و ثناء الشافعي على احمد[20] .
و أما قولهم إنهم سبوا أئمة أصحاب الشافعي ، فليس المقصود بهم أصحاب الشافعي الأوائل ، و إنما المقصود أعيان الشافعية الأشاعرة الذين انتسبوا إلى الشافعي ، و هذا ممكن الحدوث ، بحكم الخصومة الشديدة القائمة بينهم و بين الأشاعرة ، في ظل الأزمة العقيدية الحادة التي عصفت بالسنيين كلهم .
و خامسا إن أبا بكر بن العربي (ت 543ه) قال في الحنابلة و أهل الحديث كلاما غليظا ، و وصفهم بأوصاف شنيعة ، فجعلهم ممن كاد للإسلام ، و لا فهم لهم ، و ليس لهم قلوب يعقلون بها ،و لا آذان يسمعون بها ، فهم كالأنعام بل هم أضل . و عدّهم من الغافلين الجاهلين في موقفهم من الصفات ،و شبههم باليهود ،و قال أنه لا يُقال عنهم : بنوا قصرا و هدّموا مصرا ، بل يُقال : هدموا الكعبة ،و استوطنوا البيعة[21] –أي كنيسة اليهود .
و سادسا إن كبار علماء الأشاعرة ببغداد ذموا- في رسالتهم لنظام الملك- خُصومهم الحنابلة ذما شنيعا ، و وصفوهم له بأنهم رعاع أوباش ، مجسمة مبتدعة ، شرذمة أغبياء من أراذل الحشوية ، رفضوا الحق لما جاءهم على يد ابن القشيري[22] .
و سابعا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد رواية الأكاذيب المفضوحة على الحنابلة ، طعنا فيهم و تشنيعا عليهم ، و تحقيقا لمكاسب مذهبية ، فمن ذلك ما رواه ابن الجوزي عن أبي الوفاء ابن عقيل ، من إن الواعظ أبا بكر البكري (ت476ه) لما جاء إلى بغداد حكى عن الحنابلة ما لا يصح أن يُذكر ، فقال إنهم يقولون : إن لله ذكرا ، فرماه الله تعالى بالخبث في ذلك العضو فمات[23] . و قوله هذا-إن صح- هو افتراء مفضوح ،و زندقة مكشوفة ، لا يقوله إنسان عاقل ، فضلا عن مسلم .
و منها أيضا ما ذكرناه سابقا من إن القاضي ابن العربي قال إنه لما كان ببغداد أخبره بعض شيوخه بأن أبا يعلى الفراء كان يقول : إذا ذُكر الله ، وما ورد من هذه الظواهر في صفاته ، فألزموني ما شئتم ، فإني ألتزمه ، إلا اللحية و العورة[24] . و روايته هذه غير صحيحة للمعطيات الآتية ، أولها إن قوله هذا لم أعثر عليه في المصادر الحنبلية من إنه –أي أبو يعلى- قال ذلك ، و إنما رواه ابن العربي عن مجهول هو من خُصوم القاضي أبي يعلى ، و خبر هذا حاله لا يُقبل في أمر خطير كهذا .
و ثانيها إن ذلك القول القبيح من المستبعد جدا أن يقوله القاضي أبو يعلى ، و هو عالم فقيه زاهد ، متبحر في مذهب الإمام أحمد بن حنبل ، و لأنه أيضا كان على منهاج السلف في الصفات لا يُثبت صفة إلا إذا وردت في الشرع ، و لا شك إن ذلك القول المذموم لا يوجد في الشرع ما يُؤيده ، و إنما هو منسوب للمجسم الضال داود الجويباري ، الذي كان يقول : (( اعفوني عن الفرج و اللحية ، و اسألوني عما وراء ذلك))[25] .
و ثالثها إن الحنابلة قالوا إن بعض الأشاعرة كان يتعمد الكذب عليهم ، نكاية فيهم و انتصارا لمذهبه ، فقالوا إن أعيان الأشاعرة عندما أرسلوا كتابهم إلى نظام الملك ، كذبوا عليهم فيه ، و ذكروا له عنهم أشياء زورا و بهتانا[26] . و ذكر المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة في نزاعهم مع أصحاب الحديث كانوا يكذبون عليهم[27] .
و ثامنا إن الأشاعرة كثيرا ما يُشنّعون على الحنابلة و أهل الحديث ، بإثباتهم لصفات وردت في القرآن الكريم ،و السنة النبوية الصحيحة، فيقولون إن هؤلاء يُثبتون صفة النزول، و الاستواء على العرش، و الضحك، و تكليم الله لموسى ، فينسبون إليهم كلام الله الذي وصف به نفسه ، و هم –أي الحنابلة و أهل الحديث- لا يصلحون لذلك و لا يبلغونه[28] . حتى إن بعضهم قال عن الحنابلة - في إثباتهم لتلك الصفات- إنه (( ما بين شيوخ الحنابلة و بين اليهود إلا خصلة واحدة )) ، فردّ عليه الحافظ أبو نصر السجزي (ت444ه) بقوله : (( و لعمري إن بين الطائفتين خصلة واحدة، لكنها بخلاف ما تصوّره الساقط ، و تلك الخصلة إن الحنابلة على الإسلام و السنة ، و اليهود على الكفر و الضلالة))[29] .
و واضح إن تشنيع الأشاعرة على أهل الحديث بذلك الطريق الملتوي ، هو في حقيقته رد للشرع ،و قدح فيه ، و تحايل على المسلمين ، بإلقاء التهمة على أصحاب الحديث ، بدلا من الإعلان صراحة رفضهم لتلك الصفات التي وردت في الكتاب و السنة الصحيحة ،و هو في النهاية رفض للقرآن و السنة ، فالمفروض إنه كان عليهم أن يُعلنوا موقفهم صراحة من تلك الصفات ليعرف الناس حقيقة موقفهم منها .
و أخيرا –أي تاسعا- هناك أوصاف أخرى أطلقها بعض الأشاعرة على الحنابلة و أهل الحدث ، هي من صميم مبحثنا هذا ، منها إن القاضي أبا المعالي عزيزي بن عبد الملك الشافعي الأشعري (ت494ه) ، كان قاضيا على حي باب الأزج ببغداد ، الذي غالبية سكانه حنابلة ، فكان بينه و بينهم خصام و مهاترات ، فيُروى إنه في أحد الأيام سمع رجلا يُنادي على حمار له ضاع منه ، فقال القاضي : (( يدخل باب الأزج ،و يأخذ بيد من شاء )) . و قال يوما لأحد أصحابه عن الحنابلة : (( لو حلف إنسان إنه لا يرى إنسانا ، فرأى أهل باب الأزج لم يحنث ، فقال له صاحبه : من عاشر قوما أربعين يوما فهو منهم )) ، لذا فإنه –أي القاضي- عندما مات فرح الحنابلة بموته كثيرا[30] . ففي قوله الأول ألحقهم بالحمير صراحة ، و في الثاني نفى عنهم صفة الأدمية ، و ألحقهم بالحيوانات ضمنيا ، ثم ألحقه صاحبه هو أيضا بهم ، بحكم إنه معاشر لهم .
و منها أيضا إن النجم الخبوشاني (ت 587ه) ، لما نبش قبر ابن الكيزاني الذي كان بجانب ضريح الشافعي ، وصفه بالزندقة ، و قال : (( لا يكون صدّيق و زنديق في موضع واحد ))[31] . اتهمه بذلك لمجرد إنه كان على مذهب أهل الحديث ،و لم يكن مثله أشعريأ ، و لم يشفع له عنده مذهبه الشافعي في الفروع .
و اتهم بعضهم الحافظ عبد الله بن عطاء الإبراهيمي الهروي الحنبلي(ت 476ه) بالكذب و وضع الأحاديث ، و قالوا إنه كان يجتمع بالحنابلة و أهل الحديث ،و يروي لهم أحاديث مكذوبة تتعلق بالصفات هي من وضعه ، لكن الذين يعرفون أحواله من ثقات المحدثين عدّلوه ، فوثّقه المؤتمن الساجي ،و قال عنه خميس الجوزي : (( ما علمتُ فيه ذلك ، و كان يعرفه ))[32] .
و أما الحنابلة و أهل الحديث ، فهم أيضا ذموا الأشاعرة بمختلف ألفاظ الذم و التشنيع و القدح ، في إطار النزاع العقيدي القائم بينهم ، فمن ذلك أولا ، إنهم اتهموهم بالتمويه على الناس ، و إخفاء عنهم مقالتهم في صفات الله و كلامه ، فذكر أبو نصر السجزي (ت 444ه) ، إن الأشاعرة يستخدمون التمويه و المصانعة ، و لا يُظهرون حقيقة مذهبهم للناس ، الذي ينتهي إلى دعوتهم إلى مخالفة السنة ،و ترك الحديث ؛ ثم قال إنه إذا خاطبهم من له هيبة و حشمة من أهل الأثر ، قالوا له : (( الاعتقاد ما تقولونه ، و إنما نتعلّم الكلام لمناظرة الخصوم ))، ثم قال أيضا : (( و الذي يقولونه كذب ، و إنما يتسترون بهذا ، لئلا يُشنع عليهم أصحاب الحديث ))[33] .
ثم ذكر السجزي إنه كان بمكة رجل كثير الاشتغال بالحديث ، و يُعلن إنه ليس أشعريا ، لكنه يمدحهم ،و يقول : رأيت منهم فاضلا ، التراب من تحت رجله أفضل من أناس . و إذا قدم منهم رجل إلى البلد قصده ليقضي له حاجته ، لكن إذا دخل عليه رجل من أصحاب الحديث ، جانبه و حذّر منه ، و إذا ذُكر عنده شيخ من شيوخ وقع فيه ، و قال : (( أحمد نبيل ، لكنه بُلي بمن يكذب عليه )) ، ثم عقّب السجزي على كلامه بقوله : و هذا مكر منه ، لا يحيق إلا بأهله ،و قول جاهل رقيق الدين و قليل الحياء[34] .
و قال أيضا إن بعض الأشاعرة يتظاهر إنه ليس أشعريا ،و يرد عليهم و يُظهر مخالفته لهم ، فيُتابع في ذلك ظنا إنه مخالف لهم-أي للأشاعرة- ، و كثيرا ما انطلى مثل هذا السلوك على أهل السنة على حد قول السجزي[35] ؛ و يعني بهم الحنابلة و أهل الحديث .
و قال أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي(ت 513ه) إن الأشاعرة يردون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه[36] .و قال عنهم الموفق بن قدامة المقدسي(ت 620ه) إنهم يُخفون مقالتهم في القرآن الكريم ، من إنه ليس كلام الله حقيقة ، و إنما هو عبارة عنه ، فإنهم لا يتجاسرون على إظهارها و (( لا التصريح بها إلا في الخلوات ،و لو إنهم ولاة الأمر و أرباب الدولة ، و إذا حكيت عنهم مقالتهم التي يعتقدونها ، كرهوا ذلك و إنكروه و كابروه ، و لا يتظاهرون إلا بتعظيم القرآن ،و تبجيل المصاحف، و القيام لها عند رؤيتها ، و في الخلوات يقولون : ما فيها إلا الورق و المداد ،و أي شيء فيها ؟ ! ))[37] .
و ثانيا إن أهل الحديث شبّهوا الأشاعرة بالزنادقة فيما اختصوا به في مسألة الصفات و كلام الله تعالى، فشبّههم الحافظ أبو نصر السجزي بالزنادقة في إنهم يُخفون مذهبهم عن قوم ، و يُظهرونه لآخرين ، مما مكّنهم من جذب كثير من العوام إلى مذهبهم ، لأنهم يُظهرون للعامي الموافقة بداية ،و يُكذّبون بما يُنسب إليهم حتى يصطادوه ، ثم يجروه قليلا قليلا ، حتى ينسلخ من السنة[38] . و قال السجزي إن القاضي أبا بكر الباقلاني الأشعري ، كان أكثر الأشاعرة استخداما لتلك الطريقة ، فقد وشّح كتبه بمدح أهل الحديث ، و استدل على أقاويله بالأحاديث في الظاهر ، و أكثر الثناء على أحمد بن حنبل ، و قال إنه –أي أ حمد – كان يعرف الكلام ، و لا فرق بينه و بين الأشعري في ذلك ، و قوله –أي الباقلاني- هذا هو عند السجزي من قلة الدين و الحياء[39] .
و أقول : نعم كان الإمام أحمد بن حنبل على علم بمقالات المتكلمين المعاصرين له ، و هو رغم ذمه لعلم الكلام و أهله ، فقد ردّ على مقالاتهم في مصنفاته ، كما في كتابه الرد على الزنادقة و الجهمية ، لكنه لم يكن يقول بمقالة الأشعري في مسألة الإيمان ،و السببية، و الأفعال الاختيارية ،و كلام الله تعالى ، و هو من أوائل الذين ردوا على الكلابية ، التي هي سلف الأشعرية[40] .
و شبّه الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت 620ه) الأشاعرة بالزنادقة – في موقفهم من كلام الله – بقوله: (( و لا نعرف في أهل البدع طائفة يكتمون مقالتهم ، و لا يتجاسرون على إظهارها ، إلا الزنادقة و الأشعرية ، رغم إنهم هم ولاة الأمر و أرباب الدولة ، و مع ذلك لا يُظهرون مقالتهم لعامة الناس ))[41] .
و ثالثا إن بعض علماء الحديث اتهموا الأشاعرة بالكذب على أصحاب الحديث ، فذكر أبو نصر السجزي ، إن الأشاعرة يتعمدون الكذب على أهل الحديث ، تسترا و تمويها ، و يُنسبون كل من يخالفهم إلى سب العلماء ، ليُنفّروا قلوب الناس منه ، و تكلموا فيه و نسبوا إليه أقاويل لا يعتقدها ، كذبا و بهتانا عليه ، لأنهم يعتقدون إن الكذب و البهتان لا قبح لهما في العقل ، و إنما الشرع هو الذي حكم بقبحهما ، و المخالفون لهم ضالون لا حرمة لهم[42] . بمعنى إنه لا حرمة لهم نقلا و لا عقلا .
و قال المتكلم أبو الوفاء بن عقيل إن الأشاعرة يزدرون على أصحاب الحديث بالكذب و التمويه[43] . و ذكر القاضي أبو الحسين بن أبي يعلى(ت 526ه) إن علماء الأشاعرة الذين أرسلوا الخطاب إلى الوزير نظام الملك ، -في فتنة ابن القشيري- كذبوا فيه على الحنابلة ، و ذكروا له فيه أشياء عن معتقدهم زورا و بهتانا[44] .
و رابعا إن بعض علماء الحديث و المنتسبين إليهم ، حذّروا من مقالة الأشاعرة ، و شهّروا بهم و ببعض أفكارهم التي رأوها شنيعة ، منهم أبو الوفاء بن عقيل ، فإنه بعدما أشار إلى إن الأشاعرة – في موقفهم من كلام الله- قد خالفوا الكتاب و السنة ، و الإجماع و اللغة ، قال عنهم محذرا : (( و اجتنبوا مقالتهم ،و احذروا بدعتهم و ضلالتهم ، تسلموا من بِدعهم ،و اخبروا المسلمين مقالتهم و اعتقادهم الفاسد ))[45] .
و منهم أيضا الفقيه أبو محمد بن حزم الظاهري (ت 456ه) ، فقد شهّر بالأشاعرة أيما تشهير ، فذكر إنهم يقولون إن محمدا-عليه الصلاة و السلام- ليس رسولا بعد وفاته ، بدعوى إن الروح عرض، و العرض يفنى أبدا و لا يبقى وقتين بعد الوفاة ، و مقالتهم هذه مخالفة للشرع و الإجماع .و ذكر أيضا إنهم ينكرون السببية و طبائع الأشياء ، و يقولون لا يصح إسلام أحد حتى يكون بعد بلوغه شاكا في الله و نبوة رسوله ،و لا يصح إيمان إلا بكفر ،و لا تصديق إلا بجحود ، ثم توسع في شرح مقالتهم و الرد عليهم[46] .
و خامسا هناك أوصاف أخرى مذمومة ، وصف بها بعض أهل الحديث الأشاعرة ، كوصفهم بأنهم مبتدعة ،و أهل بدع ، و قد وصفهم بذلك أبو الحسين بن أبي يعلى ،و أبو عثمان الصابوني الشافعي، و الموفق بن قدامة المقدسي[47] . و وصف الحافظ عبد الله الأنصاري الهروي الصوفي الحنبلي ( ت قرن: 5ه ) الأشاعرة بأنهم مخانيث المعتزلة .و قال عنهم يحيى بن عمار: الأشعرية الجهمية الإناث ،و المعتزلة الجهمية الذكور[48] . و مرُاد هؤلاء مما قالوه ، هو الطعن في الأشعرية ، مما يُفيد بأنها ليست مذهبا مستقلا صافيا ،و إنما هي بدعة و خليط من عدة مذاهب في مقدمتها الاعتزال .
و ختاما لهذا المبحث ، يتبين أولا إن كل طرف – من الطرفين المتنازعين- يتهم الآخر و يذمه و يشنع عليه ، و ينفي عن نفسه التهم الموجهة إليه جملة و تفصيلا ، و يدعي إنه هو الذي على صواب ،و إن خصمه على ضلال .
و ثانيا إن ما استعمله الطرفان من ذم و اتهامات و تشنيعات ، هو دليل قاطع على ما وصلت إليه الأزمة العقيدية ، من حدة و قسوة و ضراوة ، حتى قسّمت المجتمع السني إلى طائفتين متناحرتين ، كل طائفة تتربص بالأخرى الدوائر، و تكن لها الحقد و الكراهية ،و البغضاء ، فتحوّلت الأزمة إلى محنة عامة اكتوى بها السنيون كلهم .
و ثالثا إن ما ذكرناه من مظاهر الذم و الاتهامات و التشنيعات ، التي تبادلها فيما بينهم أهل الحديث و الأشاعرة ، هي دليل دامغ على إن الأزمة العقيدية –التي عصفت بالسنيين- كانت منذ بدايتها في اتساع و تصعيد و تكريس و تعميق ، و لم تجد الحل الشرعي الصحيح الذي يضع لها حدا نهائيا ،و يُرضي الطرفين المتنازعين .
------------------------
[1] انظر: ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 208 . و فتوى و جوابها ص: 33 . و الذهبي: تذكرة الحفاظ ، ج 3 صث: 1167، 1188، 1189 .
[2] ابن عساكر: تبيين كذب المفتري، ص: 311 و ما بعدها .
[3] انظر : ابن الجوزي: المنتظم ، ج 9 ص: 58 .
[4] الناصري :: الإستقصاء، ج 1ص: 196، 197 .
[5] العواصم من القواصم ، الجزائر ، الشركة الوطنية للنشر و التوزيع ، 1981، ج 2ص: 283 .
[6] هو مصطلح يثقصد به الحشو في الكلام ،و قله الفهم و المعرفة ، أطلقه المعتزلة على كل من خالفهم ، ثم أطلقه الأشاعرة أيضا على من خالفهم . ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 23-24 .و بيان تلبيس الجهمية ، ج 1 ص: 242 ، 245 .
[7] ابن عساكر: تبيين ، ص: 310 .
[8] الذهبي: السيّر ، ج 20 ص: 454 .
[9] الكامل في التاريخ ، ج 8 ص: 378 .
[10] العواصم من القواصم ، ج 2 ص: 283 .
[11] انظر: ابن الأثير : الكامل، ج 8 ص: 378 . و ابن عساكر: تاريخ دمشق، ج 52 ص: 356 .و الصفدي: الوافي ، ج 3 ص: 864 .
[12] طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 208 .
[13] نفس المصدر، ج2 ص: 212 .
[14] الذهبي: ط1 ، الرياض، مكتبة أضواء السلف ، 1995 ، للعلي الغفار ، ص : 251 .
[15] ابن تيمية: درء التعارض ، ج 5 ص: 237 ، 238 .
[16] أنظر مثلا ، ما كتبه عنه ابنه في طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 208 .
[17] ابن عساكر: تبين كذب ، ص: 315 و ما بعدها .
[18] نظر طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 315 ، و ما بعدها .
[19] أبو بكر بن أبي داود : قصيدة ابن أبي داود ، ص: 59 .
[20] ابن رجب: الذيل على طبقات الحنابلة ، ج 1 ص: 46 .
[21] العواصم من القواصم ، ج2 ص: 282، 288، 303 .
[22] ابن عساكر: تبيين ، ص: 310 و ما بعدها .
[23] المنتظم ، ج 9 ص: 4 .
[24] العواصم ، ج2 ص: 283 .
[25] الشهرستاني: الملل و النحل ، حققه علي مهنا، بيروت ، دار المعرفة ، 1998، ج 1 ص: 1057 . و أبو المظفر الاسفراييني : التبصير في الدين ، ط1 ، بيروت ، دار عالم الكتب ، 1983، ص: 120 .
[26] ابن أبي يعلى الفراء: طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .
[27] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[28] الموفق المقدسي: نشره جورج مقدسي ، النظر في كتب أهل الكلام ، لندن، مطبعة لوزاك ، ص: 58 .و ابن تيمية: مجموع الفتاوى، ج 4 ص: 186 .
[29] السجزي: رسالة السجزي ، ص: 45 .
[30] ابن كثير : البداية ، ج 12 ص: 160 .
[31] السبكي: طبقات الشافعية ، ج 7 ص: 15 .
[32] ابن رجب: الذيل ، ج 1 ص: 58 . و ابن حجر : لسان الميزان ، ج3 ص: 316 .
[33] السجزي: المصدر السابق، ج 57 . و ابن تيمة: درء التعارض ، ج 2 ص: 91 .
[34] السجزي: نفس المصدر، ص : 60 .
[35] نفسه ، ص: 60 .
[36] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[37] الموفق بن قدامة: مناظرة في القرآن ، ط1 ، الكويت ، مكتبة ابن تيمية ، 1990، ص: 58 .
[38] السجزي: رسالة السجزي، ص: 51 .
[39] نفسه ، ص: 51 .
[40] راجع التمهيد .
[41] ابن قدامة : مناظرة في القرآن ، ص: 58 .
[42] السجزي: رسالة السجزي، ص : 51، 57 .
[43] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة ، ص: 91 .
[44] ابن أبي يعلى : طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .
[45] ابن عقيل : المصدر السابق ، ص: 86 .
[46] ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل، القاهرة ، مكتبة الخانجي ، د ت ، ج 1ص: 34، 75 .
[47] ابن قدامة المقدسي: مناظرة في القرآن ، ص: 35 .و ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة ، ج2 ص: 239 .و ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية ،ص : 106 .
[48] ابن تيمية : مجموع الفتاوى، ج 6 ص: 359 ، ج 14 ، 349 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 31-42
تبيين كذب الصوفية الاشاعرة على الامام عبد القادر الجيلاني بنسبته الى الاشعرية
بسم الله
ادعى المتكلم ابن الأهدل اليمني الأشعري إن الشيخ عبد القادر الجيلاني كان أشعري المعتقد حنبلي الفروع [1] ، مسايرا للمؤرخ اليافعي المكي الصوفي (ت 768ه ) الذي روى إن الشيخ الجيلاني غيّر اعتقاده في آخر عمره ، مدعيا إن الشيخ نجم الدين الأصفهاني أخبره إن الجيلاني لما (( بلغه إن الفقيه الإمام البارع المشكور تقي الدين بن دقيق العيد المشهور تعجّب من شذوذ الشيخ عبد القادر المذكور ، في اعتقاده عن موافقة الجمهور العارفين،و العلماء المحققين في مسألة الجهة المعروفة )) غيرّ-أي الجيلاني- عقيدته في الجهة و المكان ، في آخر عمره[2] .ثم أضاف اليافعي أنه لا يشك في الشيخ نجم الدين-الذي أخبره بذلك- لأنه من ذوي الكشف و النور ، و يسكن في العراق ، فهو قريب من موطن الشيخ الجيلاني [3] .
و أقول-ردا عليه- : إن ما ادعاه اليافعي باطل لا يصح لعدة و جوه ، أولها إن الشيخ عبد القادر أثبت الصفات الإلهية ، كالعلو ، و الجهة ، و الاستواء على العرش ، في كتابه الغنية و لم يؤوّلها ، و رد فيه على الأشاعرة في مسألة النزول و الصوت و الحرف ، و ذمهم و وصفهم بالابتداع [4] .
و الثاني هو إن اليافعي انفرد بهذا الخبر عن غيره من المؤرخين ، فأنني لم أعثر عليه في كتب التراجم و التواريخ ، و الطبقات التي اطلعت عليها . لذا فمن المستبعد جدا أن يغيّر الجيلاني اعتقاده الحنبلي ، و لا يشتهر ذلك عنه بين الحنابلة و الطوائف الإسلامية الأخرى ، و بين خصومه الحنابلة الذين يبحثون عن أي شيء للطعن فيه [5] .
و الثالث إن خبره يحمل في ذاته الدليل القاطع على بطلانه ، لأن فيه إن الشيخ عبد القادر غيّر اعتقاده ، عندما بلغه ما قاله عنه الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد . فكيف يبلغه ذلك و هذا الأخير قد ولد في سنة 625ه ، و توفي في سنة 702ه ، و والده مجد الدين قد ولد في عام 581ه ، و توفي في عام 667ه [6] ، و الشيخ الجيلاني توفي في سنة 561ه ، فبينه و بين الابن أربع و ستين سنة ، و بينه و بين الأب عشرين سنة ؟ أليس هذا دليل قاطع على بطلان خبر اليافعي ؟
و الرابع هو إن اليافعي كان متعصبا للأشعرية ، و يذم كبار علماء الحنابلة [7]، لذا يبدو أنه عزّ عليه أن يكون أحد أقطاب الصوفية حنبليا أصولا و فروعا، و لا يكون أشعريا ، لذلك روي خبر تغيير الجيلاني لاعتقاده في آخر عمره و هو يعلم ما بينه و بين ابن دقيق العيد من زمن طويل ، و لم يُبال بذلك .
-----------------------------------
[1] ابن الأهدل : المصدر السابق ص : 83 .
[2] اليافعهي : المصدر السابق ج 3 ص : 362 ، 363 .
[3] نفسه ج 3 ص : 362 .
[4] عبد القادر الجيلاني : الغنية لطالبي طريق الحق ج 1 ص : 71 ، 72 ، 74 ، 78 .
[5] منهم عبد الرحمن ابن الجوزي الذي كان خصما للجيلاني .
[6] الأدفوي كمال الدين: الطالع السعيد ، الدار المصرية للتأليف ، 1966 ، ص : 432 ، 575 .و ابن العماد الحنبلي : المصدر السابق ج 5 ص : 324 ، 325 ، ج 6 ص : 5 .
[7] المناوي : الكواكب الدرية ، ط1 ، بيروت ، دار صادر، 1999 ، ج 3 ص : 36 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 46-47
انتشار المذهب الاشعري بالقوة السياسية
بسم الله
انتشار المدارس الطائفية المذهبية :
كان للأزمة العقيدية التي عصفت بالسنيين ، أثر كبير في ظهور المدارس الطائفية المذهبية بين الطوائف السنية ، فأصبح لكل طائفة مدارسها و طلابها و شيوخها ، تُدرّس فيها مذهبها أصولا و فروعا ، و تنافست فيما بينها في بنائها و الإكثار منها ، بمساعدة و تشجيع من أرباب المال و رجال السياسة [1] ، فمن ذلك إن الوزير السلجوقي نظام الملك بنى مدارس للشافعية ،و بني السلطان صلاح الدين الأيوبي(ت589ه) مدارس للشافعية و المالكية و الحنفية ، و بني السلطان نور الدين محمود(ت569ه) مدارس للحنفية و الشافعية و الحنابلة و المالكية ،و بنى كل من الوزير عون الدين بن هبيرة (ت قرن: 6ه) ،و زوجة الخليفة المستضيء السيدة بنفشة (ت 558ه) مدرسة للحنابلة [2] .
و تُعد مدارس نظام الملك أشهر المدارس الطائفية المذهبية بالمشرق الإسلامي –خلال القرنين :5-6ه- ،و أكثرها قوة ،و تأثيرا ،و نشاطا ،و تعصبا ؛ فقد بنى للشافعية مدارس عديدة عُرفت بالمدارس النظامية ، في كثير من المدن ، كبغداد ،و مرو ، و بلخ، و البصرة ، و أصفهان ، و أشهرها نظامية بغداد الذائعة الصيت ، ذات النشاط العلمي المذهبي الأشعري الواسع ، لأنها وجدت المجال خاليا ،و المناخ ملائما لنشر فكرها و مهاجمة خصومها ، لغياب المنافسة من مدارس أهل الحديث، إذ لم أعثر لهم على أية مدرسة في القرن الخامس الهجري ، و الحنابلة لا تُعرف لهم مدرسة إلا في مطلع القرن السادس الهجري ، و هي مدرسة أبي سعد المخرمي البغدادي (ت513ه)[3] .
و قد ذكر كثير من الباحثين المعاصرين إن نظام الملك بنى مدارسه لتوحيد المذهب السني ،و محاربة الشيعة ،و تكوين الموظفين الإداريين لتولي مناصب في الدولة[4] . و رأيهم هذا صحيح ، لكنهم لم يذكروا هدفا أساسيا آخر لا يصح إغفاله ، كان نظام الملك يسعى لتحقيقه ، هو نصرة المذهب الأشعري على حساب مذهب أهل الحديث ، و الدليل على ذلك الشواهد التاريخية الآتية ، أولها إن من شروط التدريس في المدرسة النظامية ببغداد إن يكون المدرس شافعيا[5] . و قد سبق أن ذكرنا إن معظم الشافعية كانوا أشاعرة ابتداء من النصف الثاني من القرن الخامس الهجري و ما بعده ، مما يُشير إلى إنها –أي المدرسة-كانت حكرا على الشافعية الأشاعرة ، هدفها خدمة مذهبهم .
و ثانيها إن طلاب نظامية بغداد كانوا يدرسون المذهب الأشعري ، و يقولون إن القرآن ليس كلام الله حقيقة، و إنما هو معنى قائم بالذات ، و ما الحروف و الأصوات إلا عبارة عنه[6] . و ثالثها إن بعض متكلمي و وعاظ الأشاعرة اتخذوا المدرسة النظامية منبرا لهم في الدعوة للأشعرية ،و مهاجمة الحنبلية ، كأبي نصر بن القشيري، و أبي بكر البكري المغربي الذي دخل بغداد سنة 475ه ، و معه كتاب من نظام الملك للتدريس بالنظامية ، و التكلم بمذهب الأشعري[7] .
و الشاهد الرابع هو إنه كان مكتوبا على باب المدرسة النظامية ببغداد ، اسم إمام الأشعرية أبي الحسن الأشعري ، فلما دخل السلطان السلجوقي مسعود(ت قرن: 6ه ) بغداد أمر بإزالته و تعويضه باسم الإمام الشافعي[8] . فكتابة اسم الأشعري عل نظامية بغداد ، دليل واضح على الصبغة المذهبية الأشعرية لتلك المدرسة .
و آخرها –أي الخامس- شاهد أثري يعود إلى العصر الأيوبي ، و هو اليوم بدار الآثار العربية المصرية ، و يخص المدرسة التي بناها السلطان صلاح الدين لشيخه نجم الدين الخبوشاني، و محتوى الشاهد هو : (( بُنيت هذه المدرسة باستدعاء الشيخ الإمام الزاهد نجم الدين ركن الإسلام ، قدوة الأنام مفتي الفرق ، أبو البركات الموفق الخبوشاني ، أدام الله توفيقه لفقهاء أصحاب الشافعي ، رضوان الله عليه ، الموصوفين بالأصولية الموحدة الأشعرية المنصورة على الحشوية و غيرهم من المبتدعة ، و ذلك في شهر رمضان سنة خمس و سبعين و خمسمائة ))[9] . فواضح من هذا الشاهد إن المدرسة مخصصة للشافعية الأشعرية ،و فيه تعريض بالحشوية ،و المقصود بهم الحنابلة و أهل الحديث ، لأنهم هم خصوم نجم الدين الخبوشاني الذين منعوه من نبش قبر ابن الكيزاني ، عندما نبشه ليبني مدرسته ، فحدثت بينه و بينهم مواجهات دامية ، سبق ذكرها في الفصل الأول ، كما إن الحنابلة و أهل الحديث هم خصوم الأشعرية ،و هي قد أطلقت عليهم اسم الحشوية و المبتدعة ، على ما سبق أن ذكرناه .
رابعا : تعرّض بعض العلماء لمحن و أزمات فكرية :
(...)
و الحالة الأخيرة –أي ثامنا- محنة الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي(ت600ه) ، جلس يوما بجامع دمشق (سنة 595ه) ، و ذكر شيئا من العقائد ، منها أحاديث في النزول و صفات أخرى ، فأنكر عليه جماعة من الأشاعرة من الشافعية و الحنفية و المالكية ، كالقاضي ابن الزكي،و ضياء الدين الدولعي، و رموه بالتجسيم ، و رفعوا أمره إلى السلطان ، و والي دمشق صارم الدين برغش ،و أخبروهما بأمر الحافظ عبد الغني ، و قالوا للوالي إن عبد الغني أضل الناس ،و يقول بالتشبيه ، فأمر الوالي بعقد مجلس لمناظرته ، فلما حضر ناقشوه في مسألة الاستواء و النزول و رد عليهم ، فأصر كل طرف على موقفه ، لأن كلا منهما نظر للقضية من زاوية مذهبه الذي يعتقده ، فهو ضللهم ، و هم كفّروه ، و قالوا للوالي: إنه مُبتدع ،و لا يجوز أن يُترك بين المسلمين ، و لا يحل لولي الأمر أن يُمكّنه من المقام معهم . ثم تدخل الوالي و قال لعبد الغني: كل هؤلاء على الضلالة و أنت على الحق ؟ قال : نعم ، فغضب عليه و أمر بنفيه من البلد ، فاستنظره عبد الغني ثلاثة أيام فأنظره ، فارتحل الحافظ إلى بعلبك ، ثم توجه منها إلى مصر ، فآواه أهل الحديث ،و حنوا عليه و أكرموه[10] .
و قد أنكر الحافظ الذهبي ما رواه المؤرخ سبط بن الجوزي من إن الفقهاء أجمعوا على تكفير الحافظ عبد الغني ، و إنه مبتدع لا يجوز أن يُترك بين المسلمين . فيرى –أي الذهبي- إن السبط مجازف فيما رواه ، و إنه قليل الورع في نقله دعوى إجماع هؤلاء ، و يعتقد الذهبي إن الذين أفتوا بذلك هم طائفة من الذين قاموا عليه ، لأنه لو أجمع الفقهاء على تكفيره لقتلوه[11] .
و كلامه هذا صحيح ، فإن الروايات التي اطلعتُ عليها ذكرت إن الذين قاموا عليه،و رفعوا أمره إلى السلطان هم طائفة من الأشاعرة ، وهم الذين ناقشوه و كفّروه ، و حرّضوا عليه السلطان ، و ليس فقهاء دمشق هم الذين فعلوا ذلك . و إنه من المؤسف حقا أن يقوم عالم مسلم بقراءة أحاديث صحيحة ، فتقوم عليه طائفة من الأشاعرة فتمنعه من قراءتها ، و تتهمه بالتشبيه و تكفّره ، و ترفع أمره إلى السلطان و تحثه على نفيه و إخراجه من البلد !! .
إن ذلك هو التعصب الأعمى الممقوت ،و الإرهاب الفكري المتسلّط على النفوس و العقول ، الذي ولّدته الأزمة العقيدية الحادة الني جرّت على كثير من العلماء أزمات و محن ، ذكرنا منهم طائفة ، و قد رجع كثير منهم إلى مذهب السلف في نهاية الأمر .
خامسا: مظاهر تأثير الأزمة العقيدية على السياسيين :
تركت الأزمة العقيدية –التي عصفت بالمذهب السني- تأثيرا كبيرا على كثير من السياسيين –خلال القرنين :5-6ه- ، تجلّت مظاهرها فيما يأتي .
أولا تمذهب كثير من السياسيين بمذهب إحدى الطائفتين المتنازعتين ، منهم : الخليفة العباسي القادر بالله (381-422ه) ، كان على مذهب الحنابلة و أهل الحديث ، و إليه يُنسب الاعتقاد القادري[12] . و ثانيهم الخليفة القائم بأمر الله (522-567ه) ، سار على نهج والده القادر بالله في تبني مذهب أهل الحديث و الانتصار له ، و معروف إنه وقف بجانب القاضي أبي يعلى الفراء في نزاعه مع الأشاعرة عندما اتهموه بالتشبيه ، بسبب كتابه إبطال التأويلات[13] .
و ثالثهم الوزير السلجوقي نظام الملك (ت 485ه) ، كان شافعيا أشعريا ، مكّن للأشاعرة في دولته ،و كان يتعصب لهم ،و بنى لهم المدارس[14]. و رابعهم الفقيه عبد الله بن ياسين المرابطي المغربي(ت451ه) ، كان على مذهب السلف ،و عليه قامت دولته ،و عليه أيضا سار خلفاؤه ، الذين قاوموا علم الكلام و الفلسفة ، و أحرقوا كتب أبي حامد الغزالي،و مكّنوا للفقهاء السلفيين في دولتهم[15]. وخامسهم السلطان نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي(ت569ه) ، كان حنفي المذهب ليس فيه تعصب على المذاهب السنية الأخرى ، لكنه كان يُراعي مذهب الشافعي و مالك[16] , و قد بنى كثيرا من المدارس للحنفية و الشافعية ،و غيرهم من أهل السنة ، على ما تقدم ذكره .
و السادس هو الفقيه المتكلم محمد بن تومرت المصمودي المغربي(ت524ه) ، مؤسس الدولة الموحدية ، كان أشعريا جلَدا متعصبا ، كفّر المرابطين و اتهمهم بالتشبيه و التجسيم ،و استباح دماءهم و أعراضهم ،و على نهجه سار خلفاؤه من بعده[17] .
و آخرهم –أي السابع- السلطان صلاح الدين الأيوبي(ت589ه) ، كان شافعيا أشعريا ، تربى على الأشعرية منذ صباه ، و حفظ كتابا في العقيدة الأشعرية للمتكلم القطب النيسابوري الأشعري ، و كان يُعلّمها لأولاده منذ صغرهم و يُحفّظهم إياها ، و عندما فتح مصر مكّن للأشاعرة في دولته ،و على نهجه سار أولاده في التمكين لهم[18] .
و ثانيا إن من مظاهر تأثيرها على السياسيين ، دعم كثير منهم لطائفة دون أخرى ، و الأمثلة التي ذكرناه في أولا ، هي شواهد تاريخية تؤيد ما نحن في صدد إثباته . و منها أيضا إن الحنابلة و أهل الحديث ببغداد قمعوا الشافعية الأشاعرة ،و استطالوا عليهم بدعم و حماية من الخليفة القادر بالله وابنه القائم بأمر الله[19] . و ارتفعت رايتهم أيضا أيام الوزير العباسي عون الدين بن هبيرة (ت560ه) ، فقد كان حنبليا على مذهب أهل الحديث، فمكّن لهم في دولته و نشر فكرهم[20] .
و منها أيضا الدعم الكبير الذي وفّره الوزير نظام الملك للشافعية الأشاعرة ، فرفع عنهم المحنة التي فرضها عليهم الوزير السلجوقي عميد الملك الكندري المعتزلي في سنة 445ه . و منع من سبهم و لعنهم ،و أدّب من فعل ذلك .و دعمهم ماديا و معنويا حين بنى لهم المدارس ، و أجرى عليهم الأرزاق ،و شجّعهم على نشر الأشعرية، و أطلق يدهم في دولته، حتى عظُم أمرهم في البلاد ،و انتقموا من الحنابلة و أهل الحديث ، و تطاولوا عليهم تتطاول السلاطين ، و استعدوا عليهم بالسجن و الأذي و السعايات ، و نبزوهم بالتجسيم[21] .
و آخرها الدعم السافر و الكبير الذي قدّمه السلطان صلاح الدين للشافعية الأشاعرة على حساب الحنفية و المالكية عامة ، و على الحنابلة و أهل الحديث خاصة ، فإنه عندما فتح مصر سنة 567ه ، مكّن للأشعرية في دولته ، فجعلها المذهب الرسمي لدولته ،و نشرها بين رعيته، و أسند القضاء لأتباعها ،و بنى لهم المدارس لتدريسها[22] .
و ثالثا إن من مظاهرها أيضا-في تأثيرها على السياسيين- مشاركتهم فيما حدث بين الأشاعرة و أهل الحديث من خلافات و منازعات و مصادمات ، و الشواهد التاريخية على ذلك كثيرة ، أولها دور سلاطين المرابطين –بالمغرب الإسلامي- في دعم أهل الحديث و التضييق على خصومهم من الفلاسفة و الصوفية و المتكلمين و إحراق مصنفاتهم[23] .
و ثانيها دور السلاطين الموحدين-بالمغرب الإسلامي- في مقاومة مذهب أهل الحديث ،و القضاء على دولة المرابطين الممثلة لهم ،و تكفيرهم و استباحة أموالهم و دمائهم من جهة ، و التمكين للأشعرية من جهة أخرى[24] .
و ثالثها دور الوزير نظام الملك في فتنة ابن القشيري ببغداد سنة 569ه ، فهو الذي أرسله إليها ، و لما حدثت الفتنة و قُتل فيها عدد كبير من الناس استدعاه إليه ، فلما التحق به أكرمه و عظّمه ، و جهّزه و أرسله إلي بلده نيسابور[25] . و سلوكه هذا مع ابن القشيري غريب جدا ، لأن هذا الرجل ظالم و فتان ، و معتد و مجرم ، ذهب إلى بلد غير بلده ،و سب معظم أهله ،و اتهمهم بالتشبيه ،و تسبب في حدوث فتنة قُتل فيها نحو عشرين شخصا ، فالواجب على الوزير أن يُعاتبه و يُحذّره ، و يُوبخه و يُعاقبه ، لا أن يُكرمه و يُعظمه و يُكافئه ، فهو –أي الوزير- بسلوكه هذا قد شارك في فتنة ابن القشيري، و شجّع أشاعرة آخرين على القيام بنفس ما قام به ابن القشيري .
و الشاهد الرابع هو ما قام به الوزير نظام الملك في فتنة أبي بكر البكري المغربي ببغداد سنة 475ه مع الحنابلة ، فالوزير هو الذي أرسله إلى بغداد ، و معه كتاب للتدريس في المدرسة النظامية ،و التكلّم بمذهب الأشعري ، فكان ذلك سببا في حدوث فتنة بينه و بين الحنابلة[26] .
و الشاهد السادس هو دعم سلطة بغداد –الموالية للسلاجقة- للواعظ أبي بكر البكري الأشعري أثناء وجوده بالبلد، فلما وصله أكرمه ديوان الخلافة و أغدق عليه الأموال و الهدايا ، و سماه علم السنة ، و عندما كان الحنابلة يتصدون له و يعجز في التصدي لهم ، يستنجد بعساكر السلطة ببغداد ، فيلبي العساكر طلبه لنصرته[27] .
و الشاهد السادس هو مشاركة والي دمشق صارم الدين برغش في المحنة التي ألمت بالحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي سنة 595ه ، فلما حرّضه عليه الأشاعرة ، أيدهم و سمع لهم ، و نفاه من دمشق ، و أمر بكسر منبر الحنابلة بالجامع الأموي ، فتعطّلت صلاة الحنابلة فيه ،و أحرقت الصناديق و الخزائن التي كانت فيه[28] .
و الشاهد السابع هو ما حدث للحافظ عبد الغني المقدسي(ت600ه) بمدينة أصفهان ، فلما حل بها و ردّ على الحافظ أبي نعيم الأصفهاني (ت430ه) في كتابه الصحابة ، و انتقده في 290 موضعا ، و سمع به رئيس البلد الصدر أبو بكر الخجندي الأشعري(ت592ه) ، طلبه و أراد قتله ، فاختفى عبد الغني ،و أخرجه أصحابه من البلد خُفية ، و سبب تعرّض الخجندي للحافظ ، هو إنه كان أشعريا يتعصّب لأبي نعيم الأصفهاني[29] .
و الشاهد الثامن هو موقف السلطان العزيز بن صلاح الدين الأيوبي(ت 595ه) من الحنابلة و أهل الحديث ، بسبب محنة الحافظ عبد الغني سنة595ه ، فإنه لما سمع بما حدث بين الحافظ و خصومه ، - كان قد خرج للصيد- قال إنه إذا رجع من سفرته هذه ، فإنه سيُخرج الحنابلة و من قال بمقالتهم ، من مصر و الشام ، لكن الموت لم يُمهله ليعود إلى القاهرة ، فقد قتله فرسه عندما رماه و وقع عليه و خسف صدره[30] . و تصرّفه هذا غريب جدا ، لا حكمة فيه ، و لا يمت بصلة لسياسة الحكم الرشيد بصلة ، و يبدو إنه كان واقعا تحت تأثير طائفة من خصوم الحنابلة و أهل الحديث ، هم الذين حرّضوه عليهم .
و الشاهد الأخير –أي التاسع- هو بناء السياسيين لكثير من المدارس الطائفية المذهبية ، فمن ذلك بناء الوزير نظام الملك مدارسه النظامية للشافعية ، و بناء السلطان نور الدين محمود مدارس كثيرة للحنفية و الشافعية ، و بناء السلطان صلاح الدين مدارس عديدة للشافعية و الحنفية و المالكية ، فهؤلاء ببنائهم لتلك المدارس الطائفية قد شاركوا في الأزمة العقيدية –التي عصفت بأهل السنة – توسيعا و تعميقا و تكريسا .
و رابعا إن من مظاهر تأثيرها عليهم أيضا-أي السياسيون- سلبيتهم في التعامل مع الأزمة العقيدية و عدم السعي الجاد لإيجاد حل جذري لها ، فقد سبق أن ذكرنا أمثلة كثيرة على تمذهب السياسيين ، و تعصبهم لطائفة دون أخرى ، الأمر الذي جعلهم سلبيين تجاه إيجاد حل صحيح لتلك الأزمة ، و من الشواهد التاريخية التي تُثبت ذلك و توضحه أكثر ، النماذج الآتية :
أولها موقف الخليفة القائم بأمر الله من كتاب القاضي أبي يعلى و احتجاج الأشاعرة عليه ، فإنه طلب منه الكتاب و اطلع عليه ، ثم أرجعه إليه دون أي إنكار –على ما روته الأخبار- ، و أخرج الاعتقاد القادري تأييدا له على حساب الأشاعرة الذين ثاروا على القاضي و كتابه ، و المفروض إنه كان عليه أن ينتقد الكتاب في المسائل التي بالغ فيها مؤلفه في إثبات الصفات معتمدا على أحاديث ضعيفة و موضوعة ، على ما سبق أن بيناه .
و ثانيها موقف الوزير نظام الملك السلبي من وعاظ الأشاعرة في بغداد ، فقد كانوا يأتونها ،و بعضهم هو الذي أرسلهم إليها ، فيسبون أهل الحديث ،و يذمونهم و يّكفّرونهم ، و ينشرون الأشعرية ، و تحدث بسببهم الفتن و المصادمات الدامية ، و يموت فيها خلق كثير، و لا نعلم إنه اتخذ منهم موقفا حاسما لردعهم و معاقبتهم ، و إنما كان يُكرمهم و يُعظمهم و يُزودهم بما يحتاجونه ، و يأمرهم بالرجوع إلى بلدانهم بعد عودتهم من بغداد[31] .
و ثالثها موقف السلطان صلاح الدين من شيخه النجم الخبوشاني ، فقد كان هذا الرجل مشاغبا طائشا متهورا ، مثيرا للفتن بمصر ، و هو الذي نبش قبر رجل مسلم صالح كان مدفونا بجانب قبر الشافعي، فأخرج رفاته ،و زعم إنه زنديق ، فحدثت بسبب ذلك ثورة بينه و بين أهل الحديث ، فانتصر عليهم و بنى مدرسة بجانب قبر الشافعي[32] . و مع كل هذه الأفعال القبيحة لم أعثر على ما يدل أن صلاح الدين منعه من ذلك ، أو أنكر عليه فعله ، أو اتخذ منه موقفا حاسما فيما أحدثه من فتن ، بل رُوي إن الخبوشاني كان مخالطا لصلاح الدين و لأهله ،و هو الذي أعطاه المال لبناء المدرسة التي أقامها بجانب الشافعي[33] . مما يعني إن الرجل كان مدللا ،و من المقرّبين من البيت الحاكم ، يفعل ما يحلو له دون رادع .
فهؤلاء السياسيون كانوا سلبيين تجاه الأزمة العقيدية التي عصفت بالسنيين ، لأنهم كانوا طرفا فيها ،و واقعين تحت تأثير علماء الطرف الذي ينتمون إليه ، مما أفقدهم الموقف الحازم ،و النظرة الشرعية الصحيحة- القائمة على المصلحة العامة لأهل السنة – لوضع حد نهائي عادل للأزمة .
لكنهم مع ذلك فقد كانت لهم مواقف سعوا فيها للإصلاح بين الأشاعرة و أهل الحديث ،و الحد من النزاع القائم بينهما ، لكنها كانت مواقف ظرفية سطحية محدودة الأثر في الواقع ، ترمي إلى احتواء الأزمة و التخفيف منها و التحكم فيها ، و لم تكن ترمي إلى وضع حد نهائي لها ، و الشواهد على ذلك كثير ة ، أذكر منها خمسة، أولها ما حدث في فتنة ابن القشيري سنة 469ه ، فقد تدخل فيها كل من الخليفة المقتدي بأمر الله ،و وزيره العميد بن جهير، و الوزير نظام الملك ، للإصلاح بين الحنابلة و الأشاعرة ،و احتواء الفتنة ،و لم يسعوا لوضع حد للأزمة القائمة بين الطائفتين المتنازعتين ، لذا وجدنا الفتنة تكررت بينهما سنة 470ه، قُتل فيها نحو عشرين قتيلا من الجانبين[34] .
و ثانيها هي أنه لما دخل الواعظ أبو الفتوح محمد بن أبي الفضل الأشعري(ت 538ه) إلى مدينة بغداد ،و حدثت فتن مذهبية بينه و بين الحنابلة ، تدخل الخليفة العباسي المسترشد بالله و أخرجه من بغداد[35] . و الشاهد الثالث هو أنه لما وعظ أبو الفضل بن شقران الأشعري (ت 561ه) ببغداد و بالغ في نصرة الأشعرية ، تدخل الوزير العباسي عون الدين بن هبيرة(ت قرن: 6ه) ومنعه من الوعظ ،و حُطّ من على المنبر[36] .
و الشاهد الرابع هو إنه لما حدث خلاف بين ابن الجوزي(ت 597ه) و نصر بن عبد الرزاق بن عبد القادر الجيلاني ، في مسألة صفات الله تعالى ، و انتشر ما حدث بينهما بين الناس ، تدخل الخليفة العباسي-لم أُميّزه- و أمر بالسكوت من الجهتين حسما للفتنة[37] .
و آخرها –أي الشاهد الخامس- هو إنه لما خاض الأشاعرة و أهل الحديث ، في مسألة الحرف و الصوت ، أصدر السلطان صلاح الدين (ت589ه) مرسوما منع فيه الخوض في تلك المسألة ، و توعّد من يخالفه بالعقاب الشديد ،و قُرئ مرسومه على المنابر بمصر[38] .
فهذه الحوادث-و غيرها- شواهد تاريخية تدل على إن تدخلات السياسيين للحد من الأزمة العقيدية ، كانت تدخلات للتخفيف و التهدئة و الاحتواء ، و لم تكن تدخلات فعالة لحل الأزمة نهائيا ، و اجتثاثها من جذورها .
و أخيرا-أي خامسا- فإن من مظاهر تأثيرها –أي الأزمة- على السياسيين ، ما حققه الأشاعرة من انتصار سياسي كاسح على أهل الحديث بالمشرق الإسلامي و مغربه، منذ النصف الثاني من القرن الخامس الهجري و ما بعده ، تحقق لهم ذلك على يد كبار سياسييهم ، و الشواهد على ذلك كثيرة ، أولها أثر الوزير السلجوقي نظام الملك ، فهو أول سياسي مشهور-حسب علمي- تبنى الأشعرية مذهبا ، و مكّن لها في دولته ماديا و معنويا ، و بنى لأتباعها المدارس ،و أغدق عليهم الأموال ،و وفر لهم الحماية على ما سبق أن بيناه .
و ثانيها هو إن الموحدين بالمغرب الإسلامي اتخذوا الأشعرية مذهبا رسميا لدولتهم ، فقد فرضوها على الرعية بالقوة منذ انتصارهم على المرابطين سنة 541ه، فاختفى مذهب أهل الحديث ، و سادت الأشعرية المغرب الإسلامي ،و تجذّرت فيه[39] .
و الشاهد الثالث هو ما قام به السلطان صلاح الدين الأيوبي (ت589ه) في دعم الأشعرية ، فقد جعلها مذهبا رسميا لدولته ، و ربى عليها أولاده ، الذين ساروا على نهجه في تبنيها و اتخاذها مذهبا رسميا للدولة الأيوبية[40] .و الشاهد الثالث هو ما ذكره الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت620ه) من أن الأشاعرة في زمانه كانوا هم ولاة الأمر ،و أرباب الدولة بالشام[41] .
و الشاهد الخامس ما أشار إليه الفقيه تاج الدين السبكي (ت قرن: 8ه) من أن الأشاعرة كانوا يُهيمنون على بلاد الشام ، عندما قال إن شيخه الذهبي لم يذكر مسألة الصفات عندما ترجم للفقيه أبي الحسن الكرجي الشافعي(ت532ه) خوفا لا نسيانا ، فقال: إنه خشي صولة الشافعية ،و سيف السنة المحمدية[42] . فقوله هذا فيه اعتراف صريح بهيمنة الشافعية الأشاعرة على البلاد ، و استخدامهم للسيف مع معارضيهم في المعتقدات ، و استمرار هيمنتهم السياسية عل الشام من زمن الموفق بن قدامة إلى زمن التاج السبكي .
و آخرها –أي الشاهد السادس- ما رواه المؤرخ المقريزي(ت885ه) من إن الأشعرية في زمانه ( ق: 9ه) كانت عقيدة جماهير الأمصار الإسلامية ، من جهر بخلافها أُريق دمه[43] . فلو لم تكن الأشعرية تتمتع بدعم السلطان و قوته ، ما كان في مقدورها قتل من يُجاهر بخلافها ، و لا حققت ذلك الانتشار الواسع في الأقطار الإسلامية ، مما يُؤكد إن العامل السياسي هو العامل الأساسي الحاسم في انتشارها-أي الأشعرية- بالمشرق الإسلامي و مغربه .
و ختاما لهذا الفصل –أي الثالث- يتبين لنا إن الأزمة العقيدية- التي عصفت بالمذهب السني خلال القرنين:5-6- تجلت مظاهرها في المجالين العلمي و السياسي بشكل كبير جدا ، ففي المجال الأول أثارت قضايا عقائدية كثيرة ، مرتبطة كلها بمسألة صفات الله تعالى ، تجاذبها الأشاعرة و أهل الحديث نفيا و إثباتا ، فكانت سببا في اشتداد وطأة الأزمة على بعض علماء أهل السنة ، تعرّضوا خلالها لمحن و أزمات فكرية و نفسية حادة .
و في المجال السياسي كان تأثيرها –أي الأزمة- فيه كبيرا و خطيرا ، أدى إلى تمذهب السياسيين و تعصبهم لمذهب دون آخر، و تحوّلهم إلى طرف فاعل فيها –أي الأزمة- و مؤثر في سيرها ، مما أدى إلى تكريسها ،و تعميقها ،و تحقيق الأشعرية للنصر الكاسح على حساب أهل الحديث .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] انظر مثلا : عبد القادر النعيمي: الدارس في تاريخ المدارس .
[2] ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ص: 203، 253 .و ابن كثير: البداية ، ج 12 ص: 296، ج 13 ص: 23، 61 . و محمد كرد علي: خطط الشام ، دمشق ، مطبعة الترقي، 1926 ، ج6 ص: 115 .
[3] الذهبي: السيّر ، ج 19 ص: 94 و ما بعدها، ج20 ص: 450 . و ابن كثير : المصدر السابق ، ج12 ص: 185 .
[4] انظرمثلا: أسعد طلس : التربية و التعليم في الإسلام، ط1 ، بيروت ، دار العلم للملايين، 1957، ص: 32 . و عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية في مصر ، ط 8 ، دار الفكر العربي، 1968، د م ن ، ص: 82 .
[5] اليافعي المكي: مرآة الجنان ، ج 4 ص: 24 .
[6] ابن رجب: الذيلأ ج 1ص: 121 .
[7] ابن الجوزي: المصدر السابق، ج 8 ص: 305 . و ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة ، ج 2 ص: 239 .و ابن رجب: الذيل ، ج 1ص: 25 .
[8] الذهبي: السيّر ، ج 20 ص: 140 .
[9] عبد اللطيف حمزة: الحركة الفكرية ، ص: 82 .
[10] أبو شامة : ذيل الروضتين ، ج2 ص: 47 . و ابن كثير: البداية، ج 13 ص: 21 . و الذهبي: السير، ج 21 ص: 455 ، 459 ، 463، 464 .
[11] السيّر ، ج 21 ص: 464 .
[12] ابن أبي يعلى: طبقات الحنابلة، ج 2 ص: 118 .
[13] نفسه ، ج 2 ص: 198 . و ابن كثير: البداية ، ج 12 ص : 96 .
[14] الذهبي: السير ، ج 19 ص: 94، 96 . و السبكي: الطبقات ، ج 7 ص: 296، 297 .
[15] الذهبي: العبر، ج 4 ص: 60 . و السلاوي: الاستقصاء، ج 1 ص: 74- 75 .
[16] الذهبي: السير، ج 22 ص: 534 . و أبو شامة : كتاب الروضتين ، ج1 ص: 37 .
[17] ابن خلدون : المقدمة ، ص: 290 . و السلاوي: الاستقصاء، ج1 ص: 83، 196 .
[18] أبو شامة: الروضتين ، ج4 ص: 382. و المقريزي: الخطط ، ج2 ص: 343، 358 .
[19] ابن أبي يعلى: الطبقات ، ج 2 ص: 197، 239 . و ابن مفلح : الفروع ، ج2 ص: 14 .
[20] العليمي: المنهج الأحمد ، ج 2 ص: 289 .
[21] ابن الجوزي: المنتظم، ج 9 ص: 93 . و الذهبي: السيّر ، ج 19 ص: 94 . السبكي: الطبقات، ج3ص: 393 . و ابن مفلح : الفروع، ج 2 ص: 14 .
[22] ابن الأثير: الكامل في التاريخ ، ج 9 ص: 10 . و ابن تغري بلدي: النجوم الزاهرة، ج 7 ص : 133، 134 .و المقريزي: الحطط ، ج2 ص: 343 ، 358.
[23] انظر مثلا: الذهبي: العبر، ج 4 ص: 60 . و السلاوي، الاستقصاء، ج 1 ص: 74، 75 .
[24] ابن خلدون: المقدمة، ص: 290 . و اللاوي، نفس المصدر، ج 1 ص: 83، 196 .
[25] الذهبي: السير، ج 19 ص: 425 . و ابن خلّكان : وفيات الأعيان ، ج 3 ص: 208 .
[26] ابن الجوزي: المنتظم، ج 3 ص: 3، 4 ، 220 .و ابن النجار: ذيل تاريخ بغداد، ج 2 ص: 185 .
[27] نفسه ، ج9 ص: 3، 4 . و نفسه، ج 2 ص: 185 .
[28] ابن كثير: البداية ، ج 13 ص: 21 .
[29] الذهبي: السيّر ، ج 21ص : 458-459 . و ابن كثير: البداية ، ج 13 ص: 39 . و ابن عبد الهادي: طبفات علماء الحدبث، ج 4 ص: 154 .
[30] الذهبي: السيّر ، ج 29 ص: 292 . و ابن كثير: البداية ، ج 13 ص: 18 .
[31] سبق توثيق ذلك مرارا .
[32] انظر: الذهبي: السيّر، ج21 ص: 205 . و ابن تغري بلدي: النجوم الزاهرة ، ج 6 ص: 116 .
[33] ابن تغري بلدي: نفسه ، ج 6 ص: 116 .
[34] ابن الجوزي: المنتظم، ج 8 ص: 312-313 . و ابن كثير: ج 12 ص: 117 . و ابن رجب: الذيل، ج 1 ص: 27 .
[35] السبكي: الطبقات ، ج 6 ص: 172 ,
[36] ابن الجوزي: المصدر السابق، ج 10 ص: 219 .
[37] ابن مفلح الجنبلي: المنهج الأحمد ، ج3 ص: 57 .
[38] السبكي: المصدر السابق ، ج 7 ص: 351 .
[39] ابن خلدون: المقدمة ، ص: 290 . و الناصري: الاستقصاء ج 1 ص: 83، 196 .
[40] المقريزي: الخطط ، ج2 ص: 343، 358، 359 .
[41] ابن قدامة المقدسي: مناظرة في القرآن ، ص: 58 .
[42] السبكي: الطبقات، ج 6 ص: 142 .
[43] المقريزي: المصدر السابق، ج 2 ص: 343 .
المصدر: الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص 132-148
Wednesday, September 22, 2010
أشعري يلعن من يقول إن الله قال : قل هو الله أحد !!! وآخر يعاقبه الله ب
بسم الله
و القضية الثالثة : قضية كلام الله تعالى ، و هي مرتبطة بمسألة الأفعال الاختيارية ، فإذا كان الله تعالى لا يتصف بها ، فهذا يعني إن القرآن ليس كلامه حقيقة ، و إذا كان يتصف بها ، فالقرآن كلامه حقيقة ، و قد أثارت هذه القضية جدلا كبيرا بين أهل الحديث و الأشاعرة ، فقد كان السلف الأول يقولون إن القرآن كلام الله غير مخلوق ، منه بدأ و إليه يعود ، ثم لما ظهر ابن كلاب استحدث قولا ثالثا بين أهل السنة و المعتزلة ، فزعم إن القرآن ليس كلام الله حقيقة ، و إنما هو حكاية عنه ، ثم انتشرت مقالته بين طائفة من المتكلمين ، إلى إن تبناها أبو الحسن الأشعري و أصحابه الأوائل ، و زعموا إن كلام الله هو معنى قائم بالنفس ، إن عُبر عنه بالعربية كان قرآنا ،و إن عُبر عنه بالعبرية كان توراة ،و إن عُبر عنه بالسريانية كان إنجيلا [1] .
و قال القاضي أبو بكر بن الباقلاني الأشعري(ت403 ه) ، إن كلام الله هو (( الكلام القديم القائم بالنفس شيء واحد لا يختلف و لا يتغير )) ،و هو ليس بصوت و لا حرف ، وقد جعل الله على كلامه النفسي علامات تدل عليه ،و كل رسول يُفهم قومه كلام الله بلغته فموسى عليه السلام فهّم قومه بالعبرية ،و محمد –صلى الله عليه وسلم- فهّم قومه بالعربية[2] .
وبما أن كلام الله عند الباقلاني قائم بنفسه لا يختلف و لا يتغير ، يستلزم أن يكون كلامه المنزل على رسله ليس هو كلامه حقيقة ؛ لأن كلامه قائم به ، وإنما هو علامات و عبارات عنه ،، و بما إنه لا يتغير فكل الكتب المنزلة فيها كلام واحد بلغات مختلفة ، فقوله تعالى: (( تبت يدا أبي لهب و تب )) - سورة المسد/ 1- و (( فلما قضى زيد منها وطرا زوجناكها )) - سورة الأحزاب/37 – فهو كلام واحد ، و هو نفسه موجود في الكتب السابقة . و هذا من الكلام الباطل ، و من الغرائب المضحكات .
و نفس الكلام قرره أبو حامد الغزالي ، فقال إن كلام الله أزلي قديم ، قائم بذاته تعالى ، و إن القرآن مقروء بالألسنة مكتوب في المصاحف، محفوظ في القلوب ، و هو مع ذلك قديم (( قائم بذات الله تعالى ، لا يقبل الانفصال و الافتراق بالانتقال إلى القلوب و الأوراق )) [3] . و قوله هذا فيه تناقض و لا يستقيم تصوّره في العقل ، فإذا كان القرآن قائم بالنفس لا يقبل الانفصال و الافتراق بالانتقال إلى القلوب و الأوراق ، فلا يصح أن يُقال إنه مكتوب في المصاحف ،و محفوظ في الصدور !! فهذا الكلام مجرد لعب بالألفاظ ، و تمويه و تدليس على الناس .
و قال المتكلم الأشعري أبو المظفرالإسفراييني (ت 471ه ) إن كلام الله قديم واحد ، أمر و نهي ، و خبر و استخبار على معنى التقدير ، و إن كل الكتب المنزلة على اختلاف لغاتها كلها عبارات عن كلام الله القديم ، تدل على معنى كتاب الله [4] . و كلامه هذا هو ترديد لما قاله الباقلاني و الغزالي.
وأما المتكلم أبو الفتح الشهرستاني الأشعري (ت548 ه) فكرر ما ذكره الباقلاني دون تفصيل ، و أكد إن كلامه تعالى عند الأشاعرة هو معنى قائم بالنفس ، و العبارات و الألفاظ المنزلة على لسان الملائكة هي دلالات على الكلام الأزلي ، و هي مخلوقة محدثة و المدلول قديم أزلي [5] .و هذا يعني إن سور القرآن و حروفه و آياته دلالات محدثة ،و ليست كلام الله على الحقيقة ، لأن كلامه أزلي قائم به ، لكنه لم يقل لنا من الذي تكلم بالألفاظ و العبارات التي هي دلالات على المدلول الأزلي ؟ ، و لم يقل لنا كذلك من أين جاء بذلك التقسيم لكلام الله هل له دليل من الكتاب و السنة الصحيحة ، أم هي تخمينات ورجم بالغيب ؟
و ذهب الشيخ العز بن عبد السلام الشافعي الأشعري (ت660 ه) إلى القول بأن كلام الله قديم أزلي قائم بذاته لا يشبه كلام البشر ،،و هو ليس بحرف و لا صوت . ومع ذلك فإن كلامه تعالى مكتوب في المصاحف و محفوظ في الصدور ، و مقروء بالألسنة [6] . و كلامه هذا فيه تناقض و مغالطة ، ولا يختلف في حقيقته عما قاله الباقلاني و الغزالي و الشهرستاني ، فبما إن كلامه تعالى قديم أزلي قائم بذاته ، وليس بحرف و لا صوت ، فهو إذاً لا يصدر عنه ، ولا يكتب بالحروف ،،و هذا يستلزم إن القرآن الكريم بحروفه و سوره و آياته ليس من كلام الله ، لأنه تعالى-حسب العز بن عبد السلام- لا يتكلم بحرف و لا صوت ، ثم نجده يقول إن كلامه تعالى مكتوب في المصاحف و محفوظ في الصدور ، و مقروء بالألسنة ؛ فكيف يكون القرآن كلامه ، و حروفه ليست كلامه ، لأنه لا يتكلم بحرف و لا صوت ؟ ! . و يلاحظ عليه كذلك إنه لا يفرق بين الكلام كصفة أزلية ، وبين تعلقها بمشيئته تعالى في التكلم ، وفق ما شاء ، و بما شاء ،و كيفما شاء .
وأما تاج الدين السبكي الشافعي الأشعري (ت771 ه) فكرر ما قاله سابقوه مع التلاعب بالألفاظ ، فقرر إن كلام الله قديم غير مخلوق ،و لا يزال قائما و لا يجوز أن ينفصل عن ذاته . ثم قال إن القرآن مكتوب على المصاحف حقيقة [7] .و ليس أمام السبكي فيما قاله إلا حلاّن ، إما أن يكون القرآن بحروفه و معانيه هو كلام الله ، وهذا يستلزم إنه انفصل عنه ، منه بدأ و إليه يعود ، وهذا قد أنكره السبكي .و إما أن يكون كلامه تعالى قائما بذاته لا ينفصل عنه ، وهذا يستلزم أن المكتوب في المصاحف ليس هو كلامه على الحقيقة ، لأن كلامه-عند السبكي- واحد لا يتجزأ ، وإنما هو حكاية و عبارة عنه تعالى ، وهذا هو الذي تقوله الأشعرية ، و أراده السبكي و لم يصرح به .
و مع إن الغالبية العظمى من الأشاعرة قالوا بذلك في موقفهم من كلام الله ، فإن أحد أعيانهم خالفهم و قال بمذهب أهل الحديث ، و هو الفقيه عبد الله بن يوسف الجويني(ت 438ه)- والد إمام الحرمين- فذكر إن شيوخه الأشاعرة لم يفهموا من كلام الله ، إلا ما فهموه من كلام المخلوقين ، فقالوا إن القول بالحرف يعني القول بالجوارح و اللهوات ،و القول بالصوت يعني القول بالحلق و الحنجرة ، ثم قال إن كلام هؤلاء هو تخبيط وقعوا فيه ، كما وقعوا في مسألة الصفات ، و ذلك إنهم فهموا من كلام الله ما فهموا من كلام البشر ؛ ثم قرر إن الله تعالى تكلم بحرف و صوت ، بما يليق به ،و لا يحتاج إلى جوارح و آلات ، لأنه قادر ، و القادر لا يحتاج إلى ذلك ، و بهذا ينشرح الصدر،و يستريح الإنسان، من تعسّف و تكلّف الأشاعرة ، في قولهم إن القرآن هو عبارة عن كلام الله ، ثم قرر إن القارئ للقرآن الكريم يقرأ كلام الله حقيقة ، لأن الكلام يُنسب لمن قاله مبتدئا ، لا لمن قاله مؤديا مبلّغا [8] .
و كلامه هذا منطقي صحيح ، جمع بين النقل و العقل ، فالله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و صفاته ، ولا يصح قياسه بمخلوقاته ، و كلامه تعالى يليق به، و لا يُوجد تلازم بين الكلام و الحنجرة و اللهوات ، فالله سبحانه أخبرنا إنه يوم القيامة يجعل أرجل أعدائه و أيديهم تنطق لتشهد عليهم ، و ليس لها حناجر و لا لهوات ، و نحن في عصرنا الحالي لدينا أجهزة تتكلم بلا حناجر و لا لهوات و لا أحبال صوتية .
و قد كانت لمقالة الأشاعرة في القرآن آثار سيئة في تعامل بعضهم مع القرآن الكريم ،
فمن ذلك أولا إنه في سنة 555ه جلس الواعظ أبو جعفر بن المشاط الأشعري بجامع ببغداد ، فكان يُسأل : هل (( ألم ذلك الكتاب ))-سورة البقرة--/1- كلام الله ؟ ، فيقول : لا ، و يقول في القصص القرآني : هذا كلام موسى ، و هذا كلام النملة ، و عندما قيل له : (( التين و الزيتون )) قال : التين في الريحانيين ،و الزيتون يُباع في الأسواق ، فأفسد بذلك عقائد الناس[9] .
و ثانيا إنه في سنة 521ه لما طُرد الواعظ أبو الفتوح الاسفراييني الأشعري من بغداد ، وُجد عند رجل من أصحابه كراريس فيها ما يتضمن الاستخفاف بالقرآن الكريم ، فطيف به في البلد و نُودي عليه ،و همّت العامة بإحراقه[10] .
و ثالثا إنه وُجد من الأشاعرة من كان يمتهن القرآن الكريم ،و يقول إنه مجرد ورق و مداد ، و صار يدوسه برجله ،و يكتب أسماء الله الحسنى بالنجاسة اسقاطا لحرمة ما كتب في المصحف ،و كان بعضهم يطأ المصحف برجله ،و عندما قيل له : (( ويحك هكذا يُصنع بالمصحف ،و فيه كلام الله تعالى ! ، قال : ما فيه إلا السخام و السواد ،و أما كلام الله فلا )) ،و قال آخر : (( على من يقول إن الله قال : (( قل هو الله أحد الله الصمد )) ، ألف لعنة ))[11] . و قد ذكر شيخ الإسلام تقي الدين بن تيمية إن المسلمين أجمعوا على أن من يفعل ذلك بالمصحف إهانة له ، فهو كافر حلال الدم[12] .
و أما أهل الحديث فهم لما ظهرت مقالة الكلابية و الأشعرية في القرآن الكريم ، أنكروها و قاوموها بشدة ، و أظهروا مذهبهم في مسألة كلام الله تعالى ، منذ القرن الثالث و ما بعده[13] . فمن ذلك إن الفقيه أبا جعفر الطحاوي الحنفي(ت321ه) قال : (( القرآن كلام الله منه بدأ بلا كيفبة قولا، و أنزله على رسوله وحيا ،و صدقه المؤمنون على ذلك حقا ، و أيقنوا إنه كلام الله بالحقيقة ، ليس بمخلوق ككلام البرية))[14] .و كلامه هذا يتضمن الرد على الكلابية و الأشعرية ، لأنه قرر فيه إن القرآن كلام الله علىالحقيقة ، مما يعني إنه ليس حكاية و لا عبارة عنه .
و الثاني هو الفقيه أبو حامد الإسفراييني الشافعي(ت406ه) أعلن صراحة إن مذهبه في القرآن الكريم ، يخالف مذهب الأشعرية ، و إنه على مذهب الشافعي و فقهاء الأمصار ، و هو إن القرآن كلام الله حقيقة ، حمله جبريل مسموعا من الله تعالى إلى رسوله ، -صلى الله عليه وسلم- و منه سمعه الصحابة ، و هو الذي نتلوه بألسنتنا الموجود بين الدفتين ، مسموعا و مكتوبا و محفوظا و منقوشا ، و كل حرف منه كالباء و التاء هو كلام الله غير مخلوق[15] . و كلامه هذا فيه رد مفصّل لمقالة الأشعرية في القرآن الكريم.
و الثالث هو الحافظ اللالكائي الشافعي (ت418ه) رد على مقالة الأشاعرة في كلام الله حين قال : إن القرآن تكلّم الله به على الحقيقة ،و هو متلو في المحاريب،و مكتوب في المصاحف ،و محفوظ في الصدور، ليس بحكاية و لا عبارة عن قرآن[16] .
و الرابع الحافظ أبو نصر السجزي الحنفي(ت444ه) ناقش الأشاعرة في كثير من أفكارهم في رسالة كتبها إلى أهل زبيد باليمن ، منها قضية كلام الله تعالى ، فقال إن الأشاعرة مخالفون للعقل ، و إن أقوالهم متناقضة في مسألة كلام الله ، فالأشعري يقول إن كلام الله شيء واحد لا يتبعّض ، ثم هو يقول من جهة أخرى أن الله تعالى أفهم موسى-عليه السلام- كلامه ، و هذه الحالة لا تخلو من أمرين ، الأول إنه تعالى أفهمه كلامه كله ، فصار موسى-عليه السلام- فاهما عالما بكلام الله ، من الأزل إلى الأبد ، مشاركا له في علم الغيب ، و هذا كفر صريح بالاتفاق ، و يخالفه قوله تعالى : (( تعلم ما في نفسي ،و لا أعلم ما في نفسك ))-سورة المائدة/116- .
و الأمر الثاني هو إن الله تعالى أفهمه ما شاء من كلامه ، و هذا يعني التبعيض الذي ينكره الأشاعرة ، و يُكفّرون من يقول به من أهل الحديث. ثم انتقدهم أيضا بأنهم يقولون إن كلام الله لا يجوز أن يُوجد في غيره ، و ينزل إلى محل، و ليس لغة و لا حرفا ، و لا يصل إليه الخلق ، ثم إنهم يقولون من جهة أخرى إنه –أي كلام الله- يُتلى و يُقرأ ، و هذا ممتنع عقلا . و يقولون أيضا ، إن كلام الله مكتوب في المصاحف على الحقيقة لكنه ليس بحرف ،و هذا ممتنع عقلا ، لأن العقل يقتضي إن المكتوب يجب أن يكون حروفا[17] .
و خامسهم الحافظ عبد الله الأنصاري الهروي الصوفي الحنبلي ، قال إن حقيقة قول الأشاعرة في القرآن الكريم هو إنه غير موجود أصلا ، ثم نجدهم مع ذلك يقولون إنه –أي القرآن- غير مخلوق ،و من قال مخلوق فهو كافر، و هذا من فخاخهم يصطادون بها قلوب عوام الناس[18] .
و سادسهم أبو الوفاء بن عقيل البغدادي الحنبلي(ت513ه) ردّ على الأشاعرة في موقفهم من كلام الله تعالى ، و قال إنه ينتهي بالضرورة إلى القول بخلق القرآن ،و هو نفس مقالة المعتزلة ؛ و أما دعواهم موافقتهم لأحمد بن حنبل في مسألة كلام الله ، فهي دعوى باطلة ، لأنه –أي أحمد – قال أن الله تكلّم بصوت ،و لا ينكر هذا إلا الجهمية ، و هم-أي الأشاعرة- أنكروا تكلّم الله بالحرف و الصوت[19] .
و سادسهم الحافظ المؤرخ عبد الرحمن بن الجوزي(ت597ه) انتقد أبا الحسن الأشعري ،و قال إنه جاء بمقالة خبّطت عقائد الناس ، فادعى إن كلام الله هو صفة قائمة بذاته تعالى ، ما نزل و ما هو مما يُسمع ، فأوجبت دعواه إن ما عندنا مخلوق . وذكر أيضا إن جماعة من وعاظ الأشاعرة ببغداد كانوا يقولون ليس لله في الأرض كلام ، و ليس في المصحف إلا الورق .و يقولون أيضا : أين الحروفية الذين يزعمون إن القرآن حرف و صوت ، و إنما هو عبارة جبريل ، فأدى ذلك إلى أن هان تعظيم القرآن في صدور أكثر العوام ،و صار أحدهم يقول : القرآن شيء يجيء به جبريل في كيس[20] .
و آخرهم –أي السابع- الفقيه الموفق بن قدامة المقدسي (ت 620ه) انتقد الأشاعرة انتقادا لاذعا ، في موقفهم من كلام الله ، و نسبهم إلى التناقض حين قالوا أن موسى –عليه السلام- سمع كلام الله من الله ، ثم قالوا إن كلامه ليس بصوت .و قالوا أيضا : القرآن مكتوب في المصاحف ، لكن ليس فيها-أي المصاحف- إلا الحبر و الورق . ثم قال إن مقالتهم في القرآن هي خزي و مكابرة ، و تُوجب أن يكون الأمر هو النهي، و الإثبات هو النفي، و قصة نوح هي قصة هود و لوط ، و أحد الضدين هو الآخر، و هذا قول من لا يستحي ،و يُشبه قول السفسطائية . و قال أيضا إن مقالتهم في القرآن لا دليل لهم عليها من النقل و لا من العقل و لا من الإجماع ، و ينبغي عليهم أن يقولوا: قال محمد ،و أو قال جبريل، و لا يقولون : قال الله تعالى ، و قولهم هذا ينتهي إلى موافقة المعتزلة في قولهم بخلق القرآن ، لكنهم يخفون ذلك عن الناس لكي لا يعلمون بهم ، فارتكبوا (( مكابرة العيان ،و جحد الحقائق ،و مخالفة الإجماع ، و نبذ الكتاب و السنة وراء ظهورهم ، و القول بشيء لم يقل به قبلهم مسلم و لا كافر))[21] .
و للمحقق ابن قيم الجوزية رأي في القضية مفاده ، إنه من البلية العظمى نسبة مقالة الأشعرية في كلام الله إلى رسول الله –عليه الصلاة و السلام- و إن جمهور العقلاء يقولون إن تصوّرها –أي مقالة الأشعرية- كاف للجزم ببطلانها ، و هي لا تُتصوّر إلا كما تُتصوّر المستحيلات الممتنعات ، و هي مبنية على مسألة إنكار قيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى ، التي يسمونها حلول الحوادث، و حقيقتها إنكار أفعاله و ربوبيته ،و إرادته و مشيئته [22] .
و تعليقا على ما ذكرناه أقول: أولا تبيّن إن مسألة كلام الله تعالى ، هي امتداد لقضية الأفعال الاختيارية المتعلّقة بذاته تعالى ، و قد أثارت جدالا واسعا و حادا بين طائفتي أهل الحديث و الأشاعرة المتنازعين ، جراء الأزمة العقيدية التي عصفت بهما خلال القرنين الخامس و السادس الهجريين ، و واضح أيضا إن الأشاعرة لا يمكنهم أن يقولوا إن القرآن كلام الله حقيقة ، ما داموا ينُكرون تكلم الله تعالى أصلا ، فهو بما أنه لا يتكلم-حسب زعمهم- فبالضرورة إن القرآن ليس كلامه ، بل و لا يُوجد لله كلام أصلا ، و من ثم لا توجد كبير فائدة في مناقشتهم في مسألة : هل القرآن كلام الله ؟ ، لأتهم ينفون أصلا قيام الأفعال الاختيارية به تعالى ،و منها صفة الكلام .
و ثانيا إن الشرع الحكيم قد حسم مسألة كلام الله حسما نهائيا ، المفروض على كل مسلم الالتزام به ، لكن طائفة من أهل السنة لم تقتنع بذلك –بتأثير من المعتزلة -،و خاضت فيها بظنونها و خيالاتها و أوهامها . فالقرآن الكريم ذكر صراحة إن الله تكلّم و يتكلم ، و إن القرآن هو كلامه مدوّن في المصحف و محفوظ في الصدور،و ليس فيه أية إشارة إلى إنه حكاية أو عبارة عن كلام الله ، فلو كان كذلك لبينه ، قال الله سبحانه تعالى: (( حتى يسمع كلام الله))-سورة التوبة/6- و (( و قد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يُحرّفونه ))-سورة البقرة/75- و ((يريدون أن يبدلوا كلام الله ))-سورة الفتح/15- و ( و ما كان لبشر أن يُكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب أو يُرسل رسولا فيوُحي بإذنه ما يشاء ، إنه علي حكيم ) –سورة الشورى/51 - و ( هو الذي نزّل عليك الكتاب بالحق))-سورة آل عمران /3- و (( تنزيل الكتاب من الله العزيز الحكيم))-سورة الزمر /1- و (( تنزيل الكتاب لا ريب فيه من رب العالمين))-سورة السجدة/2- و (( بل هو آيات بينات في صدور الذين أُتوا العلم ))-سورة العنكبوت/49 .
و في السنة النبوية إن الرسول-عليه الصلاة و السلام- سمى القرآن صراحة بأنه كلام الله في قوله : ((و أحسن الكلام كلام الله ))[23] . و عندما قرأ أبو بكر الصديق –رضي الله عنه- سورة البقرة ، على قريش ، و قالت له : هل هذا كلامك أم كلام صاحبك ؟ ، قال : ليس كلامي،و لا كلام صاحبي ، و لكنه كلام الله ))[24] .
و ثالثا إن قول الكلابية و الأشعرية يستلزم إنكار القرآن جملة و تفصيلا ، و ذلك إنه إذا كان الله لا يتكلم و لا يقدر على الكلام ، و كلامه لا يتعدد و لا ينفصل عنه ، فهذا يستلزم بالضرورة إن الذي بين أيدينا ليس كلام الله ، و هذا يخالف أمرا معروفا من الدين بالضرورة إن القرآن الذي في المصحف هو كلام الله حقيقة معنى و لفظا . لكن المؤسف حقا إن طائفة من أهل السنة أنكرت ذلك و زعمت إن الله تعالى لا يتكلّم ، فكانت سببا في ظهور الأزمة العقيدية التي عصفت بأهل السنة منذ القرن الرابع الهجري و ما بعده ،و ما تزال قائمة إلى يومنا هذا !! .
و رابعا إن قول الأشاعرة في كلام الله و ما ترتب عنه ، من حكاية الكلام النفسي و إنكار الحرف و الصوت ، هو رجم بالغيب ،و قول على الله بلا علم ، ليس لهم فيه سند من نقل و لا عقل ، إلا اتباع الظن ،و ما يلزمهم به مذهبهم من إلزامات .
و القضية العقيدية الرابعة-التي أثارتها الأزمة- هي قضية الحرف و الصوت ، التي هي امتداد لمسألتي الأفعال الاختيارية، و كلام الله تعالى ، و هي أيضا أدخلت أهل السنة في نزاع عقدي حاد ، فقال أهل الحديث إن الله تعالى تكلّم بحرف و صوت ، و أنكر الأشاعرة ذلك ، بحكم إن الله عندهم لا يتكلّم و القرآن ليس كلامه حقيقة .
فمن أقوال الأشاعرة و مواقفهم من تلك المسألة ، ما قاله القاضي أبو بكر الباقلاني (ت403ه) ، فإنه نفى تكلّم الله بحرف عندما قرر إن الحروف و الأصوات في تلاوة القرآن هي من صفات القارئ ،و ليست من كلام الله ،و قال إنه لا يحوز لقارئ القرآن أن يقول إني أتكلّم بكلام الله[25] .
و قوله هذا مجمل ،و فيه تمويه و تلاعب بالألفاظ ، و ذلك إن الذي لا شك فيه هو إن الحروف المنطوقة ،و المكتوب بها المصحف الشريف، هي قطعا من كلام الله تعالى ،و ليست من كلام القارئ ، لأنها منفصلة عنه تماما ، و هي موجودة في المصحف قبل القراءة و في أثنائها و بعدها ، . كما إنه يجب أن نفرّق بين الكلام المتلو-أي المقروء- الذي هو كلام الله تعالى ،و بين التلاوة التي هي قراءة القارئ و صوته ، فهي من القارئ بلا شك ، و هذا أمر مُشاهد يُدركه كل إنسان بداهة . و أما قوله إنه لا يجوز للقارئ أن يقول إنه يتكلم بكلام الله ، فهو خطأ فاحش ، أوقعه فيه نفيه لقيام الأفعال الاختيارية بذات الله تعالى ، و قد سبق التطرق لذلك ؛ و إذا لم يقل المسلم إن القرآن كلام الله ، فماذا يقول يا ترى؟ ! فهل يقول إنه كلام الملائكة ، أم كلام الجن ، أم كلام البشر ؟ ؟ !!
ثم زعم الباقلاني إن الدليل الشرعي على ما قاله ، هو حديث مفاده أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- كان إذا قام للصلاة ليلا مرة يُخفض القراءة،و مرة يرفعها ،و في حديث آخر إن قراءته كانت مفسّرة حرفا حرفا ، و موضع الدليل هنا هو إن القراءة أُضيفت للرسول بالرفع و الخفض[26] .
و استدلاله هذا غير صحيح أيضا ،و فيه تلبيس واضح ، لأن الحديثين بخصان طريقة القراءة و التلاوة ، و لا يخصان المحتوى –أي المقروء المتلو- و لا شك إن القراءة-التلاوة- هي صوت العبد ، و أما المقروء المتكوّن من الحروف و المعاني ، فهو كلام الله تعالى منفصل عن الإنسان تماما ، حروفا و معاني و أحكاما . و يُلاحظ عليه –أي الباقلاني- إنه نسي أو تناسى النصوص الشرعية الكثيرة – سبق ذكر بعضها- التي نصت صراحة على إن القرآن كلام الله تعالى ، و ذهب إلى نصوص أخرى لوى أعناقها ، و أوّلها كما يريد خدمة لمذهبه .
ثم إنه قال-أي الباقلاني- إن الدليل العقلي على ما ذهب إليه ، هو إن القراءة أحيانا تكون جيدة ،و أحيانا أخرى سيئة يلحقها اللحن و الخطأ . و كذلك الكتابة مرة تكون جيدة ، و مرة وحشة يُذم كاتبها ، فالكتابة صفة الكاتب ،و المكتوب بها هو كلام الله- لاحظ تناقضه- [27] و الكتابة هي أيضا يلحقها المحو ، و يُتصوّر عليها الغرق و الحرق ،و كلام الله القديم لا يُتصوّر عليه شيء من ذلك[28] .
و كلامه هذا هو أيضا غير صحيح ، و فيه تدليس و تلاعب بالألفاظ ، و قول على الله بلا علم ، و ذلك لأن القراءة الجيدة و السيئة ،و الكتابة الحسنة و الوحشة ، و محوها و غرقها و حرقها ، كل ذلك لا يمس كلام الله تعالى ، و إنما يمس الأوراق و الحبر، و الخط و الكتابة ، و أما كلامه تعالى فهو منفصل عن كل ذلك تماما ، فإذا أُحرقت المصاحف ، فذلك لا يمس كلام الله مطلقا ، لأنه لا يحترق ، و محفوظ في الصدور بلا أوراق ، و قد أحرق المسلمون المصاحف منذ زمن الخليفة عثمان بن عفان-رضي الله عنه- و لم يضر ذلك القرآن شيئا ، و ما قال الصحابة و التابعون إن حرقهم للمصاحف يضر القرآن ، فهو كلام الله منه بدأ و إليه يعود .
و القول الثاني هو لأبي حامد الغزالي (ت 505ه) أنكر فيه تكلّم الله بحرف و صوت ،و قال إن موسى-عليه السلام- سمع كلام الله بلا حرف و لا صوت[29] . و قوله هذا هو خوض في غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، و ليس له فيه دليل من النقل و لا من العقل ، إلا إتباع الظن ، فالله سبحانه أخبرنا إنه كلّم موسى-عليه السلام- تكليما ، و ناداه من جانب الطور ، و لم يقل لنا إنه غيّر لموسى طبيعته البشرية ليسمع منه ، و لم يقل لنا كيف أسمع لموسى كلامه ، مما يُشير إلى إن موسى –عليه السلام - سمع كلاما فيه حرف و صوت ، نحن لا نعلم كيفية ذلك ، بحكم إن الله تعالى ليس كمثله شيء و فعال لما يريد ، و أن موسى بشر لا يسمع إلا بحرف و صوت . و قبل موسى-عليه السلام- كان الله تعالى قد أخبرنا إنه كلّم الملائكة و آدم و الشيطان ، و إنه تعالى سيُكلّم عباده يوم القيامة ، فهو تعالى يُكلّم من شاء، و متى شاء ،و كيفما يشاء .
و القول الثالث للقاضي أبي بكر بن العربي (ت543ه) ذكر فيه أن الحنابلة و أهل الحديث – سماهم المشبهة- قالوا بالحرف و الصوت ، و نسب الحنابلة ذلك لإمامهم أحمد بن حنبل ، و قالوا أيضا بقدم الحرف و الصوت ، فجاءوا بما لا يُعقل ،و لا هو في حد النظر و المجادلة , ثم قال أن هؤلاء المشبّهة –أي أصحاب الحديث- اعتمدوا على ظواهر شرعية غير صحيحة ، منها حديث البخاري الذي فيه : (( يجمع الله الناس يوم القيامة في صعيد واحد ، فيناديهم بصوت ... )) ، و هذا حديث مقطوع –أي منقطع- ، و هو يحتمل أن الصوت قد لا يعود إلى الله تعالى ،و فيه : (( يُناديهم و ليس فيه يتكلم بصوت ، ثم يقول ابن العربي لهؤلاء : فَلِمَ تركتم الظاهر و جعلتم الكلام و الصوت واحد ،و هما قد وردا في موطنيين ؟ و بين الكلام و النداء ما بين السماء و الأرض ))[30] .
و قوله هذا غير صحيح ، و فيه التمويه و التهويل ،و التلاعب بالألفاظ ، فمن ذلك أولا إنه ضعّف حديث البخاري بدعوى إنه منقطع ، و قوله هذا صحيح من حيث أن البخاري رواه في صحيحه بإسناد منقطع ، لكن الحديث صحّ من طرق أخرى ،و قد رواه البخاري نفسه بإسناد متصل في كتابيه خلق أفعال العباد ،و الأدب المفرد ،و سنتوسع في تحقيق هذا الحديث لاحقا إن شاء الله تعالى.
و ثانيا إنه قال أن هنالك فرقا كبيرا بين الكلام و الصوت ،و بين الكلام و النداء ، و هذا غير صحيح تماما ، لأن الصوت هو نوع من الكلام ، بل هو كلام بصوت مرتفع ،و كل صوت يتضمن الحرف و الكلام ، .و كذلك الكلام و النداء ، فإن النداء نوع من الكلام ، بل هو كلام بصوت مرتفع ، و النداء يتضمن بالضرورة الكلام و الصوت ، فأين الفارق المزعوم بما بين السماء و الأرض ؟ ! ،و الحقيقة إن كلا من الصوت و النداء هما مظهران من مظاهر الكلام ، و القرآن الكريم أثبت الكلام و النداء في حق الله تعالى ، فأخبرنا سبحانه و تعالى إنه كلّم موسى-ع- و ناداه في قوله تعالى: (( و كلّم موسى تكليما ))-سورة النساء /164- و (( إذ ناده ربه بالواد المقدس طوى )) –سورة النازعات /16- و (( و إذ نادى ربك موسى ، أن أئت القوم الظالمين ))-سورة الشعراء /10-،و أخبرنا رسول الله –صلى الله عليه وسلم –أن الله تعالى ينادي الناس بصوت يوم القيامة ، على ما سنبينه لاحقا بحول الله تعالى.
و ثالثا بما إنه ثبت في الشرع أن الله تعالى كلّم آدم و إبراهيم و موسى-عليهم السلام- ،و إنه سيكلم عباده يوم القيامة ، فهذا لا يمنع من إنه تعالى كلّمهم بحرف و صوت بحكم أن الذين كلمهم بشر ،و لا يفهمون الكلام إلا بحرف و صوت ، فهو تعالى فعال لما يريد يتكلم بما شاء، و متى شاء، و كيفما شاء، فتكلّمه تعالى بصوت و حرف لا علاقة له بحكاية حلول الحوادث المزعومة ، فهي خاصة بالمخلوقات لا بالخالق ، فهو تعالى متصف بكل صفات الكمال الأزلية و مُنزه عن النقائص ، و لا تسمى صفاته حوادث .
و القول الرابع هو للمتكلم أبي المظفرالإسفراييني (ت 471ه) و مفاده أن كلام الله تعالى ليس بحرف و لا بصوت ، لأن ذلك يتضمن جواز التقدم و التأخر ، و هو مستحيل في حقه تعالى[31]. و كلامه هذا أقامه على منهج خطأ ، هو قياس الخالق بالمخلوق ، و بمعنى آخر تشبيه الخالق بالمخلوق ، عندما نفى الحرف و الصوت عن الله تعالى ، بدعوى أن ذلك يتضمن جواز التقدم و التأخر في كلامه تعالى ، و هذا زعم باطل من أساسه ، لأن الله تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و صفاته ، و من ثم فكلامه بحرف و صوت يختلف تماما عن حروف و أصوات المخلوقين ، و هذا أمر مُطرد في كل الصفات ، فنحن – مثلا - عندما أثبتنا صفتي العلم و السمع لله لم نقل أن العلم مرتبط بالمخ و الأعصاب و الحواس ، و أن السمع مرتبط بالأذن و مكوناتها العضوية و العصبية ،و إنما قلنا أن ذلك خاص بالإنسان الذي لا يستطيع أن يعلم و يسمع إلا بتلك الأجهزة و الأعضاء ، أما الله تعالى فله المثل الأعلى فهو الخالق الأزلي العظيم الذي له الأسماء الحسنى ،و لم يلد و لم يُولد ، و ليس كمثله شيء في ذاته و صفاته. فكذلك إثباتنا للحرف و الصوت في كلامه تعالى ، فهو يختلف كلية عن حروف و أصوات البشر، و لا يجمعها إلا في الاسم لا غير .
وذلك هو المنهج السليم الصحيح الوحيد الذي يقوم على النقل الصحيح و العقل الصريح ،و العلم الصحيح ، الذي يمكنه حل قضية صفة الكلام و باقي صفات الله تعالى الحسنى ، لأنه إذا قلنا مثلا أن الله لا يتكلم ، نكون قد شبهناه بالأبكم و الجماد . و إذا قلنا إنه يتكلم كالمخلوق نكون قد شبهناه بالمخلوقات التي تتكلم . و إذا قلنا إنه يتكلم بحرف و صوت ، نكون قد شبهناه بالإنسان ، فما هو الحل إذن ؟ ، إنه لا يوجد حل إلا فيما قررناه سابقا ، من أن نثبت لله تعالى ما أثبته لنفسه من صفات في إطار قوله تعالى (( ليس كمثله شيء و هو السميع البصير)) و (( لم يكن له كفؤا أحد )) .
و القول الخامس هو للمؤرخ الرحالة ياقوت الحموي الرومي الأشعري الشافعي(ت626ه) و مفاده إن القول بالحرف و الصوت هو بدعة ، لم يثبت عن النبي-عليه الصلاة و السلام- ،و لا عن الصحابة و التابعين ، ثم قال إن العقل يُرجح بالبديهة قول أبي الحسن الأشعري ، و لا يُرجّح ما يقوله الحنابلة[32] .
و كلامه هذا مجازفة و قول بلا علم ، لأنه أولا قد صحت روايات عن الرسول-عليه الصلاة و السلام- و السلف الصالح ، فيها القول بأن الله تعالى تكلم بالحرف و الصوت ، سنذكرها قريبا إن شاء الله تعالى .
و ثانيا إن قوله بأن العقل يُرجّح رأي الأشعري بالبديهة ، فهو قول لا يصح ، لأنه لو كان بديهيا ما اختلف فيه الناس ، لأن البديهي –كما هو معروف- لا يختلف فيه اثنان ، لظهوره و عدم احتياجه للدليل ؛ لكنه بديهيا بالنسبة للأشاعرة ، بحكم إن مذهبهم ينكر تكلّم الله ، فلا وجود إذن للحرف و الصوت أصلا .
و ثالثا إن الأقرب إلى التصديق و الصواب هو قول الحنابلة و أهل الحديث ، و ليس رأي الأشعري، لأن قولهم تشهد له النصوص الشرعية و أقوال السلف ، و يتقبّله العقل ، فهو سبحانه فعال لما يريد و على كل شيء قدير ، يتكلّم بما شاء، و كيفما شاء ، و متى شاء ، لكن قول الأشعرية بالكلام النفسي و إن القرآن حكاية و عبارة عنه ، هو البعيد عن التصديق و المُستغرب جدا ، و ليس له دليل يُسنده من النقل و لا من العقل ، حتى إن اثنين من كبار علماء الأشاعرة قالوا بالحرف و الصوت ، الأول هو الفقيه أبو محمد الجويني (ت438ه) والد إمام الحرمين ، ذكر إن شيوخه الأشاعرة لم يفهموا من كلام الله إلا ما فهموه من كلام المخلوقين ، فقالوا إن القول بالحرف يعني القول بالجوارح و اللهوات ، و إن القول بالصوت يعني القول بالحلق و الحنجرة ، و هذا تخبيط وقعوا فيه ، لكن التحقيق هو إن الله تعالى تكلّم بحرف و صوت ، كما يليق به تعالى ، و لا يحتاج إلى جوارح و حنجرة و حلق ، لأنه سبحانه قادر و القادر لا يحتاج إلى ذلك ،و بذلك ينشرح الصدر،و يستريح الإنسان من التعسف و التكلف[33] .
و الثاني هو المتكلّم عضد الدين الإيجي الشافعي( ت756ه) فإنه قال إن الله تعالى يتكلم بحرف و صوت ، و عندما قال ذلك و صرّح به ، أحدث ضجة في أوساط الأشاعرة ،و هبوا للرد عليه ، مستنكرين ما صدر عنه[34] .
و أما أهل الحديث فهم أيضا كانت لهم أقوال و مواقف من مسألة الصوت و الحرف ، أثبتوا فيها الحرف و الصوت ،و استنكروا على الأشاعرة نفيهم لهما ، فمن ذلك أولا ما قاله شيخ الشافعية أبو حامد الإسفراييني (ت 406ه) ، فإنه أعلن أمام الناس إن مذهبه في القرآن يخالف مذهب أبي بكر الباقلاني الأشعري في كلام الله ، و نص على أن مذهبه هو مذهب الشافعي و فقهاء الأمصار ، من أن القرآن كلام الله حقيقة ، و كل حرف منه كالباء و التاء ، كله كلام الله[35] .
و القول الثاني للحافظ أبي نصر السجزي (ت 444ه) توسع فيه في الرد على الأشاعرة في موقفهم من كلام الله و الحرف و الصوت ، فمن ذلك إنه قال إن إنكار الأشعري للحرف و الصوت هو سخف و تلاعب بالألفاظ ، سببه التحيّر و قلة الحياء ، لأنه أقر إن القرآن هو الذي بين أيدينا ، ثم هو من جهة أخرى يقول إن الحرف و الصوت لا مدخل لهما في كلام الله تعالى ، رغم إن القرآن شاهد بين أيدينا إنه مُكوّن من حروف . ثم ذكر السجزي إن الأشعري أظهر مخالفة المعتزلة في مسألة الكلام ، لكنه أثبت ما لا يُعقل ،و وافقهم في أصل مقالتهم في نفي الصفات و القول بخلق القرآن[36] .
و معنى كلامه إن المعتزلة نفوا الصفات ، و الأشعري أثبتها و نفى قيامها بذات الله تعالى ، فعطّلها عن فعلها و أصبح هو و المعتزلة متقاربين جدا .و هم قالوا بخلق القرآن ،و هو نفى خلقه و أنكر أن يكون القرآن كلام الله حقيقة ، و قال إنه حكاية و عبارة عنه ، و بما إنه ليس بكلام لله فهو إما كلام جبريل –عليه السلام- ،و إما كلام محمد-عليه الصلاة و السلام- و هذا يعني بالضرورة إن القرآن مخلوق ، لأن مخلوقا تكلّم به هو جبريل أو الرسول . و بذلك انتهى قول الأشعري في القرآن إلى مقالة المعتزلة في نفي الصفات و القول بخلق القرآن .
و القول الثالث هو للفقيه المتكلم أبي الوفاء بن عقيل ذكر فيه إن الأشاعرة قالوا إن كلام الله ليس بصوت و لا حرف ،و شنّعت على رسول الله –صلى الله عليه و سلم- عندما قال : (( إذا تكلم الله بالوحي سُمع صوت كجر السلسلة على صفوان )) ، فقالوا : كيف يُشبّه القديم بالمحدث ؟ ، و لم يُشنعوا عليه في حديث رؤية الله تعالى –هم يُثبتونها- في قوله : (( ترون ربكم كما ترون القمر )) ، فإن أوجب ذكر القمر تشبيها لله به، أوجب ذكر السلسلة تشبيها للكلام به ، فلم يبق إذا إلا إنه شبه الرؤية بالرؤية ،و السماع بالسماع ، و لم يُشبه المرئي و المسموع[37] .
و القول الرابع للقاضي أبي الحسين بن أبي يعلى الفراء (ت 526ه) قرر فيه إن القرآن الكريم كلام الله حقيقة ، و هو حرف و صوت مسموع من التالي للقرآن[38] .
و القول الخامس هو للفقيه الموفق بن قدامه المقدسي و مفاده إن القرآن الكريم شاهد على أن الله تكلم بحرف لأنه – أي القرآن-مكون من حروف ،وفيه 29 سورة بدأت بالحروف .و إنه سبحانه و تعالى تكلم بصوت بدليل الكتاب و السنة ،و إجماع الصحابة و التابعين [39] .فمن القرآن قوله تعالى : ((و كلّم الله موسى تكليما ))-سورة الأنبياء /164-و (( منهم من كلم الله ))-سورة البقرة/253- و ((إذ نادى ربك موسى ))-سورة الشعراء /10-، ولا خلاف إن موسى عليه السلام قد سمع كلام الله منه بغير واسطة ،ولا يُسمع إلا الصوت وهو ما يتأتى سماعه [40].وأما من السنة فقد صح عن النبي -صلى الله عليه و سلم –إنه قال : ((إن الله يجمع الخلائق فيناديهم بصوت يسمع من بعد كما يسمع من قرب :أنا الملك أنا الديان )) [41]. وعن الصحابة ما روي عن عبد الله بن مسعود –بإسناد صحيح –إنه قال : (( إذا تكلم الله بالوحي سمع صوته أهل السماء ))[42] .وعن السلف ما رواه عبد الله بن الإمام أحمد إنه كذّب الجهمية في إنكارهم تكلم الله بصوت [43].
ثم ناقش الموفق المنكرين لصفة الصوت في قولهم : إن الصوت اصطكاك في الهواء ،و ما ثبت في حقنا يكون في الغائب-أي الله- مثله[44] . فيرى إن هذا هذيان محض ،و دعوى مجردة عن الدليل ، لا يشهد لصحتها خبر ، و لا مع قائلها فيها أثر ،و هم بذلك قد نفوا ما ثبت في الكتاب و السنة ،و جعلوا الخالق مقيسا على عباده ،و مشابها لهم في صفاته و أسمائه ،و هذا هو التشبيه بعينه . ثم بين لهم إنهم متناقضون في الصفات التي أثبتوها في مذهبهم ، كالسمع و البصر ،و الحياة و العلم ، فهي لا تكون في حقنا إلا من أدوات ، فالسمع من انخراق ، و البصر من حدقة ،و العلم من قلب ،و الحياة في جسم ، و جميع الصفات لا تكون إلا في جسم ، فإن قلتم إنها كذلك في حق البارئ ، فقد جسمتم و شبهتم و كفرتم ، و إن قلتم إن تلك الصفات لا تفتقر إلى الأدوات ،قيل لكم وصفة الصوت هي أيضا لا تحتاج إلى أداة و لا إلى اصطكاك في الهواء[45] .
و يرى الشيخ تقي الدين بن تيمية إن من أنكر وجود القرآن في المصحف ،و قال إنه عبارة عن ورق و مداد ،و إنه حكاية عن كلام الله ، فهو ضال مبتدع .و من قال إن الله تعالى لا يتكلم بحرف و صوت ، فهو مبتدع منكر للسنة ، ثم قرر إن القرآن الكريم بحروفه و معانيه و جميعه هو كلام الله . و أشار أيضا إلى أن من قال أن ألفاظ العباد و أصواتهم بالقرآن قديمة ، فهو ضال مبتدع ،و من قال إن مداد القرآن قديم ، فهو ضال جاهل[46] .
و تعليقا على ما ذكرناه أقول: أولا إن حديث الصوت الذي ضعّفه ابن العربي و محمد زاهد الكوثري ،و قالا إن البخاري رواه بإسناد معلّق-مقطوع-[47] ، نصه هو (( يحشر الله العباد فيناديهم بصوت ، يسمعه من بَعُد كما يسمعه من قَرُب : أنا الملك أنا الديان ))[48] ، لكنهما نسيا أو تناسيا إن البخاري وصل الحديث في كتابيه خلق أفعال العباد ،و الأدب المفرد بإسناد صحيح[49] . و قد حسّنه –أي الحديث- طائفة من الحفاظ ، منهم : الحاكم ،و البيهقي، و المنذري، و الذهبي، و الهيثمي، و الألباني[50] .
و ثانيا إن بعض كبار علماء السلف قالوا بتكلم الله تعالى بحرف و صوت ، منهم : الصحابي عبد الله بن مسعود ،و أحمد بن حنبل ، و محمد بن القاسم صاحب مالك بن أنس ، و البخاري صاحب الصحيح[51] . و في مقابل ذلك لم أعثر على أي أحد من كبار علماء السلف أنكر تكلّم الله بحرف و صوت .
و ثالثا إننا إذا نظرنا إلى مسألة الحرف و الصوت بموضوعية دون خلفيات مذهبية متعصبة ، فإننا نجد إن الشرع قد نصّ صراحة على تكلّم الله تعالى بحرف و صوت ، بطريقة لا نعلم كيفيتها ،لأنه تعالى ليس كمثله شيء في ذاته و صفاته ، و القرآن الكريم الذي هو كلام الله متكون من حروف و معان ، فهو إذن شاهد مادي ، و دليل دامغ على تكلّم الله بحرف ، فالسور و الآيات هي مجموعة حروف بيّن بها الله تعالى عن كلامه . و القرآن الكريم أخبرنا في مواضع كثيرة إن الله تعالى كلم آدم و موسى و إبراهيم-عليهم السلام- ،و هؤلاء بحكم بشريتهم لا يفهمون إلا إذا كان الكلام مكوّنا من حرف و صوت ، و بما أن الله تعالى لم يُخبرنا إنه غيّر لهم طبيعتهم البشرية ، دلّ ذلك على إنه تعالى خاطبهم بكلام فيه حرف و صوت بطريقة لا نعلم كيفيتها .
---------------------
[1] انظر: ابو المظفر الإسفراييني: التبصير في الدين ، ص: 167 . و ابن تيمية: مجموع الفتاوى ، ج 12 ص: 557 . و أبن أبي العز الحنفي: شرح العقيدة الطحاوي، حققه نخبة من العلماء، ط9 ، بيروت، المكتب الإسلامي ، ص: 180 . ابن حجر : الفتح ، ج 13 ص: 455 .
[2] الباقلاني : الإنصاف ص : 89 ، 106 ، 107 .
[3] الغزالي: إحياء علوم الدين ، ج1 ص: 156-157 .
[4] الاسفراييني: التبصير في الدين ، ص: 167 .
[5] الشهرستاني : الملل و النحل ، ج 1 ص : 109 .
[6] الداودي : طبقات المفسرين ، بيروت ، دار الكتب العلمية ، دت ، ج 1 ص : 227 ، 326 .
[7] السبكي : طبقات الشافعية الكبري ج 3 ص : 417 .
[8] الجويني الأب : النصيحة ، ص: 27-28 .
[9] ابن الجوزي: المنتظم ، ج 10 ، ص: 194، 218 .
[10] ابن رجب: الذيل ، ج 1ص: 211 .
[11] ابن حزم : الفصل في الملل و الأهواء و النحل ، ج 4 ص: 160 . ابن تيمية : مجموع الفتاوى، ج 8 ص: 425 .
[12] ابن تيمية: نفسه ، ج8 ص: 425 .
[13] انظر التمهيد .
[14] ابن أبي العز الحنفي : شرح العقيدة الطحاوية ، ص: 168 .
[15] شرح قصيدة ابن القيم ، حققه زهير الشاويش ، ط3 بيروت ، المكتب الإسلامي ، 1406 ، ج1 ص: 277 .و انظر أيضا التمهيد .
[16] اللالكائي: شرح اعتقاد أهل السنة ، ج2 ص: 330 .
[17] السجزي: رسالة السجزي، ص: 24 .
[18] ابن تيمية: بيان تلبيس الجهمية ، ج 1 ص: 272 .
[19] ابن عقيل: الرد على الأشاعرة العزال ، ص : 73، 87، 91، 93 .
[20] ابن الجوزي: صيد الخاطر، ص: 181، 183 . و المنتظم ، ج 6 ص: 332 .
[21] الموفق بن قدامة: مناظرة في القرآن ، ص: 21-22، 38، 57 .
[22] ابن القيم : مختصر الصواعق، ص: 647 .
[23] النسائي : السنن ، كتاب السهو ، رقم الحديث ، 1311 .
[24] ابن حجر: فتح الباري، ج13 ص: 454 .
[25] الباقلاني: الإنصاف ، ص: 71، 89 .
[26] نفسه ، ص: 89 .
[27] هو متناقض مع نفسه ، مرة ينفي وجود كلام الله –أي القرآن- ،و مرة يُثبت وجوده بين أيدينا !! .
[28] الإنصاف ، ص: 92 .
[29] الغزالي: إحياء علوم الدين ، ج 1 ص: 156-157 .
[30] ابن العربي: العواصم ، ج2 ص: 283، 294 .
[31] أبو المظفّر الاسفراييني: التبصير في الدين ، ص: 150 .
[32] الصفدي: الوافي بالوفيات ، ج 5 ص: 105 -106 .
[33] الجويني الأب : النصيحة ، ص: 28 .
[34] السفاريني: لوامع الأنوار البهية ، حققه رشيد رضا ، القاهرة ، مطبعة المنار ، 1332ه ، ص: 89 .
[35] شرح قصيدة ابن القيم ، ج1 ص: 277 . و انظر أيضا التمهيد .
[36] السجزي: رسالة السجزي، ص: 15، 28 .
[37] ابن عقيل : الرد على الأشاعرة العزال ، ص: 87 .
[38] ابن أبي يعلي: الاعتقاد ، ص: 13 .
[39] ابن قدامه المقدسي :البرهان في بيان القرآن ،مجلة البحوث الإسلامية ،الرياض ،العدد 19 ، 1407ه ، ص: 238 ،270 و ما بعدها .
[40] ابن قدامى :مناظرة في القرآن ص:63 .
[41] نفس المصدر ص:70 .
[42] نفس المصدر ص: 73 .
[43] نفس المصدر ص :72 .
[44] نفس المصدر السابق 48 ، 50 .
[45] ابن قدامة : تحريم النظر ص : 51 .
[46] ابن تيمية : مجموع الفتاوى ، ج 3 ص: 403 ، 404 .
[47] ابن العربي: العواصم، ج 2 ص: 294 . و ابن عساكر: تبيين كذب المفتري ، هامش ص: 150 .
[48] البخاري : الصحيح ، ج 6 ص: 2719 .
[49] انظر: خلق أفعال العباد ، ص: 98 .و الألباني: صحيح الأدب المفرد ، ط1 ، د م ن ، دار الصديّق ، 1421 ه ص: رقم الحديث : 570/970 .
[50] الحاكم : المستدرك على الصحيحين ،ط1، بيروت دار الكتب العلمي، 1990، ج 2ص: 475 .و الهيثمي: مجمع الزوائد ،القاهرة، دار الريان للتراث، 1407ه، ج10 ص: 133، 345، 351 . و صديق خان: قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر ، ط2 ، الجزائر، دار الإمام مالك ، 1414 ، ص: 76 . و ابن أبي عاصم : السنة ، حققه الألباني، ج1 ص: 225، 226 .
[51] ابن القيم : مختصر الصواعق ، ص: 680، 681 .
المصدر : الأزمة العقيدية بين الأشاعرة و أهل الحديث - خلال القرنين : 5-6 الهجريين - مظاهرها ، آثارها ، أسبابها ، و الحلول المقترحة لها / خالد علال ص96 – ص113
إثبات أن الله تبارك تعالى يتكلم بحرف وصوت مسموع وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين
بسم الله
الفصل الثالث
إثبات أن الله تبارك تعالى يتكلم بحرف وصوت مسموع
وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين
اتفق أهل السنة والجماعة على ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله تبارك وتعالى موصوف بالكلام، وأنه يتكلم متى شاء كيف شاء بحرف وصوت مسموع، لا يشبه كلام المخلوقين، بل كلامه لائق به سبحانه، وكلامه صفة له كذاته نؤمن به ونثبته ولا نعلم كيفيته، ولا نمثله بشيء من صفات خلقه، ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا صفاته ولا أفعاله، وهو السميع البصير المتكلم.
والله تبارك وتعالى يتكلم بكلام مسموع بحرف وصوت لا يشبه أصوات المخلوقين، وقد دل على إثبات كون الله تبارك وتعالى يتكلم بحرف وصوت: الكتاب والسنة والإجماع واللغة.
فمن الكتاب قوله تبارك وتعالى: {وكلم الله موسى تكليما} النساء164.
وقال: {فلما جاء موسى لميقاتنا وكلمه ربه} الأعراف143. وغير ذلك من الآيات.
والكلام لغةً لا يكون إلا بحرف وصوت. فلما أثبت الله لنفسه الكلام دل على أنه حرف وصوت. لأن الله تعالى وصف كتابه بأنه: {بلسان عربي مبين} الشعراء195.
قال أبو نصر السجزي: (الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق، وإن اختلفت بهم اللغات. وعبر عن هذا المعنى الأوائل الذين تكلموا في العقليات وقالوا: الكلام حروف متسقة، وأصوات متقطعة. وقالت العرب: الكلام: اسم وفعل وحرف جاء لمعنى، فالاسم مثل: زيد، وحامد، والفعل مثل: جاء، وذهب، وقام، وقعد، والحرف الذي يجئ لمعنى مثل: هل، وبل، وما شاكل ذلك. فالإجماع منعقد بين العقلاء على كون الكلام حرفاً وصوتاً)[1] اهـ.
وقال قوام السنة أبو القاسم التيمي الأصبهاني: (وقد أجمع أهل العربية أن ما عدا الحروف والأصوات ليس بكلام حقيقة)[2] اهـ.
وقال تعالى: {وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله} التوبة6. ومعلوم أن السامع إنما يسمع حرفاً وصوتاً.
والقرآن كلام الله تبارك وتعالى، وقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أنه سور وآي وحروف فقال: (من قرأ سورة الإخلاص ..) الحديث، (ومن قرأ آية الكرسي) الحديث، و(من قرأ حرفاً من القرآن) الحديث.
وقد وصف الله تبارك وتعالى نفسه بالنداء فقال: {وإذ نادى ربك موسى} الشعراء10.
وقال تعالى: {هل أتاك حديث موسى إذ ناداه ربه} النازعات16.
قال السجزي: (والنداء عند العرب صوت لا غير، ولم يرد عن الله تعالى ولا عن رسوله صلى الله عليه وسلم أنه من الله غير صوت)[3] اهـ.
وقال ابن منظور في اللسان: (النداء: الصوت)[4] اهـ.
أما الأدلة من السنة:
(1) فعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا آدم، يقول: لبيك ربنا وسعديك، فينادى بصوت: إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار، قال: يا رب وما بعث النار؟ قال: من كل ألف أراه قال تسعمائة وتسعة وتسعين...) الحديث[5].
(2) عن عبد الله بن أنيس رضي الله عنه قال: (قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: يحشر الناس يوم القيامة أو قال العباد عراة غرلاً بُهماً، قال: قلنا: وما بُهماً؟ قال: ليس معهم شيء، ثم يناديهم بصوت يسمعه من قرب: أنا الملك أنا الديان، ولا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقصه منه، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة ولأحد من أهل النار عنده حق حتى أقصه منه، حتى اللطمة، قال: قلنا: كيف وإنا إنما نأتي الله عز وجل عراة غرلاً بُهماً؟ قال: بالحسنات والسيئات)[6].
(3) وعن عبد الله رضي الله عنه قال: (إذا تكلم الله عز وجل بالوحي سمع صوته أهل السماء فيخرون سجداً، حتى إذا فزع عن قلوبهم، قال سكن عن قلوبهم، نادى أهل السماء: ماذا قال ربكم؟ قال صلى الله عليه وسلم: الحق، قال كذا وكذا)[7].
وغيرها أحاديث كثيرة رواها أهل العلم وتلقوها بالقبول غير منكرين لمعناها، ولا طاعنين في دلالتها.
وأما أقوال الأئمة فكثيرة منها:
~ محمد بن كعب القرظى (120 هـ)
قال: (قالت بنو إسرائيل لموسى عليه السلام: بما شبهت صوت ربك عز وجل حين كلمك من هذا الخلق؟ قال: شبهت صوته بصوت الرعد حين لا يترجع)[8] اهـ.
~ أبو عصمة نوح بن أبي مريم المروزي (173 هـ)
قال أبو تميلة: (سمعت أبا عصمة وسئل: كيف كلم الله عز وجل موسى تكليماً؟ قال : مشافهة)[9] اهـ.
~ وائل بن داود التيمي أبو بكر الكوفي (الطبقة السادسة من الذين عاصروا صغار التابعين)
قال في قول الله عز وجل: {وكلم الله موسى تكليما} النساء164، قال: «مشافهة مراراً»[10].
قلت: وقد قال الجوهري: (المشافهة الكلام من فيك إلى فيه).
~ إمام أهل السنة أحمد بن حنبل (241 هـ)
قال عبد الله: (سألت أبي رحمه الله عن قوم، يقولون: لما كلم الله عز وجل موسى لم يتكلم بصوت؟ فقال أبي: بلى إن ربك عز وجل تكلم بصوت هذه الأحاديث نرويها كما جاءت.
وقال أبي رحمه الله: حديث ابن مسعود رضي الله عنه "إذا تكلم الله عز وجل سمع له صوت كجر السلسلة على الصفوان"، قال أبي: وهذا الجهمية تنكره.
وقال أبي: هؤلاء كفار يريدون أن يموهوا على الناس، من زعم أن الله عز وجل لم يتكلم فهو كافر، ألا إنا نروي هذه الأحاديث كما جاءت)[11] اهـ
وقال أبو بكر الخلال: حدثنا محمد بن علي قال: حدثنا يعقوب بن بختان قال: (سئل أبو عبد الله عمن زعم أن الله عز وجل لم يتكلم بصوت؟
قال: بلى يتكلم سبحانه بصوت)[12] اهـ.
وأخرج أبو بكر الخلال عن المروذي قال: (سمعت أبا عبد الله وقيل له: أن عبد الوهاب قد تكلم وقال: من زعم أن الله كلم موسى بلا صوت فهو جهمي عدو الله وعدو الإسلام، فتبسم أبو عبد الله وقال: ما أحسن ما قال عافاه الله)[13] اهـ. وقال أبو يعلى: (وقد نص أحمد في رواية الجماعة على إثبات الصوت)[14] اهـ.
وقال في كتابه "الرد على الجهمية والزنادقة" في باب بيان ما أنكرت الجهمية من أن يكون الله كلم موسى: (قال أحمد رضى الله عنه فلما خنقته الحجج قال: إن الله كلم موسى، إلا أن كلامه غيره. فقلنا: وغيره مخلوق؟ قال: نعم. فقلنا: هذا مثل قولكم الأول، إلا أنكم تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون. وحديث الزهري قال: "لما سمع موسى كلام ربه قال: يا رب هذا الذي سمعته هو كلامك؟ قال: نعم يا موسى هو كلامي، إنما كلمتك بقوة عشر آلاف لسان، ولي قوة الألسن كلها، وأنا أقوى من ذلك، وإنما كلمتك على قدر ما يطيق بدنك، ولو كلمتك بأكثر من ذلك لمت.
قال: فلما رجع موسى إلى قومه قالوا له: صف لنا كلام ربك؟ قال: سبحان الله وهل أستطيع أن أصفه لكم. قالوا: فشبِّهه؟ قال: هل سمعتم أصوات الصواعق التي تقبل في أحلى حلاوة سمعتموها فكأنه مثله)[15] اهـ.
وقال أبو الفضل التميمي في اعتقاد الإمام أحمد –وهو الذي يعتمد عليه الأشعريان في نقل معتقده- : (وكان يقول: إن القرآن كيف تصرف غير مخلوق، وأن الله تعالى تكلم بالصوت والحرف)[16] اهـ.
~ الإمام الحافظ الحجة محمد بن إسماعيل البخاري (256 هـ)
قال: (وإن الله عز وجل ينادي بصوت يسمعه من بعد كما يسمعه من قرب، فليس هذا لغير الله عز وجل ذكره.
قال أبو عبد الله: وفي هذا دليل أن صوت الله لا يشبه أصوات الخلق، لأن صوت الله جل ذكره يُسمع من بعد كما يسمع من قرب، وأن الملائكة يصعقون من صوته، فإذا تنادى الملائكة لم يصعقوا.
وقال عز وجل: {فلا تجعلوا لله أندادا} البقرة22، فليس لصفة الله ند، ولا مثل، ولا يوجد شيء من صفاته في المخلوقين)[17] اهـ.
~ إمام أهل السنة والجماعة في عصره أبو محمد الحسن بن علي البربهاري (329هـ)
قال: (والإيمان بأن الله تبارك وتعالى هو الذي كلم موسى بن عمران يوم الطور، وموسى يسمع من الله الكلام بصوت وقع في مسامعه منه لا من غيره، فمن قال غير هذا، فقد كفر بالله العظيم)[18] اهـ.
~ شيخ الإسلام الحافظ أبو إسماعيل عبدالله بن محمد الأنصاري الهروي (481 هـ)
قال منكراً على الأشاعرة نفيهم للحرف والصوت: (ثم قالوا: ليس له صوت ولا حروف ..)[19] اهـ.
~ الإمام الحافظ أبو القاسم إسماعيل بن محمد التيمي الطلحي الأصبهاني (535 هـ)
قال في كتابه الحجة: (فصل: الدليل على أن القرآن منزل، وهو ما يقرأه القارئ خلافاً لمن يقول: كلام الله ليس بمنزل ولا حرف ولا صوت:
فإن قيل: المتكلم بحرف وصوت يحتاج إلى أدوات الكلام، فقل: عدم أداة الكلام لا يمنع من ثبوت الكلام، كما أن عدم آلة العلم لا يمنع من ثبوت العلم.
دليل أهل السنة: قوله تعالى: {حتى يسمع كلام الله} التوبة6، والمسموع إنما هو الحرف والصوت، لأن المعنى لا يُسمع ولا يُفهم. يقال في اللغة: سمعت الكلام وفهمت المعنى، فلما قال: حتى يسمع: دل على أنه حرف وصوت. ....)[20] اهـ.
~ الشيخ أبو البيان محمد بن محفوظ السلمي الدمشقي الشافعي اللغوي (551 هـ)
قال أبو المعالي أسعد بن المنجا: (كنت يوما عند الشيخ أبي البيان رحمه الله تعالى فجاءه ابن تميم الذي يدعى الشيخ الأمين، فقال له الشيخ بعد كلام جرى بينهما: ويحك الحنابلة إذا قيل لهم ما الدليل على أن القرآن بحرف وصوت، قالوا: قال الله كذا، وقال رسوله كذا، وسرد الشيخ الآيات والأخبار، وأنتم إذا قيل لكم: ما الدليل على أن القرآن معنى في النفس؟ قلتم: قال الأخطل: إن الكلام لفي الفؤاد، إيش هذا الأخطل نصراني خبيث بنيتم مذهبكم على بيت شعر من قوله وتركتم الكتاب والسنة)[21] اهـ.
~ أبو محمد عبد القادر بن أبي صالح الجيلاني (561 هـ)
قال في كتابه "الغنية" في القرآن: (هو كلام الله تعالى في صدور الحافظين وألسن الناطقين، في أكف الكاتبين وملاحظة الناظرين، ومصاحف أهل الإسلام، وألواح الصبيان، حيثما رؤي ووجد. فمن زعم أنه مخلوق أو عبارته، أو التلاوة غير المتلو، أو قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو كافر بالله العظيم، ولا يؤاكل، ولا يُناكح، ولا يُجاور، بل يُهجر ويُهان ...
– ثم ساق الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة ثم قال:
فصل: ونعتقد أن القرآن حروف مفهومة، وأصوات مسموعة، لأن بها يصير الأخرس ةالساكت متكلماً ناطقاً، وكلام الله عز وجل لا ينفك عن ذلك، فمن جحد ذلك فقد كابر حسه وعميت بصيرته – ثم ساق الأدلة ثم قال: وهذه الآيات والأخبار تدل على أن كلام الله عز وجل صوت لا كصوت الآدميين، كما أن علمه وقدرته وبقية صفاته لا تشبه صفات الآدميين، كذلك صوته. وقد نص الإمام أحمد رحمه الله تعالى على إثبات الصوت في رواية جماعة من الأصحاب رضوان الله عليهم أجمعين خلاف ما قالت الأشعرية من أن كلام الله تعالى معنى قائم بنفسه، والله حسيب كل مبتدع ضال مضل ...)[22] اهـ.
~ تقي الدين أبو محمد عبد الغني بن عبد الواحد المقدسي الحنبلي (600 هـ)
(ونعتقد أن الحروف المكتوبة والأصوات المسموعة: عين كلام الله عز وجل لاحكاية ولا عبارة ..... ومن أنكر أن يكون حروفاً فقد كابر العيان وأتى بالبهتان. وروى الترمذي من طريق عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قرأ حرفاً من كتاب الله عز وجل فله عشر حسنات) ... ثم ساق الأدلة إلى أن قال: (وقول القائل: بأن الحرف والصوت لا يكون إلا من مخارج: باطل ومحال. قال الله عز وجل: {يوم نقول لجهنم هل امتلأت وتقول هل من مزيد} ق30. وكذلك قوله تعالى إخباراً عن السماء والأرض أنهما قالتا: {أتينا طائعين} فصلت11. فحصل القول من غير مخارج ولا أدوات)[23] اهـ.
~ الحافظ عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي (795 هـ)
قال في رده على من أنكر على الحافظ عبد الغني المقدسي إثباته الصوت لله تعالى، وأن هذا مخالف لمعتقد الإمام أحمد: (وأما إنكار إثبات الصوت عن الإمام الذي ينتمي إليه الحافظ، فمن أعجب العجب، وكلامه -أي الإمام أحمد- في إثبات الصوت كثير جداً... -ثم ذكر الآثار عن الإمام أحمد-)[24] اهـ.
ومع هذه النصوص الصريحة من هؤلاء الأئمة، فإنه لم يُنقل عن أحد من السلف أنه قال: إن الله يتكلم بلا صوت، أو بلا حرف، ولا أنه أنكر أن يتكلم الله بصوت أو بحرف، كما لم يقل أحد منهم أن الصوت الذى سمعه موسى قديم، ولا أن ذلك النداء قديم، ولا قال أحد منهم: أن هذه الأصوات المسموعة من القراء هي الصوت الذى تكلم الله به، بل الآثار مستفيضة عنهم بالفرق بين الصوت الذى يتكلم الله به وبين أصوات العباد.
~ الإمام القاضي علي بن علي بن محمد بن أبي العز الحنفي الدمشقي (792 هـ)
ذكر افتراق الناس في مسألة الكلام على تسعة أقوال فقال: (وتاسعها: أنه تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء، ومتى شاء، وكيف شاء، وهو متكلم به بصوت يُسمع، وإن نوع الكلام قديم وإن لم تكن صورة المعين قديماً، وهو المأثور عن أئمة الحديث والسنة.)[25] اهـ.
وقد نقله ملا علي القاري في شرح الفقه الأكبر[26] بحرفه، ولم يتعقبه بشيء.
فرع: في تقرير أن الله تعالى يتكلم متى شاء وأن كلامه يسمع من ذاته تعالى، من كلام أبي الحسن الأشعري
قال في الإبانة في الباب الرابع "الكلام في أن القرآن كلام الله غير مخلوق": (دليل آخر: وقد قال الله عز وجل: {وكلم الله موسى تكليما} النساء164، والتكليم هو المشافهة بالكلام)[27] اهـ.
قال الجوهري: (المشافهة: المخاطبة من فيك إلى فيه).
وهذا ظاهر في أن أبا الحسن الأشعري يثبت أن الله تعالى شافه موسى عليه السلام، فخاطبه تعالى من ذاته، وأن موسى سمع كلام الله تعالى حينئذ، ولا يكون هذا إلا إذا حرفاً وصوتاً مسموعاً.
فرع في تقرير أن الله يتكلم بحرف وصوت من كلام الحارث المحاسبي
أبو عبدالله الحارث بن أسد البغدادي المحاسبي (243 هـ)
قال الكلاباذي في الباب العاشر "اختلافهم في الكلام ما هو؟": (وقالت طائفة منهم: كلام الله حرف وصوت، وزعموا أنه لا يُعرف كلامه إلا ذلك، مع إقرارهم أنه صفة الله تعالى في ذاته غير مخلوق، وهذا قول حارث المحاسبي، ومن المتأخرين ابن سالم)[28] اهـ.
وهذا القول هو الذي رجع إليه في آخر حياته، بعد أن هجره الإمام أحمد وحذر منه بسبب دخوله في الكلام، ومشيه على طريقة ابن كلاب.
خلاصة الفصل:
أولاً: اتفاق السلف على ما دل عليه الكتاب والسنة من أن الله تعالى موصوف بالكلام حقيقة، وأنه يتكلم بحرف وصوت مسموع لا يشبه أصوات المخلوقين، وهو الذي.
ثانياً: أن أبا الحسن الأشعري موافق للسلف في هذا فيما استقر عليه مذهبه.
ثالثاً: أن أئمة السنة كانوا يعدون من أنكر تكلم الله تعالى بصوت من الجهمية، كما نص عليه أحمد وغيره.
[ موافقة الأشاعرة للجهمية في إنكار الحرف والصوت ]
رابعاً: موافقة الأشاعرة للجهمية في إنكار الحرف والصوت لله، وهذا يبطل دعوى الأشعريّيْن في كون الأشاعرة من أهل السنة، وأنهم موافقون للسلف.
قال الأشعريان (ص76): (ومن يطالع النظامية يعلم موافقتها لاعتقاد أهل السنة الأشاعرة، فمن أمثلة ذلك تنزيه الإمام الجويني لله تعالى عن الجهة، والمكان، والحيز، والحرف، والصوت، وظواهر المتشابه، .....وكذلك الإمام الغزالي رحمه الله تعالى فكتابه "إلجام العوام" .... هو في حقيقة الأمر تأصيل لمسلك السادة الأشاعرة من حيث تنزيه الله تعالى عن سمات الحوادث مثل الجهة، والمكان، والحروف، والأصوات، وظواهر المتشابه،...) اهـ.
وقال القاضي أبو بكر الباقلاني: (ولا يجوز أن يطلق على كلامه شيء من أمارات الحدث من حرف ولا صوت)[29] اهـ.
وقال الغزالي في صفة الكلام لله: (فإنا معترفون باستحالة قيام الأصوات بذاته وباستحالة كونه متكلماً بهذا الاعتبار .... وأما الحروف فهي حادثة .... وهو صفة قديمة قائمة بذات الله تعالى ليس بحرف ولا صوت)[30] اهـ.
وقال البيجوري في شرح الجوهرة عن صفة الكلام لله: (صفة أزلية قائمة بذاته تعالى ليست بحرف ولا صوت)[31] اهـ.
فرع في أصل ضلال الأشاعرة في هذا الباب
أصل ضلال الأشاعرة في هذا الباب هو ابتداعهم القول في الكلام النفسي: وهو أن حقيقة الكلام عندهم هو ما قام بالنفس، واللفظ غير داخل في حقيقته، وهذا قول لم يُسبقوا إليه البتة.
إذ الكلام لغة: هو اللفظ والمعنى، أو لفظ جاء لمعنى، ولا يُعرف الكلام في لغة العرب إلا هذا.
وكان ابن كلاب أول من ابتدع الكلام النفسي، وأن الله لا يتكلم بمشيئته، وأن كلامه بلا بحرف ولا صوت، وتبعه عليه الأشعري.
قال أبو نصر السجزي: (اعلموا أرشدنا الله وإياكم أنه لم يكن خلاف بين الخلق على اختلاف نحلهم من أول الزمان إلى الوقت الذي ظهر فيه ابن كلاب، والقلانسي، والصالحي، والأشعري، .... في أن الكلام لا يكون إلا حرفاً وصوتاً ذا تأليف واتساق وإن اختلفت اللغات ..... فلما نبغ ابن كلاب وأضرابه حاولوا الرد على المعتزلة من طريق مجرد العقل، وهم لا يخبرون أصول السنة ولا ما كان عليه السلف .....فالتزموا ما قالته المعتزلة وركبوا مكابرة العيان وخرقوا الإجماع المنعقد بين الكافة المسلم والكافر، وقالوا للمعتزلة: الذي ذكرتموه ليس بحقيقة الكلام، وإنما يسمى ذلك كلاماً في المجاز لكونه حكاية أو عبارة عنه، وحقيقة الكلام: معنى قائم بذات المتكلم ... فألجأهم الضيق مما يدخل عليهم مقالتهم إلى أن قالوا: الأخرس متكلم، وكذلك الساكت والنائم .... وهذه مقالة تبين فضيحة قائلها في ظاهرها من غير رد عليه. ومن عُلم منه خرق إجماع الكافة، ومخالفة كل عقلي وسمعي قبله، لم يُناظر بل يجانب ويقمع ..)[32] اهـ.
وقال ابن الجوزي: (وهذا أمر مستقر –أي القول بأن القرآن كلام الله غير مخلوق- لم يختلف فيه أحد من القدماء في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة رضي الله عنهم، ثم دس الشيطان دسائس البدع، فقال قوم: هذا المشار إليه مخلوق، فثبت الإمام أحمد رحمة الله ثبوتاً لم يثبته غيره على دفع هذا القول لئلا يتطرق إلى القرآن ما يمحو بعض تعظيمه في النفوس، ويخرجه عن الإضافة إلى الله عز وجل.
ورأى أن ابتداع ما لم يقل فيه لا يجوز استعماله فقال: كيف أقول ما لم يقل.
ثم لم يختلف الناس في غير ذلك، إلى أن نشأ علي بن إسماعيل الأشعري. فقال مرة بقول المعتزلة، ثم عَنَّ له فادعى أن الكلام صفة قائمة بالنفس. فأوجبت دعواه هذه أن ما عندنا مخلوق.
وزادت فخبطت العقائد، فما زال أهل البدع يجوبون في تيارها إلى اليوم)[33] اهـ.
وقال الذهبي في ترجمة ابن كلاب: (وكان يقول بأن القرآن قائم بالذات بلا قدرة ولا مشيئة، وهذا ما سبق إليه أبداً)[34] اهـ.
موافقة الأشاعرة للمعتزلة في أن القرآن الذين بين أيدينا مخلوق:
وتفرع عما سبق من ابتداع الكلام النفسي عند الأشاعرة القول بأن القرآن الذي بين دفتي المصحف مخلوق، فوافقوا بذلك الجهمية والمعتزلة.
فالمعتزلة لا يثبتون كلاماً لله تعالى إلا ما قام بغيره، ويقولون عن القرآن أنه كلام الله، باعتبار أنه خلقه في غيره، ولا يقوم بذاته لا كلام ولا غيره.
وأما الأشاعرة فالكلام عندهم هو ما قام بذات الله تعالى، وهو كلام له حقيقة وليس بحرف ولا صوت، وأما ما بين دفتي المصحف فهو عبارة عن كلام الله تعالى، وليس هو حقيقة كلام الله.
قال البيجوري في جوهرة التوحيد: (واعلم أن كلام الله يطلق على الكلام النفسي القديم بمعنى أنه صفة قائمة بذاته تعالى، وعلى الكلام اللفظي بمعنى أنه خلقه .... ومع كون اللفظ الذي نقرأه حادثاً لا يجوز أن يقال: القرآن حادث إلا في مقام التعليم .... وقد أضيف له تعالى كلام لفظي كالقرآن، فإنه كلام الله قطعاً بمعنى أنه خلقه في اللوح المحفوظ، فدل التزاماً على أن له تعالى كلاماً نفسياً، وهذا هو المراد بقولهم: القرآن حادث ومدلوله قديم .... ومذهب أهل السنة –يقصد الأشاعرة- أن القرآن بمعنى الكلام النفسي ليس بمخلوق، وأما القرآن بمعنى اللفظ الذي نقرأه فهو مخلوق، لكن يمتنع أن يقال: القرآن مخلوق يراد به اللفظ الذي نقرأه إلا في مقام التعليم، لأنه ربما أوهم أن القرآن بمعنى كلامه تعالى مخلوق، ولذلك امتنعت الأئمة من القول بخلق القرآن .... فالقرآن يطلق على كل من النفسي واللفظي، والأكثر إطلاقه على اللفظي .... والراجح أن المنزل اللفظ والمعنى، وقيل المنزل: المعنى وعبر عنه جبريل بألفاظ من عنده، وقيل: المنزل المعنى وعبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بألفاظ من عنده، لكن التحقيق الأول، لأن الله خلقه أولاً في اللوح المحفوظ، ثم أنزله في صحائف إلى سماء الدنيا ..)[35] اهـ.
وهذا يعني اتفاق الأشاعرة والمعتزلة في أن القرآن العربي المقروء، والموجود بين دفتي المصحف مخلوق، وأن الخلاف الوحيد بين الأشاعرة والمعتزلة هو في إثبات الكلام النفسي أو نفيه، فلو اعترف المعتزلة به لانتهى الخلاف !!
وقد نص على هذه الحقيقة أئمة الأشعرية:
قال الجويني في خلاف الأشاعرة والمعتزلة في مسألة الكلام: (واعلموا بعدها أن الكلام مع المعتزلة، وسائر المخالفين في هذه المسألة يتعلق بالنفي والإثبات، فإن أثبتوه وقدروه كلاماً، فهو في نفسه ثابت، وقولهم –أي المعتزلة-: إنه –أي القرآن المقروء- كلام الله، إذا رُد إلى التحصيل آل الكلام إلى اللغات والمسميات، فإن معنى قولهم –أي المعتزلة- "هذه العبارات كلام الله" أنها خلقه، ونحن لا ننكر أنها خلق الله، ولكن نمتنع من تسمية خالق الكلام متكلماً به، فقد أطبقنا على المعنى، وتنازعنا بعد الاتفاق في تسميته.)[36] اهـ.
وقال الشهرستاني: (وخصومنا –أي المعتزلة- لو وافقونا على أن الكلام في الشاهد معنى في النفس سوى العبارات القائمة باللسان، وأن الكلام في الغائب معنى قائم بذات الباري تعالى سوى العبارات التي نقرؤها باللسان ونكتبها في المصاحف، لوافقونا على اتحاد المعنى، لكن لما كان الكلام لفظاً مشتركاً في الإطلاق لم يتوارد على محل واحد، فإن ما يثبته الخصم كلاماً –أي القرآن- فالأشعرية تثبته وتوافقه على أنه كثير وأنه محدث مخلوق، وما يثبته الأشعري كلاماً -أي النفسي- فالخصم ينكره أصلاً ..)[37] اهـ.
وقال التفتازاني[38] في شرح العقائد النسفية: (وتحقيق الخلاف بيننا وبينهم – أي المعتزلة – يرجع إلى إثبات الكلام النفسي ونفيه، وإلا فنحن لا نقول بقدم الألفاظ والحروف، وهم لا يقولون بحدوث الكلام النفسي. ... وأما استدلالهم بأن القرآن متصف بما هو من صفات المخلوق وسمات الحدوث، من: التأليف، والتنظيم، والإنزال، وكونه عربياًَ، مسموعاً، فصيحاً، معجِزاً، إلى غير ذلك: فإنما يقوم حجة على الحنابلة – أي الذين يرون أن القرآن الموجود بين دفتي المصحف كلام الله على الحقيقة – لا علينا، لأنا قائلون بحدوث النظم، وإنما الكلام في المعنى القديم)[39] اهـ.
وقال محمد زاهد الكوثري: (لأن القرآن يطلق على ما قام بالله من الألفاظ العلمية الغيبية وهو غير مخلوق وغير حال في مخلوق، وعلى المكتوب بين الدفتين، وعلى المحفوظ في القلوب من الألفاظ الذهنية، وعلى الملفوظ بالألسن على سبيل الاشتراك اللفظي عنده –أي الباقلاني-، والقرينة هي التي تعين المراد منها في كل موضع، وما سوى الأول مخلوق، وهذا البحث أنضج عند المتأخرين من أئمة الأشاعرة.)[40] اهـ.
وقال البوطي في "كبرى اليقينيات الكونية" في باب "جوهر الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة والجماعة" : (ثم المعتزلة فسروا هذا الذي أجمع السلمون على إثباته لله تعالى –أي صفة الكلام- بأنه أصوات وحروف يخلقها الله في غيره كاللوح المحفوظ وجبريل، ومن المعلوم أنه حادث وليس بقديم. ثم إنهم لم يثبتوا لله تعالى شيئاً آخر من وراء هذه الأصوات والحروف، تحت اسم: الكلام.
أما جماهير المسلمين، أهل السنة والجماعة، فقالوا: إننا لا ننكر هذا الذي تقوله المعتزلة –أي أن القرآن المقروء والموجود بين دفتي المصحف مخلوق حادث-، بل نقول به، ونسميه كلاماً لفظياً ونحن جميعاً متفقون على حدوثه وأنه غير قائم بذاته تعالى، من أجل أنه حادث، ولكننا نثبت أمراً وراء ذلك وهو الصفة القائمة بالنفس والتي يُعبّر عنها بالألفاظ .... وهذا المقصود بإسناد الكلام إلى الله تعالى، وبه يفسر ما أجمع عليه المسلمون)[41] اهـ.
وقال وهبي سليمان غاوجي: (قال علماء أصول الدين: أن الكلام ينقسم إلى قسمين: الأول: الكلام اللفظي، والثاني: الكلام النفسي.
فأما اللفظي: فهو ذلك القرآن الكريم المنزل على سيدنا محمد، وكذا سائر الكتب المنزلة على الرسل عليهم السلام، ولا ريب في أن الكلام اللفظي مخلوق له تعالى.
وأما النفسي: فهو صفة قديمة زائدة على ذاته تعالى، ليست بحرف ولا صوت، ويدل عليها الكلام اللفظي ..)[42] اهـ.
وقد صرح بذلك الآمدي في "غاية المرام"، والإيجي في "المواقف".
فتأمل يا رعاك الله هذه التصريحات بأن القرآن الذي نقرأه ونتلوه ونكتبه في المصاحف مخلوق، ليس هو عين كلام الله.
وهل هذا في حقيقته إلا قول الجهمية والمعتزلة!!!
وقال العلامة الملا جلال الدواني في شرحه للعقائد الضدية في بيان لوازم هذا القول الشنيع: (والأشاعرة قالوا: كلامه تعالى معنى واحد بسيط، قائم بذاته تعالى قديم، فهم منعوا أن كلامه تعالى مؤلف من الحروف والأصوات. ولا نزاع بين الشيخ –أي: الأشعري- والمعتزلة في حدوث الكلام اللفظي، وإنما نزاعهم في إثبات الكلام النفسي وعدمه .... فالشيخ لما قال: هو المعنى النفسي فهم الأصحاب منه أن مراده به مدلول اللفظ وهو القديم عنده، وأم العبارات فإنما سميت كلاماً مجازاً لدلالتها على ما هو الكلام الحقيقي، حتى صرحوا بأن الألفاظ حادثة على مذهبه، ولكنها ليست كلاماً له تعالى حقيقة.
وهذا الذي فهموه له لوازم كثيرة فاسدة، كعدم تكفير من أنكر كلامية ما بين دفتي المصحف، مع أنه عُلم من الدين ضرورة كونه كلام الله تعالى حقيقة، وكعدم كون المقروء والمحفوظ كلامه تعالى حقيقة، إلى غير ذلك مما لا يخفى على المتفطنين في الأحكام الدينية ..)[43] اهـ.
ولذلك لما كانوا في حقيقة الأمر موافقين للجهمية والمعتزلة في القول بخلق القرآن الموجود بين دفتي المصحف، وخشية من الافتضاح، تراهم يدلسون فيطلقون القول المستفيض عن السلف: بأن القرآن كلام الله غير مخلوق، ومن قال مخلوق فهو كافر، ومرادهم بالقرآن: ما قام بذات الله تعالى من غير أن يكون مسموعاً مقروءاً، وأما القرآن المكتوب والمسطر فهو عبارة عن كلام الله لا أنه عين كلام الله، وهو مخلوق محدث.
وانظر إلى تلبيس الأشعريّيْن في هذا الأمر وتمويههما أنهما موافقان للسلف في كون القرآن كلام الله غير مخلوق.
فقالا (ص54): (فإن القرآن كلام الله غير مخلوق، وهو صفة من صفات ذاته العلية) اهـ.
وبالطبع أن مرادهما بالقرآن هنا: الكلام النفسي، لا القرآن المعهود الذي بين دفتي المصحف والذي نقرأه آناء الليل وأطراف النهار. فإذا سمع السني هذا الكلام ظن أنهما موافقان للسلف في هذا الباب، وإذا استفصل منهما علم موافقتهما للمعتزلة والجهمية.
وقد كشف عن حقيقة هذا التلبيس شيخ الإسلام أبو إسماعيل الهروي الأنصاري فقال في سياق حقيقة موافقة الأشاعرة للجهمية في كثير من الأصول ومنها القول بخلق القرآن:
(وقال أولئك –يعني: الجهمية- ليس له كلام، إنما خلق كلاماً.
وهؤلاء –يعني الأشاعرة- يقولون: تكلم مرة، فهو متكلم به منذ تكلم، لم ينقطع الكلام، ولا يوجد كلامه في موضع ليس هو به.
ثم يقولون: ليس هو في مكان، ثم قالوا: ليس له صوت ولا حروف. وقالوا: هذا زاج وورق، وذها صوف وخشب، وهذا إنما قصد به النقش وأريد به التفسير.
وهذا صوت القاري، أما ترى أنه منه حسن وغير حسن؟! وهذا لفظه، أوما تراه يجازى به حتى قال رأس من رؤوسهم: أويكون قرآن من لبد؟! وقال آخر: من خشب؟! فراوغوا فقالوا: هذا حكاية عبر بها عن القرآن والله تكلم مرة، ولا يتكلم بعد ذلك. ثم قالوا: غير مخلوق، ومن قال: مخلوق كافر.
وهذا من فخوخهم، يصطادون به قلوب عوام أهل السنة، وإنما اعتقادهم في القرآت غير موجود لفظته الجهمية الذكور بمرة والأشعرية الإناث بعشر مرات)[44] اهـ.
--------------------------------------------------------------------------------
[1] رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص81).
[2] الحجة في بيان المحجة (1/399).
[3] رسالة السجزي إلى أهل زبيد (ص166).
[4] لسان العرب/ مادة "ندى".
[5] رواه البخاري (4/1767).
[6] رواه أحمد في المسند (3/495) والبخاري في خلق أفعال العباد (ص137) وفي الأدب المفرد (رقم 970/فضل الله الصمد 2/423) واستشهد به في صحيحه معلقاً (6/2719) ورواه الحارث في مسنده (زوائد الهيثمي 1/188) وابن أبي عاصم في السنة (1/225) وابن أبي عاصم في الآحاد والمثاني (4/97) والروياني في مسنده (2/315) وأبو الحسين في معجم الصحابة (2/135) والحاكم (2/475) وعنه البيهقي في الأسماء والصفات (ص346) والخطيب في الرحلة في طلب الحديث (ص110) وأبو ذر الهروي في فوائده (ص42) وابن عبد البر في التمهيد (23/232) والضياء في المختارة (9/26) وقال الحافظ في تغليق التعليق (5/356): (قال الطبراني في مسند الشاميين..) ثم ساقه بإسناده، وقال الحاكم: (صحيح الإسناد). ووافقه الذهبي، وقال المنذري في الترغيب والترهيب: (رواه أحمد بإسناد حسن). وصححه الألباني في ظلال الجنة (السنة لابن أبي عاصم 1/225).
[7] علقه البخاري في صحيحه (6/2719) ووصله في خلق أفعال العباد (ص138) ورواه أبو داود (3/240) والمروزي في تعظيم قدر الصلاة (1/237) والدارمي في الرد على الجهمية (ص172) وعبد الله في السنة (1/281) واللفظ له، وابن خزيمة في التوحيد (ص145) والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق (ص32) وابن بطة في الإبانة (1/238) واللالكائي (2/334) والبيهقي في الأسماء والصفات (ص262). وصحح الألباني في السلسلة الصحيحة (3/282 ، رقم 1293).
[8] رواه عبد الله في السنة (1/284) والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق (ص35) والآجري في الشريعة (ص317).
[9] رواه ابن أبي حاتم في التفسير (4/1120) وابن جرير (6/29) وعبد الله في السنة (1/286) والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق (ص37) وابن بطة في الإبانة (2/317-318).
[10] رواه ابن أبي حاتم في التفسير (4/1120) والنجاد في الرد على من يقول القرآن مخلوق (ص37) وعبد الله في السنة (1/285).
[11] رواه عبد الله في السنة (1/280-281).
[12] طبقات الحنابلة (1/415).
[13] نقله شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح الأصفهانية (64) وفي درء التعارض (2/39) وفي الفتاوى الكبرى (5/165) وعزاه إلى حرب الكرماني في مسائل أحمد وإسحاق.
[14] المسائل والرسائل المروية عن الإمام أحمد بن حنبل في العقيدة (1/303).
[15] الرد على الجهمية والزنادقة (ص132).
[16] طبقات الحنابلة (2/296).
[17] خلق أفعال العباد (ص137).
[18] شرح السنة (ص90).
[19] ذم الكلام وأهله (5/136).
[20] الحجة في بيان المحجة (2/479).
[21] أورده الذهبي في العلو (ص260).
[22] نقله عنه ابن الألوسي في جلاء العينين (ص352-356).
[23] عقائد أئمة السلف (98-104).
[24] الذيل على طبقات الحنابلة (2/24).
[25] شرح العقيدة الطحاوية (1/؟؟؟).
[26] شرح الفقه الأكبر (ص83-84).
[27] الإبانة للأشعري (ص77).
[28] التعرف لمذهب أهل التصوف (ص53).
[29] الإنصاف (ص111).
[30] الاقتصاد في الاعتقاد (ص142-174).
[31] شرح جوهرة التوحيد (ص129).
[32] رسالة السجزي إلى أهل زبيد (80-84).
[33] صيد الخاطر (ص265).
[34] سير أعلام النبلاء (11/175).
[35] شرح جوهرة التوحيد (130-162).
[36] الإرشاد (ص116-117).
[37] نهاية الإقدام (ص164-165).
[38] وقد اختلف الباحثون في عقيدة التفتازاني بين الأشعرية والماتريدية، ولا فرق بينهما عند الأشعريّيْن، والتحقيق أنه أشعري العقيدة كما حققه الدكتور محمد محمدي النورستاني في كتابه "مواقف التفتازاني الاعتقادية في كتابه شرح العقائد النسفية" (ص176-191).
[39] ص46-47.
[40] حاشية الإنصاف للباقلاني (ص26).
[41] كبرى اليقينيات الكونية (ص125).
[42] أركان الإيمان (ص201).
[43] نقله عنه ابن الألوسي في جلاء العينين (ص304-305).
[44] ذم الكلام وأهله (5/136-137).
المصدر : الفصل الثالث : إثبات أن الله تبارك تعالى يتكلم بحرف وصوت مسموع وأن كلامه لا يشبه كلام المخلوقين
الأشاعرة في ميزان أهل السنة
نقدٌ لكتاب (أهل السنة الأشاعرة شهادة علماء الأمة وأدلتهم)
تأليف فيصل بن قزار الجاسم